الاثنين، 6 يونيو 2022

مجلد 4 و5. كتاب:السيرة الحلبية في سيرة الأمين المأمون المؤلف:علي بن برهان الدين الحلبي


مجلد 4 كتاب:السيرة الحلبية في سيرة الأمين المأمون


المؤلف:علي بن برهان الدين الحلبي
الأول أنه لم يكن في سعة بحيث يدخر ما يكفيه شهرا من الكعك والزيت
الثاني أن غالب أدمهم كان اللحم واللبن وهو لا يدخر شهرا
الثالث أنه على فرض أن يدخر ما يكفيه شهرا أي من الكعك والزيت إلا أنه صلى الله عليه وسلم كان يطعم فربما نفد ما ادخره
وإنما اختار الزيت للأدم لأن دسومته لا ينفر منها الطبع بخلاف اللبن واللحم ومن ثم جاء ائتدموا بالزيت وادهنوا به فإنه يخرج من شجرة مباركة وقوله ائتدموا من هذه الشجرة المباركة أي من عصارة ثمرة هذه الشجرة المباركة التي هي الزيتونة وهو الزيت وقيل لها مباركة لأنها لا تكاد تنبت إلا في شريف البقاع التي بورك فيها كأرض بيت المقدس حتى فجأه الحق وهو في غار حراء أي في اليوم والشهر المتقدم ذكره
وعن عبيد بن عمير رضي الله تعالى عنه كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجاور في حراء في كل سنة شهرا وكان ذلك مما تتحنث فيه قريش في الجاهلية أي المتألهين منهم أي وكان أول من تحنث فيه من قريش جده صلى الله عليه وسلم عبدالمطلب فقد قال ابن الأثير أول من تحنث بحراء عبدالمطلب كان إذا دخل شهر رمضان صعد حراء وأطعم المساكين ثم تبعه على ذلك من كان يتأله أي يتعبد كورقة بن نوفل وأبي أمية ابن المغيرة وقد أشار إلى تعبده صلى الله عليه وسلم صاحب الهمزية بقوله ** ألف النسك والعبادة والخل ** وة طفلا وهكذا النجباء ** ** وإذا حلت الهداية قلبا ** نشطت في العبادة الأعضاء **
أي ألف صلى الله عليه وسلم العبادة والخلوة في حال كونه طفلا ومثل هذا الشأن العلي شأن الكرام وإنما كان هذا شأن الكرام لأنه إذا حلت الهداية قلبا نشطت الأعضاء في العبادة لأن القلب رئيس البدن المعول عليه في صلاحه وفساده ولعل الخلوة في كلام صاحب الهمزية المراد بها مطلق اعتزاله للناس وأراد بطفلا زمن رضاعه صلى الله عليه وسلم عند حليمة
فقد تقدم عنها رضي الله تعالى عنها أنها قالت لما ترعرع رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يخرج إلى الصبيان وهم يلعبون فيتجنبهم لا خصوص اعتزاله الناس في غار حراء فلا ينافى قوله طفلا ظاهر ما تقدم من أن خلوته صلى الله عليه وسلم بغار حراء كانت في زمن

تزوجه صلى الله عليه وسلم بخديجة رضي الله تعالى عنها فكان صلى الله عليه وسلم يجاور ذلك الشهر يطعم من جاءه من المساكين أي لأنه كان من نسك قريش في الجاهلية أي في ذلك المحل أن يطعم الرجل من جاءه من المساكين
وقد قيل إن هذا كان تعبده في غار حراء أي مع الإنقطاع عن الناس وإلا فمجرد إطعام المساكين لا يختص بذلك المحل إلا إن كان ذلك المحل صار في ذلك الشهر مقصودا للمساكين دون غيره
وقيل كان تعبده صلى الله عليه وسلم التفكر مع الإنقطاع عن الناس أي لا سيما إن كانوا على باطل لأن في الخلوة يخشع القلب وينسى المألوف من مخالطة أبناء الجنس المؤثرة في البنية البشرية ومن ثم قيل الخلوة صفوة الصفوة
وقول بعضهم كان يتعبد بالتفكر أي مع الإنقطاع عما ذكرنا وإلا فمجرد التفكر لا يختص بذلك المحل إلا أن يدعى أن التفكر فيه أتم من التفكر في غيره لعدم وجود شاغل به وقيل تعبده صلى الله عليه وسلم كان بالذكر وصححه في سفر السعادة وقيل بغير ذلك
ومن ذلك الغير أنه كان يتعبد قبل النبوة بشرع إبراهيم وقيل بشريعة موسى غير ما نسخ منها في شرعنا وقيل بكل ما صح أنه شريعة لمن قبله غير ما نسخ من ذلك في شرعنا
وفي كلام الشيخ محيى الدين بن العربي تعبد صلى الله عليه وسلم قبل نبوته بشريعة إبراهيم حتى فجأه الوحي وجاءته الرسالة فالولي الكامل يجب عليه متابعة العمل بالشريعة المطهرة حتى يفتح الله له في قلبه عين الفهم عنه فيلهم معاني القرآن ويكون من المحدثين بفتح الدال ثم يصير إلى إرشاد الخلق وكان صلى الله عليه وسلم إذا قضى جواره من شهره ذلك كان أول ما يبدأ به إذا انصرف قبل أن يدخل بيته الكعبة فيطوف بها سبعا أو ماشاء الله تعالى ثم يرجع إلى بيته حتى إذا كان الشهر الذي أراد الله تعالى به ما أراد من كرامته صلى الله عليه وسلم وذلك شهر رمضان وقيل شهر ربيع الأول وقيل شهر رجب خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حراء كما كان يخرج لجواره ومعه أهله أي عياله التي هي خديجة رضي الله تعالى عنها إما مع أولادها أو بدونهم حتى إذا كانت الليلة التي أكرمه الله تعالى فيها برسالته ورحم العباد بها وتلك الليلة ليلة سبع عشرة من ذلك الشهر وقيل رابع عشريه وقيل كان ذلك ليلة ثمان من ربيع الأول أي وقيل ليلة ثالثة


قال بعضهم القول بأنه في ربيع الأول يوافق القول بأنه بعث على رأس الأربعين لأن مولده صلى الله عليه وسلم كان في ربيع الأول على الصحيح أي وهو قول الأكثرين وقيل كان ذلك ليلة أو يوم السابع والعشرين من رجب
فقد أورد الحافظ الدمياطي في سيرته عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال من صام يوم سبع وعشرين من رجب كتب الله تعالى له صيام ستين شهرا وهو اليوم الذي نزل فيه جبريل على النبي صلى الله عليه وسلم بالرسالة وأول يوم هبط فيه جبريل هذا كلامه أي أول يوم هبط فيه النبي صلى الله عليه وسلم ولم يهبط عليه قبل ذلك وسيأتي في بعض الروايات أن جبريل عليه السلام نزل في سحر تلك الليلة التي هي ليلة الإثنين ويجوز أن يكون كل من تلك الليالي كانت ليلة الإثنين فقد جاء أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لبلال لا يفوتك صوم يوم الإثنين لأني ولدت فيه ونبئت فيه فلا مخالفة بين كونه نبىء في الليل وبين كونه نبيء في اليوم لأن السحر قد يلحق بالليل
وفي كلام بعضهم أتاه صلى الله عليه وسلم جبريل ليلة السبت وليلة الأحد ثم ظهر له بالرسالة يوم الإثنين لسبع عشرة خلت من رمضان في حراء فجاء بأمر الله تعالى وهذا القول أي أن البعث كان في رمضان قال به جماعة منهم الإمام الصرصري حيث قال ** وأتت عليه أربعون فأشرقت ** شمس النبوة منه في رمضان **
واحتجوا بأن أول ما أكرمه الله تعالى بنبوته أنزل عليه القرآن وأجيب بأن المراد بنزول القرآن في رمضان نزوله جملة واحدة في ليلة القدر إلى بيت العزة في سماء الدنيا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاءني وأنا نائم بنمط وهو ضرب من البسط وفي رواية جاءني وأنا نائم بنمط من ديباج فيه كتاب أي كتابة فقال اقرأ فقلت ما أقرأ أي أنا أمي لا أحسن القراءة أي قراءة المكتوب أو مطلقا فغطني أو فغتني بالتاء بدل من الطاء به أي غمني بذلك النمط بأن جعله على فمه وأنفه قال حتى ظننت أنه الموت ثم أرسلني فقال اقرأ أي من غير هذا المكتوب فقلت ماذا أقرأ وما أقول ذلك إلا افتداء منه أي تخلصا منه أن يعود لي بمثل ما صنع أي إنما استفهمت عما أقرؤه ولم أنف خوفا أن يعود لي بمثل ما صنع عند النفي أي وفي رواية فقلت والله ما قرأت

شيئا قط وما أدري شيئا أقرؤه أي لأني ما قرأت شيئا فهو من عطف السبب على المسبب قال { اقرأ باسم ربك الذي خلق خلق الإنسان من علق اقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم } فقرأتها فانصرف عني وهببت أي استيقظت من نومي فكأنما كتب في قلبي كتابا
أقول أي أستقر ذلك في قلبي وحفظته ثم لا يخفى أن كلام هذا البعض وهو أنه جاءه ليلة السبت وليلة الأحد ثم ظهر له يوم الإثنين محتمل لأن يكون أتاه بذلك النمط في ليلة السبت وليلة الأحد وسحر يوم الإثنين وهو نائم لا يقظة لقوله ثم هببت من نومي
ولا ينافي ذلك قوله ثم ظهر له بالرسالة أي أعلن له بما يكون سببا للرسالة الذي هو اقرأ الحاصل في اليقظة وحينئذ يكون تكرر مجيئه هو السبب في إستقرار ذلك في قلبه صلى الله عليه وسلم وحينئذ لا يبعده قوله في الليلة الثانية ما قرأت شيئا لأن المراد لم يتقدم لي قراءة قبل مجيئك إلى ولا يبعده أيضا قوله ما أدري ما أقرأ لأنه لم يستقر ذلك في قلبه لما علمت أن سبب الإستقرار التكرر فلم يستقر ذلك في قلبه صلى الله عليه وسلم في الليلة الأولى
وفي سيرة الشامي أن مجىء جبريل عليه السلام له صلى الله عليه وسلم بالنمط لم يتكرر وأنه كان قبل دخوله صلى الله عليه وسلم غار حراء وهذا السياق يدل على أنه كان بعده
وفي سفر السعادة ما يقتضى أنه جاء بالنمط يقظة في حرا ونصه فبينما هو في بعض الأيام قائم على جبل حرا إذ ظهر له شخص وقال أبشر يا محمد أنا جبريل وأنت رسول الله لهذه الأمة ثم أخرج له قطعة نمط من حرير مرصعة بالجواهر ووضعها في يده وقال اقرأ قال والله ما أنا بقارئ ولا أدري في هذه الرسالة كتابة أي لا أعلم ولا أعرف المكتوب فيها قال فضمني إليه وغطني حتى بلغ مني الجهد فعل ذلك بي ثلاثا وهو يأمرني بالقراءة ثم قال اقرأ باسم ربك هذا كلامه فليتأمل والله أعلم قال فخرجت أي من الغار أي وذلك قبل مجىء جبريل إليه صلى الله عليه وسلم باقرأ خلافا لما يقتضيه السياق حتى إذا كنت في شط من الجبل أي في جانب منه سمعت صوتا من السماء يقول يا محمد أنت رسول الله وأنا جبريل فوقفت أنظر إليه فإذا جبريل على

صورة رجل صاف قدميه أي وفي رواية واضعا إحدى رجليه على الأخرى في أفق السماء أي نواحيها يقول يا محمد أنت رسول الله وأنا جبريل فوقفت أنظر إليه فما أتقدم وما أتأخر وجعلت أصرف وجهي عنه في آفاق السماء فلا أنظر في ناحية منها إلا رأيته كذلك فما زلت واقفا ما أتقدم أمامي وما أرجع ورائي حتى بعثت خديجة رسلها في طلبي فبلغوا مكة ورجعوا إليها وأنا واقف في مكاني ذلك ثم انصرف عني وأنصرفت راجعا إلى أهلي حتى أتيت خديجة أي في الغار فجلست إلى فخذها مضيفا إليها أي مستندا إليها فقال يا أبا القاسم أين كنت فوالله لقد بعثت رسلي في طلبك فبلغوا مكة ورجعوا إلي
أقول وهذا يدل على أن خديجة رضي الله تعالى عنها كانت معه بغار حرا وهو الموافق لما تقدم من قوله ومعه أهله أي خديجة رضي الله تعالى عنها على ما تقدم
وقد يخالف ذلك ما روى أن خديجة رضي الله تعالى عنها صنعت طعاما ثم أرسلته إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم تجده بحراء فأرسلت في طلبه إلى بيت أعمامه وأخواله فلم تجده فشق ذلك عليها فبينما هي كذلك إذا أتاها فحدثها بما رأى وسمع فإن هذا يدل على أنها لم تكن معه صلى الله عليه وسلم بحرا
وقد يقال يجوز أن تكون خرجت معه أولا وأرسلت رسلها إليه صلى الله عليه وسلم وهي بحرا فلم تجده وأن الرسل أخطئوا محل وقوفه صلى الله عليه وسلم بالجبل الذي هو حرا ثم رجعت إلى مكة وأرسلت رسلها إليه صلى الله عليه وسلم بحراء لإحتمال عوده إليه ثم أرسلت إلى بيت أعمامه وأخواله لما لم تجده صلى الله عليه وسلم بحراء فإرسالها تكرر مرتين مع إختلاف محلها ويكون قوله وانصرفت راجعا إلى أهلي أي بمكة لا بحراء لأنه يجوز أن يكون بلغه رجوع خديجة رضي الله تعالى عنها إلى مكة
هذا على مقتضى الجمع وأما على ظاهر الرواية الأولى يكون رجوعه إلى أهله بحراء كما ذكرنا وهويدل على أن خروجه صلى الله عليه وسلم إلى شط الجبل كان من غار حراء كما ذكرنا لا من مكة الذي يدل عليه قول الشمس الشامي فخرج مرة أخرى إلى حراء قال فخرجت حتى أتيت الشط من الجبل سمعت صوتا إلى آخره فليتأمل والله أعلم
قال ثم حدثتها بالذي رأيت أي من سماع الصوت ورؤية جبريل وقوله له

يا محمد أنت رسول الله فقالت أبشر يا بن عمي واثبت فوالذي نفسي بيده إني لأرجو أن تكون نبي هذه الأمة ثم قامت فجمعت عليها ثيابها أي التي تتجمل بها عند الخروج
ثم انطلقت إلى ورقة بن نوفل فأخبرته بما أخبرها به رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه رأى وسمع أي رأى جبريل وسمع منه أنت رسول الله وأنا جيريل فقال ورقة قدوس قدوس بالضم والفتح والذي نفسي بيده لئن كنت صدقت يا خديجة لقد جاءه الناموس الأكبر الذي يأتي موسى الذي هو جبريل وإنه لنبي هذه الأمة فقولي له يثبت والقدوس الطاهر المنزه عن العيوب وهذا يقال للتعجب أي وجاء بدل قدوس سبوح سبوح وما لجبريل يذكر في هذه الأرض التي تعبد فيها الأوثان جبريل أمين الله بينه وبين رسله أي لأن هذا الإسم لم يكن معروفا بمكة ولا غيرها من بلاد العرب فرجعت خديجة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته بقول ورقة بن نوفل فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم جواره وانصرف أي فرغ ما تزوده وليس المراد انقضاء جواره بانقضاء الشهر لأن ذلك كان قبل أن يجئ إليه جبريل باقرأ باسم ربك يقظة كما تقدم أي وذلك كان في الشهر الذي أكرمه الله فيه برسالته
فعند ذلك صنع كما كان يصنع بدأ بالكعبة فطاف بها فلقيه ورقة بن نوفل وهو يطوف بالكعبة فقال له يا ابن أخي أخبرني بما رأيت وسمعت فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له ورقة والذي نفسي بيده إنك لنبي هذه الأمة ولقد جاءك الناموس الأكبر الذي جاء موسى ولتكذبنه ولتؤذينه و لتقاتلنه ولتخرجنه بهاء السكت ولا تكون إلا ساكنة ولئن أنا أدركت ذلك اليوم لأنصرن الله نصرا يعلمه ثم أدنى ورقة رأسه صلى الله عليه وسلم منه وقبل يأفوخه أي وسط رأسه لأن اليأفوخ بالهمزة وسط الراس إذا استد وقيل استداده كما في رأس الطفل يقال له الفادية بالفاء ثم انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى منزله أي ولا مانع من تكرار مراجعة ورقة فتارة قال قدوس قدوس وتارة قال سبوح سبوح أو جمع بين ذلك في وقت واحد وبعض الرواة اقتصر على أحد اللفظين وقد جاء أن أبا بكر رضي الله تعالى عنه دخل على خديجة أي وليس عندها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت له يا عتيق إذهب بمحمد صلى الله عليه وسلم إلى ورقة أي بعد أن أخبرته بما

أخبرها به رسول الله صلى الله عليه وسلم ما سيذكر فلما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ أبو بكر بيده فقال انطلق بنا إلى ورقة وذهب به إلى ورقة فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خلوت وحدي سمعت نداء خلفي يا محمد يا محمد فانطلق هاربا إلى الأرض فقال له لا تفعل إذا أتاك فاثبت حتى تسمع ما يقول ثم ائتني أي وهذا قبل أن يراه ويجتمع به ويجئ إليه بالقرآن وحينئذ يكون تكرر سؤال ورقة ثلاث مرات الأولى علي يد أبي بكر رضي الله تعالى عنه وذلك قبل أن يرى جبريل والثانية التي رأى فيها جبريل وسمع منه ولم يجتمع به وذلك عند إجتماعه صلى الله عليه وسلم به في المطاف والثالثة التي بعد مجئ جبريل له يقظة بالقرآن أي باقرأ باسم ربك على المشهور من أنه أول ما نزل وذلك على يد خديجة ولاينافى ذلك ما ذكره الحافظ ابن حجر كما سيأتي أن القصة واحدة لم تتعدد ومخرجها متحد لأن مراده قصة مجئ جبريل له يقظة باقرأ باسم ربك وسيأتي ما فيه
وإنما قال ورقة له صلى الله عليه وسلم ياابن أخي قيل لأنه يجتمع مع عبدالله والد النبي صلى الله عليه وسلم في قصي فكان عبدالله بمثابة الأخ له أو أنه قال ذلك توقيرا له وإنما ذكر ورقة موسى دون عيسى عليهما الصلاة والسلام مع أن عيسى أقرب منه وهو على دينه لأنه كان على دين موسى ثم صار على دين عيسى عليهما الصلاة والسلام أي كان يهوديا ثم صار نصرانيا أي لأن نبوة موسى عليه الصلاة والسلام مجمع عليها أي على أنها ناسخة لما قبلها وأن شريعة عيسى عليه الصلاة والسلام قيل إنها متممة ومقررة لشريعة موسى عليه الصلاة والسلام لا ناسخة لها قيل ولأن ورقة كان ممن تنصر أي كما علمت والنصارى لا يقولون بنزول جبريل على عيسى عليه الصلاة والسلام أي بل كان يعلم الغيب لأنهم يقولون فيه إنه أحد الأقانيم الثلاثة اللاهوتية وذلك الأقنوم هو أقنوم الكلمة التي هي العلم حل بناسوت المسيج واتحد به فلذلك كان يعلم علم الغيب ويخبر بما في الغد
أقول وفيه أن في رواية وإنك على مثل ناموس موسى وعيسى عليهما الصلاة والسلام أي ففي بعض الروايات جمع وفي بعضها اقتصر على موسى وفي الإقتصار على موسى دون الإقتصار على عيسى ما علمت ثم رأيت أنه جاء في غير الصحيح

الإقتصار على عيسى فقال هذا الناموس الذي نزل على عيسى فهو كما جاء الجمع بينهما جاء الإقتصار على كل منهما
ولا ينافى ذلك أي مجئ جبريل لعيسى ما تقدم عن النصارى من أنهم لا يقولون بنزول جبريل على عيسى لجواز أن يكون المراد لا ينزل عليه دائما وأبدا بالوحي بل في بعض الأحيان وفي بعضها يعلم الغيب بغير واسطة ثم رأيت في فتح الباري أن عند إخبار خديجة لورقة بالقصة قال لها هذا ناموس عيسى بحسب ما هو فيه من النصرانية وعند إخبار النبي صلى الله عليه وسلم له بالقصة قال له هذا ناموس موسى للمناسبة بينهما لأن موسى أرسل بالنقمة على فرعون وقد وقعت النقمة على يد نبينا صلى الله عليه وسلم على فرعون هذه الأمة الذي هو أبو جهل هذا كلامه فليتأمل وقد جاء أنه صلى الله عليه وسلم قال في حق أبي جهل في يوم بدر هذا فرعون هذه الأمة والله أعلم
وعن عائشة رضي الله تعالى عنها جاءه الملك سحرا أي سحر يوم الإثنين يقظة لا مناما أي بغير نمط فقال له اقرأ قال ما أنا بقارئ أي لا أوجد القراءة قال فأخذني فغطني أي ضمني وعصرني وفي لفظ فأخذ بحلقي حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني فقال اقرأ فقلت ما أنا بقارئ أي لا أحسن القراءة أي لا أحفظ شيئا أقرؤه فأخذني فغطني الثانية حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني فقال اقرأ فقلت ما أنا بقارئ أي أي شيء أقرؤه
وفيه أنه لو كان كذلك لقال ما أقرأ أو ماذا أقرأ إلا أن يقال أطلق ذلك وأراد لازمه الذي هو الإستفهام خصوصا وقد قدمه قال فأخذني فغطني الثالثة حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني فقال { اقرأ باسم ربك الذي خلق خلق الإنسان من علق اقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم }
أقول فقولنا أي بغير نمط هو ظاهر الروايات ويجوز أن يكون لفظ النمط سقط في هذه الرواية كغيرها من الروايات ويؤيده اقتصار السيرة الشامية على مجيئه بالنمط وأيضا كيف الجمع بين قوله هنا ما ذكر وبين قوله هناك فكأنما كتب في قلبي كتابا وما بالعهد من قدم إلا أن يقال يجوز أن يكون صلى الله عليه وسلم حوز أن يكون جبريل يريد منه قراءة غير الذي قرأه وكتب في قلبه ولا يخفى أنه علم أن قول جبريل اقرأ أمر بالقراءة

وفيه أنه من التكليف بما لا يطاق أي في الحال أي ومن ثم ادعى بعضهم أنه لمجرد التنبيه واليقظة لما يلقى إليه
وفيه أنه لو كان كذلك لم يحسن أن يقال في جوابه ما أنا بقارئ الذي معناه لا أوجد القراءة إلا أن يقال جبريل عليه الصلاة والسلام أراد التنبيه لا الأمر وجوابه صلى الله عليه وسلم بناء على مقتضى ظاهر اللفظ
وعلم أن قوله صلى الله عليه وسلم ما أنا بقارئ في المواضع الثلاثة معناه مختلف ففي الأول معناه الإخبار بعدم إيجاد القراءة والثاني معناه الإخبار بأنه لا يحسن شيئا يقرؤه وإن كان ذلك هو مستند الأول والثالث معناه الإستفهام عن أي شيء أن يقرؤه وفيه ماعلمت
وبعضهم جعل قوله الأول لا أقرأ لا أحسن القراءة بدليل أنه جاء في بعض الروايات ما أحسن أن أقرأ وحينئذ يكون بمعنى الثاني فيكون تأكيدا له أي الغرض منهما شيء واحد
قال بعضهم وجه المناسة بين الخلق من العلق والتعليم وتعليم العلم أن أدنى مراتب الإنسان كونه علقة وأعلاها كونه عالما فالله سبحانه وتعالى امتن على الإنسان بنقله من أدنى المراتب وهي العلقة إلى أعلاها وهي تعلم العلم
وقد اشتملت هذه الآيات على براعة الإستهلال وهو أن يشتمل أول الكلام على ما يناسب الحال المتكلم فيه ويشير إلى ما سبق الكلام لأجله فإنها اشتملت على الأمر بالقراءة والبداءة فيها ببسم الله إلى غير ذلك مما ذكره في الإتقان قال فيه من ثم قيل إنها جديرة أن تسمى عنوان القرآن لأن عنوان الكتاب ما يجمع مقاصده بعبارة موجزة في أوله وكرر جبريل الغط ثلاثا للمبالغة وأخذ منه بعض التابعين وهو القاضي شريح أن المعلم لا يضرب الصبي على تعليم القرآن أكثر من ثلاث ضربات
وأورد الحافظ السيوطي عن الكامل لإبن عدي بسند ضعيف عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يضرب المؤدب الصبي فوق ثلاث ضربات
وذكر السهيلي أن في ذلك أي الغط ثلاثا إشارة إلى أنه صلى الله عليه وسلم يحصل له شدائد ثلاث ثم يحصل له الفرج بعد ذلك فكانت الأولى إدخال قريش له صلى الله عليه

وسلم الشعب والتضييق عليه والثانية اتفاقهم على الإجتماع على قتله صلى الله عليه وسلم والثالثة خروجه من أحب البلاد إليه وجاءه صلى الله عليه وسلم جبريل وميكائيل أي قبل قول جبريل له اقرأ فشق جبريل بطنه وقلبه إلى آخر ما تقدم في الكلام على أمر الرضاع ثم قال له جبريل اقرأ الحديث فعلم أن اقرأ باسم ربك نزلت من غير بسملة وقد صرح بذلك الإمام البخاري وما ورد عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما بأن أول ما نزل جبريل على محمد صلى الله عليه وسلم قال يا محمد استعذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم ثم قال قل بسم الله الرحمن الرحيم ثم قال اقرأ باسم ربك قال الحافظ ابن كثير هذا الأثر غريب في إسناده ضعف وإنقطاع أي فلا يدل للقول بأن أول ما نزل بسم الله الرحمن الرحيم حكاه ابن النقيب في مقدمة تفسيره وبه يرد على الجلال السيوطي حيث قال وعندي فيه أن هذا لا يعد قولا برأسه فإن من ضرورة نزول السورة أي سورة اقرأ نزول البسملة معها فهي أول آية نزلت على الإطلاق هذا كلامه والله أعلم
قال الحافظ ابن حجر هذا الذي وقع له صلى الله عليه وسلم في ابتداء الوحي من خصائصه إذ لم ينقل عن أحد من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام أنه جرى له عند ابتداء الوحي مثل ذلك ولما قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك الآية رجع بها ترجف بوادره والبادرة اللحمة التي بين المنكب والعنق تتحرك عند الفزع ويقال لها الفريصة والفرائض اي وفي رواية فؤاده أي قلبه ولا مانع من إجتماع الأمرين لأن تحرك البادرة ينشأ عن فزع القلب حتى دخل صلى الله عليه وسلم على خديجة فقال زملوني زملوني أي غطوني بالثياب فزملوه حتى ذهب عنه الروع بفتح الراء أي الفزع ثم أخبرها الخبر وقال لقد خشيت على نفسي وفي رواية على عقلي كما في الإمتاع قالت له خديجة كلا أبشر فوالله لا يخزيك الله أبدا أي لا يفضحك إنك لتصل الرحم وتصدق الحديث وتحمل الكل أي الشيء الذي يحصل منه التعب والإعياء لغيرك وتكسب المعدوم بضم التاء والمعدوم الذي لا مال له لأن من لا مال له كالمعدوم أي توصل إليه الخير الذي لا يجده عند غيرك
وبهذا يعلم سقوط قول الخطابي الصواب المعدم بلا واو لأن المعدوم أي الشخص المعدوم لا يكسب أي لا يعطى الكسب وتقرى الضيف وتعين على نوائب الحق أي

على حوادثه فانطلقت به خديجة حتى أتت به ورقة بن نوفل فقالت له خديجة رضي الله تعالى عنها أي عم اسمع من ابن أخيك أي وقولها أي عم صوابه ابن عم لأنه ابن عمها لا عمها كما وقع في مسلم
قال ابن حجر وهو وهم لأنه وإن كان صحيحا لجواز إرادة التوقير لكن القصة لم تتعدد ومخرجها متحد أي فلا يقال يجوز أنها جاءت إليه بعد نزول الآية مرتين قالت في مرة أي عم وفي مرة أي ابن عم قال ورقة يا ابن أخي ماذا ترى فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم خبر ما رأى فقال له ورقة هذا الناموس الذي أنزل علي موسى أي صاحب سر الوحي وهو جبريل يا ليتني فيها جذعا أي يا ليتني حينئذ أكون في زمن الدعوى إلى الله أي إظهاره الذي جاء به وأنذر أو أصل وجودها بناء على تأخر الدعوى التي هي الرسالة عن النبوة على ما يأتي شابا حتى أبالغ في نصرتها يا ليتني أكون حيا حين يخرجك قومك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أو مخرجي هم بتشديد الياء المفتوحة لأنه جمع مخرج والأصل أو مخرجوني حذفت النون للإضافة فصار مخرجوى قلبت الواو ياء وأدغمت قال ورقة نعم لم يأت رجل بما جئت به إلا عودى أي فتكون المعاداة سببا لإخراجه
وهذا يفيد بظاهره أن من تقدم من الأنبياء أخرجوا من أماكنهم لمعاداة قومهم لهم وإلا فمجرد المعاداة لا يقتضى الإخراج فلا يحسن أن يكون علامة عليه وقد يؤيد ذلك ما تقدم عند الكلام على بناء الكعبة أن كل نبي إذا كذبه قومه خرج من بين أظهرهم إلى مكة يعبد الله عز وجل بها حتى يموت وتقدم ما فيه
وفي كونه صلى الله عليه وسلم لم يقل شيئا في جواب قول ورقة إنه يكذب ويؤذي ويقاتل وقال في جواب قوله إنه يخرج أو مخرجي هم إستفهاما إنكاريا دليل على شدة حب الوطن وعسر مفارقته خصوصا وذلك الوطن حرم الله وجوار بيته ومسقط رأسه قال ورقة وإن أدركت يومك أنصرك نصرا مؤزرا أي شديدا قويا من الأزر وهو الشدة الذي في الحديث الصحيح وإن يدركني يومك وسيأتي في بعض الروايات وإن يدركني ذلك قال السهيلي وهو القياس لأن ورقة سابق بالوجود والسابق هو الذي يدركه ما يأتي بعده كما جاء أشقى الناس من أدركته الساعة وهو حي هذا كلامه


أي وفي بعض الروايات أنه قال لها إن ابن عمك لصادق وإن هذا البدء نبوة وفي لفظ إنه لنبي هذه الأمة أي وفي الشفاء أن قوله صلى الله عليه وسلم لخديجة لقد خشيت على نفسي ليس معناه الشك فيما آتاه الله تعالى من النبوة ولكنه لعله خشى أن لا تحتمل قوته صلى الله عليه وسلم مقاومة الملك وأعباء الوحي بناء على أنه قال ذلك بعد لقاء الملك وإرساله إليه بالنبوة فإن للنبوة أثقالا لا يستطيع حملها إلا أولو العزم من الرسل
وفي كلام الحافظ ابن حجر اختلف العلماء في هذه الخشية على أثني عشر قولا وأولاها بالصواب وأسلمها من الإرتياب أن المراد بها الموت أو المرض أو دوام المرض هذا كلامه فليتأمل مع رواية خشيت على عقلي
قال وفي بعض الروايات أن خديجة قبل أن تذهب به إلى ورقة ذهبت به إلى عداس وكان نصرانيا من أهل نينوى قرية سيدنا يونس عليه الصلاة والسلام فقالت له يا عداس أذكرك الله إلا ما أخبرتني هل عندكم علم من جبريل أي فإن هذا الإسم لم يكن معروفا بمكة ولا بغيرها من أرض العرب كما تقدم فقال عداس قدوس قدوس ما شأن جبريل يذكر بهذه الأرض التي أهلها أهل أوثان أي والقدوس المنزه عن العيوب وأن هذا يقال للتعجب كما تقدم فقالت أخبرني بعلمك فيه قال هو أمين الله بينه وبين النبيين وهو صاحب موسى عليهما الصلاة والسلام اه
وفيه أنه سيأتي عند الكلام على ذهابه صلى الله عليه وسلم للطائف بعد موت أبي طالب يلتمس إسلام ثقيف اجتماعه بعداس الموصوف بما ذكر لكن في تلك القصة ما قد يبعد معه كل البعد أنه المذكور هنا فليتأمل ثم رأيت أن عداسا المذكور هنا كان راهبا وكان شيخا كبير السن وقد وقع حاجباه على عينيه من الكبر وأن خديجة قالت له أنعم صباحا يا عداس فقال كأن هذا الكلام كلام خديجة سيدة نساء قريش قالت أجل قال أدنى منى فقد ثقل سمعي فدنت منه ثم قالت له ما تقدم وهذا صريح في أنه غير عداس الآتي ذكره وأنهما اشتركا في الإسم والبلد والدين أي وكونهما غلامين لعتبة بن ربيعة
ففي كلام ابن دحية عداس كان غلاما لعتبة بن ربيعة من أهل نينوى عنده علم من الكتاب فأرسلت إليه خديحة تسأله عن جبريل فقال قدوس قدوس الحديث ولا يخفى أن هذا اشتباه وقع من بعض الرواة بلا شك


وفي رواية أن عداسا هذا قال لها يا خديجة إن الشيطان ربما عرض للعبد فأراه أمورا فخذي كتابي هذا فانطلقي به إلى صاحبك فإن كان مجنونا فإنه سيذهب عنه وإن كان من الله فلن يضره فانطلقت بالكتاب معها فلما دخلت منزلها إذا هي برسول الله صلى الله عليه وسلم مع جبريل يقرئه هذه الآيات { ن والقلم وما يسطرون ما أنت بنعمة ربك بمجنون وإن لك لأجرا غير ممنون وإنك لعلى خلق عظيم فستبصر ويبصرون بأيكم المفتون } فلما سمعت خديجة قراءته اهتزت فرحا ثم قالت للنبي صلى الله عليه وسلم فداك أبي وأمي امض معي إلى عداس فلما رآه عداس كشف عن ظهره فإذا خاتم النبوة يلوح بين كتفيه فلما نظر عداس إليه خر ساجدا يقول قدوس قدوس أنت والله النبي الذي بشر بك موسى وعيسى الحديث
وفيه إن كان هذا قبل أن تذهب به إلى ورقة اقتضى أن نزول سورة ن قبل اقرأ و لا يحسن ذلك مع قوله لجبريل ما أنابقارئ إذ هو صريح في أنه صلى الله عليه وسلم لم يقرأ قبل ذلك شيئا ومن ثم كان المشهور أن أول ما نزل اقرأ وكون ن نزلت لهذا السبب مخالف لما ذكر في أسباب النزول أنها نزلت لما وصفه المشركون بأنه مجنون إلا أن يقال لا مانع من تعدد النزول
وذكر ابن دحية أيضا أنه صلى الله عليه وسلم لما أخبرها بجبريل ولم تكن سمعت به قط كتبت إلى بحيرا الراهب فسألته عن جبريل فقال لها قدوس قدوس يا سيد نساء قريش أنى لك بهذا الإسم فقالت بعلى وابن عمي أخبرني بأنه يأتيه فقال إنه السفير بين الله وبين أنبيائه وإن الشيطان لا يجترئ أن يتمثل به ولا أن يتسمى باسمه وهذه العبارة أي كون جبريل هو السفير بين الله وبين أنبيائه صدرت من الحافظ السيوطي وزاد ولا يعرف ذلك لغيره من الملائكة
واعترض عليه بعضهم بأن إسرافيل كان سفيرا بين الله وبينه صلى الله عليه وسلم فعن الشعبي أنه جاءته صلى الله عليه وسلم النبوة وهو ابن أربعين سنة وقرن بنبوته إسرافيل ثلاث سنين فلما مضت ثلاث سنين رن بنبوته جبريل وفي لفظ عنه فلما مضت ثلاث سنين تولى عنه إسرافيل وقرن به جبريل أي وقد تقدم أن إسرافيل قرن به صلى الله عليه وسلم قبل النبوة ثلاث سنين يسمع حسه ولا يرى شخصه يعلمه الشيء بعد الفيء إلى آخره وحينئذ يلزم أن يكون قرن به بعد النبوة ثلاث سنين أيضا


وسيأتي عن بحث بعض الحفاظ أنها مدة فترة الوحي فليتأمل وأجاب الحافظ السيوطي عن ذلك بأن السفير هو المرصد لذلك وذلك لا يعرف لغير جبريل ولا ينافى ذلك مجئ غيره من الملائكة إلى النبي صلى الله عليه وسلم في بعض الأحيان
ولك أن تقول إن كان المراد بالمجيء إليه بوحى من الله كما هو المتبادر فليس في هذه الرواية أن إسرافيل كان يأتيه بوحي في تلك المدة وجواب الحافظ السيوطي بقتضى أن إسرافيل وغيره من الملائكة كان يأتيه بوحي من الله قبل مجيء جبريل له صلى الله عليه وسلم بوحي غير النبوة ولا يخرجه ذلك عن الإختصاص باسم السفير وبأن إسرافيل لم ينزل لغير النبي صلى الله عليه وسلم من الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم كما ثبت في الحديث فلم يكن السفير بين الله وجميع أنبيائه
قيل وإنما خص بذلك لأنه أول من سجد من الملائكة لآدم ورأيته سئل هل عيسى بعد نزوله يوحى إليه فأجاب بنعم وأورد حديث النواس بن سمعان الذي أخرجه مسلم وأحمد وأبو داود والترمذي والنسائي وغيرهم وفيه التصريح بأنه يوحى إليه قال والظاهر أن الجائي إليه بالوحي جبريل قال بل هو الذي يقطع به ولا يتردد فيه لأن ذلك وظيفته وهو السفير بين الله تعالى وبين أنبيائه لا يعرف ذلك لغيره من الملائكة ثم استدل على ذلك بما يطول
قال وما اشتهر على ألسنة الناس أن جبريل لا ينزل إلى الأرض بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم فهو شيء لا أصل له وزعم زاعم أن عيسى إنما يوحى إليه وحى إلهام ساقط قال وحديث لا وحى بعدي باطل أي ويدل له ما رأيته في كلام بعضهم جبريل ملك عظيم ورسول كريم مقرب عند الله أمين على وحيه وهو سفيره إلى أنبيائه كلهم وسماه روح القدس والروح الأمين واختصه بوحيه من بين الملائكة المقربين
قال ورأيت في بعض التواريخ أن جبريل نزل عليه صلى الله عليه وسلم ستا وعشرين ألف مرة ولم يبلغ أحد من الأنبياء هذا العدد والله أعلم
وفي أسباب النزول للواحدي عن علي رضي الله تعالى عنه لما سمع النداء يا محمد قال لبيك قال قل أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله ثم قال قل { الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم مالك يوم الدين } حتى فرغ من السورة أي فلما

بلغ { ولا الضالين } فقال قل آمين فقال آمين كما في رواية عن وكيع وابن أبي شيبة وجاء في حديث قال بعضهم إسناده ليس بالقائم إذا دعا أحدكم فليختم بآمين فإن آمين في الدعاء مثل الطابع على الصحيفة وفي الجامع الصغير آمين خاتم رب العالمين على لسان عباده المؤمنين أي خاتم دعاء رب العالمين أي يمنع من أن يتطرق إليه رد وعدم قبول ومن ثم لما سمع صلى الله عليه وسلم رجلا يدعو قال قد وجب إن ختم بآيمن
فأتى صلى الله عليه وسلم ورقة فذكر له ذلك فقال له ورقة أبشر ثم أبشر فإني أشهد أنك الذي بشر بك ابن مريم فإنك على مثل ناموس موسى وإنك نبي مرسل وإنك ستؤمر بالجهاد بعد يومك ولئن أدركني ذلك لأجاهدن معك
أقول هذا لا يدل للقول بأن الفاتحة أول ما نزل وعليه كما قال في الكشاف أكثر المفسرين إذ يبعد كل البعد أن تكون هذه الرواية قبل نزول { اقرأ باسم ربك } ثم رأيت عن البيهقي أنه قال فيما تقدم عن أسباب النزول هذا مرسل ورجاله ثقات فإن كان محفوظا فيحتمل أن يكون خبرا عن نزولها بعد ما نزلت عليه اقرأ والمدثر أي والمدثر نزلت بعد يا أيها المزمل
ثم رأيت ابن حجر اعترض ما تقدم عن الكشاف بقوله الذي ذهب إليه أكثر الأمة هو الأول أي القول بأنه اقرأ وأماالذي نسبه إلى الأكثر فلم يقل به إلا عدد أقل من القليل بالنسبة إلى من قال بالأول هذا كلامه
ثم رأيت الإمام النووي قال القول بأن الفاتحة أول ما نزل بطلانه أظهر من أن يذكر أي ومما يدل على ذلك ما جاء من طرق عن مجاهد أن الفاتحة نزلت بالمدينة ففي تفسير وكيع عن مجاهد فاتحة الكتاب مدنية وفيه أنه جاء عن قتادة أنها نزلت بمكة
وعن علي كرم الله وجهه كما في أسباب النزول للواحدي أنها نزلت بمكة من كنز تحت العرش وفيها عنه لما قام النبي صلى الله عليه وسلم بمكة فقال { بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين } قالت قريش رض الله فاك وفي الكشاف أن الفاتحة نزلت بمكة وقيل نزلت بالمدينة فهي مكية مدنية هذا كلامه وتبعه على ترجيح أنها مكية القاضي البيضاوي حيث قال وقد صح أنها مكية وفي الإتقان وذكر قوم منه أي مما تكرر نزوله الفاتحة فليتأمل فإنه لا يقال ذلك إلا بناء على أنها نزلت بهما أي نزلت

بمكة ثم بالمدينة مبالغة في شرفها وقد أشار القاضي البيضاوي إلى أن تكرير نزولها ليس بمجزوم به وقيل نزل نصفها بمكة ونصفها بالمدينة
قال في الإتقان والظاهر أن النصف الذي نزل بالمدينة النصف الثاني قال ولا دليل لهذا القول هذا كلامه
واستدل بعضهم على أنها مكية بأنه لا خلاف أن سورة الحجر مكية وفيها { ولقد آتيناك سبعا من المثاني والقرآن العظيم } وهي الفاتحة فعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد قرئ عليه الفاتحة والذي نفسي بيده ما أنزل الله تعالى في التوراة ولا في الإنجيل ولا في الزبور ولا في الفرقان مثلها إنها لهي السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيته
وقد حكى بعضهم الإتفاق على أن المراد بالسبع المثاني في آية الحجر هي الفاتحة ويرد دعوى الإتفاق قول الجلال السيوطي وقد صح عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما تفسير السبع المثاني في آية الحجر بالسع الطوال
ومما يدل على أن المراد بها الفاتحة ما ذكر في سبب نزولها وهو أن عيرا لأبي جهل قدمت من الشام بمال عظيم وهي سبع قوافل ورسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ينظرون إليها وأكثر الصاحبة بهم عرى وجوع فخطر ببال النبي صلى الله عليه وسلم شيء لحاجة أصحابه فنزل { ولقد آتيناك } أي أعطيناك { سبعا من المثاني } مكان سبع قوافل ولا تنظر إلى ما أعطيناه لأبي جهل وهو متاع الدنيا الدنية { ولا تحزن عليهم } أي على أصحابك { واخفض جناحك } له فإن تواضعك لهم أطيب لقلوبهم من ظفرهم بما تحب من أسباب الدنيا
وفي زوائد الجامع الصغير لو أن فاتحة الكتاب جعلت في كفة الميزان وجعل القرآن في الكفة الأخرى لفضلت فاتحة الكتاب على القرآن سبع مرات وفي لفظ فاتحة الكتاب شفاء من كل داء وفي لفظ فاتحة الكتاب تعدل ثلثي القرآن فليتأمل ولها إثنان وعشرون إسما
وذكر بعضهم أن لها ثلاثين إسما وذكرها الأستاذ الشيخ أبو الحسن البكري في تفسيره الوسيط قال السهيلي ويكره أن يقال لها أم الكتاب أي لما ورد لا يقولن أحدكم أم الكتاب وليقل فاتحة الكتاب قال الحافظ السيوطي رحمه الله ولا أصل له

في شيء من كتب الحديث وإنما أخرجه ابن الضريس بهذا اللفظ عن ابن سيرين وقد ثبت في الأحاديث الصحيحة تسميتها بذلك هذا كلامه ولا يخفى أنه جاء في تسمية الفاتحة ذكر المضاف تارة وهو سورة كذا وإسقاطه أخرى وتارة جوزوا الأمرين معا وهو يشكل على أن تسمية السور توقيفي
ثم رأيت في الإتقان قال قال الزركشي في البرهان ينبغي البحث عن تعداد الأسامي هل هو توقيفي أو بما يظهر من المناسبات فإن كان الثاني فيمكن الفطن أن يستخرج من كل سورة معاني كثيرة تقتضى اشتقاق أسمائها وهو بعيد عن هذا كلامه ويلزم القول بأنها إنما نزلت في المدينة أن مدة إقامته صلى الله عليه وسلم بمكة كان يصلي بغير الفاتحة قال في أسباب النزول وهذا مما لا تقبله العقول أي لأنه لم يحفظ أنه كان في الإسلام صلاة بغير الفاتحة أي ويدل لذلك ما رواه الشيخان لا صلاة لمن يقرأ بفاتحة الكتاب وفي رواية لا تجزىء صلاة لا يقرأ فيها الرجل بفاتحة الكتاب والمراد في كل ركعة لقوله صلى الله عليه وسلم للمسيء صلاته إذا استقبلت القبلة فكبر ثم اقرأ بأم القرآن ثم اقرأ بما شئت إلى أن قال ثم اصنع ذلك أي القراءة بأم القرآن في كل ركعة وجاء على شرط الشيخين أم القرآن عوض عن غيرها وليس غيرها منها عوضا ويدل لذلك أيضا وصف القول بأنها إنما نزلت بالمدينة بأنه هفوة من قائله لأنه تفرد بهذا القول والعلماء على خلافه أي لأن نزولها كان بعد فترة الوحي بعد نزول { يا أيها المدثر } ويلزم على كونها نزلت بعد المدثر أنه صلى الله عليه وسلم صلى بغير الفاتحة في مدة فترة الوحي أي لأن المدثر نزلت بعد فترة الوحي على ما سيأتي
وقد يقال لا ينافيه ما تقدم من أنه لم يحفظ أنه لم يكن في الإسلام صلاة بغير الفاتحة لجواز أن يراد صلاة من الصلوات الخمس وما تقدم مما يدل على تعين الفاتحة في الصلاة يجوز أن يكون صدر منه صلى الله عليه وسلم بعد فرض الصلوات الخمس
وفي الإمتاع إنزال الملك يبشره بالفاتحة وبالآيتين من سورة البقرة يدل على أنه نزلت بالمدينة
فقد أخرج مسلم عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال بينما جبريل قاعد عند النبي صلى الله عليه وسلم سمع نغيضا أو صوتا من فوقه فرفع رأسه فقال هذا باب من السماء فتح اليوم لم يفتح قط إلا اليوم فنزل منه ملك فقال هذا ملك نزل إلى الأرض لم ينزل قط إلا اليوم

فسلم وقال أبشر بنورين أوتيتهما لم يؤتهما من قبلك فاتحة الكتاب وخواتيم سورة البقرة هذا كلامه فليتأمل وجه الدلالة من هذا على أنه سيأتي عن الكامل للهذلي ما يصرح بأن خواتيم البقرة نزلت عليه صلى الله عليه وسلم ليلة الإسراء بقاب قوسين
ومما يدل على أن البسملة آية منها نزولها معها أي كما في بعض الروايات وإلا فالرواية المتقدمة تدل على أنها لم تنزل معها
ويدل لكون البسملة آية من الفاتحة أيضا ما أخرجه الدارقطني وصححه والبيهقي عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قرأتم الحمد لله فاقرءوا بسم الله الرحمن الرحيم إنها أم القرآن وأم الكتاب والسبع المثاني وبسم الله الرحمن الرحيم أحدى آياتها
وقد أخرج الدارقطني عن علي رضي الله تعالى عنه أنه سئل عن السبع المثاني فقال الحمدلله رب العالمين فقيل له إنما هي ست آيات فقال بسم الله الرحمن الرحيم آية وقيل لها السبع المثاني لأنها سبع آيات وتثنى في الصلاة وقيل المثاني كل القرآن لأنه يثنى فيه صفات المؤمنين والكفار والمنافقين وقصص الأنبياء والوعد والوعيد
قال بعضهم والوجه أن يقال المراد بالسبع المثاني السبع الطوال أي كما أنها المراد بقوله تعالى { ولقد آتيناك سبعا من المثاني } على ما تقدم وهي البقرة وآل عمران والنساء والمائدة والأنعام والأعراف والسابعة يونس وقيل براءة وقيل الكهف
وعن أم سلمة رضي الله تعالى عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم عد البسملة آية من الفاتحة وبهذا يعلم ما في تفسير البيضاوي عن أم سلمة من أنه صلى الله عليه وسلم عد بسم الله الرحمن الرحيم الحمدلله رب العالمين آية فقد ذكر بعض الحفاظ أن هذا اللفظ لم يرد عن أم سلمة والذي رواه جماعة من الحفاظ عن أم سلمة بألفاظ تدل على أن بسم الله الرحمن الرحيم آية وحدها
منها أنها ذكرت أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلى في بيتها فيقرأ { بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين } وفي رواية عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في الصلوات بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين والإستدلال على أن البسملة آية من الفاتحة بكونها نزلت معها يقتضى أن البسملة ليست آية من { اقرأ باسم ربك }

ومن ثم قال الحافظ الدمياطي نزول اقرأ بسملة يدل على أن البسملة ليست آية من كل سورة واستدل به أي بعدم نزولها في أول سورة اقرأ أيضا كما قال الإمام النووي من يقول إن البسملة ليست بقرآن في أوائل السور أي وإنما أنزلت وكتبت للفصل والتبرك بالإبتداء بها وهذا القول ينسب لقول إمامنا الشافعي رضي الله تعالى عنه في القديم هو قول قدماء الحنفية
قال وجواب المثبتين أي لقرآنيتها في ذلك أنها نزلت في وقت آخر كما نزل باقي السورة أي سورة اقرأ
وجوابهم أيضا بأن الإجماع من الصحابة والسلف على إثباتها في مصاحفهم مع مبالغتهم في تجريدها عن كتابة غير القرآن فيها حتى إنهم لم يكتبوا آمين فيها واستدل أيضا لعدم قرآنيتها في أوائل السور بعدم تواترها في محلها
ورد بأن عدم تواترها في محلها لا يقتضى سلب القرآنية عنها ورد هذا الرد بأن الإمام الكافيجي قال المختار عند المحققين من علماء السنة وجوب التواتر أي في القرآن في محله ووضعه وترتيبه أيضا كما يجب تواتره في أصله أي وفي الفتوحات البسملة من القرآن بلا شك عند العلماء بالله وتكرارها في السورة كتكرار ما تكرر في القرآن من سائر الكلمات وهو بظاهره يؤيد ما ذهب إليه إمامنا من أنها آية من أول كل سورة ومحتمل لما قاله السهيلي حيث قال نقول إنها آية من كتاب الله مقترنة مع السورة
وفي كلام أبي بكر بن العربي وزعم الشافعي أنها آية من كل سورة وما سبقه إلى هذا القول أحد فإنه لم يعدها أحد آية من سائر السور
ونقل عن إمامنا الشافعي رضي الله تعالى عنه أنها آية من أول الفاتحة دون بقية السور فعن الربيع قال سمعت الشافعي يقول أول الحمد بسم الله الرحمن الرحيم وأول البقرة ألم قال بعضهم وهو يدل على أن البسملة آية من أول الفاتحة دون بقية السور فإنها ليست آية من أولها بل هي آية في أولها إعادة لها وتكريرا لها وربما يوافق ذلك قول الجلال السيوطي في الخصائص الصغرى وخص صلى الله عليه وسلم بالبسملة والفاتحة هذا كلامه وكونه خص بالبسملة يخالف قوله في الإتقان عن الدارقطني إن النبي صلى الله عليه وسلم قال لبعض أصحابه لأعلمنك آية لم تنزل على نبي بعد سليمان غيري بسم الله الرحمن الرحيم كما سيأتي وسيأتي ما فيه


قيل وإنما تركت البسملة أول براءة لعدم المناسبة بين الرحمة التي تدل عليها البسملة والتبري الذي يدل عليه أول براءة ورده في الفتوحات بأنها جاءت في أوائل السور المبدوءة بويل قال وأين الرحمة من الويل
وذكر بعضهم أن الأنفال وبراءة سورة واحدة أي فعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال سألت عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه لم لم يكتبوا بين براءة والأنفال سطر بسم الله الرحم الرحيم فقال كانت الأنفال من أول ما نزل بالمدينة وكانت براءة من آخر ما نزل بالمدينة وكانت قصتها شبيهة بالأخرى فظننت أنهما سورة واحدة
وفي كلام بعض المفسرين عن طاوس وعمر بن عبدالعزيز أنهما كانا يقولان إن الضحى وألم نشرح سورة واحدة فكانا يقرآنهما في ركعة واحدة ولا يفصلان بينهما ببسم الله الرحمن الرحيم وذلك لأنهما رأيا أن أولها مشبه لقوله { ألم يجدك يتيما } وليس كذلك لأن تلك حال إغتامه صلى الله عليه وسلم بإيذاء الكفار فهي حال محنة وضيق وهذه حال إنشراح الصدر وتطييب القلب فكيف يجتمعان هذا كلامه
وذكر أئمتنا أنه يكفي في وجوب الإتيان بالبسملة في الفاتحة في الصلاة الظن المفيد له خبر الآحاد ولعدم التواتر بذلك لا يكفر من نفى كونها آية من الفاتحة بإجماع المسلمين وقد جهر بها صلى الله عليه وسلم كما رواه جمع من الصحابة قال ابن عبد البر بلغت عدتهم أحدا وعشرين صحابيا
وأما ما رواه مسلم عن أنس قال صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان فلم أسمع أحدا منهم يقرأ بسم الله الرحمن الرحيم أجيب عنه بأنه لم ينف إلا السماع ويجوز أنهم تركوا الجهر بها في بعض الأوقات بيانا للجواز ويؤيده قول بعضهم كانوا يخفون البسملة
وأما ما رواه البخاري وأبو داود والترمذي وغيرهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر كانوا يفتتحون الصلاة بالحمد لله رب العالمين فمعناه بسورة الحمد لا بغيرها من القرآن لا يبعد هذا الحمل ما في رواية عبدالله بن مغفل أنه قال سمعني أبي وأنا أقرأ بسم الله الرحمن الرحيم فقال أي بني إياك والحدث فإني صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم ومع أبي بكر وعمر فلم أسمع أحدا منهم يقوله فإذا قرأت فقل الحمد لله رب العالمين فإنه لما لم يسمع فهم أنهم لم يأتوا بها رأسا فقال ذلك وكذا يقال فيما روى


كانوا لا يقرءون بسم الله الرحمن الرحيم فعلى تقدير ثبوت تلك الرواية وصحتها يجوز أن يكون الراوي فهم مما تقدم ترك البسملة فروي بالمعنى فأخطأ
ومما استدل به على أن البسملة ليست آية من الفاتحة ما جاء عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم قال الله تبارك وتعالى قسمت الصلاة أي الفاتحة بيني وبين عبدي نصفين فنصفها لي ونصفها لعبدي ولعبدي ما سأل فإذا قال الحمد لله رب العالمين قال الله تعالى حمدني عبدي وإذا قال الرحمن الرحيم قال مجدني عبدي وإذا قال مالك يوم الدين قال فوض إلي عبدي وإذا قال إياك نعبد وإياك نستعين قال هذه بيني وبين عبدي ولعبدي ما سأل فيقول عبدي اهدنا الصراط المستقيم إلى آخرها
قال أبو بكر بن العربي المالكي فانتفى بذلك أن تكون بسم الله الرحمن الرحيم آية منها من وجهين أحدهما أنه لم يذكرها في القسمة والثاني أنها إن صارت في القسمة لما كانت نصفين بل يكون ما لله فيها أكثر مما للعبد لأن بسم الله ثناء على الله تعالى لا شيء للعبد فيه ثم ذكر أن التعبير بالصلاة عن الفاتحة يدل على أن الفاتحة من فروضها وأطال في ذلك وسيأتي في الحديبية أنه صلى الله عليه وسلم كان يكتب بإسم اللهم موافقة للجاهلية قيل كتب ذلك في أربعة كتب وأول من كتبها أمية بن أبي الصلت فلما نزل { بسم الله مجراها ومرساها } كتب بسم الله ثم لما نزل { ادعوا الله أو ادعوا الرحمن } كتب بسم الله الرحمن ثم نزلت إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم كتب بسم الله الرحمن الرحيم كذا نقل عن الشعبي أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكتب بسم الله الرحمن الرحيم حتى نزلت سورة النمل وهذا يفيد أن البسملة لم تنزل قبل ذلك في شيء من أوائل السور ويؤيده قول السهيلي ثم كان بعد ذلك أي بعد نزل { وإنه بسم الله الرحمن الرحيم } ينزل جبريل عليه الصلاة والسلام ببسم الله الرحمن الرحيم مع كل سورة أي تمييزا لها عن غيرها وقد ثبت في سواد المصحف الإجماع من الصحابة رضي الله تعالى عنهم على ذلك هذا كلامه فليتأمل ما فيه فإنه قد يدل للقول بأن البسملة ليست من أوائل السور وإنما هي للفصل فقد علمت أن البسملة نزلت أول الفاتحة على ما في بعض الروايات
ونقل أبو بكر التونسي إجماع علماء كل أمة على أن الله سبحانه وتعالى افتتح جميع كتبه ببسم الله الرحمن الرحيم


وفي الإتقان عن الدارقطني أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لبعض الصحابة لأعلمنك آية لم تنزل على نبي بعد سليمان غيري بسم الله الرحمن الرحيم وبهذا يعلم ما في الخصائص الصغرى أن البسملة من خصائصه صلى الله عليه وسلم وقوله صلى الله عليه وسلم على نبي بعد سليمان غيري يشكل عليه أن عيسى بين سليمان وبينه صلى الله عليه وسلم وكتابه الإنجيل وهو من جملة كتب الله المنزلة
وعن النقاش أن البسملة لما نزلت سبحت الجبال فقالت قريش سحر محمد الجبال قال السهيلي إن صح ما ذكره فإنما سبحت الجبال خاصة لأن البسملة إنما نزلت على آل داود وقد كان الجبال تسبح مع داود والله أعلم
ثم لم يلبث ورقة أن توفى قال سبط ابن الجوزي وهو آخر من مات في الفترة ودفن بالحجون فلم يكن مسلما ويؤيده ما جاء في الرواية في سندها ضعف عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه ما ت على نصرانيته وهذا يدل على أن من أدرك النبوة وصدق بنبوته صلى الله عليه وسلم ولم يدرك الرسالة بناء على تأخرها لا يكون مسلما بل من أهل الفترة فلما توفى ورقة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لقد رأيت القس يعني ورقة في الجنة وعليه ثياب حرير أي والقس بكسر القاف رئيس النصارى وبفتحها تتبع الشي
هذا وفي القاموس القس مثلث القاف تتبع الشيء وطلبه كالتقسس وبالفتح صاحب الإبل الذي لا يفارقها ورئيس النصارى في العلم وفي رواية أبصرته في بطنان الجنة وعليه السندس وفي رواية قد رأيته فرأيت عليه ثيابا بيضا وأحسبه أي أظنه لو كان من أهل النار لم تكن عليه ثياب بيض
أقول صريح الرواية الثالثة أنه لم يره في الجنة فقد تعددت الرؤية وأما الرواية الثانية فلا تخالف الرواية الأولى لأن السندس من أفراد الحرير فلا دلالة في ذلك على التعدد والله أعلم وفي رواية لا تسبوا ورقة فإني رأيت له جنة أو جنتين لأنه آمن بي وصدقني أي قبل الدعوة التي هي الرسالة وحينئذ يكون معنى قوله له جنة أو جنتين هيئت له جنة أو جنتين ولا مانع أن يكون بعض أهل الفترة من أهل الجنة إذ لو كان مسلما حقيقة بأن أدرك الدعوة وصدق به لم يقل فيه صلى الله عليه وسلم وأحسبه لو كان من أهل النار لم يكن عليه ثياب بيض وجزم ابن كثير بإسلامه


قال بعضهم وهو الراجح عند جهابذة الأئمة أي بناء على أنه أدرك الدعوة إلى الله تعالى التي هي الرسالة
ففي الإمتاع أن ورقة مات في السنة الرابعة من المبعث ويوافقه ما يأتي عن سيرة ابن إسحاق وعن كتاب الخميس وحينئذ يكون قوله صلى الله عليه وسلم لأنه آمن بي وصدقني واضحا لكن ينازع في ذلك قوله وأحسبه لو كان من أهل النار لم يكن عليه ثياب بيض وسيأتي عن الذهبي ما يخالفه
ويخالفه أيضا ما تقدم عن سبط ابن الجوزي أنه من أهل الفترة وعن يحيى بن بكير قال سألت جابر بن عبدالله يعني عن ابتداء الوحي فقال لا أحدثك إلا ما حدثنا به رسول الله صلى الله عليه وسلم قال جاودة بحراء فلما قضيت جواري هبطت فنوديت فنظرت عن يميني فلم أر شيئا فنظرت عن يساري فلم أر شيئا فنظرت من خلفي فلم أر شيئا فرفعت رأسي فرأيت شيئا بين السماء والأرض أي وفي رواية فإذا الملك الذي جاءني بحراء جالس على كرسي زاد في رواية متربعا عليه وفي لفظ على عرش بين السماء والأرض فرعبت منه فأتيت خديجة فقلت دثروني دثروني أي وفي رواية زملوني زملوني وصبوا على ماء باردا فدثروني وصبوا علي ماء باردا فنزلت هذه الآية { يا أيها المدثر } أي الملتف بثيابه { قم فأنذر وربك فكبر } ولم يقل بعد فأنذر وبشر لأنه كما بعث بالنذارة بعث بالبشارة لأن البشارة إنما تكون لمن آمن ولم يكن أحد آمن قبل وهذا يدل على أن هذه الآية أول ما نزل أي قبل اقرأ وأن النبوة والرسالة مقترنان
قال الإمام النووي والقول بأن أول ما نزل { يا أيها المدثر } ضعيف باطل وإنما نزلت بعد فترة الوحي أي ومما يدل على ذلك قوله فإذا الملك الذي جاءني بحراء ومما يدل على ذلك أيضا ما في البخاري أن في رواية جابر أنه صلى الله عليه وسلم حدث عن فترة الوحي أي لا عن ابتداء الوحي فما تقدم من قول بعضهم يعني عن إبتداء الوحي فيه نظر وكذا في قول الراوي عن جابر جاورت بحراء فلما قضيت جواري هبطت لأن جواره بحراء كان قبل فترة الوحي إلا أن يقال جابر جاء عنه روايتان واحدة في ابتداء الوحي وأخرى في فترة الوحي وبعض الرواة خلط فإن صدر الرواية يدل على أن ذلك كان عند ابتداء الوحي وعجزها يدل على أن ذلك كان في فترة الوحي


هذا ويجوز أن يكون صلى الله عليه وسلم جاور بحراء في مدة فترة الوحي ويؤيد ذلك ما في البيهقي عن مرسل عبيد بن عمير أنه صلى الله عليه وسلم كان يجاور في كل سنة شهرا وهو رمضان وكان ذلك في مدة فترة الوحي وسيأتي الجمع بين الروايات في أول ما نزل وعن إسماعيل بن أبي حكيم مولى الزبير أنه حدث عن خديجة رضي الله تعالى عنها أنه قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم أتستطيع أن تخبرني بصاحبك هذا الذي يأتيك إذا جاءك قال نعم أي وذلك قبل أن يأتيه بالقرآن أي بشيء منه وهو { اقرأ باسم ربك } بناء على أنه أول ما نزل ولا ينافي ذلك قولها هذا الذي يأتيك إذا جاءك لأن المعنى الذي يتراءى لك إذا رأيته فجاءه جبريل عليه الصلاة والسلام فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم يا خديجة هذا جبريل قد جاءني أي قد رأيته لكن سيأتي عن ابن حجر الهيتمي أن ذلك كان بعد البعثة قالت قم ياابن عمي فاجلس على فخذي فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم على فخذها قالت هل تراه قال نعم قالت فتحول فاجلس في حجري فتحول رسول الله صلى الله عليه وسلم فجلس في حجرها قالت هل تراه قال نعم فألقت خمارها و رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس في حجرها ثم قالت هل تراه قال لا قالت يا ابن عمي اثبت وأبشر فوالله إنه لملك ما هذا بشيطان وإلى ذلك أشار صاحب الهمزية بقوله ** وأتاه في بيتها جبرئيل ** ولذى اللب في الأمور ارتياء ** ** فأماطت عنها الخمار لتدرى ** أهو الوحي أم هو الإغماء ** ** فاختفى عند كشفها الرأس حبري ** ل فما عاد أو أعيد الغطاء ** ** فاستبانت خديجة أنه الكن ** ز الذي حاولته والكيمياء **
أي وأتاه قال ابن حجر أي بعد البعثة أي النبوة واجتماعه به في بيتها حامل الوحي جبريل ولصاحب العقل الكامل في الأحوال التي قد تشتبه استبصار فبسبب كمال استبصارها أزالت عن رأسها ما يغطى به الرأس لتعلم عين اليقين أن هذا الذي يعرض له صلى الله عليه وسلم هل هو حامل الوحي الذي كان يأتي به الأنبياء عليهم الصلاة والسلام قبله أو هو الإغماء الذي هو بعض الأمراض الجائزة عليهم عليهم الصلاة والسلام
وفيه أنه ينبغي أن يكون المراد به الإغماء الناشئ عن لمة الجن فيكون من الكهان لا من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام الذي قال بسببه لخديجة لقد خشيت على نفسي وسيأتي

أنه كان يعتريه وهو بمكة قبل أن ينزل عليه القرآن ما كان يعتريه عند نزول الوحي عليه أي من الإغماء إلى آخره فبسبب إزالتها ما تغطى به رأسها عنها اختفى فلم يعد إلى أن أعادت غطاء رأسها عليه فاستبانت علمت علم اليقين أن ما يعرض له صلى الله عليه وسلم هو الوحي أي لا الجني لأن الملك لا يرى الرأس المكشوف من المرأة بخلاف الجنى وشبه الناظم ذلك بالشيء النفيس والأمر العظيم لأن كلا من الكنز والكيمياء لا يظفر به إلا القليل من الناس لعزتهما
أقول وفي الخصائص الكبرى ما يدل لما قلناه من أن أول ما فعلته خديجة كان عند ترائيه له صلى الله عليه وسلم وقبل اجتماعه به
وقول بعضهم إن ذلك من خديجة كان بإرشاد من ورقة فإنه قال لها اذهبي إلى المكان الذي رأى فيه ما رأى فإذا رآه فتحسري فإن لم يكن من عند الله لا يراه أي فتراءى له وهو في بيت خديجة ففعلت قالت فلما تحسرت تغيب جبريل فلم يره فرجعت فأخبرت ورقة فقال إنه ليأتيه الناموس الأكبر
وفي فتح الباري أن في سيرة ابن إسحاق أن ورقة كان يمر ببلال رضي الله تعالى عنه وهو يعذب وذلك يقتضى أنه تأخر إلى زمن الدعوة وإلى أن دخل بعض الناس في الإسلام أي وفي كلام صاحب كتاب الخميس في الصحيحين أن الوحي تتابع في حياة ورقة وأنه آمن به وتقدم أنه الموافق لما في الإمتاع من أنه مات في السنة الرابعة من البعثة وتقدم أنه مخالف لما تقدم عن سبط ابن الجوزي ومخالف أيضا لقول الذهبي الأظهر أنه مات بعد النبوة وقبل الرسالة أي بناء على تأخرها ويدل لتأخرها ما تقدم من قول ورقة يا ليتني فيها جذع فقد تقدم أن المراد يا ليتني أكون في زمن الدعوة أي ومن أدرك النبوة ولم يدرك البعثة لا يكون مسلما بل هو كما تقدم من أهل الفترة لأن الإيمان النافع عند الله تعالى الذي يصير به الشخص مستحقا لدخول الجنة ناجيا من الخلود في النار التصديق بالقلب بما علم بالضرورة أنه من دين محمد صلى الله عليه وسلم أي بما أرسل به وإن لم يقر بالشهادتين مع التمكن من ذلك حيث لم يطلب منه ذلك ويمتنع
وقيل لا بد مع ذلك من الإقرار بالشهادتين للتمكن من وحيث أدرك الرسالة فقد أسلم وحينئذ يكون صحابيا


ونقل بعضهم عن الحافظ ابن حجر أنه في الإصابة تردد في ثبوت الصحبة لورقة بن نوفل قال لكن المفهوم من كلامه في شرح النخبة ثبوتها وأنه يفرق بينه وبين بحيرا بأن ورقة أدرك البعثة وأنه لم يدرك الدعوة بخلاف بحيرا وهو ظاهر والتعريف السابق يشمله هذا كلامه
وتعريفه السابق للصحابي هو من اجتمع بالنبي صلى الله عليه وسلم مؤمنا وعبارة شرح النخبة هل يخرج أي من تعريف الصحابي من لقي النبي صلى الله عليه وسلم مؤمنا به من لقيه مؤمنا بأنه سيبعث ولم يدرك البعثة محل نظر
ولا يخفى عليك أن ما في شرح النخبة لا يدل لهذا البعض على أنه تقدم أن ابن حجر في الإصابة قال في بحيرا ما أدرى أدرك البعثة أم لا
ولا يخفى عليك أن ما تقدم عن ابن حجر من أن ورقة أدرك البعثة وأنه لم يدرك الدعوة فإنه يقتضى أن البعثة عبارة عن النبوة لا عن الرسالة وأن الرسالة هي الدعوة لا البعثة
وروى ابن إسحاق عن شيوخه أنه صلى الله عليه وسلم كان يرقى من العين وهو بمكة قبل أن ينزل عليه القرآن فلما نزل عليه القرآن أصابه نحو ما كان يصيبه قبل ذلك هذا يدل على أنه صلى الله عليه وسلم كان يصيبه قبل نزول القرآن ما يشبه الإغماء بعد حصول الرعدة وتغميض عينيه وتربد وجهه ويغط كغطيط البكر فقالت له خديجة أوجه إليك من يرقيك قال أما الآن فلا ولم أقف على من كان يرقيه ولا على ما كان يرقى به
واشتهر على بعض الألسنة أن آمنة يعنى أمه صلى الله عليه وسلم رقت النبي من العين ولعل مستند ذلك ما تقدم عن أمه أنها لما كانت حاملا به جاءها الملك وقال لها قولي إذا ولدتيه أعيذه بالواحد من شر كل حاسد والظاهر أنها قالت ذلك
وعن أسماء بنت عميس رضي الله تعالى عنها أنها قالت يا رسول الله إن ابني جفعر أي ولديها من جعفر بن أبي طالب تصيبهما العين أفنسترقى لهما قال نعم لو كان شيء سابق القدر لسبقته العين
فإن قيل بهذه الأمور علم صلى الله عليه وسلم أن جبريل ملك لا جنى فمن أين علم أنه يتكلم عن الله تعالى أجيب بأنه على تسليم أن قول ورقة المذكور وما تقدم عنه لا يفيده العلم فقد يقال خلق الله تعالى فيه صلى الله عليه وسلم علما ضروريا بعد ذلك علم به أنه

جبريل وأنه يتكلم عن الله تعالى كا خلق في جبريل علما ضروريا بأن الموحى إليه هو الله
وقد ذكر بعض المفسرين أنه صلى الله عليه وسلم كان له عدو من شياطين الجن يقال له الأبيض كان يأتيه في صورة جبريل واعترض بأنه يلزم عليه عدم الوثوق بالوحي
وأجيب عنه بمثل ما هنا وهو أن الله تعالى جعل في النبي صلى الله عليه وسلم علما ضروريا بميز به بين جبريل عليه السلام وبين هذا الشيطان ولعل هذا الشيطان غير قرينه الذي أسلم
وفي كلام ابن العماد وشيطان الأنبياء يسمى الأبيض والأنبياء معصومون منه وهذا الشيطان هو الذي أغوى به برصيصا الراهب العابد بعد عبادته خمسمائة سنة وهو المعنى بقوله تعالى { كمثل الشيطان إذ قال للإنسان اكفر فلما كفر قال إني بريء منك } هذا كلامه والله أعلم
وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال كان من الأنبياء من يسمع الصوت أي ولا يرى مصوتا فيكون بذلك نبيا قال بعضهم يحتمل أن يكون صوتا خلقه الله تعالى في الجو أي ليس من جنس الكلام وخلق لذلك النبي فهم المراد منه عند سماعه
ويحتمل أن يكون من جنس الكلام المعهود يتضمن كون ذلك الشخص صار نبيا
قال صلى الله عليه وسلم وإن جبريل يأتيني فيكلمني كما يأتي أحدكم صاحبه فيكلمه ويبصره من غير حجاب أي وفي رواية كنت أراه أحيانا كما يرى الرجل صاحبه من وراء الغربال
ولا يخفى أن هاتين الحالتين كل منهما حالة من حالات الوحي وحينئذ إما أن يكون جبريل عليه السلام على صورة دحية الكلبي وهو بكسر الدال المهملة على المشهور وحكى فتحها أو على صورة غيره ومنه ما وقع في حديث عمر رضي الله تعالى عنه بينما نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم طلع علينا رجل شديد بياض الثياب شديد سواد الشعر لا يرى عليه أثر السفر ولا يعرفه منا أحد الحديث ورواية البخاري تدل على أنه صلى الله عليه وسلم لم يعرفه إلا في آخر الأمر وورد ما جاءني يعني جبريل في صورة لم أعرفها إلا في هذه المرة


وفي صحيح ابن حبان والذي نفسي بيده ما اشتبه على منذ أتاني قبل مرته هذه وما عرفته حتى ولى وبهذا يعلم ما في كلام الإمام السبكي حيث قسم الوحي إلى ثلاثة أقسام حيث قال في تائيته ** ولازمك الناموس إما بشكله ** وإما بنفث أو بحلية دحية **
فليتأمل قيل وكان إذا أتاه على صورة الآدمي يأتيه بالوعد والبشارة فإن قيل إذا جاء جبريل عليه السلام على صورة الآدمي دحية أو غيره هل هي الروح تتشكل بذلك الشكل وعليه هل يصير جسده الأصلي حيا من غير روح أو يصير ميتا
أجيب بأن الجائي يجوز أن لا يكون هو الروح بل الجسد لأنه يجوز أن الله تعالى جعل في الملائكة قدرة على التطور والتشكل بأي شكل أرادوه كالجن فيكون الجسد واحدا ومن ثم قال الحافظ ابن حجر إن تمثل الملك رجلا ليس معناه أن ذاته انقلبت رجلا بل معناه أنه ظهر بتلك الصورة تأنيسا لم يخاطبه والظاهر أن القدر الزائد لا يزول ولا يفنى بل يخفى على الرائي فقط
وأخذ من ذلك بعض غلاة الشيعة أنه لا مانع ولا بعد أن الحق سبحانه وتعالى يظهر في صورة علي رضي الله تعالى عنه وأولاده أي الأئمة الإثنى عشر وهم الحسن والحسين وابن الحسين زين العابدين وابنه محمد الباقر وابن محمد الباقر جعفر الصادق وابن جعر الصادق موسى الكاظم وابن موسى الكاظم على الرضا وابن علي الرضا محمد الجواد وابن محمد الجواد على التقي والحادي عشر حسن العسكري والثاني عشر ولد حسن العسكري وهو المهدي صاحب الزمان وهو حي باق إلى أن يجتمع بسيدنا عيسى عليه الصلاة والسلام على ما فيه فقد قال عبدالله بن سبأ يوما لعلي رضي الله تعالى عنه أنت أنت يعني أنت الإله فنفاه على إلى المدائن وقال لا تساكني في بلد أبدا وكان عبدالله بن سبأ هذا يهوديا كان من أهل صنعاء وأمه يهودية سوداء ومن ثم كان يقال له ابن السوداء وكان أول من أظهر سب الشيخين ونسبهما للإفتيات على سيدنا علي رضي الله تعالى عنه
ولما قيل لسيدنا علي لولا أنك تضمر ما أعلن به هذا ما اجترأ على ذلك فقال علي معاذ الله أنى أضمر لهما ذلك لعن الله من أضمر لهما إلا الحسن الجميل فأرسل إلى ابن سبأ فأظهر الإسلام في أول خلافة عثمان وقيل في أول خلافة عمر وكان قصده بإظهار الإسلام بوار الإسلام وخذلان أهله


وكان يقول قبل إظهاره الإسلام في يوشع بن نون بمثل ما قال في علي وكان يقول في علي إنه حي لم يقتل وإن فيه الجزء الإلهي وإنه يجئ في السحاب والرعد صوته والبرق سوطه وإنه ينزل بعد ذلك إلى الأرض فيملؤها عدلا كما ملئت جورا وظلما وعبدالله هذا كان يظهر أمر الرجعة أي أنه صلى الله عليه وسلم يرجع إلى الدنيا كما يرجع عيسى وكان يقول العجب ممن يزعم أن عيسى يرجع إلى الدنيا ويكذب برجعة محمد وقد قال الله تعالى { إن الذي فرض عليك القرآن لرادك إلى معاد } فمحمد أحق بالرجوع من عيسى وأظهر أمر الوصية أي أن عليا رضي الله تعالى عنه أوصى له صلى الله عليه وسلم بالخلافة وكان هو السبب في إثارة الفتنة التي قتل فيها عثمان رضي الله تعالى عنه كما سيأتي
ومن غلاة الشيعة من قال بألوهية أصحاب الكساء الخمسة محمد صلى الله عليه وسلم وعلي وفاطمة والحسن والحسين رضي الله تعالى عنهم
ومنهم من قال بألوهية جعفر الصادق وألوهية آبائه وهم الحسين وابنه زين العابدين وابن زين العابدين محمد الباقر وهؤلاء الشيعة موافقون في ذلك لمن يقول بالحلول وهم الحلاجية أصحاب حسين بن منصور الحلاج كانوا إذا رأوا صورة جميلة زعموا أن معبودهم حل فيها
وممن زعم الحلول حتى ادعى الألوهية المقنع عطاء الخراساني وذلك في سنة ثلاث وستين ومائة ادعى أن الله عزوجل في صورة آدم ثم في صورة نوح ثم إلى أن حل في صورته هو فاقتنن به خلق كثير بسبب التمويهات التي أظهرها لهم فإنه كان يعرف شيئا من السحر والنيرنجيات فقد أظهر قمرا يراه الناس من مسافة شهرين من موضعه ثم يغيب ولما اشتهر أمره ثار عليه الناس وقصدوه ليقتلوه وجاءوا إلى القعلة التي كان متحصنا بها فلما علم ذلك أسقى أهله سما فماتوا ومات ودخل الناس تلك القلعة فقتلوا من بقى حيا بها من أتباعه
والقول بالإتحاد كفر فقد قال العز بن عبدالسلام من زعم أن الإله يحل في شيء من أجسام الناس أو غيرهم فهو كافر وأشار إلى أنه كافر إجماعا من غير خلاف وأنه لا يجرى فيه الخلاف الذي جرى في تكفير المجسمة ومن ثم ذكر القاضي عياض في الشفاء أن من ادعى حلول الباري في أحد الأشخاص كان كافرا بإجماع المسلمين


وقول بعض العارفين وهو أبو يزيد البسطامي سبحاني ما أعظم شأني وقوله { إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني } وقوله وأنا ربي الأعلى وقوله أنا الحق وهو أنا وأنا هو ليس من دعوى الحلول في شيء وإنما قوله سبحاني إني أنا الله محمول على الحكاية أي قال ذلك على لسان الحق من باب حديث إن الله تعالى قال على لسان عبده سمع الله لمن حمده وقوله أنا ربي الأعلى وأنا الحق الخ إنما قال ذلك لأنه انتهى سلوكه إلى الله تعالى بحيث استغرق في بحر التوحيد بحيث غاب عن كل ما سواه سبحانه وصار لا يرى في الوجود غيره سبحانه وتعالى الذي هو مقام الفناء ومحو النفس وتسليم الأمر كله له تعالى وترك الإرادة منه والإختيار
فالعارف إذا إلى هذا المقام وصل ربما قصرت عبارته عن بيان ذلك الحال الذي نازله فصدرت عنه تلك العبارة الموهمة للحلول
وقد اصطلحوا على تسمية هذا المقام الذي هو مقام الفناء بالإتحاد ولا مشاحة في الإصطلاح لأنه اتحد مراده بمراد محبوبه فصار المرادان واحدا لفناء إرادة المحب في مراد المحبوب فقد فنى عن هوى نفسه وحظوظها فصار لا يحب إلا لله ولا يبغض إلالله ولا يوالى إلالله ولا يعادي إلالله ولا يعطى إلا لله ولا يمنع إلا لله ولا يرجو إلا لله ولا يستعين إلا بالله فيكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما
وفي كلام سيدي علي رضي الله تعالى عنه حيث أطلق القول بالإتحاد في كلام القوم في الصوفية فمرادهم فناء مرادهم في مراد الحق جل وعلا كما يقول بين فلان وفلان اتحاد إذا عمل كل منهما على وفق مراد الآخر { ولله المثل الأعلى } هذا كلامه رضي الله تعالى عنه ورضى عنا به وهذا مقام غير مقام الوحدة المطلقة الخارجة عن دائرة العقل التي ذكر السعد والسيد أن القول بها باطل وضلال أي لأنه يلزم عليها القول بالجمع بين الضدين
فقد قال بعض العلماء حضرة الجمع عبارة عن شهود اجتماع الرب والعبد في حال فناء العبد فيكون موجودا في آن واحد ولا يدرك ذلك إلا من أشهده الله الجمع بين الضدين ومن لم يشهد ذلك أنكره ويجوز أن يكون الجسد للملك متعددا وعليه فمن الممكن أن يجعل الله لروح الملك قوة يقدر بها على التصرف في جسد آخر غير جسدها المعهود مع تصرفها في ذلك الجسد المعهود كما هو شأن الأبدال لأنهم يرحلون إلى مكان ويقيمون في مكانهم شبحا آخر مشبها لشبحهم الأصلي بدلا عنه


وقد ذكر ابن السبكي في الطبقات أن كرامات الأولياء أنواع وعد منها أن يكون لهم أجساد متعددة قال وهذا الذي تسميه الصوفية بعالم المثال ومنه قصة قضيب البان وغيره أي كواقعة الشيخ عبدالقادر الطحطوطي نفعنا الله تعالى به
فقد ذكر الجلال السيوطي رحمه الله تعالى أنه رفع إليه سؤال في رجل حلف بالطلاق أن ولى الله الشيخ عبدالقادر الطحطوطي بات عنده ليلة كذا فحلف آخر بالطلاق أنه بات عنده تلك الليلة بعينها فهل يقع الطلاق على أحدهما قال فأرسلت قاصدي إلى الشيخ عبدالقادر فسأله عن ذلك فقال ولو قال أربعة إني بت عندهم لصدقوا فأفتيت أنه لا حنث على واحد منهما لأن تعدد الصور بالتخيل والتشكل ممكن كما يقع ذلك للجان
وقد قيل في الأبدال إنهم إنما سموا أبدالا لأنهم قد يرحلون إلى مكان ويقيمون في مكانهم الأول شبحا آخر شبيها بشبحهم الأصلي بدلا عنه ويقال عالم المثال كما تقدم فهو عالم متوسط بين عالم الأجساد وعالم الأرواح فهو الطف من عالم الاجساد وأكثف من عالم الأرواح فالأرواح تتجسد وتظهر في صور مختلفة من عالم المثال قال وهذا الجواب أولى مما تكلفه بعضهم في الجواب عن جبريل بأنه كان يندمج بعضه في بعض أي الذي أجاب به الحافظ ابن حجر
ومما يدل على وجود المثال رؤيته صلى الله عليه وسلم للجنة والنار في عرض الحائط وقول ابن عباس رضي الله تعالى عنهما في قوله تعالى { لولا أن رأى برهان ربه } بأنه مثل له يعقوب بمصر وهو بالشام
ومن ذلك ما اشتهر أن الكعبة شوهدت تطوف ببعض أولياء في غير مكانها وممن وقع له ذلك أبو يزيد البسطامي والشيخ عبدالقادر الجيلي والشيخ إبراهيم المتبولي نفعنا الله تعالى ببركاتهم ولعل مجئ جبريل على صورة دحية كان في المدينة بعد إسلام دحية وإسلامه كان بعد بدر فإنه لم يشهدها وشهد المشاهد بعدها إذ يبعد مجيئه على صورة دحية قبل إسلامه
قال الشيخ الأكبر رضي الله تعالى عنه دحية الكلبي كان أجمل أهل زمانه وأحسنهم صورة فكان الغرض من نزول جبريل على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم في صورته إعلاما من الله تعالى أنه ما بيني وبينك يا محمد سفير إلا صورة الحسن والجمال وهي التي لك عندي فيكون ذلك بشرى له ولا سيما إذا أتى بأمر الوعيد والزجر فتكون

تلك الصورة الجميلة تسكن منه ما يحركه ذلك الوعيد والزجر هذا كلامه وهو واضح لو كان لا يأتيه إلا على تلك الصورة الجميلة إلا أن يدعى أن من حين أتاه على صورة دحية لم يأته على صورة آدمي غيره وتكون واقعة سيدنا عمر سابقة على ذلك لكن تقدم أنه كان إذا أتاه على صورة الآدمي يأتيه بالوعد والبشارة أي لا بالوعيد والزجر فليتأمل
وفي البرهان للزركشي في التنزيل أي تلقى القرآن طريقان
أحدهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم انخلع من صورة البشرية إلى صورة الملكية وأخذه من جبريل أي لأن الأنبياء يحصل لهم الإنسلاخ من البشرية إلى الملكية بالفطرة الإلهية من غير إكتساب فيما هو أقرب من لمح البصر
والثاني أن الملك من الملكية البشرية إلى حتى أخذه رسول الله صلى الله عليه وسلم منه هذا كلامه والراجح أن المنزل اللفظ والمعنى تلقفه جبريل من الله تعالى تلقفا روحانيا أو أن الله تعالى خلق تلك الألفاظ أي الأصوات الدالة عليها في الجو وأسمعها جبريل وخلق فيه علما ضروريا أنها دالة على ذلك المعنى القديم القائم بذاته تعالى وأوحاه إليه صلى الله عليه وسلم كذلك أو حفظه جبريل من اللوح المحفوط ونزل به
واعلم أن من حالات الوحي النفث أي أنه كان ينفث في روعه الكلام نفثا قال صلى الله عليه وسلم إن روح القدس أي المخلوق من الطهارة يعنى جبريل نفث أي ألقى
والنفث في الأصل النفخ اللطيف الذي لا ريق معه في روعي بضم الراء أي قلبي أن نفسا لن تموت حتى تستكمل أجلها ورزقها فاتقوا الله وأجملوا في الطلب أي عاملوا بالجميل في طلبكم وتتمته ولا يحملنكم إستبطاء الرزق على أن تطلبوه بمعصية الله أي كالكذب فإن ما عند الله لن ينال إلا بطاعته
وفي كلام ابن عطاء الله الإجمال في الطلب يحتمل وجوها كثيرة
منها أن لا يطلبه مكبا عليه مشتغلا عن الله تعالى به ومنها أن يطلبه من الله تعالى ولا يعين قدرا ولا وقتا لأن من طلب وعين قدرا أو وقتا فقد تحكم على ربه وأحاطت الغفلة بقلبه ومنها أن يطلب وهو شاكر لله إن أعطى وشاهد حسن إختياره إذا منع ومنها أن يطلب من الله تعالى ما فيه رضاه ولا يطلب ما فيه حظوظ دنياه


ومنها أن يطلب ولا يستعجل الإجابة وفي حديث ضعيف اطلبوا الحوائج بعزة النفس فإن الأمور تجرى بالمقادير
ومن حالات الوحي أنه كان يأتيه في مثل صلصلة الجرس وهي أشد الأحوال عليه صلى الله عليه وسلم أي لما قيل إنه كان يأتيه في هذه الحالة بالوعيد والنذارة
أقول روى الشيخان عن عائشة رضي الله تعالى عنها أن الحارث بن هشام رضي الله تعالى عنه وهو أخو أبو جهل لأبويه وكان يضرب به المثل في السودد حتى قال الشاعر ** أحسبت أن أباك حين تسبنى ** في المجد كان الحارث بن هشام ** ** أولى قريش بالمكارم والندى ** في الجاهلية كان والإسلام **
أسلم يوم الفتح وسيأتي أنه استجار في ذلك اليوم بأم هانئ أخت علي بن أبي طالب وأراد علي قتله فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال قد أجرنا من أجرت يا أم هانئ وحسن إسلامه وشهد حنينا وكان من المؤلفة كما سيأتي سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف يأتيك الوحي أي حامله الذي هو جبريل قال أحيانا يأتيني مثل صلصلة الجرس وهو أشده علي فيقصم بالفاء أي يقلع عني وقد وعيت ما قال وفي رواية يأتيني أحيانا له صلصلة كصلصلة الجرس وأحيانا يتمثل لي الملك الذي هو حامل الوحي رجلا أي يتصور بصورة الرجل وفي رواية في صورة الفتي فيكلمني فأعي ما يقول وروى أنه في الحالة الثانية ينفلت منه ما يعيه بخلاف الحالة الأولى
ونص هذا الرواية كان الوحي يأتيني على نحوين يأتيني جبريل فيلقيه على كما يلقى الرجل على الرجل فذلك ينفلت مني ويأتيني في شيء مثل صوت الجرس حتى يخالط قلبي فذاك الذي لا ينفلت مني
قيل وإنما كان ينفلت منه في الحالة الأولى لشدة تأنسه بحامله لأنه يأتي إليه في صورة يعهدها ويخاطبه بلسان يعهده فلا يثبت فيما ألقى إليه بخلافه في الحالة الثانية لأن سماع مثل هذاالصوت الذي يفزع منه القلب مع عدم رؤية أحد يخاطبه إذا علم أنه وحي واضطر إلى التثبيت في ذلك وقولنا أي حامله يخالف قول الحافظ ابن حجر حيث ذكر أن قوله مثل صلصة الجرس بين بها صفة الوحي لا صفة حامله
وفيه أن ذلك لا يناسب قوله وقد وعيت ما قال وقول بعضهم الصلصلة المذكورة

هي صوت الملك بالوحي وقوله يأتيني أحيانا له كصلصلة الجرس وأحيانا يتمثل لي الملك رجلا وكان صلى الله عليه وسلم يجد ثقلا عند نزول الوحي ويتحدر جبينه عرقا في البرد كأنه الجمان وربما غط كغطيط البكر محمرة عيناه
وعن زيد بن ثابت رضي الله تعالى عنه كان إذا نزل الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم ثقل لذلك ومرة وقع فخذه على فخذي فوالله ما وجدت شيئا أثقل من فخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم وربما أوحى إليه وهو على راحلته فترعد حتى يظن أن ذراعها ينفصم وربما بركت
أي وجاء أنه لما نزلت سورة المائدة عليه صلى الله عليه وسلم كان على ناقته فلم تستطع أن تحمله فنزل عنها
وفي رواية فاندق كتف راحلته العضباء من ثقل السورة ولا يخالفه ما قبله لأنه جاز أن يكون حصل لها ذلك فكان سببا لنزوله ثم رأيت في رواية ما يصرح بذلك
وجاء ما من مرة يوحى إلى إلا ظننت أن نفسي تقبض منه وعن أسماء بنت عميس كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا نزل عليه الوحي يكاد يغشى عليه وفي رواية يصير كهيئة السكران
أقول أي يقرب من حال المغشى عليه لتغيره عن حالته المعهودة تغيرا شديدا حتى تصير صورته صورة السكران أي مع بقاء عقله وتمييزه
ولا ينافى ذلك قول بعضهم ذكر العلماء أنه صلى الله عليه وسلم كان يؤخذ عن الدنيا لأنه يجوز أن يكون مع ذلك على عقله وتمييزه على خلاف العادة وهذا هو اللائق بمقامه صلى الله عليه وسلم وحينئذ لا ينتقض وضوؤه
ثم رأيت صاحب الوفاء قال فإن قال قائل ما كان يجرى عليه صلى الله عليه وسلم من البرحاء حين نزول الوحي هل ينتقض وضوؤه
والجواب لا لأنه صلى الله عليه وسلم كان محفوظا في منامه تنام عيناه ولا ينام قلبه فإن كان النوم الذي يسقط فيه الوكاء لا ينقض وضوءه فالحالة التي أكرم فيها بالمسارة وإلقاء الهدى إلى قلبه أولى لكون طباعه فيها معصومة من الأذى هذا كلامه وما ذكرناه أولى لما تقرر أن الإغماء أبلغ من النوم فليتأمل
وفي كلام الشيخ محيى الدين ما يدل على أنه صلى الله عليه وسلم وجميع من يأتيه الوحي

من الأنبياء كان إذا جاءه الوحي يستلقى على ظهره حيث قال سبب أضطجاع الأنبياء على ظهورهم عند نزول الوحي إليهم أن الوارد الإلهي الذي هو صفة القيومية إذا جاءهم اشتغل الروح الإنساني عن تدبيره فلم يبق للجسم من يحفظ عليه قيامه ولا قعوده فرجع إلى أصله وهو لصوقه بالأرض
وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا نزل عليه الوحي صدع فيغلف رأسه بالحناء قيل وهو محمل قول بعض الصحابة إنه صلى الله عليه وسلم كان يخضب بالحناء وإلا فهو عليه الصلاة والسلام لم يخضب لأنه لم يبلغ سنا يخضب فيه
وفيه أنه أمر بالخضاب للشباب فقد جاء اختضبوا بالحناء فإنه يزيد في شبابكم وجمالكم ونكاحكم وفي مسلم عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا نزل عليه الوحي لم يستطع أحد منا يرفع طرفه إليه حتى ينقضى الوحي وفي لفظ كان إذا نزل عليه صلى الله عليه وسلم الوحي استقبلته الرعدة وفي رواية كرب لذلك وتربد له وجهه وغمض عينيه وربما غط كغطيط البكر
وعن زيد بن ثابت رضي الله تعالى عنه كان إذا نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم السورة الشديدة أخذه من الشدة والكرب على قدر شدة السورة وإذا أنزل عليه السورة اللينة أصابه من ذلك على قدر لينها
وعن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه كان إذا نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم الوحي يسمع عند وجهه كدوى النحل
وذكر الحافظ ابن حجر أن دوى النحل لا يعارض صلصلة الجرس أي المتقدم ذكرها لأن سماع الدوى بالنسبة للحاضرين والصلصلة بالنسبة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فالراوي شبه بدوي النحل والنبي صلى الله عليه وسلم شبه بصلصلة الجرس أي فالمراد بهما شيء واحد والله أعلم
ومن حالاته أي حالات الوحي أي حامله أنه كان يأتيه على صورته التي خلقه الله تعالى عليها له ستمائة جناح
أقول فيوحى إليه في تلك الحالة كما هو المتبادر وفيه أنه جاء عن عائشة وابن مسعود رضي الله تعالى عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم لم ير جبريل على صورته التي خلقه الله

عليها إلا مرتين حين سأله أن يريه نفسه فقال وددت أني رأيتك في صورتك أي وذلك بحراء أوائل البعثة بعد فترة الوحي بالأفق الأعلى من الأرض وهذه المرة هي المعنية بقوله تعالى { ولقد رآه بالأفق المبين } وبقوله تعالى { فاستوى وهو بالأفق الأعلى } طلع جبريل من المشرق فسد الأفق إلى المغرب فخر النبي صلى الله عليه وسلم مغشيا عليه فنزل جبريل عليه السلام في صورة الآدميين وضمه إلى نفسه وجعل يمسح الغبار عن وجهه الحديث والأخرى ليلة الإسراء المعنية بقوله تعالى { ولقد رآه نزلة أخرى عند سدرة المنتهى } وسيأتي الكلام على ذلك
وفي الخصائص الصغرى خص صلى الله عليه وسلم برؤيته جبريل في صورته التي خلقه الله عليها أي لم يره أحد من الأنبياء على تلك الصورة إلا نبينا صلى الله عليه وسلم
وذكر السهيلي أن المراد بالأجنحة في حق الملائكة صفة الملكية وقوة روحانية وليست كأجنحة الطير ولا ينافى ذلك وصف كل جناح منها بأنه يسد ما بين المشرق والمغرب هذا كلامه فليتأمل
ولعله لا ينافيه ما تقدم عن الحافظ ابن حجر من أن تمثل الملك رجلا ليس معناه أن ذاته انقلبت رجلا بل معناه أنه ظهر بتلك الصورة تأنيسا لمن يخاطبه
والظاهر أن القدر الزائد لا يزول ولا يفنى بل يخفى على الرائي فقط والله اعلم
ومن حالات الوحي أي نفسه أي الموحى به لا حامله الذي هو جبريل أن الله تعالى أوحى إليه صلى الله عليه وسلم بلا وساطة ملك بل من وراء حجاب يقظة أو من غير حجاب بل كفاحا وذلك ليلة المعراج واسم الإشارة يحتمل أن يكون لنوعين وقع كل منهما ليلة الإسراء
ويحتمل أن يكون نوعا واحدا وأن الأول بناء على القول بعدم الرؤية والثاني بناء على القول بالرؤية وحينئذ لا يناسب عد ذلك نوعين كما فعل الشامي ومن ثم نسب ابن القيم هذاالنوع الثاني لبعضهم كالمتبرئ منه حيث قال وقد زاد بعضهم مرتبة ثانية وهي تكليم الله تعالى له صلى الله عليه وسلم كفاحا بغير حجاب هذا كلامه لأن ابن القيم ممن لا يقول بوجود الرؤية فما زاده بعضهم بناء على القول بوجود الرؤية كما علمت وحينئذ يكون هذا ليلة المعراج وعلى هذا جاء قوله تعالى { وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا }


وقول ابن القيم السادسة أي من حالات الوحي ما أوحاه الله تعالى إليه وهو فوق السموات من فرض الصلوات وغيرها لأن ذلك إنما هو ليلة المعراج بغير واسطة ملك وهذا يحتمل لأن يكون من غير حجاب وأن يكون من وراء الحجاب فهي لم تخرج عما تقدم
وكذا قوله السابعة أي من حالات الوحي كلام الله تعالى منه إليه بلا واسطة ملك كما كلم موسى أي من وراء حجاب فهي لم تخرج عما تقدم وحينئذ يكون كلمه صلى الله عليه وسلم في ليلة المعراج بواسطة الملك وكلمه بغير واسطة الملك من وراء حجاب ومشافهة من غير حجاب وصاحب المواهب نقل عن الولي العراقي كلاما فيه الإعتراض على ابن القيم بغير ما ذكر والجواب عنه وأقره مع ما في ذلك الكلام من النظر الظاهر الذي لا يكاد يخفى والله أعلم
قال الحافظ السيوطي وليس في القرآن من هذاالنوع أي مما شافهه به الحق تعالى من غير حجاب شيء فيما أعلم
نعم يمكن أن يعد منه آخر سورة البقرة أي آمن الرسول إلى آخر الآيات لأنها نزلت كما في الكامل للهذلي بقاب قوسين
وروى الديلمي قيل يا رسول الله أي آية في كتاب الله تحب أن تصيبك وأمتك قال آخر سورة البقرة فإنها من كنز الرحمن من تحت العرش ولم تترك خيرا في الدنيا والآخرة إلا اشتملت عليه ولعل هذا لا يعارض ما جاء في فضل آية الكرسي من قوله صلى الله عليه وسلم وقد قيل له يا رسول الله أي آية في كتاب الله تعالى أعظم قال آية الكرسي أعظم وما جاء عن الحسن رضي الله تعالى عنه مرسلا افضل القرآن البقرة وأفضل آية الكرسي وفي رواية أعظم آية فيها آية الكرسي وفي الجامع الصغير آية الكرسي ربع القرآن
ونزل في ذلك الموطن الذي هو قاب قوسين بعض سورة الضحى وبعض سورة ألم نشرح قال صلى الله عليه وسلم سألت ربي مسألة وودت أني لم أكن سألته سألت ربي اتخذت إبراهيم خليلا وكلمت موسى تكليما فقال يا محمد ألم أجدك يتيما فآويتك وضالا فهديتك وعائلا فأغنيتك وشرحت لك صدرك ووضعت عنك وزرك ورفعت لك ذكرك فلا أذكر إلا وتذكر معي انتهى


أقول قد يقال لا يلزم من النزول في قاب قوسين أن يكون مشافهة من غير حجاب وقوله فقال يا محمد ألم أجدك إلى آخره ليس هذا نص التلاوة وإن هذا ظاهر في أن المتلو الدال على ما ذكر نزل قبل ذلك وأن هذا تذكير به والله أعلم
ومن حالات الوحي أنه أوحى إليه بلا واسطة ملك مناما كما في حديث معاذ أتاني ربي وفي لفظ رأيت ربي في أحسن صورة أي خلقة فقال فيما يختصم الملأ الأعلى يا محمد قلت أنت أعلم أي رب فوضع كفه بين كتفي فوجدت بردها بين ثديى فعلمت ما في السماء والأرض أي وفي كلام الشيخ محيى الدين بن العربي رضي الله تعالى عنه فهذا علم حاصل لا عن قوة من القوى الحسية أو المعنوية وهذا لا يبعد أن يقع مثله للأولياء بطريق الإرث أي تجلى له الحق بالتجلي الخاص الذي ما ذكر عبارة عنه وفي رواية فعلمت علم الأولين والآخرين أي ومن حالات الوحي رؤيا النوم قال صلى الله عليه وسلم رؤيا الأنبياء وحي كما تقدم
ومن حالاته العلم الذي يلقيه الله تعالى في قلبه عند الإجتهاد في الأحكام بناء على ثبوته لا بواسطة ملك وبذلك فارق النفث في الروع
وبذكر هذه الأنواع للوحي يعلم أن ما تقدم من حصره في الحالتين المذكورتين عند سؤال الحارث له صلى الله عليه وسلم أغلبي أو أن ما عداهما وقع بعد سؤال الحارث له
وفي ينبوع الحياة عن ابن جرير مانزل جبريل بوحي قط إلا وينزل معه من الملائكة حفظة يحيطون به وبالنبي الذي يوحى إليه يطردون الشياطين عنهما لئلا يسمعوا ما يبلغه جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم من الغيب الذي يوحيه إليه فيلقوه إلى أوليائهم ثم رأيته في الإتقان ذكر أن من القرآن ما نزل معه ملائكة مع جبريل تشيعه من ذلك سورة الأنعام شيعها سبعون ألف ملك وفاتحة الكتاب شيعها ثمانون ألف ملك وآية الكرسي شيعها ثمانون ألف ملك وسورة يس شيعها ثلاثون ألف ملك { واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا } شيعها عشرون ألف ملك ولعل هذا لا ينافى ما تقدم من أن الغرض من تساقط النجوم عند البعثة حراسة السماء من استراق الشياطين لما يوحى لجواز أن يكون هذا لحفظ ما يوحى من إستراقه في الأرض وبين السماء والأرض


وعن النخعي إن أول سورة أنزلت عليه صلى الله عليه وسلم { اقرأ باسم ربك }
قال الإمام النووي وهو الصواب الذي عليه الجماهير من السلف والخلف هذا كلامه ولا يخفى أن مراد النخعي بالسورة هنا القطعة من القرآن أي أول آيات أنزلت فلا ينافى ما تقدم من رواية عمرو بن شرحبيل مما يدل على أن أول سورة أنزلت فاتحة الكتاب لأن المراد أول سورة كاملة نزلت لا في شأن الإنذار فلا ينافي ما تقدم من رواية جابر ما يقتضى أن أول ما نزل { يا أيها المدثر } لأن المراد بذلك أول سورة كاملة نزلت في شأن الإنذار بعد فترة الوحي أي فإنها نزلت قبل تمام نزول سورة اقرأ وهذا الجمع تقدم الوعد به أي لكن يشكل عليه ما في الكشاف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مانزل علي القرآن إلا آية آية وحرفا حرفا ما خلا سورة براءة وقل هو الله أحد فإنهما أنزلتا علي ومعهما سبعون ألف صف من الملائكة فإن هذاالسياق يدل على أنه لم ينزل عليه صلى الله عليه وسلم سورة كاملة إلا براءة { قل هو الله أحد } ويخالفه ما في الإتقان أن مما نزل جملة سورة الفاتحة وسورة الكوثر وسورة تبت وسورة لم يكن وسورة النصر والمرسلات والأنعام لكن ذكر ابن الصلاح أن هذا روى بسند فيه ضعف قال ولم أر له إسنادا صحيحا
وقد روى ما يخالفه ولم يذكر في الإتقان مما نزل جملة سورة براءة وذكر أن المعوذتين نزلتا دفعة واحدة وحينئذ يكون المراد بقوله صلى الله عليه وسلم إلا آية آية وحرفا حرفا أي كلمة والمراد بها ما قابل السورة وإلا فقد أنزل عليه ثلاث آيات وأربع آيات وعشر آيات كما أنزل آية وبعض آية فقد صح نزول { غير أولي الضرر } منفردة وهي بعض آية
وفي الإتقان عن جابر بن زيد قال أول ما أنزل الله تعالى من القرآن بمكة أقرأ { باسم ربك } ثم { ن والقلم } ثم { يا أيها المزمل } ثم { يا أيها المدثر } ثم الفاتحة إلى آخر ما ذكر
ثم قال قلت هذا السياق غريب وفي هذا الترتيب نظر وجابر بن زيد من علماء التابعين هذا كلامه وذكر بعض المفسرين أن سورة التين أول ما نزل من القرآن والله أعلم وما تقدم من أن نزول { يا أيها المدثر } كان في شأن الإنذار بعد فترة الوحي لأنه كان بعد نزول جبريل عليه باقرأ باسم ربك مكث مدة لا يرى جبريل
أي وإنما كان كذلك ليذهب ما كان يجده من الرعب وليحصل له التشوف إلى العود

ومن ثم حزن لذلك حزنا شديدا حتى غدا مرارا كي يتردى من رءوس شواهق الجبال فكلما وافى بذروة كي يلقى نفسه منها تبدي له جبريل عليه السلام فقال يامحمد إنك رسول الله حقا فيسكن لذلك جأشه أي قلبه وتقر نفسه ويرجع فإذا طالت عليه فترة الوحي غدا لمثل ذلك فإذا وافى ذروة جبل تبدى له مثل ذلك قال وفي رواية أنه لما فتر الوحي عنه صلى الله عليه وسلم حزن حزنا شديدا حتى كان يغدو إلى ثبير مرة وإلى حراء مرة أخرى يريد أن يلقى نفسه منه فكلما وافى ذروة جبل منهما كي يلقى نفسه تبدي له جبريل فقال يا محمد أنت رسول الله حقا فيسكن لذلك جأشه وتقر عينه ويرجع فإذا طالت عليه فترة الوحي عاد لمثل ذلك وكانت تلك المدة أربعين يوما وقيل خمسة عشر يوما وقيل اثنى عشر يوما وقيل ثلاثة أيام قال بعضهم وهو الأشبه بحاله عند الله تعالى انتهى
أقول ويبعد هذا الأشبه قوله فإذا طالت عليه فترة الوحي والله أعلم وفي الأصل وهذه الفترة لم يذكر لها ابن إسحاق مدة معينة
أقول في فتح الباري أن ابن إسحاق جزم بأنها ثلاث سنين والله أعلم
قال أبو القاسم السهيلي وقد جاء في بعض الأحاديث المسندة أن مدة هذه الفترة كانت سنتين ونصف سنة أي وفي كلام الحافظ ابن حجر وهذا الذي اعتمده السهيلي لا يثبت وقد عارضه ما جاء عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن مدة الفترة كانت أياما أي وأقلها ثلاثة أي وتقدم ما فيه قال قال بعض الحفاظ والظاهر والله أعلم أنها أي مدة الفترة كانت بين اقرأ و { يا أيها المدثر } هي المدة التي اقترن معه فيها إسرافيل كما قال الشعبي انتهى
أقول ويوافق ذلك ما في الإستيعاب لإبن عبد البر أن الشعبي قال أنزلت عليه النبوة وهو ابن أربعين وقرن بنبوته إسرافيل عليه الصلاة والسلام ثلاث سنين وقد تقدم ذلك
وفي الأصل عن الشعبي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وكل به إسرافيل فكان يتراءى له ثلاث سنين ويأتيه بالكلمة من الوحي ولم ينزل القرآن أي شيء منه على لسانه ثم وكل به جبريل فجاءه بالوحي والقرآن وهو موافق في ذلك لما في سيرة شيخه الحافظ الدمياطي حيث قال قال بعض العلماء وقرن به إسرافيل ثم قرن به جبريل وهو

ظاهر في أن اقتران إسرافيل به كان بعد النبوة ويؤيده قوله ويأتيه بالكلمة من الوحي ومحتمل لأن يكون ذلك قبل النبوة فيوافق ما تقدم عن الماوردي لكن تقدم أنه كان يسمع حسه ولا يرى شخصه إلا أن يقال لا يلزم من كونه يتراءى له أن يراه وقوله يأتيه بالكلمة من الوحي هو معنى قوله يأتيه بالشيء بعد الشيء ثم رأيت الواقدي أنكر على الشعبي كون إسرافيل قرن به أولا وقال لم يقترن به من الملائكة إلا جبريل أي بعد النبوة ويحتمل مطلقا قال بعضهم ما قاله الشعبي هو الموافق لما هو المشهور المحفوظ الثابت في الأحاديث الصحيحة وخبر الشعبي مرسل أو معضل فلا يعارض ما في الأحاديث الصحيحة هذا كلامه
ثم رأيت الحافظ ابن حجر نظر في كلام الواقدي بأن المثبت مقدم على النافي إلا أن صحب النافي دليل نفيه فيقدم هذا كلامه
لا يقال قد وجد الدليل فقد جاء بينا النبي صلى الله عليه وسلم جالس وعنده جبريل إذ سمع نغيضا أي هده من السماء فرفع جبريل بصره إلى السماء فقال يا محمد هذا ملك قد نزل لم ينزل إلى الأرض قط قال جماعة من العلماء إن هذا الملك إسرافيل لأنا نقول هذا مجرد دعوى لا دليل عليها ولا يحسن أن يكون مستندهم في ذلك ما في الطبراني عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم لقد هبط على ملك من السماء ما هبط على نبي قبلي ولا يهبط على أحد بعدي وهو إسرافيل فقال أنا رسول ربك الحديث
ومن ثم عد السيوطى من خصائصه صلى الله عليه وسلم هبوط إسرافيل عليه إذ ليس في ذلك دليل على أن إسرافيل لم يكن نزل إليه قبل ذلك حتى يكون دليلا على أن اقتران جبريل به سابق على اقتران إسرافيل به
هذا وفي كلام الحافظ السيوطي أن مجئ إسرافيل كان بعد ابتداء الوحي بسنتين قال كما يعرف ذلك من سائر طرق الأحاديث وهو بظاهره يرد ما في سفر السعادة أنه صلى الله عليه وسلم لما بلغ تسع سنين أمر الله تعالى إسرافيل أن يقوم بملازمته
ولما بلغ إحدى عشرة سنة أمر جبريل بملازمته صلى الله عليه وسلم فلازمه تسعا وعشرين سنة فليتأمل


وعن يحيى بن بكير قال ما خلق الله خلقا في السموات أحسن صوتا من إسرافيل فإذا قرأ في السماء يقطع على أهل السماء ذكرهم وتسبيحهم
ثم رأيت في فتح الباري ليس المراد بفترة الوحي المقدرة بثلاث سنين أي على ما تقدم ما بين نزول اقرأ ويا أيها المدثر عدم مجئ جبريل إليه بل تأخر نزول القرآن عليه فقط هذا كلامه أي فكان جبريل يأتى إليه بغير قرآن بعد مجيئة إليه باقرأ ولم يجئ إليه بالقرآن الذي هو يا أيها المدثر إلا بعد الثلاث سنين على ما تقدم ثم في تلك المدة مكث أياما لا يأتيه أصلا ثم جاءه بيا أيها المدثر فكان قبل تلك الأيام يختلف إليه هو وإسرافيل وهذا السياق كما لا يخفى يؤخذ منه عدم المنافاة بين كون مدة فترة الوحي ثلاث سنين كما يقول ابن إسحاق وسنتين ونصفا كا يقول السهيلي وسنتين كما يقول الحافظ السيوطى وبين كونها أياما أقلها ثلاثة وأكثرها أربعون كما تقدم عن ابن عباس لأن تلك الأيام هي التي كانت لا يرى فيها جبريل أصلا على ما تقدم أي ولا يرى فيها إسرافيل أيضا وفي غير تلك الأيام كان يأتيه بغير القرآن وحينئذ لا يحسن رد الحافظ فيما سبق على السهيلي وينبغي أن تكون تلك الأيام التي لا يرى فيها جبريل وإسرافيل هي التي يريد فيها أن يلقى نفسه من رءوس شواهق الجبال وهذا السياق أيضا يدل على أن النبوة سابقة على الرسالة بناء على أن الرسالة كانت بيا أيها المدثر ويصرح به ما تقدم من قول بعضهم نبأه بقوله { اقرأ باسم ربك } وأرسله بقوله { يا أيها المدثر قم فأنذر وربك فكبر وثيابك فطهر } وأن بينهما فترة الوحي وعليه أكثر الروايات
وقيل النبوة والرسالة مقترنان ولعل من يقول بتلك يقول يا أيها المدثر دلت على طلب الدعوة إلى الله تعالى وهذا غير إظهار الدعوة والمفاجأة بها الذي دل عليه قوله تعالى { فاصدع بما تؤمر } فليتأمل
وذكر السهيلي أن من عادة العرب إذا قصدت الملاطفة أن تسمى المخاطب بإسم مشتق من الحالة التي هو عليها فلاطفه الحق سبحانه وتعالى بقوله { يا أيها المدثر } فبذلك علم رضاه الذي هو غاية مطلوبه وبه كان يهون عليه تحمل الشدائد ومن هذه الملاطفة قوله صلى الله عليه وسلم لعلي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه وقد نام وترب جنبه قم يا أبا تراب وقوله صلى الله عليه وسلم لحذيفة في غزوة أحد وقد نام إلى الإسفار قم يا نومان


وذكر الشيخ محيى الدين بن العربي في قوله تعالى { يا أيها المدثر قم فأنذر } أعلم أن التدثر إنما يكون من البرودة التي تحصل عقب الوحي وذلك أن الملك إذا ورد على النبي صلى الله عليه وسلم بعلم أو حكم تلقى ذلك الروح الإنساني وعند ذلك تشتعل الحرارة الغريزية فيتغير الوجه لذلك وتنتقل الرطوبات إلى سطح البدن لاستيلاء الحرارة فيكون من ذلك العرق فإذا سرى عنه ذلك سكن المزاج وانقشعت تلك الحرارة وانفتحت تلك المام وقبل الجسم الهواء من خارج فيتحلل الجسم فيبرد المزاج فتأخذه القشعريرة فتزاد عليه الثياب ليسخن هذا ملخص كلامه
وذكر بعضهم في تفسير قوله تعالى { وثيابك فطهر } أن الشيخ أبا الحسن الشاذلي نفعنا الله تعالى ببركاته قال رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في النوم فقال يا أبا الحسن طهر ثيابك من الدنس تحظ بمدد الله تعالى في كل نفس فقلت يا رسول الله وما ثيابي قال إن الله كساك حلة التوحيد وحلة المحبة وحلة المعرفة قال ففهمت حينئذ قوله تعالى { وثيابك فطهر }
وجاء في وصف إسرافيل في بعض الأحاديث لا تفكروا في عظم ربكم ولكن تفكروا فيما خلق الله من الملائكة فإن خلقا من الملائكة يقال له إسرافيل زاوية من زوايا العرش على كاهله وقدماه في الأرض السفلى وقد مرق رأسه من سبع سموات وإنه ليتضاءل من عظمة الله تعالى حتى يصير كأنه الوصع فهو عند نزوله يكون حاملا لزاوية العرش أو يخلفه غيره من الملائكة في ذلك & باب ذكر وضوئه وصلاته صلى الله عليه وسلم أول البعثة
أي أول الإرسال إليه باقرأ
أقول في المواهب أنه روى أن جبريل عليه الصلاة والسلام بدا له صلى الله عليه وسلم في أحسن صورة وأطيب رائحة فقال له يا محمد إن الله تعالى يقرئك السلام ويقول لك أنت رسول الله إلى الجن والإنس فادعهم إلى قول لا إله إلا الله ثم ضرب برجله

الأرض فنبعت عين ماء فتوضأ منها جبريل ثم أمره أن يتوضأ وقام جبريل يصلى وأمره أن يصلى معه فعلمه الوضوء والصلاة الحديث
وقوله فعلمه الوضوء يحتمل أن يكون بفعله المذكور ويحتمل أن يكون علمه بقوله افعل كذا في وضوئك وصلاتك ويدل للأول ما سيأتي
وفيه أن قول جبريل المذكور إنما كان عند أمره بإظهار الدعوة والمفاجأة بها إلى الله تعالى بعد فترة الوحي كما سيأتي فالجمع بينه وبين قوله ثم ضرب برجله الأرض إلى آخره لا يحسن لأنه سيأتي أن ذلك كان في يوم نزوله له { اقرأ باسم ربك } ولعله من تصرف بعض الرواة والله أعلم
فعن ابن إسحاق حدثني بعض أهل العلم أن الصلاة حين افترضت على النبي صلى الله عليه وسلم أي قبل الإسراء أتاه جبريل وهو بأعلى مكة فهمز له بعقبه في ناحية الوادي فانفجرت منه عين فتوضأ جبريل و رسول الله صلى الله عليه وسلم ينظر ليريه كيف الطهور أي الوضوء للصلاة أي فغسل وجهه ويديه إلى المرفقين ومسح برأسه وغسل رجليه إلى الكعبين كما في بعض الروايات أي وفي رواية فغسل كفيه ثلاثا ثم تمضمض واستنشق ثم غسل وجهه ثم غسل يديه إلى المرفقين ثم مسح رأسه ثم غسل رجليه ثلاثا ثلاثا ثم أمر النبي صلى الله عليه وسلم فتوضأ مثل وضوئه
أقول وبهذه الرواية يرد قول بعضهم إن النبي صلى الله عليه وسلم زاد في الوضوء التسمية وغسل الكفين والمضمضة والإستنشاق ومسح جميع الرأس والتخليل ومسح الأذنين والتثليث إلا أن يقال مراد هذا البعض أن ما ذكر زاده على ما في الآية وفي كلام بعضهم كانت العرب في الجاهلية يغتسلون من الجنابة ويداومون على المضمضة والإستنشاق والسواك والله أعلم
ثم قام جبريل فصلى به صلى الله عليه وسلم ركعتين يحتمل أن تلك الصلاة كانت بالغداة قبل طلوع الشمس ويحتمل أنها كانت بالعشي أي قبل غروب الشمس وفي الإمتاع وإنما كانت الصلاة قبل الإسراء صلاة بالعشي أي قبل غروب الشمس ثم صارت صلاة بالغداة وصلاة بالعشي ركعتين أي ركعتين بالغداة وركعتين بالعشى والعشى هو العصر
ففي كلام بعض أهل اللغة العصر والعشاء والعصران الغداة والعشى وكانت صلاته

صلى الله عليه وسلم نحو الكعبة واستقبل الحجر الأسود أي جعل الحجر الأسود قبالته وهذا يدل على أنه لم يستقبل في تلك الصلاة بيت المقدس لأنه لا يكون مستقبلا لبيت المقدس إلا إذا صلى بين الركنين الأسود واليماني كما كان يفعل بعد فرض الصلوات الخمس وهو بمكة كما سيأتي أنه كان يصلي بين الركنين الركن اليماني والحجر الأسود ويجعل الكعبة بينه وبين الشام أي بينه وبين بيت المقدس أي صخرته إلا أن يقال يجوز أن يكون عند صلاته إلى الكعبة كان بينهما إلا أنه كان إلى الحجر الأسود أقرب منه إلى اليماني فقيل استقبل الحجر الأسود فلا مخالفة لكن سيأتي ما قد يفيد أنه لم يستقبل بيت المقدس إلا في الصلوات الخمس أي بعد الإسراء وقبل ذلك كان يستقبل الكعبة إلى أي جهة من جهاتها ولما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بصلاة جبريل قال جبريل هكذا الصلاة يا محمد ثم انصرف جبريل فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم خديجة وأخبرها فغشي عليها من الفرح فتوضأ لها ليريها كيف الطهور للصلاة كما أراه حبريل فتوضأت كما توضأ رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم صلى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم كما صلى به جبريل عليه الصلاة والسلام
وفي سيرة الحافظ الدمياطي ما يفيد أن ذلك كان في يوم نزول جبريل عليه الصلاة والسلام له ب { اقرأ باسم ربك } حيث قال بعث النبي صلى الله عليه وسلم يوم الإثنين وصلى فيه وصلت خديجة آخر يوم الإثنين ويوافقه ظاهر ما جاء أتاني جبريل في أول ما أوحى إلي فعلمني الوضوء والصلاة فلما فرغ الوضوء أخذ غرفة من الماء فنضح بها فرجه أي رش بها فرجه أي محل الفرج من الإنسان بناء على أنه لا فرج له وكون الملك لا فرج له لو تصور بصورة الإنسان استدل عليه بأنه ليس ذكر أو لا أنثى وفيه نظر لأنه يجوز أن يكون له آلة ليست كآلة الذكر ولا كآلة الأنثى كما قيل بذلك في الخنثى ويقال لذلك فرج
وبعض شراح الحديث حمل الفرج على ما يقابل الفرج من الإزار وبذلك استدل أئمتنا على أنه يستحب لمن استنجى بالماء أن يأخذ بعض الإستنجاء كفا من ماء ويرش في ثيابه التي تحاذى فرجه حتى إذا خيل له أن شيئا خرج ووجد بلللا قدر أنه من ذلك الماء ولعل هذا هو المراد بقوله صلى الله عليه وسلم علمني جبريل الوضوء وأمرني أن أنضح تحت ثوبي مما يخرج من البول بعد الوضوء أي دفعا لتوهم خروج شيء من البول بعد الوضوء لو وجد بلل بالمحل


وعن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما كان ينضح سراويله حتى يبلها وما جاء أنه لما أقرأه باسم ربك قا له جبريل انزل عن الجبل فنزل معه إلى قرار الأرض قال فأجلسني عن درنوك بالدال المهملة والراء والنون أي وهو نوع من البسط ذو خمل ثم ضرب برجله الأرض فنبعت عين ماء فتوضأ منها جبريل الحديث فمشروعية الوضوء كانت مع مشروعية الصلاة التي هي غير الخمس وإن ذلك كان في يوم نزول جبريل باقرأ وهو مخالف لقول ابن حزم لم يشرع الوضوء إلا بالمدينة
ومما يرد ما قاله ابن حزم نقل ابن عبدالبر اتفاق أهل السير على أنه لم يصل صلى الله عليه وسلم قط إلا بوضوء قال وهذا مما لا يجهله عالم هذا كلامه إلا أن يقال مراد ابن حزم أنه لم يشرع وجوبا إلا في المدينة وهو الموافق لقول بعض المالكية إنه كان قبل الهجرة مندوبا أي وإنما وجب بالمدينة بآية المائدة { يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم } الآية
ويرده ما في الإتقان أن هذه الآية مما تأخر نزوله عن حكمه يعنى قوله تعالى { يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا } إلى قوله { لعلكم تشكرون } فالآية مدنية إجماعا وفرض الوضوء كان بمكة مع فرض الصلاة أي فالوضوء على هذا مكي بالفرض مدني بالتلاوة
قال والحكمة في ذلك أي في نزول الآية بعد تقدم العمل لما يدل عليه أن تكون قرآنيته متلوة هذا كلامه
وقوله مع فرض الصلاة يحتمل أن المراد صلاة الركعتين بناء على أنهما كانتا واجبتين عليه صلى الله عليه وسلم وهو الموافق لما تقدم عن ابن إسحاق ويحتمل أن المراد الصلاة الخمس أي ليلة الإسراء وهو الموافق لما اقتصر عليه شيخنا الشمس الرملي حيث قال وكان فرضه مع فرض الصلاة قبل الهجرة بسنة هذا كلامه وحينئذ يكون قبل ذلك مندوبا حتى في صلاة الليل
وقول صاحب المواهب ما ذكر من أن جبريل عليه الصلاة والسلام علمه الوضوء وأمره به يدل على أن فرضية الوضوء كانت قبل الإسراء فيه نظر ظاهر إذ لا دلالة في ذلك على الفرضية إذ يحتمل أي يكون اللفظ الصادر من جبريل له أمرتك أن تفعل كفعلي وصيغة أمره مشتركة بين الوجوب والندب


وذكر بعضهم أن الغرض من نزول آية المائدة بيان أن من لم يقدر على الوضوء والغسل لمرض أو لعدم الماء يباح له التيمم أي ففرضية الوضوء والغسل سابقة على نزولها ويؤيد ذلك قول عائشة رضي الله تعالى عنها في الآية فانزل الله تعالى آية التيمم ولم تقل آية الوضوء وهي هي لأن الوضوء كان مفروضا قبل أن توجد تلك الآية ويوافقه ما ذكره ابن عبد البر من اتفاق أهل السير على أن الغسل من الجنابة فرض عليه صلى الله عليه وسلم وهو بمكة
وعن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما ما يقتضى أن فرض الغسل كان مع فرض الصلوات ليلة الإسراء فقد جاء عنه كانت الصلاة خمسين والغسل من الجنابة سبع مرات فلم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأل حتى جعل الصلاة خمسا والغسل من الجنابة مرة قال بعض فقهائنا رواه أبو داود ولم يضعفه وهو إما صحيح أو حسن قال ذلك البعض ويجوز أن يكون المراد بها أي الغرض من نزولها فرض غسل الرجلين في قراءة من قرأ { وأرجلكم } بالنصب فإن حديث جبريل ليس فيه إلا مسحهما أي وهو أن جبريل أول ما جاء النبي صلى الله عليه وسلم بالوحي توضأ فغسل وجهه ويديه إلى المرفقين ومسح رأسه ورجليه إلى الكعبين وسجد سجدتين أي ركع ركعتين مواجهة البيت ففعل النبي صلى الله عليه وسلم كما يرى جبرل يفعله هذا كلامه وفيه نظر لأن أكثر الروايات وغسل رجليه كما تقدم فرجليه في هذه الرواية معطوفة على وجهه كما أن أرجلكم في الآية على قراءة الجر معطوفة على الوجوه وإنما جر للمجاورة وإن كان الجر للمجاورة في غير النعت قليلا أو عبر عن الغسل الخفيف بالمسح
وفي كلام الشيخ محيى الدين مسح الرجلين في الوضوء بظاهر الكتاب وغسلهما بالسنة المبينة للكتاب قال ويحتمل العدول عن الظاهر بناء على أن المسح فيه يقال للغسل فيكون من الألفاظ المترادفة وفتح أرجلكم لايخرجها عن الممسوح فإن هذه الواو قد تكون واو المعية
وجاء أنه صلى الله عليه وسلم كان يتوضأ لكل صلاة أي عملا بظاهر قوله تعالى { إذا قمتم إلى الصلاة } الآية فلما كان يوم الفتح صلى الصلوات الخمس بوضوء واحد فقال له سيدنا عمر رضي الله تعالى عنه فعلت شيئا لم تكن تفعله فقال عمدا فعلته

يا عمر أي للإشارة إلى جواز الإقتصار على وضوء واحد للصلوات الخمس وجواز ذلك ظاهر في نسخ وجوب الوضوء عليه لكل صلاة ويوافقه قول بعضهم قيل كان ذلك الوضوء لكل صلاة واجبا عليه ثم نسخ هذا كلامه أي ويؤيده ذلك ظاهر ما جاء أنه أمر بالوضوء لكل صلاة طاهرا كان أو غير طاهر فلما شق ذلك عليه صلى الله عليه وسلم وضع عنه الوضوء إلا من حدث أي ويكون وقت المشقة يوم فتح مكة لما علمت أنه لم يترك الوضوء لكل صلاة إلا حينئذ وهذا السياق يدل على أن وجوب الوضوء لكل صلاة كان من خصوصياته صلى الله عليه وسلم
ويدل لذلك ما روى عن أنس رضي الله تعالى عنه كان رسول الله عليه وسلم يتوضأ لكل صلاة قيل لهم كيف تصنعون أي هل كنتم تفعلون كفعله صلى الله عليه وسلم قال يجزى أحدنا الوضوء ما لم يحدث أي فوجب الوضوء لكل صلاة كان من خصوصياته صلى الله عليه وسلم وذكر فقهاؤنا أن الغسل كان واجبا عليه صلى الله عليه وسلم لكل صلاة فنسخ بالنسبة للحدث الأصغر تخفيفا فصار الوضوء بدلا عنه ثم نسخ الوضوء لكل صلاة فظاهر سياقهم يقتضى أن وجوب الغسل ثم الوضوء لكل صلاة كان عاما في حقه صلى الله عليه وسلم وحق أمته ويحتاج إلى بيان وقت نسخ وجوب الغسل في حقه صلى الله عليه وسلم وحق أمته وبيان وقت نسخ وجوب الوضوء لكل صلاة في حق الأمة ومنه يعلم أن نسخ وجوب الوضوء لكل صلاة يكون بالنسبة للأمة ثم بالنسبة إليه صلى الله عليه وسلم وحينئذ لا يشكل قول فقهائنا الآية تقتضي وجوب الطهر بالماء أو التراب لكل صلاة خرج الوضوء بالسنة أي بماتقدم من فعله صلى الله عليه وسلم يوم الفتح وبتجويزه صلى الله عليه وسلم للأمة أن يصلى الواحد منهم الصلوات بوضوء واحد وبقى التيمم على مقتضى الآية فقد وقع النسخ أولا بالنسبة للأمة ثم ثانيا بالنسبة إليه صلى الله عليه وسلم ولعل وجوب الغسل لكل صلاة كان بوحي غير قرآن أو بإجتهاد
ولا يخفى أن كون ظاهر الآية يقتضى وجوب الوضوء والتيمم لكل صلاة إنما هو بقطع النظر عما نقله إمامنا رضي الله تعالى عنه عن زيد بن أسلم أن الآية فيها تقديم وحذف وأن التقدير { إذا قمتم إلى الصلاة } من النوم { أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء } { فاغسلوا وجوهكم } الآية والله أعلم


وعن مقاتل بن سليمان فرض الله تعالى في أول الإسلام الصلاة ركعتين بالغداة أي قبل طلوع الشمس وركعتين بالعشى أي قبل غروب الشمس
أقول إن كان المراد بأول الإسلام نزول جبريل عليه بأقرأ يرد ما تقدم عن الإمتاع أن أول ما وجب ركعتان بالعشي ثم صارت صلاة بالغداة وصلاة بالعشي ركعتين إلا أن يراد الأولية الإضافية
وفي بعض الأحاديث ما يدل على أن وجوب الركعتين كان خاصا به صلى الله عليه وسلم دون أمته
منها قوله صلى الله عليه وسلم أول ما افترض الله على أمتي الصلوات الخمس وفيه أنه افترض عليها قبل ذلك صلاة الليل ثم نسخ بالصلوات الخمس
وفي الإمتاع كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخرج إلى الكعبة أول النهار فيصلى صلاة الضحى وكانت صلاة لا تنكرها قريش وكان صلى الله عليه وسلم وأصحابه إذا جاء وقت العصر تفرقوا في الشعاب فرادى ومثنى أي فيصلون صلاة العشي وكانوا يصلون الضحى والعصر ثم نزلت الصلوات الخمس هذا كلامه وهو يفيد أن الركعتين الأوليين كان يصليهما وقت الضحى لا قبل الشمس فليتأمل والله أعلم ثم فرضت الخمس ليلة المعراج
وذهب جمع إلى أنه لم يكن قبل الإسراء صلاة مفروضة أي لا عليه ولا على أمته إلا ما وقع الأمر به من صلاة الليل من غير تحديد أي بقوله تعالى { فاقرؤوا ما تيسر } أي صلوا
أقول وهو الناسخ لما وجب قبل ذلك من التحديد في أول السورة الحاصل بقوله { قم الليل إلا قليلا نصفه أو انقص منه قليلا أو زد عليه } وقد نسخ قيام الليل بالصلوات الخمس ليلة الإسراء ولم يذكر أئمتنا وجوب صلاة الركعتين عليه صلى الله عليه وسلم بل قالوا أول ما فرض عليه الإنذار والدعاء إلى التوحيد ثم فرض عليه قيام الليل المذكور في أول سورة المزمل ثم نسخ بما في آخرها ثم نسخ بالصلوات الخمس وهو مخالف لما تقدم عن ابن إسحاق من وجوب صلاة الركعتين عليه ويوافقه قول ابن كثير في قولهم ماتت خديجة قبل أن تفرض الصلوات مرادهم قبل أن تفرض الصلوات الخمس ليلة الإسراء


قال بعضهم وإنما قال ذلك لأن أصل الصلاة في حياة خديجة الركعتين بالغداة والركعتين بالعشي
وفي كلام ابن حجر الهيتمي لم يكلف الناس إلا بالتوحيد فقط ثم استمر على ذلك مدة مديدة ثم فرض عليهم من الصلاة ما ذكر في سورة المزمل ثم نسخ ذلك كله بالصلوات الخمس ثم لم تكثر الفرائض وتتابع إلا بالمدينة ولما ظهر الإسلام وتمكن في القلوب وكان كلما زاد ظهورا وتمكن ازدادت الفرائض وتتابعت هذا كلامه
ولم أقف على ما كان يقرأ في صلاة الركعتين قبل فترة الوحي وبعدها وقبل نزول الفاتحة بناء على تأخر نزولها عن ذلك كما هو الراجح ثم رأيته في الإتقان ذكر أن جبريل حين حولت القبلة أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الفاتحة ركن في الصلاة كما كانت بمكة هذا كلامه وينبغى حمله على الصلوات الخمس وحينئذ يكون ما تقدم من قول بعضهم لم يحفظ أنه كان في الإسلام صلاة بغير الفاتحة محمولا على ذلك أيضا وقد تقدم ذلك والله أعلم & باب ذكر أول الناس إيمانا به صلى الله عليه وسلم
أي بعد البعثة أي الرسالة وهي المرادة عند الإطلاق بناء على أنها مقارنة للنبوة
لا يخفى أنه صلى الله عليه وسلم لما بعث أخفى أمره وجعل يدعو إلى الله سرا وابتعه ناس عامتهم ضعفاء من الرجال والنساء وإلى هذا الإشارة بقوله صلى الله عليه وسلم إن هذا الدين بدا غريبا وسيعود كما بدا فطوبى للغرباء ولا يخفى أن أهل الأثر وعلماء السير على أن أول الناس إيمانا به صلى الله عليه وسلم على الإطلاق خديجة رضي الله تعالى عنها
أقول نقل الثعلبي المفسر إتفاق العلماء عليه وقال النووي إنه الصواب عند جماعة من المحققين وقال ابن الأثير خديجة أول خلق الله تعالى أسلم بإجماع المسلمين لم يتقدمها رجل ولا امرأة
وفيه أن بناته الأربع كن موجودا عند البعثة ويبعد تأخر إيمانهن إلا أن يقال خديجة تقدم لها إشراك بخلافهن أخذا مما يأتي


وعن ابن إسحاق أن خدجة كانت أول من آمن بالله ورسوله وصدقت ما جاء به عن الله تعالى وكان لا يسمع شيئا يكرهه من قومه إلا فرج الله عنه بها إذا رجع إليها فأخبرها به
ثم علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه ففي المرفوع عن سلمان أن النبي صلى الله عليه وسلم قال أول هذه الأمة ورودا على الحوض أولها إسلاما علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه وجاء أنه لما زوجه فاطمة قال لها زوجتك سيدا في الدنيا والآخرة وإنه لأول صحابي إسلاما وأكثرهم علما وأعظمهم حلما وكان لم يبلغ الحلم كما سيأتي حكاية الإجماع عليه كان سنه ثمان سنين وكان عند النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يوحى إليه يطعمه ويقوم بأمره لأن قريشا كان أصابهم قحط شديد وكان أبو طالب كثير العيال فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمه العباس إن أخاك أبا طالب كثير العيال والناس فيما ترى من الشدة فانطلق بنا إليه فلنخفف من عياله تأخذ واحدا وأنا واحدا فجاءا إليه وقالا إنا نريد أن نخفف عنك من عيالك حتى ينكشف عن الناس ما هم فيه فقال لهما أبو طالب إذا تركتما لي عقيلا قيل وطالبا فاصنعا ما شئتما فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم عليا رضي الله تعالى عنه فضمه إليه وأخذه العباس جعفرا فضمه إليه وتركا له عقيلا وطالبا فلم يزل علي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم
وفي خصائص العشرة للزمخشري أن النبي صل الله عليه وسلم تولى تسميته بعلي وتغذيته أياما من ريقه المبارك بمصه لسانه فعن فاطمة بنت أسد أم علي رضي الله تعالى عنها أنا قالت لما ولدته سماه عليا وبصق في فيه ثم إنه ألقمه لسانه فما زال يمصه حتى نام قالت فلما كان من الغد طلبنا له مرضعة فلم يقبل ثدي أحد فدعونا له محمدا صلى الله عليه وسلم فألقمه لسانه فنام فكان كذلك ما شاء الله عز وجل هذا كلامه فليتأمل
وعنها رضي الله تعالى عنها أنها في الجاهلية أرادت أن تسجد لهبل وهي حامل بعلي فتقوس في بطنها فمنعها من ذلك وكان علي رضي الله تعالى عنه أصغر إخوته فكان بينه وبين أخيه جعفر عشر سنين وبين جعفر وبين أخيه عقيل كذلك وبين عقيل وأخيه طالب ذلك أيضا فكل أكبر من الذي بعده بعشر سنين فأكبرهم طالب ثم عقيل ثم جعفر ثم علي أي وكلهم أسلموا إلا طالبا فإنه اختطفته الجن فذهب ولم يعلم إسلامه
وقد جاء أنه صلى الله عليه وسلم قال لعقيل لما أسلم يا أبا يزيد إني أحبك حبين حبا لقرابتك مني وحبا لما كنت أعلم لحب عمي إياك


وكان عقيل أسرع الناس جوابا وأبلغهم في ذلك قال له معاوية يوما أين ترى عمك أبا لهب من النار فقال إذا دخلتها يا معاوية فهو على يسارك مفترضا عمتك حمالة الحطب والراكب خير من المركوب
ولما وفد على معاوية وقد غضب من أخيه علي لما طلب منه عطاءه وقال له اصبر حتى يخرج عطاؤك مع المسلمين فأعطيك فقال له لأذهبن إلى رجل هو أوصل إلى منك فذهب إلى معاوية فأعطاه مائة ألف درهم ثم قال له معاوية اصعد المنبر فاذكر ما أولاك علي وما أوليتك فصعد فحمد الله وأثنى عليه ثم قال أيها الناس إني أخبركم أني أردت عليا على دينه فاختار دينه وإني أردت معاوية على دينه فاختارني على دينه وفي رواية أن معاوية قال لجماعة يوما بحضرة عقيل هذا أبو يزيد يعنى عقيلا لولا علمه بأني خير له من أخيه لما أقام عندنا وتركه فقال عقيل أخي خير لي في ديني وأنت خير لي في دنياي وأسأل الله تعالى خاتمه الخير توفى عقيل في خلافة معاوية
قال وسبب إسلام على كرم الله وجهه أنه دخل على النبي صلى الله عليه وسلم ومعه خديجة وهما يصليان سرا فقال ماهذا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم دين الله الذي اصطفاه لنفسه وبعث به رسله فأدعوك إلى الله وحده لا شريك له وإلى عبادته وإلى الكفر باللات والعزى فقال علي هذا أمر لم أسمع به قبل اليوم فلست بقاض أمرا حتى أحدث أبا طالب وكره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يفشي عليه سره قبل أن يستعلن أمره فقال له يا علي إذا لم تسلم فاكتم هذا فمكث ليلته ثم إن الله تبارك وتعالى هداه للإسلام فأصبح غاديا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلم اه
أقول وذلك في اليوم الثاني من صلاته صلى الله عليه وسلم هو وخديجة وهو يوم الثلاثاء كما في سيرة الدمياطي أي لأنه تقدم أن صلاته صلى الله عليه وسلم مع خديجة كانت آخر يوم الإثنين وهذا إنما يأتي على القول بأن النبوة والرسالة تقارنتا لا على أن الرسالة تأخرت عن النبوة وأن بينهما فترة الوحي على ما تقدم
وفي أسد الغابة أن أبا طالب رأى النبي صلى الله عليه وسلم وعليا يصليان وعلي على يمينه فقال لجعفر رضي الله الله تعالى عنه صل جناح ابن عمك فصلى عن يساره وكان إسلام جعفر بعد إسلام أخيه علي بقليل قال بعضهم وإنما صح إسلام علي أي مع أنهم أجمعوا على أنه لم يكن بلغ الحلم أي ومن ثم نقل عنه أنه قال

** سبقتكمو إلى الإسلام طرا ** صغيرا ما بلغت أوان حملي **
أي كان عمره ثمان سنين على ما سبق لأن الصبيان كانوا إذ ذاك مكلفين لأن القلم إنما رفع عن الصبي عام خيبر
وعن البيهقي أن الأحكام إنما تعلقت بالبلوغ في عام الخندق وفي لفظ في عام الحديبية وكانت قبل ذلك منوطة بالتمييز
هذا وقد ذكر أنه لم يحفظ عن علي رضي الله تعالى عنه أنه قال شعرا وقيل لم يقل إلا بيتين أي ولعل أحدهما ما تقدم ثم رأيت عن القاموس أن البيتين هما قوله ** تلكم قريش تمنانى لتقتلني ** فلا وربك ما بروا ولا ظفروا ** ** فإن هلكت فرهن مهجتي لهمو ** بذات ودقين لا تبقى ولا تذر **
وذات ودقين هي الداهية وقد ذكر أن الزبير بن العوام أسلم وهو ابن ثمان سنين وقيل ابن خمس عشرة سنة وقيل ابن اثنتي عشرة سنة وقيل ابن ست عشرة سنة
ومما يدل للأول ما جاء عن بعضهم كان علي والزبير وطلحة وسعد بن أبي وقاص ولدوا في عام واحد
ومن العجب أن الزمخشري في خصائص العشرة اقتصر على أن سن الزبير حين أسلم ست عشرة سنة وذكر بعد ذلك بأسطر أنه أول من سل سيفا في سبيل الله وهو ابن اثنتي عشرة سنة مقتصرا على ذلك
ومما يدل للأول أيضا ما جاء في كلام بعض آخر أسلم علي بن أبي طالب والزبير ابن العوام وهما ابنا ثمان سنين وإجماعهم على أن عليا لم يكن بلغ الحلم يرد القول بأن عمره كان إذ ذاك عشر سنين أي بناء على أن سن إمكان الإحتلام تسع سنين كما تقول به أئمتنا
ويوافقه ما حكاه بعضهم أن الراشد بالله وهو الحادي والثلاثون من خلفاء بني العباس لما كان عمره تسع سنين وطئ جارية حبشية فحملت منه فولدت ولدا حسنا ويرد القول بأن سنه إذا ذاك كان ثلاث عشرة أو خمس عشرة أو ست عشرة سنة
أقول قال بعض متأخري أصحابنا وإنما صحت عبادة الصبي المميز ولم يصح إسلامه لأن عبادته نفل والإسلام لا يتنفل به وعلى هذا مع ما تقدم يشكل ما في الإمتاع وأما

على بن أبي طالب فلم يكن مشركا بالله أبدا لأنه كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في كفالته كأحد أولاده يتبعه في جميع أموره فلم يحتج أن يدعى للإسلام فيقال أسلم هذا كلامه فليتأمل فإن عليا كان تابعا لأبيه في دينه ولم يكن تابعا له صلى الله عليه وسلم كأولاده
وقوله فلم يحتج أن يدعى للإسلام يرده ما تقدم من قوله صلى الله عليه وسلم له أدعوك إلى الله وحده إلى آخره
ثم رأيت في الحديث ما يدل لما في الإمتاع وهو ثلاثة ما كفروا بالله قط مؤمن آل يس وعلي بن أبي طالب وآسية أمرأة فرعون
والذي في العرائس روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال سباق الأمم ثلاثة لم يكفروا بالله طرفة عين حزقيل مؤمن آل فرعون وحبيب النجار صاحب يس وعلي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنهم وهو أفضلهم إلا أن يراد بعدم كفرهم أنهم لم يسجدوا لصنم وفيه أنه قد يخالف ذلك قوله صلى الله عليه وسلم له وأدعوك إلى الكفر باللات والعزى وأنه قيل أيضا إن أبا بكر لم يسجد لصنم قط
وقد عد ابن الجوزي من رفض عبادة الأصنام الجاهلية أي لم يأت بها أبا بكر الصديق وزيد بن عمرو بن نفيل وعبيدالله بن جحش وعثمان بن الحويرث وورقة بن نوفل ورباب بن البراء وأسعد بن كريب الحميري وقس بن ساعدة الإيادي وأبا قيس ابن صرمة ولا يخفى أن عدم السجود للأصنام لا ينافي الحكم بالكفر على من لم يسجد لها لكن في كلام السبكي الصواب أن يقال الصديق لم يثبت عنه حال كفر بالله تعالى فلعل حاله قبل البعث كحال زيد بن عمرو بن نفيل وأضرابه فلذلك خص الصديق بالذكر عن غيره من الصحابة هذا كلامه وهو واضح إذا لم يكن أحد من جميع من ذكر أسلم
وفي كلام الحافظ ابن كثير الظاهر أن أهل بيته صلى الله عليه وسلم آمنوا قبل كل أحد خديجة وزيد وزوجة زيد أم أيمن وعلي رضي الله تعالى عنهم فليتأمل قوله آمنوا قبل كل أحد وكذا يتأمل قول ابن إسحاق أما بناته صلى الله عليه وسلم فكلهن أدركن الإسلام فأسلمن
وعن ابن إسحاق ذكر بعض أهل العلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا

حضرت الصلاة خرج إلى شعاب مكة وخرج معه على مستخفيا من قومه فيصليان فيهما فإذا أمسيا رجعا كذلك ثم إن أبا طالب عثر أي اطلع عليهما يوما وهما يصليان أي بنخلة المحل المعروف فقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم يا ابن أخي ما هذا الذي أراك تدين به فقال هذا دين الله ودين ملائكته ورسله ودين أبينا إبراهيم بعثني الله به رسولا إلى العباد وأنت أحق من بذلت له النصيحة ودعوته إلى الهدى وأحق من أجابني إلى الله تعالى وأعانني عليه فقال أبو طالب إني لا أستطيع أن أفارق دين آبائي وما كانوا عليه وفي رواية انه قال له ما بالذي تقول من بأس ولكن والله لا تعلوني أستى أبدا وهذا كما لا يخفى ينبغي أن يكون صدر منه قبل ما تقدم من قوله لإبنه جعفر صل جناح ابن عمك وصل على يساره لما رأى النبي صلى الله عليه وسلم يصلي وعليا علي يمينه لكن يروى أن عليا رضي الله تعالى عنه ضحك يوما وهو على المنبر فسئل عن ذلك فقال تذكرت أبا طالب حين فرضت الصلاة ورآني أصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بنخلة فقال ما هذا الفعل الذي أرى فلما أخبرناه قال هذا حسن ولكن لا أفعله أبدا إني لا أحب أن تعلوني أستى فلما تذكرت الآن قوله ضحكت وقوله حين فرضت الصلاة يعني الركعتين بالغداة والركعتين بالعشي وهذا يؤيد القول بأن ذلك كان واجبا
وذكر أن أبا طالب قال لعلي أي بني ما هذا الذي أنت عليه فقال يا أبت آمنت بالله ورسوله وصدقت ما جاء به ودخلت معه واتبعته فقال له أما إنه لم يدعك إلا إلى خير فالزمه
أي ويذكر أنه كان يقول إني لأعلم أن ما يقوله ابن أخي لحق ولولا أني أخاف أن تعيرني نساء قريش لأتبعته
وعن عفيف الكندي رضي الله تعالى عنه قال كنت امرأ تاجرا قدمت للحج وأتيت العباس بن عبدالمطلب لأبتاع منه بعض التجارة وكان العباس لي صديقا وكان يختلف إلى اليمن يشتري العطر ويبيعه أيام الموسم فبينما أنا عند العباس بمنى أي وفي لفظ بمكة في المسجد إذا رجل مجتمع أي بلغ أشده خرج من خباء قريب منه فنظر إلى الشمس فلما رآها مالت توضأ فأسبع الوضوء أي أكمله ثم قام يصلى أي إلى الكعبة كما في بعض الروايات ثم خرج غلام مراهق أي قارب البلوع فتوضأ ثم قام إلى جنبه

يصلي ثم جاءت امرأة من ذلك الخباء فقامت خلفهما ثم ركع الرجل وركع الغلام وركعت المرأة ثم خر الرجل ساجدا وخر الغلام وخرت المرأة فقلت ويحك يا عباس ما هذا الدين فقال هذا دين محمد بن عبدالله أخي يزعم أن الله بعثه رسولا وهذا ابن أخي علي بن أبي طالب وهذه امرأته خديجة قال عفيف بعد أن أسلم يا ليتني كنت رابعا أي ولعل زيد بن حارثة لم يكن موجودا عندهم في ذلك الوقت فلا ينافي أنه كان يصلي معهم أو أن ذلك كان قبل إسلامه لأنه سيأتي قريبا أن إسلامه بعد إسلام علي وكذا أبو بكر لم يكن موجودا عندهم بناء على أن إسلامه كان قبل إسلام علي ويؤيده ما قيل أول من صلى مع النبي صلى الله عليه وسلم أبو بكر لكن في الإستيعاب لإبن عبد البر أن العباس قال لعفيف الكندي لما قال له ما هذا الذي يصنع قال يصلى وهو يزعم أنه نبي ولم يتبعه على أمره إلا امرأته وابن عمه هذا الغلام
وفيه أن عليا قال لقد عبدت الله قبل أن يعبده أحد من هذه الأمة خمس سنين أي ولعل المراد أنه عبده بغير الصلاة
وقوله في هذا الحديث فنظر إلى الشمس فلما رآها مالت توضأ وصلى قد يخالف ما تقدم من أن فرض الصلاة كان ركعتين بالغداة وركعتين بالعشي قبل غروب الشمس فقط
أقول قد يقال لامخالفة لأنه يجوز أن تكون صلاته في الوقت ليست مما فرض عليه والجماعة في ذلك جائزة وقد فعلها صلى الله عليه وسلم في النفل المطلق وهذا يدل على أن الجماعة كانت مشروعة بمكة حتى في صدر الإسلام قبل فرض الصلوات الخمس
وفي كلام بعض فقهائنا أنها لم تشرع إلا في المدينة دون مكة لقهر الصحابة رضي الله تعالى عنهم إلا أن يقال المراد بمشروعيتها طلبها فكانت في المدينة مطلوبة استحبابا أو وجوبا كفاية أو عينا على الخلاف عندنا في ذلك وفي مكة كانت مباحة لكن في كلام بعض آخر من فقهائنا أن الجماعة لم تفعل بمكة لقهر الصحابة وفيه أن القهر إنما ينافى إظهار الجماعة لا فعلها إلا أن يقال تركت حسما للباب وفيه أنه يبعد تركها وهم مستخفون في دار الأرقم فليتأمل والله أعلم


ثم بعد إسلام علي رضي الله تعالى عنه أسلم من الصحابة رضي الله تعالى عنهم زيد بن حارثة بن شرحبيل
وقال ابن هشام شرحبيل مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهبته له خديجة أي لما تزوجها صلى الله عليه وسلم أي وكان اشتراه لها ابن أخيها حكيم بن حزام ممن سباه من الجاهلية أي فإن عمته خديجة أمرته أن يبتاع لها غلاما ظريفا عربيا فلما قدم سوق عكاظ وجد زيدا يباع أي وعمره ثمان سنين فإنه أسر من عند أخواله طى وعليه اقتصر السهيلي
فإن أمه لما خرجت به لتزيره أهلها فأصابته خيل فباعوه فاشتراه أي وقيل اشتراه من سوق حباشنة بأربعمائة درهم ويقال بستمائة درهم فلما رأته خديجة أعجبها فأخذته أي ولعل هذا مراد من قال فباعه من عمته خديجة أي اشتراه لها فلما تزوجها صلى الله عليه وسلم وهو عندها أعجب به فاستوهبه منها فوهبته له فأعتقه رسول الله صلى الله عليه وسلم وتبناه قبل الوحي
أي وقيل اشتراه صلى الله عليه وسلم لها فإنه جاء إلى خديجة فقال رأيت غلاما بالبطحاء قد أوقفوه ليبيعوه ولو كان لي ثمنه لأشتريته قالت وكم ثمنه قال سبعمائة درهم قالت خذ سبعمائة درهم فاذهب فاشتره فاشتراه رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاء به إليها وقال إنه لو كان لي لأعتقته قالت هو لك فأعتقه وقيل بل اشتراه رسول الله صلى الله عليه وسلم من الشام لخديجة حيث توجه مع ميسرة فوهبته له فليتأمل ذلك
وزعم أبو عبيدة أن زيد بن حارثة لم يكن أسمه زيدا ولكن النبي صلى الله عليه وسلم سماه بذلك باسم جده قصي حين تبناه
ثم إنه خرج في إبل لأبي طالب إلى الشام فمر بأرض قومه فعرفه عمه فقام إليه وقال من أنت يا غلام قال غلام من أهل مكة قال من أنفسهم قال لا قال فحر أنت أم مملوك قال مملوك قال عربي أنت أم أعجمي قال بل عربي قال من أهلك قال من كلب قال من أي كلب قال من بني عبد ود قال ويحك ابن من أنت قال ابن حارثة بن شرحبيل قال وأين أصبت قال في أخوالي قال ومن أخوالك قال طي قال ما اسم أمك قال سعدى فالتزمه وقال ابن حارثة

ودعا أباه فقال يا حارثة هذا ابنك فأتاه حارثة فلما نظر إليه عرفه قال كيف صنع مولاك إليك قال يؤثرني على أهله وولده ورزقت منه حبا فلا أصنع إلا ما شئت فركب معه أبوه وعمه وأخوه
وفي رواية أن ناسا من قومه حجوا فرأوا زيدا فعرفوه وعرفهم فانطلقوا وأعلموا أباه ووصفوا له مكانه فجاء أبوه وعمه
وقد يقال لا مخالفة لجواز أن يكون إجتماعه بعمه وأبيه كان بعد إخبار أولئك الناس فلما جاء أهله في طلبه ليفدوه خيره النبي صلى الله عليه وسلم بين المكث عنده والرجوع إلى أهله فاختار المكث عند رسول الله صلى الله عليه وسلم
فقد ذكر أنهم لما جاءوا للنبي صلى الله عليه وسلم قالوا يابن عبد المطلب يابن سيد قومه أي وفي لفظ لما قدم أبوه وعمه في فدائه سألا عن النبي صلى الله عليه وسلم فقيل هو في المسجد فدخلا عليه فقالا يابن عبدالمطلب يا بن هاشم يا ابن سيد قومه أنتم أهل حرم الله وجيرانه تفكون الأسير العاني وتطعمون الجائع جئناك في ولدنا عندك فامنن علينا وأحسن في فدائه فإنا سندفع لك فقال وما ذاك قال زيد بن حارثة فقال أو غير ذلك قالوا وما هو قال ادعوه فخيروه فإن اختاركم فهو لكم من غير فداء وإن اختارني فوالله ما أنا بالذي أختار على الذي اختارني فداء فقالوا زدت على النصف وفي لفظ زدتنا على النصف وأحسنت فدعاه فقال تعرف هؤلاء قال نعم أبي وعمي ولعل سكوته عن أخيه لإستصغاره بالنسبة لأبيه وعمه على أن أكثر الروايات الإقتصار على مجئ أبيه وعمه
وفي كلام السهيلي أن زيدا لما جاء قال صلى الله عليه وسلم له من هذان فقال هذا أبي حارثة بن شرحبيل وهذا كعب بن شرحبيل عمي فعند ذلك قال صلى الله عليه وسلم له أنا من علمت وقد رأيت صحبتي لك فاخترني أو أخترهما فقال زيد ما أنا بالذي أختار عليك أحدا أنت مني مكان الأب والعم فقالا ويحك يا زيد تختار العبودية على الحرية وعلى أبيك وعمك وأهل بيتك قال نعم ما أنا بالذي أختار عليه أحدا فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم منه ما رأى أخرجه إلى الحجر أي الذي هو محل جلوس قريش فقال إن زيدا ابني أرثه ويرثني فطابت أنفسهما وانصرفا
وفي كلام ابن عبدالبر أنه حين تبناه رسول الله صلى الله عليه وسلم كان سنة ثمان

سنين وأنه حين تبناه طاف به على حلق قريش يقول هذا ابني وارثا وموروثا ويشهدهم على ذلك وكان الرجل في الجاهلية يعاقد الرجل فيقول دمى دمك وهدمي هدمك وثأري ثأرك وحربي حربك وسلمى سلمك ترثني وأرثك وتطلب بي وأطلب بك وتعقل عني وأعقل عنك فيكون للحليف السدس من ميراث الحليف أي من حالفه فنسخ ذلك وهذا الذي ذكره ابن عبدالبر من أنه صلى الله عليه وسلم حين تبناه كان عمره ثمان سنين يدل على أن ذلك كان عقب ملكه صلى الله عليه وسلم له قبل الوحي وأن ذلك كان قبل مجئ أبيه وعمه وحينئذ يكون عتقه وتبنيه بعد مجئ أبيه وعمه إظهارا لما تقدم فليتأمل
وفي أسد الغابة أن حارثة أسلم وفي كلام بعضهم لم يثبت إسلام حارثة إلا المنذري ولما تبنى رسول الله صلى الله عليه وسلم زيدا كان يقال له زيد بن محمد ولم يذكر في القرآن من الصحابة أحد بإسمه إلا هو كما سيأتي قال ابن الجوزي إلا ما يروى في بعض التفاسير أن السجل الذي في قوله تعالى { يوم نطوي السماء كطي السجل للكتب } اسم رجل كان يكتب للنبي صلى الله عليه وسلم
أي وقد أبدى السهيلي حكمة لذكر زيد بإسمه في القرآن وهي أنه لما نزل قوله تعالى { ادعوهم لآبائهم } وصار يقال له زيد بن حارثة ولا يقال له زيد بن محمد ونزع منه هذا التشريف شرفه الله تعالى بذكر اسمه في القرآن دون غيره من الصحابة فصار إسمه يتلى في المحاريب
ولا يخفى أنه يأتي في زيد ما تقدم في علي ولم تذكر في القرآن امرأة بإسمها إلا مريم ولزيد أخ اسمه جبلة أسن منه
سئل جبلة من أكبر أنت أم زيد فقال زيد أكبر مني وأنا ولدت قبله أي لأن زيدا أفضل منه لسبقه للإسلام
ثم أسلم من الصحابة أبو بكر الصديق رضي الله تعالى عنه قال بعضهم في سبب إسلامه إنه كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر غشيانه في منزله ومحادثته وكان سمع قول ورقة له لما ذهب معه إليه كما تقدم فكان متوقعا لذلك فهو مع حكيم بن حزام في بعض الأيام إذ جاءت مولاة لحكيم وقالت له إن عمتك خديجة تزعم في هذا اليوم أن زوجها نبي مرسل مثل موسى فانسل أبو بكر حتى أتى رسول

الله صلى الله عليه وسلم فسأله عن خبره فقص قصته المتضمنة لمجئ الوحي له بالرسالة فقال صدقت بأبي أنت وأمي وأهل الصدق أنت أنا أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله فيقال إنه سماه يومئذ الصديق وهذا السياق ربما يدل على أن إسلام أبي بكر تأخر إلى نزل { يا أيها المدثر } بعد فترة الوحي بناء على ما تقدم وكونه سماه يومئذ الصديق لا ينافى ما سيأتي أنه سمى بذلك صبيحة الإسراء لما صدقه وقد كذبته قريش لجواز أنه لم يشتهر بذلك إلا حينئذ
وقد جاء في تفسير قوله تعالى { والذي جاء بالصدق وصدق به } أن الذي جاء بالصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم والذي صدق به أبو بكر قال ولما سمعت خديجة مقالة أبي بكر خرجت وعليها خمار أحمر فقالت الحمدلله الذي هداك يابن أبي قحافة واسمه عبدالله أي سماه بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان اسمه قبل ذلك عبد الكعبة فأبو بكر رضي الله تعالى عنه أول من غير رسول الله صلى الله عليه وسلم اسمه ولقبه عتيق لحسن وجهه أو لأنه عتق من الذم والعيب أي أو نظر إليه صلى الله عليه وسلم فقال هذا عتيق من النار فهو أول لقب وجد في الإسلام
وقيل سمته بذلك أمه لأنه كان لا يعيش لها ولد فلما ولدته استقبلت به الكعبة ثم قالت اللهم هذا عتيقك من الموت فهبه لي فعاش قيل ويدل له ما ذكر بعضهم أن أمه كانت إذا هزته تقول عتيق وما عتيق ذو المنظر الأنيق
وفي كلام ابن حجر الهيتمي وصح أن الملقب له به النبي صلى الله عليه وسلم لما دخل عليه في بيت عائشة وأنه غلب عليه من يومئذ قال وبه يندفع أن الملقب له أبوه وزعم أنه أمه هذا كلامه وليتأمل قوله في بيت عائشة مع ما تقدم وما في كلامه السهيلي
وقيل وسمى عتيقا لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له حين أسلم أنت عتيق من النار
وكان أبو بكر رضي الله تعالى عنه صدرا معظما في قريش على سعة من المال وكرم الأخلاق من رؤساء قريش ومحط مشورتهم وكان من أعف الناس كان رئيسا مكرما سخيا يبذل المال محببا في قومه حسن المجالسة وكان من أعلم الناس بتعبير الرؤيا ومن ثم قال ابن سيرين وهو المقدم في هذاالعلم اتفاقا كان أبو بكر أعبر هذه الأمة بعد النبي صلى الله عليه وسلم وكان أعلم الناس بأنساب العرب


فقد جاء عن جبير بن مطعم البالغ النهاية في ذلك أنه قال إنما أخذت النسب من أبي بكر لا سيما أنساب قريش فإنه كان أعلم قريش بأنسابها وبما كان فيها من خير وشر وكان لا يعد مساويهم فمن ثم كان محببا فيهم بخلاف عقيل بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه فإنه كان بعد أبي بكر أعلم قريش بأنسابها وبآبائها وما فيها من خير وشر لكن كان مبغضا إليهم لأنه كان يعد مساويهم وكان عقيل يجلس إليه في المسجد النبوي لأخذ علم الأنساب وأيام العرب ووقائعهم
وفي كلام بعضهم كان أبو بكر عند أهل مكة من خيارهم يستعينون به فيما يأتيهم وكانت له بمكة ضيافات لا يفعلها أحد
قال الزمخشري ولعله كنى بأبي بكر لإبتكاره الخصال الحميدة وكان نقش خاتمه نعم القادر الله وكان نقش خاتم عمر رضي الله تعالى عنه كفى بالموت واعظا يا عمر وكان نقش خاتم عثمان آمنت بالله مخلصا وكان نقش خاتم علي الملك لله وكان نقش خاتم أبي عبيدة بن الجراح الحمد لله
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ما دعوت أحدا إلى الإسلام إلا كانت عند كبوة أي وقفة وتأخر وتردد إلا ما كان من أبي بكر
وفي رواية ما كلمت أحدا في الإسلام إلا أبي علي وراجعني في الكلام إلا ابن أبي قحافة فإني لم أكلمه في شيء إلا قبله واستقام عليه أي ومن ثم كان أسد الصحابة رأيا وأكملهم عقلا لخبر تمام أتاني جبريل فقال لي إن الله أمرك أن تستشير أبا بكر ونزل فيه وفي عمر { وشاورهم في الأمر } كان أبو بكر رضي الله تعالى عنه بمكان الوزير من رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان يشاوره في أموره كلها
وقد جاء إن الله تعالى أيدني بأربعة وزراء أثنين من أهل السماء جبريل ومكائيل واثنين من أهل الأرض أبي بكر وعمر وفي حديث رواته ثقات إن الله يكره أن يخطأ أبو بكر وفي رواية إن الله يكره في السماء أن يخطأ أبو بكر الصديق في الأرض
وجاء الحسن بن علي وهو صغير إلى أبي بكر وهو يخطب على المنبر فقال له انزل عن مجلس أبي فقال مجلس أبيك والله لا مجلس ابي فأجلسه في حجره وبكى فقال علي والله ما هذا عن رأيى فقال والله ما اتهمتك
ووقع نظير ذلك لسيدنا عمر رضي الله تعالى عنه مع سيدنا الحسين فإنه قال له

وهو يخطب انزل عن منبر أبي فقال له منبر أبيك لا منبر أبي من أمرك بهذا فقام علي فقال له ما أمره بهذا أحد ثم قال للحسين لأوجعنك يا غدر فقال لا توجع ابن أخي صدق منبر أبيه
قال وسبب مبادرته إلى التصديق ما علمه من دلائل نبوته صلى الله عليه وسلم وبراهين صدق دعوته قبل دعوته ولرؤيا رآها قبل ذلك رآى القمر نزل إلى مكة فدخل في كل بيت منه شعبة ثم كان جميعه في حجره فقصها على بعض أهل الكتاب فعبرها له بأنه يتبع النبي المنتظر الذي قد ظل زمانه وأنه يكون أسعد الناس به ولعل هذا الذي من أهل الكتاب هو بحيرا فقد رأيت أن أبا بكر رضي الله تعالى عنه رأى رؤيا فقصها على بحيرا فقال له إن صدقت رؤياك فإنه سيبعث نبي من قومك تكون أنت وزيره في حياته وخليفته بعد مماته
أي وأخرج أبو نعيم عن بعض الصحابة أن أبا بكر رضي الله تعالى عنه آمن بالنبي صلى الله عليه وسلم قبل النبوة أي علم أنه النبي المنتظر لما مر عن بحيرا الراهب ولما سمعه من شيخ عالم من الأزد قد قرأ الكتب نزل به في اليمن فقال له أحسبك حرميا فقال أبو بكر نعم فقال له أحسبك قرشيا قال نعم فقال له أحسبك تيميا قال نعم قال له بقيت لي فيك واحدة قال وما هي قال له تكشف لي عن بطنك فقال له لا أفعل أو تخبرني لم ذلك فقال أجد في العلم النجيح الصادق أن نبيا يبعث في الحرم يعاون على أمره فتى كهل فأما الفتى فخواص غمرات ودفاع معضلات وأما الكهل فأبيض نحيف على بطنه شامة وعلى فخذه اليسرى علامة أي مع كونه حرميا قرشيا تيميا بدليل قوله أحسبك حرميا أحسبك قرشيا أحسبك تيميا وما عليك أن تريني ما سألتك فقد تكاملت فيك الصفة أي كونه حرميا قرشيا تيميا أبيض نحيفا إلا ما خفى علي فقال أبو بكر فكشفت له عن بطني فرأى شامة بيضاء أو سواداء فوق سرتي أي ورأى العلامة على الفخذ الأيسر فقال أنت هو ورب الكعبة قال أبو بكر فلما قضيت أربى من اليمن أتيته لأودعه فقال أحافظ عني أبياتا من الشعر قلتها في ذلك النبي قلت نعم فذكرله أبياتا قال أبو بكر فقدمت مكة وقد بعث النبي صلى الله عليه وسلم فجاءني صناديد قريش كعقبة بن أبي معيط وشيبة بن ربيعة وأبي جهل وأبي البختري فقالوا يا أبا بكر يتيم أبي طالب يزعم أنه نبي ولولا إنتظارك ما انتظرنا به فإذا قد جئت فأنت الغاية

والكفاية أي لأن أبا بكر كما تقدم كان صديقا له صلى الله عليه وسلم قال أبو بكر فصرفتهم على أحسن شيء ثم جئته صلى الله عليه وسلم فقرعت عليه الباب فخرج إلي وقال لي يا أبا بكر إني رسول الله إليك وإلى الناس كلهم فآمن بالله فقلت وما دليلك على ذلك قال الشيخ الذي أفادك الأبيات فقلت ومن أخبرك بهذا يا حبيبي قال الملك العظيم الذي يأتي الأنبياء قبلى قلت مد يدك فأنا أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله قال أبو بكر رضي الله تعالى عنه فانصرفت وما بين لابتيها أشد سرورا من رسول الله صلى الله عليه وسلم بإسلامي وفي لفظ اشد سرورا مني بإسلامي ولا مانع من صدور الأمرين منه رضي الله تعالى عنه
ويحتاج للجمع بين هذا وبين ما تقدم من أنه كان مع حكيم بن حزام يوما إلى آخره على تقدير صحة الروايتين وما جاء من شعر حسان رضي الله تعالى عنه من أن أبا بكر أول الناس إسلاما حيث يقول فيه ** وأول الناس منهم صدق الرسلا **
وأنه صلى الله عليه وسلم سمع ذلك منه ولم ينكره بل قال صدقت بإحسان كما سيأتي عند الكلام على الهجرة وقول بعض الحفاظ إن أبا بكر رضي الله تعالى عنه أول الناس إسلاما هو المشهور عند الجمهور من أهل السنة لا ينافي ما تقدم من أن عليا أول الناس إسلاما بعد خديجة ثم مولاه زيد بن حارثة لأن المراد أول رجل بالغ ليس من الموالي أسلم أبو بكر
أي وعبارة ابن الصلاح والأورع أن يقال أول من أسلم من الرجال الأحرار أي غير الموالي أبو بكر ومن الصبيان علي ومن النساء خديجة ومن الموالي زيد بن حارثة وهذا وما قبله يدل على أن إسلام زيد بن حارثة كان بعد البلوغ وإلا فلا حاجة لزيادة ليس من الموالي تأمل
أو أن مراد من قال إن أبا بكر سبق عليا في الإسلام أي في إظهار الإسلام لأنه حين أسلم أظهر إسلامه بخلاف علي فقد جاء عن علي رضي الله تعالى عنه أنه قال إن أبا بكر رضي الله تعالى عنه سبقني إلى أربع وعد منها إظهار الإسلام قال وأنا أخفيته ولعله لا ينافي ذلك ما جاء بسند حسن أن أول من جهر بالإسلام عمر بن الخطاب لأن ذلك كان عند اختفائه صلى الله عليه وسلم هو وأصحابه في دار الأرقم كما سيأتي فالأولية في إظهار الإسلام إضافية
قال ابن كثير وورد عن علي رضي الله تعالى عنه أنه قال أنا أول من أسلم

ولا يصح إسناد ذلك إليه قال وقد روى في هذا المعنى أحاديث أوردها ابن عساكر كثيرة منكرة كلها لا يصح شيء منها هذا كلامه وعلى تقدير صحتها مراده أول من أسلم من الصبيان فالأولية إضافية
ومما يؤثر عن علي رضي الله تعالى عنه لاتكن ممن يرجو بغير عمل ويؤخر التوبة لطول الأمل يحب الصاليحن ولا يعلم بأعمالهم البشاشة فخ المودة والصبر قبر العيوب والغالب بالظلم مغلوب العجب ممن يدعو ويستبطئ الإجابة وقد سد طرقها بالمعاصي
وأول من أسلم من النساء بعد خديجة رضي الله تعالى عنها أم الفضل زوج العباس وأسماء بنت أبي بكر وأم جميل فاطمة بنت الخطاب أخت عمر بن الخطاب
وينبغي أن تكون أم أيمن سابقة في الإسلام على أم الفضل على ما تقدم وقول السراج البلقيني موافقة للزين العراقي إن أول رجل أسلم ورقة بن نوفل لقوله للنبي صلى الله عليه وسلم أنا أشهد أنك الذي بشر بك عيسى ابن مريم وأنك على مثل ناموس موسى وأنك نبي مرسل قد علمت ما فيه وأنه إنما كان من أهل الفترة كما صرح به الحافظ الذهبي وهو يرد القول المتقدم بأن وفاة ورقة تأخرت عن البعثة فورقة ونحوه كبحيرا ونسطورا من أهل الفترة لا من أهل الإسلام ويؤيده ما تقدم أنه بإجماع المسلمين لم يتقدم خديجة في الإسلام لا رجل ولا امرأة لكن هؤلاء من القسم الذي تمسك بدين قبل نسخه وآمن وصدق بأنه صلى الله عليه وسلم الرسول المنتظر وذلك نافع له في الآخرة ومن ثم قال صلى الله عليه وسلم لما توفى ورقة لقد رأيت القس يعني ورقة في الجنة وعليه ثياب الحرير لأنه آمن بي وصدقني إلى آخر ما تقدم
وعلى تسليم أنه لا يشترط في المسلم أن يؤمن ويصدق برسالته صلى الله عليه وسلم بعد وجودها بل يكفي ولو قبل ذلك فليس ورقة بصحابي لأن الصحابي من اجتمع بالنبي صلى الله عليه وسلم بعد الرسالة مؤمنا بما جاء به عن الله تعالى أي محكوما بإيمانه
ومن ثم رد الحافظ الذهبي على ابن منده أي ومن وافقه كالزين العراقي في عده له من الصحابة أي كما عد منهم بحيرا ونسطورا بقوله الأظهر أن من مات بعد النبوة وقبل الرسالة فهو من أهل الفترة هذا كلام الحافظ الذهبي والمراد بالرسالة نزول { يا أيها المدثر } لاإظهارها ونزول قوله تعالى { فاصدع بما تؤمر } بناء على تأخر الرسالة

وحين أسلم ابو بكر رضي الله تعالى عنه دعا إلى الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم من وثق به من قومه فأسلم بدعائه عثمان بن عفان بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس
أي ولما أسلم عثمان رضي الله تعالى عنه أخذه عمه الحكم بن أبي العاص بن أمية والد مروان فأوثقه كتافا وقال ترغب عن ملة آبائك إلى دين محمد والله لا أحلك أبدا حتى تدع ما أنت عليه فقال عثمان والله لا أدعه أبدا ولا أفارقه فلما رأى الحكم صلابته في الحق تركه وقيل عذبه بالدخان ليرجع فما رجع
وفي كلام ابن الجوزي أن المعذب بالدخان ليرجع عن الإسلام الزبير بن العوام هذا كلامه ولا مانع من تعدد ذلك وجاء لكل نبي رفيق في الجنة ورفيقي فيها عثمان ابن عفان
وأسلم بدعاء أبي بكر أيضا الزبير بن العوام رضي الله تعالى عنه وكان عمره ثمان سنين على ما تقدم وعبد الرحمن بن عوف رضي الله تعالى عنه أي وكان اسمه في الجاهلية عبد عمر وقيل عبد الكعبة وقيل عبدالحارث فسماه رسول الله صلى الله عليه وسلم عبدالرحمن قال وكان أمية بن خلف لي صديقا فقال لي يوما أرغبت عن اسم سماك به أبوك فقلت نعم فقال لي إني لاأعرف الرحمن ولكن أسميك بعبد الإله فكان يناديني بذلك
قال وسبب إسلام عبدالرحمن بن عوف ما حدث به قال سافرت إلى اليمن غير مرة وكنت إذا قدمت نزلت على عسكلان بن عواكف الحميري فكان يسألني هل ظهر فيكم رجل له نبأ له ذكر هل خالف أحد منكم عليكم في دينكم فأقول لا حتى كانت السنة التي بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم قدمت اليمن فنزلت عليه إلى آخر القصة
وعن علي رضي الله تعالى عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لعبد الرحمن بن عوف أنت أمين في أهل الأرض أمين في أهل السماء وجاء أنه وصفه بالصادق الصالح البار
وأسلم بدعاية أبي بكر رضي الله تعالى عنه أيضا سعد بن أبي وقاص أي فإن أبا بكر لمادعاه إلى الإسلام لم يبعد وأتى النبي صلى الله عليه وسلم فسأله عن أمره فأخبره به فأسلم وكان عمره تسع عشرة سنة وهو رضي الله تعالى عنه من بني زهرة ومن ثم قال صلى الله عليه وسلم وقد أقبل عليه سعد خالي فليرني امرؤ خاله


وفي كلام السهيلي أنه عم آمنة بنت وهب أم النبي صلى الله عليه وسلم وكرهت أمه إسلامه وكان بارا بها فقالت له ألست تزعم أن الله يأمرك بصلة الرحم وبر الولدين قال فقلت نعم فقالت والله لا أكلت طعاما ولا شربت شرابا حتى تكفر بما جاء به محمد أي وتمس إسافا ونائلة فكانوا يفتحون فاها ثم يلقون فيه الطعام والشراب فأنزل الله تعالى { ووصينا الإنسان بوالديه حسنا وإن جاهداك لتشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما } الآية وفي رواية أنها مكثت يوما وليلة لا تأكل فأصبحت وقد خمدت ثم مكثت يوم وليلة لا تأكل ولا تشرب قال سعد فلما رأيت ذلك قلت لها تعلمين والله يا أمه لو كان لك مائة نفس تخرج فسا ما تركت دين هذا النبي صلى الله عليه وسلم فكلي إن شئت أو لا تأكلي فلما رأت ذلك أكلت
وفي الأنساب للبلاذري عن سعد قال أخبرت أمي أني كنت أصلي العصر أي الركعتين اللتين كانوا يصلونهما بالعشي فجئت فوجدتها على بابها تصيح ألا أعوان يعينوني عليه من عشيرتي أو عشيرتي فأحبسه في بيت وأطبق عليه بابه حتى يموت أو يدع هذا الدين المحدث فرجعت من حيث جئت وقلت لا أعود إليك ولا أقرب منزلك فهجرتها حينا ثم أرسلت إلى أن عد إلى منزلك ولا تتضيفن فيلزمنا عار فرجعت إلى منزلي فمرة تلقاني بالبشر ومرة تلقاني بالشر وتعيرني بأخي عامر وتقول هي البر لا يفارق دينه ولا يكون تابعا فلما أسلم عامر لقى منها مالم يلق أحد من الصياح والأذى حتى هاجر إلى الحبشة ولقد جئت والناس مجتمعون على أمي وعلى أخي عامر فقلت ما شأن الناس فقالوا هذه أمك قد أخذت أخاك عامرا وهي تعطى الله عهدا لا يظلها نخل و لا تأكل طعاما ولا تشرب شرابا حتى يدع صبأته فقلت لها والله يا أمه لا تستظلين ولا تأكلين ولا تشربين حتى تتبوئى مقعدك من النار
وجاء أنه صلى الله عليه وسلم أمر سعد بن أبي وقاص أن يأتي الحارث بن كلدة طبيب العرب ليستوصفه في مرض نزل بسعد وكان ذلك في حجة الوداع فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم يعود عبدالرحمن بن عوف لمرض نزل به فوجد عند الحارث فقال النبي صلى الله عليه وسلم لعبدالرحمن إني لأرجو أن يشفيك الله حتى يضر بك قوم وينتفع بك آخرون ثم قال للحارث بن كلدة عالج سعدا مما به وكان سعد بالمجلس فقال والله إني لأرجو شفاءه فيما ينفعه من رجله هل معك من هذه الثمرة العجوة شيء قال نعم فخلط ذلك الثمر بحلبة ثم أوسعها سمنا ثم أحساه إياها فكأنما نشط من عقال وهذا استدل

به على إسلام الحارث بن كلدة لأن حجة الوداع لم يحج فيها مشرك فهو معدود من الصحابة وأنكر بعضهم إسلامه وجعله دليلا على جواز استشارة أهل الكفر في الطب إذا كانوا من أهله
وممن أسلم بدعاية أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه أيضا طلحة بن عبدالله التيمي فجاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم حين استجاب له فأسلم
أي ولما تظاهر أبو بكر وطلحة بالإسلام فأخذهما نوفل بن العدوية وكان يدعى أسد قريش فشدهما في حبل واحد ولم يمنعهما بنو تيم ولذلك سمى أبو بكر وطلحة القرينين ولشدة ابن العدوية وقوة شكيمته كان صلى الله عليه وسلم يقول اللهم اكفنا شر ابن العدوية
أقول سبب إسلام طلحة بن عبيدالله رضي الله تعالى عنه ما تقدم أنه قال حضرت سوق بصرى فإذا راهب في صومعته يقول سلوا أهل هذا الموسم هل ثم من أهل الحرم أحد فقلت نعم أنا قال هل ظهر أحد بعد قلت ومن أحمد قال ابن عبدالله بن عبدالمطلب هذا شهره الذي يخرج فيه وهو آخر الأنبياء مخرجه من الحرم ومهاجره إلى أرض ذات نخل وسباخ فإياك أن تسبق إليه قال طلحة فوقع في قلبي ما قال فخرجت سريعا حتى قدمت مكة فقلت هل كان من حدث قالوا نعم محمد بن عبدالله الأمين يدعو إلى الله وقد تبعه ابن أبي قحافة فخرجت حتى دخلت على أبي بكر رضي الله تعالى عنه فأخبرته بما قال الراهب فخرج أبو بكر حتى دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره بذلك فسر بذلك وأسلم طلحة
وطلحة هذا هو أحد العشرة المبشرين بالجنة وقد شاركه رجل آخر في اسمه واسم أبيه ونسبه وهو طلحة بن عبيد الله التيمي وهو الذي نزل فيه قوله تعالى { وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله ولا أن تنكحوا أزواجه } الآية لأنه قال لئن مات محمد رسول الله لأتزوجن عائشة وفي لفظ يتزوج محمد بنات عمنا ويحجبهن عنا لئن مات لأتزوجن عائشة من بعده فنزلت الآية
قال الحافظ السيوطي وقد كنت في وقفة شديدة من صحة هذا الخبر لأن طلحة أحد العشرة أجل مقاما من أن يصدر عنه ذلك حتى رأيت أنه رجل آخر شاركه في إسمه وإسم أبيه ونسبه هذا كلامه


والحاصل أن أبا بكر أسلم على يده خمسة من العشرة المبشرين بالجنة وهم عثمان وطلحة بن عبيدالله ويقال له طلحة الفياض وطلحة الجود والزبير وسعد ابن أبي وقاص وعبدالرحمن بن عوف وزاد بعضهم سادسا وهو أبو عبيدة بن الجراح وكان كل من أبي بكر وعثمان بن عفان وعبدالرحمن بن عوف وطلحة بزازا وكان الزبير جزارا وكان سعد بن أبي وقاص يصنع النبل والله أعلم ثم دخل الناس في الإسلام أرسالا من الرجال والنساء
وذكر في الأصل جماعة من السابقين للإسلام منهم عبدالله بن مسعود وأن سبب إسلامه ما حدث به قال كنت في غنم لآل عقبة بن أبي معيط فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه أبو بكر بن أبي قحافة فقال النبي صلى الله عليه وسلم هل عندك لبن فقلت نعم ولكني مؤتمن قال هل عندك من شاة لم ينز عليها الفحل قلت نعم فأتيته بشاة شصوص لا ضرع لها فمسح النبي صلى الله عليه وسلم مكان الضرع فإذا ضرع حافل مملوء لبنا كذا في الأصل وفي الصحاح كما في النهاية الشصوص التي ذهب لبنها وحينئذ يكون قول الأصل لا ضرع لها أي لا لبن لها ويدل لذلك قول ابن حجر الهيتمي في شرح الأربعين فمسح ضرعها وقول ابن مسعود فمسح مكان الضرع أي محل اللبن فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم بصخرة منقورة فاحتلب النبي صلى الله عليه وسلم فسقى أبا بكر وسقاني ثم شرب ثم قال للضرع اقلص فرجع كما كان أي لا وجود له على ظاهر ما في الأصل أو لا لبن فيه على ما في النهاية كالصحاح وإلى ذلك أشار الإمام السبكي في تائيته بقوله ** ورب عناق مانزا الفحل فوقها ** مسحت عليها باليمين فدرت **
قال ابن سمعود فما رأيت هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت يارسول الله علمني فسمح رأسي وقال بارك الله فيك فإنك غلام معلم
أقول فإن قيل قول ابن مسعود ولكني مؤتمن وعدوله صلى الله عليه وسلم عن ذات اللبن إلى غيرها يخالف ما سيأتي في حديث المعراج والهجرة أن العادة كان جارية بإباحة مثل ذلك اللبن لابن السبيل إذا احتاج إلى ذلك فكان كل راع مأذونا له في ذلك وإذا كان ذلك أمرا متعارفا مشهورا يبعد خفاؤه
قلنا قد يقال لا مخالفة لأن ابن السبيل المسافر وجاز أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم

وأبو بكر رضي الله تعالى عنه لم يكونا مسافرين لجواز أن تكون تلك الغنم التي كان فيها ابن مسعود ببعض نواحي مكة القريبة منها التي لا يعد قاصدها مسافرا ولعله لا ينافى ذلك ما سيأتي أن من خصائصه صلى الله عليه وسلم أبيح له أخذ الطعام والشراب من مالكهما المحتاج إليهما إذا احتاج صلى الله عليه ولم إليهما وأنه يجب على مالكهما بذل ذلك له
وكان عبدالله بن مسعود يعرف بأمه وهي أم عبد وكان قصيرا جدا طوله نحو ذراع خفيف اللحم ولما ضحكت الصحابة رضي الله تعالى عنهم من دقة رجليه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لرجل عبدالله في الميزان أثقل من أحد وقال صلى الله عليه وسلم في حقه رضيت لأمتي ما رضى لها ابن ام عبد وسخطت لها ما سخط لها ابن أم عبد
وقوله لرجل عبدالله في الميزان يدل للقول بأن الموزون الإنسان نفسه لا عمله وكان صلى الله عليه وسلم يكرمه ويدنيه ولا يحجبه فلذلك كان كثير الولوج عليه صلى الله عليه وسلم وكان يمشي أمامه صلى الله عليه وسلم ومعه ويستره إذا اغتسل ويوقظه إذا نام ويلبسه نعليه إذا قام فإذا جلس أدخلهما في ذراعيه ولذلك كان مشهورا بين الصحابة رضي الله تعالى عنهم بأنه صاحب سر رسول الله صلى الله عليه وسلم وبشره رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجنة ولم أقف على أنه أسلم حين أجفلت الشاة لكن قول العلامة ابن حجر الهيتمي في شرح الأربعين أسلم قديما بمكة لما مر به صلى الله عليه وسلم وهو يرعى غنما إلى آخره يدل على أنه أسلم حينئذ ومما يؤثر عنه الدنيا كلها هموم فما كان فيها من سرور فهو ربح والله أعلم
وذكر في الأصل أن من السابقين أبا ذر الغفاري واسمه جندب بن جنادة بضم الجيم فيهما قال وسبب إسلامه ما حدث به قال صليت قبل أن ألقى النبي صلى الله عليه وسلم ثلاث سنين لله أتوجه حيث يوجهني ربي فبلغنا أن رجلا خرج بمكة يزعم أنه نبي فقلت لأخي أنيس انطلق إلى هذا الرجل فكلمه وأتني بخبره فلما جاء أنيس قلت له ما عندك فقال والله رأيت رجلا يأمر بخير وينهى عن الشر وفي رواية رأيتك على دينه يزعم أن الله أرسله ورأيته يأمر بمكارم الأخلاق قلت فما يقول الناس فيه قال يقولون شاعر كاهن ساحر والله إنه لصادق وإنهم لكاذبون فقلت اكفني حتى أذهب فانظر قال نعم وكن على حذر من أهل مكة فحملت جرابا وعصا ثم

أقبلت حتى أتيت مكة فجعت لا أعرفه وأكره أن أسأل عنه فمكثت في المسجد ثلاثين ليلة ويوما وما كان لي طعام إلا ماء زمزم فسمنت حتى تكسرت عكن بطني وما وجدت على بطني سحنة جوع والسحنة بالتحريك قيل حرارة يجدها الإنسان من الجوع ففي ليلة لم يطف بالبيت أحد وإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبه جاءا فطافا بالبيت ثم صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما قضى صلاته أتيته فقلت السلام عليك يا رسول الله أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله فرأيت الإستبشار في وجهه ثم قال من الرجل قلت من غفار بكسر المعجمة قال متى كنت قال كنت من ثلاثين ليلة ويوما ههنا قال فمن كان يطعمك قلت ما كان لي طعام إلا ماء زمزم فسمنت حتى تكسرت عكن بطني وما أجد على بطني سحنة جوع قال مبارك إنها طعام طعم وشفاء سقم أي وجاء ماء زمزم لما شرب له إن شربته لتشفى شفاك الله وإن شربته لتشبع أشبعك الله وإن شربته لتقطع ظمأك قطعه الله وهي هزمة جبريل وسقيا الله إسمعيل وجاء التضلع من ماء زمزم براءة من النفاق وجاء آية ما بيننا وبين المنافق أنهم لا يتضلعون من ماء زمزم
وذكر أن أبا ذر أول من قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم السلام عليك التي هي تحية الإسلام فهو أول من حيا رسول الله صلى الله عليه وسلم بتحية الإسلام وبايع رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا يأخذه في الله لومة لائم وعلى أن يقول الحق ولو كان مرا ومن ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أظلت الخضراء أي السماء ولا أقلت الغبراء أي الأرض أصدق من أبي ذر وقال صلى الله عليه وسلم في حقه أبو ذر يمشي في الأرض على زهد عيسى ابن مريم وفي الحديث أبو ذر أزهد أمتي وأصدقها وقد هاجر أبو ذر إلى الشام بعد وفاة أبي بكر واستمر بها إلى أن ولى عثمان فاستقدمه من الشام لشكوى معاوية منه وأسكنه الربذة فكان بها حتى مات فإن أبا ذر صار يغلظ القول لمعاوية ويكلمه بالكلام الخشن
وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن لقيا أبي ذر لرسول الله صلى الله عليه وسلم كان بدلالة علي رضي الله تعالى عنه وأنه قال له ما أقدمك هذه البلدة فقال له أبو ذر إن كتمت علي أخبرتك وفي رواية إن أعطيتني عهدا وميثاقا أن ترشدني أخبرتك ففعل قال أبو ذر فأخبرته فأرشدني وأوصلني إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأسلمت


وفي الإمتاع أن عليا استضاف أبا ذر ثلاثة أيام لا يسأله عن شيء وهو لا يخبره ثم في الثالث قال له ما أمرك وما أقدمك هذه البلدة قال له إن كتمت علي أخبرتك قال فإني أفعل قال له بلغنا أنه خرج هنا رجل يزعم أنه نبي فأرسلت أخي ليكلمه فرجع ولم يشفني من الخبر فأردت أن ألقاه فقال له أما إنك قد رشدت هذا وجهي أي خروجي إليه فاتبعني أدخل حيث أدخل فإن رأيت أحدا أخافه عليك قمت إلى الحائط كأني أصلح نعلي وفي لفظ كأني أريق الماء فامض أنت قال أبو ذر فمضى ومضيت حتى دخل ودخلت معه على النبي صلى الله عليه وسلم فقلت له أعرض علي الإسلام فعرضه علي فأسلمت مكاني الحديث
وما تقدم من قوله صلى الله عليه وسلم له من كان يطعمك وجواب أبي ذر له صلى الله عليه وسلم بقوله ماكان لي طعام إلا ماء زمزم يبعد أن يكون علي رضي الله تعالى عنه أضاف أبا ذر ولم يأكل عنده وكذا يبعده ما جاء أن أبا بكر قال يا رسول لله ائذن لي في إطعامه الليلة قال أبو ذر فانطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر فانطلقت معهما ففتح أبو بكر بابا فجعل يفيض لنا من زبيب الطائف فكان ذلك أول طعام أكلته إلا أن يحمل الطعام على خصوص الزبيب
ويمكن التوفيق بين الروايتين أي رواية دخوله على النبي صلى الله عليه وسلم مع علي فأسلم ورواية إجتماعه به في الطواف فأسلم بأن يكون أبو ذر دخل عليه أولا مع علي ثم لقيه في الطواف ويكون المراد حينئذ بإسلامه الثاني الثبات عليه بتكرير الشهادتين وعذره في عدم إجتماعه به في المسجد مدة ثلاثين يوما عدم خلو المطاف كما يرشد لذلك قوله ففي ليلة لم يطف بالبيت أحد إلى آخره وإلا فيبعد أن يكون صلى الله عليه وسلم لم يدخل المسجد للطواف مدة ثلاثين يوما
ويبعد هذا الجمع قوله صلى الله عليه وسلم له من الرجل إلى آخره ثم قال صلى الله عليه وسلم لأبي ذر يا أبا ذر اكتم هذا الأمر وارجع إلى قومك فأخبرهم يأتوني فإذا بلغك ظهورنا فأقبل فقلت والذي بعثك بالحق لأصرخن بهذا بين ظهرانيهم قال وكنت في أول الإسلام خامسا وفي رواية رابعا ولعل المراد من الإعراب فلا ينافي ما يأتي في وصف خالد بن سعيد فلما اجتمعت قريش بالمسجد ناديت بأعلى صوتي أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله فقالوا قوموا إلى هذا الصابئ فضربت

لأموت وفي لفظ فمال علي أهل الوادي بكل مدرة وعظم حتى خررت مغشيا علي فأكب علي العباس ثم قال لهم ويلكم ألستم تعلمون أنه من غفار وأن طريق تجارتكم عليهم فخلوا عني قال فجئت زمزم فغسلت عني الدماء فلما أصبحت الغداة رجعت لمثل ذلك فصنع بي مثل ما صنع وأدركني العباس وكان منه كالأمس فخرجت وأتيت أنيسا فقال ما صنعت فقلت قد أسلمت وصدقت فقال ما لي رغبة عن دينك فإني قد أسلمت وصدقت فأتينا أمنا فقالت ما لي رغبة عن دينكما فإني أسلمت وصدقت ثم أتينا قومنا غفارا فأسلم نصفهم وقال نصفهم إذا قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة أسلمنا فلما جاء المدينة أسلم نصفهم الثاني أي لأنه صلى الله عليه وسلم قال لأبي ذر إني وجهت إلى أرض ذات نخل لا أراها إلا يثرب فهل أنت مبلغ قومك عسى الله أن ينفعهم بك ويأجرك فيهم وجاءت أسلم القبيلة المعروفة فقالوا يا رسول الله نسلم على الذي أسلم عليه إخواننا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم غفار غفر الله لها وأسلم سالمها الله
أي وقد ذكر أن أبا ذر وقف يوما عند الكعبة أي في حجة حجها أو عمرة اعتمرها فأكتنفه الناس فقال لهم لو أن أحدكم أراد سفرا أليس يعد زادا فقالوا بلى فقال سفر القيامة أبعد مما تريدون فخذوا ما يصلحكم قالوا وما يصلحنا قال حجوا حجة لعظائم الأمور وصوموا يوما شديدا حره ليوم النشور وصلوا في ظلمة الليل لوحشة القبور
وممن أسلم خالد بن سعيد بن العاص رضي لله تعالى عنه قيل كان حين أسلم رابعا وقيل خامسا وهو أول من أسلم من إخوته ويمكن أن يكون ذلك محمل قول ابنته أم خالد أول من أسلم أبي أي من إخوته
وسبب إسلامه أنه رأى في النوم النار ورأى من فظاعتها وأهوالها أمر مهولا ورأى أنه على شفيرها وأن أباه يريد أن يلقيه فيها ورأى رسول الله صلى الله عليه وسلم آخذا بحجزته يمنعه من الوقوع فيها فقام من نومه فزعا وقال أحلف بالله أن هذه الرؤيا حق وعلم أن نجاته من النار تكون على يد رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتى أبا بكر فذكر له ذلك فقال له أريد بك خير هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم فاتبعه فأتاه فقال يا محمد إلام تدعو قال أدعو إلى الله وحده لا شريك له وأن محمدا عبده

ورسوله وتخلع ما أنت عليه من عبادة حجر لا يسمع ولا يبصر ولا يضر ولا ينفع فأسلم خالد
وفي الوفاء عن أم خالد بنت خالد بن سعيد أنها قالت كان خالد بن سعيد ذات ليلة نائما قبيل مبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رأيت كأنه غشيت مكة ظلمة حتى لا يبصر امرؤ كفه فبينما هو كذلك إذ خرج نور أي من زمزم ثم علا في السماء فأضاء في البيت ثم أصاب مكة كلها ثم تحول إلى يثرب فأصابها حتى أني لأنظر إلى اليسر في النخل فاستيقظت فقصصتها على أخي عمرو بن سعيد وكان جزل الرأي فقال يا أخي إن هذا الأمر يكون في بني عبدالمطلب ألا ترى أنه خرج من حفر أبيهم ثم إنه ذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم أي بعد مبعثه فقال يا خالد أنا والله ذلك النور وأنا رسول الله وقص عليه ما بعثه الله به فأسلم خالد وعلم أبوه بذلك أبوه وهو سعيد أبو أجيحة وكان من عظماء قريش كان إذا أعتم لم يعتم قرشي إعظاما له ومن ثم قال فيه القائل ** أبا أجيحة من يعتم عمته ** يضرب وإن كان ذا مال وذا عدد **
وعند إسلام ولده خالد أرسل في طلبه فانتهره وضربه أي بمقرعة كانت في يده حتى كسرها على رأسه ثم قال اتبعت محمدا وأنت ترى خلافه لقومه وما جاء به من عيب آلهتهم وعيب من مضى من آبائهم فقال والله تبعته على ما جاء به فغضب أبوه وقال أذهب يالكع حيث شئت وقال والله لأمنعنك القوت قال إن منعتني فإن الله يرزقني ما أعيش به فأخرجه وقال لبنيه ولم يكونوا أسلموا لا يكلمه أحد منكم إلا صنعت به فانصرف خالد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان يلزمه ويعيش معه ويغيب عن أبيه في نواحي مكة حتى خرج أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أرض الحبشة في الهجرة الثانية فكان خالد أول من هاجر إليها
وذكر عن والده سعيد أنه مرض فقال إن رفعني الله من مرضي هذا لا يعبد إله ابن أبي كبشة بمكة أبدا فقال خالد عند ذلك اللهم لا ترفعه فتوفى في مرضه ذلك وخالد هذا أول من كتب بسم الله الرحمن الرحيم وأسلم أخوه عمرو بن سعيد بن العاص رضي الله تعالى عنه
قيل وسبب إسلامه أنه رأى نورا خرج من زمزم أضاءت له منه نخل المدينة حتى

رأى البسر فيها فقص رؤياه فقيل له هذه بئر بني عبدالمطلب وهذا النور منهم يكون فكان سببا لإسلامه وتقدم قريبا أن هذا الرؤيا وقعت لخالد فكانت سبب إسلامه وأنه قصه على أخيه عمرو المذكورة فهو من خلط بعض الرواة إلا أن يقال لا مانع من تعدد هذه الرؤية لخالد ولأخيه عمرو وأنها كانت سببا لإسلامهما وأسلم من بني سعيد أيضا أبان والحكم الذي سماه رسول الله صلى الله عليه وسلم عبدالله
أي ومن السابقين للإسلام صهيب كان أبوه عاملا لكسرى أغارت الروم عليهم فسبت صهيبا وهو غلام صغير فنشأ في الروم حتى كبر ثم ابتاعه جماعة من العرب وجاءوا به إلى سوق عكاظ فابتاعه منهم بعض أهل مكة أي وهو عبداله بن جدعان فلما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم مر صهيب على دار رسول الله صلى الله عليه وسلم فرأى عمار بن ياسر فقال له عمار بن ياسر أين تريد يا صهيب قال أريد أن أدخل إلى محمد فأسمع كلامه وما يدعو إليه قال عمار وأنا أريد ذلك فدخلا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمرهما بالجلوس فجلسا وعرض عليهما الإسلام وتلا عليهما ما حفظ من القرآن فتشهدا ثم مكثا عنده يومهما ذلك حتى أمسيا خرجا مستخفيين فدخل عمار على أمه وأبيه فسألاه أين كان فأخبرهما بإسلامه وعرض عليهما الإسلام وقرأ عليهما ما حفظ من القرآن في يومه ذلك فأعجبهما فأسلما على يده فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسميه الطيب المطيب
وأسلم أيضا حصين والد عمران بن حصين رضي الله تعالى عنهما بعد إسلام والده عمران
وسبب إسلامه أن قريشا جاءت إليه وكانت تعظمه وتجله فقالوا له كلم لنا هذا الرجل فإنه يذكر آلهتنا ويسبها فجاءوا معه حتى جلسوا قريبا من باب النبي صلى الله عليه وسلم ودخل حصين فلما رآه النبي صلى الله عليه وسلم قال أوسعوا للشيخ وعمران وولده في الصحابة فقال حصين ما هذا الذي بلغنا عنك أنك تشتم آلهتنا وتذكرها فقال يا حصين كم تعبد من إله قال سبعة في الأرض وواحد في السماء فقال فإذا أصابك الضر لمن تدعو قال الذي في السماء قال فإذا هلك المال من تدعو قال الذي في السماء قال فيستجيب له وحده وتشرك معه أرضيته في الشرك يا حصين أسلم تسلم فأسلم فقام إليه ولده عمران فقبل رأسه ويديه ورجليه فبكى

صلى الله عليه وسلم وقال بكيت من صنع عمران دخل حصين وهو كافر فلم يقم إليه عمران ولم يلتفت ناحيته فلما أسلم وفي حقه فدخلني من ذلك الرقة فلما أراد حصين الخروج قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه شيعوه إلى منزله فلما خرج من سدة الباب أي عتبته رأته قريش قالوا قد صبا وتفرقوا عنه & باب استخفائه صلى الله عليه وسلم وأصحابه في دار الأرقم ابن الأرقم رضي الله تعالى عنهما ودعائه صلى الله عليه وسلم إلى الإسلام جهرة وكلام قريش لأبي طالب في أن يخلى بينهم وبينه وما لقى هو وأصحابه من الأذى وإسلام عمه حمزة رضي الله تعالى عنه
عن ابن اسحاق أن مدة ما أخفى صلى الله عليه وسلم أمره أي المدة التي صار يدعو الناس فيها خفية بعد نزول { يا أيها المدثر } ثلاث سنين أي فكان من أسلم إذا أراد الصلاة يذهب إلى بعض الشعاب يستخفى بصلاته من المشركين أي كما تقدم فبينما سعد ابن أبي وقاص في نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في شعب من شعاب مكة إذا ظهر عليه نفر من المشركين وهم يصلون فناكروهم وعابوا عليه ما يصنعون حتى قاتلوهم فضرب سعد بن أبي وقاص رجلا منهم بلحى بعير فشجه فهو أول دم أهريق في الإسلام ثم دخل صلى الله عليه وسلم وأصحابه مستخفين في دار الأرقم أي بعد هذه الواقعة فإن جماعة أسلموا قبل دخوله صلى الله عليه وسلم دار الأرقم ودار الأرقم هي المعروفة الآن بدار الخيزران عند الصفا أشتراها الخليفة المنصور وأعطاها ولده المهدي ثم أعطاها المهدي للخيزران أم ولديه موسى الهادي وهرون الرشيد ولا يعرف أمرأة ولدت خليفتين إلا هذه وولادة جارية عبدالملك بن مروان فإنه أم الوليد وسليمان
وقد روت الخيزران عن زوجها المهدي عن أبيه عن جده عن ابن عباس رضي الله

تعالى عنهما قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من اتقى الله وقاه كل شيء
فكان صلى الله عليه وسلم وأصحابه يقيمون الصلاة بدار الأرقم ويعبدون الله تعالى فيها إلى أن أمره الله تعالى بإظهار الدين
أي وهذا السياق يدل على أنه صلى الله عليه وسلم استمر مستخفيا هو وأصحابه في دار الأرقم إلى أن أظهر الدعوة وأعلن صلى الله عليه وسلم في السنة الرابعة أي وقيل مدة استخفائه صلى الله عليه وسلم أربع سنين وأعلن في الخامسة وقيل أقاموا في تلك الدار شهرا وهم تسعة وثلاثون وقد يقال الإقامة شهرا مخصوصة بالعدد المذكور فلا منافاة وإعلانه صلى الله عليه وسلم كان في الرابعة أو الخامسة بقوله تعالى { فاصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين } وبقوله تعالى { وأنذر عشيرتك الأقربين واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين } أي أظهر ما تؤمر به من الشرائع وادع إلى الله تعالى ولا تبال بالمشركين وخوف بالعقوبة عشيرتك الأقربين وهم بنو هاشم وبنو المطلب أي وبنو عبد شمس وبنو نوفل أولاد عبد المطلب بدليل ما يأتي قال بعضهم آية { فاصدع بما تؤمر } اشتملت على شرائط الرسالة وشرائعها وأحكامها وحلالها وحرامها
وقال بعضهم إنما أمر بالصدع لغلبة الرحمة عليه صلى الله عليه وسلم قال ذكر بعضهم أنه لما نزل عليه صلى الله عليه وسلم قوله تعالى { وأنذر عشيرتك الأقربين } اشتد ذلك على النبي صلى الله عليه وسلم وضاق به ذرعا أي عجز عن إحتماله فمكث شهرا أو نحوه جالسا في بيته حتى ظن عماته أن شاك أي مريض فدخلن عليه عائدات فقال صلى الله عليه وسلم ما اشتكيت شيئا لكن الله أمرني بقوله { وأنذر عشيرتك الأقربين } فأريد أن اجمع بني عبدالمطلب لأدعوهم إلى الله تعالى قلن فادعهم ولا تجعل عبدالعزى فيهم يعنين عمه أبا لهب فإنه غير مجيبك إلى ما تدعوه إليه وخرجن من عنده صلى الله عليه وسلم أي وكنى عبد العزى بأبي لهب لجمال وجهه ونضاره لونه كأنه وجهه وجبينه ووجنتيه لهب النار أي خلافا لما زعمه بعضهم أن ولده عقير الأسد أو ولد آخر غيره كان اسمه لهبا
قال وفي الإتقان ليس في القرآن من الكنى غير أبي لهب ولم يذكر اسمه وهو عبدالعزى أي الصنم لأنه حرام شرعا هذا كلامه وفيه أن الحرام وضع ذلك لا إستعماله
وفي كلام بعضهم ما يفيد أن الإستعمال حرام أيضا إلا أن يشتهر بذلك كما في الأوصاف المنقصة كالأعمش


وفي كلام القاضي وإنما كناه والكنية تكرمه أي بالعدول عن الإسم إليها لإشتهاره بكنيته ولأن اسمه عبدالعزى هو الصنم فاستكره ذكره ولأنه لما كان من أصحاب النار كانت الكنية أوفق بحاله في الآخرة فهي كنية تفيد الذم
فاندفع ما يقال هذا يخالف قولهم ولا يكنى كافر وفاسق ومبتدع إلا لخوف فتنة أو تعريف لأن ذلك خاص بالكنية التي تفيد المدح لا الذم ولم يشتهر بها صاحبها
قال فلما أصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث إلى بني عبدالمطلب فحضروا وكان فيهم أبو لهب فلما أخبرهم بما أنزل الله عليه أسمعه ما يكره قال تبا لك ألهذا جمعتنا أي وأخذ حجرا ليرميه به وقال له ما رأيت أحدا قط جاء بني أبيه وقومه بأشر ما جئتهم به فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يتكلم في ذلك المجلس انتهى
أي وفي الإمتاع أن أبا لهب ظن أنه صلى الله عليه وسلم يريد أن ينزع عما يكرهون إلى ما يحبون فقال له هؤلاء عمومتك وبنو عمومتك فتكلم بما تريد واترك الصبأة واعلم أنه ليس لقومك بالعرب طاقة وإن أحق من أخذك وحبسك أسرتك وبنوا أبيك إن أقمت على أمرك فهو أيسر عليك من أن تتب عليك بطون قريش وتمدها العرب فما رأيت يا ابن أخي أحدا قط جاء بني أبيه وقومه بشر ما جئتهم به وعند ذلك أنزل الله تعالى { تبت } أي خسرت وهلكت { يدا أبي لهب وتب } أي خسر وهلك بجملته أي والمراد بالأول جملته عبر عنها باليدين مجازا والمراد به الدعاء وبالثاني الخبر على حد قولهم أهلكه الله وقد هلك
أي ولما قال أبو لهب عند نزول { تبت يدا أبي لهب وتب } إن كان ما يقوله محمد حقا افتديت منه بمالي وولدي نزل { ما أغنى عنه ماله وما كسب } أي وأولاده لأن الولد من كسب أبيه أي وفي رواية وهي في الصحيحين أنه دعا قريشا فاجتمعوا فخص وعم فقال يا بني كعب بن لؤي أنقذوا أنفسكم من النار يا بني مرة بن كعب أنقذوا أنفسكم من النار أي وفيه أنه إنما أمر بالإنذار لعشريته الأقربين ثم قال صلى الله عليه وسلم يا بني هاشم أنقذوا أنفسكم من النار يا بني عبد شمس أنقذوا أنفسكم من النار يا بني عبد مناف أنقذوا أنفسكم من النار يا بني عبد زهرة أنقذوا أنفسكم من النار يا بني عبد المطلب أنقذوا أنفسكم من النار يافاطمة أنقذي نفسك من النار يا صفية عمة محمد أنقذي نفسك من النار فإني لا أملك لكم من الله شيئا وفي لفظ لا أملك لكم من الدنيا منفعة ولا من

الآخرة نصيبا إلا أن تقولوا لا إله إلا الله أي لا تبقوا على كفركم إتكالا على قرابتكم مني فهو حث لهم على صالح الأعمال وترك الإتكال غير أن لكم رحما سأبلها ببلالها أي أصلها بالدعاء أي والبلال بالفتح كقطام ما يبل الحلق من الماء أو اللبن وبل رحمه إذا وصلها وبلوا أرحامكم ندوها بالصلة وفي الحديث بلوا أرحامكم ولو بالسلام أي وصلوها أي وقد ذكر أئمتنا صابط الصلة
وفي تخصيصه صلى الله عليه وسلم فاطمة من بين بناته مع أنها أصغرهن وقيل أصغر بناته رقية وتخصيصه صلى الله عليه وسلم صفية من بين عماته حكمة لا تخفى ومن الغريب ما في الكشاف من زيادة يا عائشة بنت أبي بكر يا حفصة بنت عمر
عندي أن ذكر عائشة وحفصة بل وفاطمة هنا من خلط بعض الرواة وأن هذا ذكره صلى الله عليه وسلم بعد ذلك فذكره بعض الرواة هنا فإن المراد بالإنقاذ من النار الإتيان بالإسلام بدليل قوله صلى الله عليه وسلم إلى أن تقولوا لا إله إلا الله مع أنه تقدم أن بناته عليه الصلاة والسلام لم يكن كفارا فليتأمل
ثم مكث صلى الله عليه وسلم أياما ونزول عليه جبريل وأمره بإمضاء أمر الله تعالى فجمعهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ثانيا وخطبهم ثم قال لهم إن الرائد لا يكذب أهله والله لو كذبت الناس جميعا ما كذبتكم ولو غررت الناس جميعا ما غررتكم والله الذي لا إله إلا هو إني لرسول الله إليكم خاصة وإلى الناس كافة والله لتموتن كما تنامون ولتبعثن كما تستيقظون ولتحاسبن بما تعملون ولتجزون بالإحسان إحسانا وبالسوء سوءا وإنها لجنة أبدا أو لنار أبدا والله يابني عبدالمطلب ما أعلم شابا جاء قومه بأفضل مما جئتكم به إني قد جئتكم بأمر الدنيا والآخرة فتكلم القوم كلاما لينا غير أبي لهب فإنه قال يا بني عبدالمطلب هذه والله السوأة خذوا على يديه قبل أن يأخذ على يديه غيركم فإن أسلمتموه حينئذ ذللتم وإن منعتموه قتلتم فقالت له أخته صفية عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم رضي الله تعالى عنها أي أخي أيحسن بك خذلان ابن أخيك فوالله ما زال العلماء يخبرون أنه يخرج من ضئضئ أي أصل عبدالمطلب نبي فهو هو قال هذا والله الباطل والأماني وكلام النساء في الحجال إذا قامت بطون قريش وقامت معها العرب فما قوتنا بهم فوالله ما نحن عندهم إلا أكلة رأس فقال أبو طالب والله لنمنعنه ما بقينا ثم دعا النبي صلى الله عليه وسلم جميع قريش وهو قائم على الصفا وقال إن أخبرتكم

أن خيلا تخرج من سنح بالنون والحاء المهملة أي أصل وفي لفظ سفح بالفاء والحاء المهملة هذا الجبل تريد أن تغير عليكم أكنتم تكذبوني قالوا ما جربنا عليك كذبا فقال يا معشر قريش أنقذوا أنفسكم من النار فإني لا أغني عنكم من الله شيئا إني لكم نذير مبين بين يدي عذاب شديد أي وفي لفظ إنما مثلي ومثلكم كمثل رجل رأى العدو فانطلق يريد أهله فخشى أن يسبقوه إلى أهله فجعل يهتف يا صباحاه يا صباحاه أتيتم أتيتم
ومن أمثاله صلى الله عليه وسلم أنا النذير العريان أي الذي ظهر صدقه من قولهم عرى الأمر إذا ظهر وقولهم الحق عار أي ظاهر وقيل الذي جرده العدو فأقبل عريانا ينذر بالعدو وعن عبدالله بن عمر رضي الله تعالى عنهما أنه حفظ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ألف مثل
واختلفت الروايات في محل وقوفه ففي رواية وقف على الصفا كما تقدم وفي رواية وقف على أضمة من جبل فعلا أعلاها حجرا يهتف يا صباحاه فقالوا من هذا الذي يهتف قالوا محمد فاجتمعوا إليه فجعل الرجل إذا لم يستطع أن يخرج أرسل رسولا الحديث وفي رواية صاح على ابي قبيس يا آل عبد مناف إني نذير وروى أنه لما نزل قوله تعالى { وأنذر عشيرتك الأقربين } جمع بني عبدالمطلب في دار أبي طالب وهم أربعون وفي الإمتاع خمسة وأربعون رجلا وامرأتان فصنع لهم علي طعاما أي رجل شاة مع مد من البر وصاعا من لبن فقدمت فهم الجفنة وقال كلوا بسم الله فأكلوا حتى شبعوا وشربوا حتى نهلوا وفي رواية حتى رووا وفي رواية قال ادنوا عشرة عشرة فدنا القوم عشرة عشرة ثم تناول القعب الذي فيه اللبن فجزع منه ثم ناولهم وكان الرجل منهم يأكل الجذعة وفي رواية يشرب العس من الشراب في مقعد واحد فقهرهم ذلك فلما أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم يتكلم بدره أبولهب بالكلام فقال لقد سحركم صاحبكم سحرا عظيما وفي رواية محمد وفي رواية ما رأينا كالسحر اليوم فتفرقوا ولم يتكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما كان الغد قال يا علي عد لنا بمثل ما صنعت بالأمس من الطعام والشراب قال علي ففعلت ثم جمعتهم له صلى الله عليه وسلم فأكلوا حتى شبعوا وشربوا حتى نهلوا ثم قال لهم يا بني عبدالمطلب إن الله قد بعثني إلى الخلق كافة وبعثني إليكم خاصة فقال { وأنذر عشيرتك الأقربين } وأنا أدعوكم إلى كلمتين خفيفتين على اللسان ثقيلتين في الميزان شهادة أن لا إله

إلا الله وأني رسول الله فمن يجيبني إلى هذا الأمر ويوازرني أي يعاونني على القيام به قال علي أنا يا رسول الله وأنا أحدثهم سنا وسكت القوم زاد بعضهم في الرواية يكن أخي ووزيرا وورثى وخليفتي من بعدي فلم يجبه أحد منهم فقام علي وقال أنا يا رسول الله قال اجلس ثم أعاد القول على القوم ثانيا فصمتوا فقام علي وقال أنا يا رسول الله فقال اجلس ثم أعاد القول على القوم ثالثا فلم يجبه أحد منهم فقام علي فقال أنا يا رسول الله فقال اجلس فأنت أخي ووزيري ووصيى ووارثي وخليفتي من بعدي
قال الإمام أبو العباس بن تيمية أي في الزيادة المذكورة أنها كذب وحديث موضوع من له أدنى معرفة في الحديث يعلم ذلك وقد رواه أي الحديث مع زيادته المذكورة ابن جرير والبغوي بإسناد فيه أبو مريم الكوفي وهو مجمع على تركه وقال أحمد إنه ليس بثقة عامة أحاديثه بواطيل وقال ابن المديني كان يضع الحديث وفي رواية عن علي رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر خديجة فصنعت له طعاما ثم قال لي ادع لي بني عبدالمطلب فدعوت أربعين رجلا الحديث ولا مانع من تكرر فعل ذلك ويجوز أن يكون علي فعل ذلك عند خديجة وجاء به إلى بيت أبي طالب ولعل جمعهم هذا كان متأخرا عن جمعهم مع غيرهم المتقدم ذكره ويشهد له السياق فعل ذلك حرصا على إسلام أهل بيته فلما دعا قومه ولم يردوا عليه ولم يجيبوه أي وفي رواية صار كفار قريش غير منكرين لما يقول فكان صلى الله عليه وسلم إذ مر عليهم في مجالسهم يشيرون إليه إن غلام بني عبد المطلب ليكلم من السماء وكان ذلك دأبهم حتى عاب آلهتهم أي وسفه عقولهم وضلل آباءهم أي حتى أنه مر يوما وهم في المسجد الحرام يسجدون للأصنام فقال يا معشر قريش والله لقد خالفتم ملة أبيكم إبراهيم فقالوا إنما نعبد الأصنام حبا لله لتقربنا إلى الله فانزل الله تعالى { قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله } فتناكروه وأجمعوا خلافه وعداوته إلا من عصم الله منهم وجاءوا إلى أبي طالب وقالوا يا أبا طالب إن ابن أخيك قد سب آلهتنا وعاب ديننا وسفه أحلامنا أي عقولنا ينسبنا إلى قلة العقل وضلل آباءنا فإما أن تكفه عنا وإما أن تخلى بيننا وبينه فإنك على مثل ما نحن عليه من خلافه فقال لهم أبو طالب قولا رقيقا وردهم ردا جميلا فانصرفوا عنه ومضى رسول الله صلى الله عليه وسلم يظهر دين الله ويدعو إليه لا يرده عن ذلك شيء وإلى أشار صاحب الهمزية بقوله

** ثم قام النبي يدعو إلى الله ** وفي الكفر شدة وإباء ** ** أمما أشربت قلوبهم الكف ** ر فداء الضلال فيهم عياء **
أي ثم قام صلى الله عليه وسلم يدعو جماعتهم إلى الله تعالى بأن يقولوا لا إله إلا الله حسبما أمر فقدجاء أن جبريل تبدى له صلى الله عليه وسلم في أحسن صورة وأطيب رائحة وقال يا محمد إن الله يقرئك السلام ويقول لك أنت رسول الله إلى الجن والإنس فادعهم إلى قول لا إله إلا الله فدعاهم والحال أن في أهل الكفر قوة تامة وإمتناعا عن اتباعه اختلط الكفر بقلوبهم وتمكن فيها حبه حتى صارت لا تقبل غيره وبسبب ذلك صار داء الضلال أي داء هو الضلال فيهم عضال يعيى الأطباء مداواته وحصول شفائه ثم شرى الأمر أي الشين المعجمة وكسر الراء وفتح المثناة تحت كثر وتزايد وانتشر بينهم وبينه حتى تباعد الرجال وتضاغنوا أي أضمروا العداوة والحقد وأكثرت قريش ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم بينها وتذامروا عليه بالذال المعجمة وحض أي حث بعضهم بعضا على حربه وعداوته ومقاطعته ثم إنهم مشوا إلى أبي طالب مرة أخرى فقالوا يا أبا طالب إن لك سنا وشرفا ومنزلة فينا وإنا قد طلبنا منك أن تنهى ابن أخيك فلم تنهه عنا وإنا والله لا نصبر على هذا من شتم آبائنا وتسفيه أحلامنا أي عقولنا وعيب آلهتنا حتى تكفه عنا أو ننازله وإياك في ذلك حتى يهلك أحد الفريقين ثم أنصرفوا عنه فعظم على أبي طالب فراق قومه وعداوتهم ولم يطب نفسا بأن يخذل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له يا ابن أخي إن قومك قد جاءوني فقالوا لي كذا وكذا فأبق علي وعلى نفسك ولا تحملني من الأمر ما لا أطيق فظن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن عمه خاذله وأنه ضعف عن نصرته والقيام معه فقال له يا عم والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره الله تعالى أو أهلك فيه ما تركته ثم استعبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أي حصلت له العبرة التي هي دمع العين فبكى ثم قام فلما ولى ناداه أبو طالب فقال أقبل يا ابن أخي فأقبل عليه فقال اذهب يا ابن أخي فقل ما أحببت فوالله لا أسلمك وأنشد أبياتا منها ** والله لن يصلوا إليك بجمعهم ** حتى أوسد في التراب دفينا **
وحكمة تخصيص الشمس والقمر بالذكر وجعل الشمس في اليمين والقمر في اليسار لا تخفى لأن الشمس النير الأعظم واليمين أليق به والقمر النير الممحو واليسار أليق به

وخص النيرين حيث ضرب المثل بهما لأن الذي جاء به نور قال تعالى { يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم ويأبى الله إلا أن يتم نوره }
ومن غريب التعبير أن رجلا كان عاملا لسيدنا عمر رضي الله تعالى عنه فقال لسيدنا عمر إني رأيت في المنام كأن الشمس والقمر يقتتلان ومع كل واحد منهما نجوم فقال له عمر مع أيهما كنت قال مع القمر قال كنت مع الآية الممحوة اذهب فلا تعمل لي عملا فاتفق أن هذا الرجل كان مع معاوية يوم صفين وقتل ذلك اليوم
فلما عرفت قريش أن أبا طالب قد أبى خذلان رسول الله صلى الله عليه وسلم مشوا إليه بعمارة بن الوليد بن المغيرة فقالوا له يا أبا طالب هذا عمارة بن الوليد بن المغيرة أنهد أي أشد وأقوى فتى في قريش وأحمله فخذه لك ولدا أي بأن تتبناه وأسلم إلينا ابن أخيك هذا الذي خالف دينك ودين آبائك وفرق جماعة قومك وسفه أحلامهم فنقتله فإنما هو رجل كرجل فقال لهم أبو طالب والله لبئس ما تسومونني أتعطوني إبنكم أغذوه لكم وأعطيكم ابني تقتلونه هذا والله لا يكون أبدا أي وقال أرأيتم ناقة تحن إلى غير فصيلها قال المطعم بن عدي والله يا أبا طالب لقد أنصفك قومك وجهدوا على التخلص مماتكره فما أراك تريد أن تقبل منهم شيئا فقال له أبو طالب والله ما أنصفوني ولكن قد أجمعت أي قصدت خذلاني ومظاهرة القوم أي معاونتهم علي فاصنع ما بدالك أي وقد مات عمارة بن الوليد هذا على كفره بأرض الحبشة بعد أن سحر وتوحش وسار في البراري والقفار كما سيأتي ومات المطعم بن عدي المذكور على كفره أيضا فعند عدم قبول أبي طالب ما أرادوه اشتد الأمر
ولما رأى أبو طالب من قريش ما رأى دعا بني هاشم وبني عبدالمطلب إلى ما هو عليه من منع رسول الله صلى الله عليه وسلم والقيام دونه فأجابوه غلى ذلك غير أبي لهب فكان من المجاهرين بالظلم لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولكل من آمن به وتوالى الأذى من قريش على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى من أسلم معه
فما وقع لرسول الله صلى الله عليه وسلم من الأذية ما حدث به عمه العباس رضي الله تعالى عنه قال كنت يوما في المسجد فأقبل أبو جهل فقال لله علي إن رأيت محمد ساجدا أن أطأ عنقه فخرجت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته بقول أبي جهل فخرج غضبان حتى دخل المسجد فعجل أن يدخل من الباب فاقتحم من الحائط وقرأ { اقرأ باسم ربك الذي خلق خلق الإنسان من علق } حتى بلغ شأن أبي جهل كلا

{ إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى } إلى أن بلغ آخر السورة سجد فقال إنسان لأبي جهل يا أبا الحكم هذا محمد قد سجد فأقبل إليه ثم نكص راجعا فقيل له ذلك فقال أبو جهل ألا ترون ما أرى لقد سد أفق السماء علي وفي رواية رأيت بيني وبينه خندقا من نار وسيأتي أن قوله تعالى { أرأيت الذي ينهى عبدا إذا صلى } إلى آخر السورة نزل في أبي جهل
ومن ذلك ما حدث به بعضهم قال ذكر أن أبا جهل بن هشام قال يوما لقريش يا معشر قريش إن محمدا قد أتى إلى ما ترون من عيب دينكم وشتم آلهتكم وتسفيه أحلامكم وسب آبائكم إني أعاهد الله لأجلس له يعنى النبي صلى الله عليه وسلم غدا بحجر لا أطيق حمله فإذا سجد في صلاته رضخت به رأسه فأسلموني عند ذلك أو امنعوني فليصنع بي بعد ذلك بنو عبد مناف ما بدالهم قالوا والله لا نسلمك لشيء أبدا فامض لما تريد فلما أصبح أبو جهل أخذ حجرا كما وصف ثم جلس لرسول الله صلى الله عليه وسلم ينتظره وغدا رسول الله صلى الله عليه وسلم كما كان يغدو إلى الصلاة أي وكانت قبلته صلى الله عليه وسلم إلى الشام إلى صخرة بيت المقدس فكان يصلى بين الركن اليماني والحجر الأسود ويجعل الكعبة بينه وبين الشام على ما تقدم وقريش جلوس في أنديتهم وهم ينتظرون ما أبو جهل فاعل فلما سجد رسول الله صلى الله عليه وسلم احتمل أبو جهل الحجر ثم أقبل نحوه حتى إذا دنا منه رجع منهزما منتقعا لونه أي متغيرا بالصفرة مع الكدرة من الفزع وقد يبست يداه على حجره حتى قذفه من يده أي بعد أن عالجوا فكه من يده فلم يقدروا كما سيأتي وقامت إليه رجال من قريش وقالوا مالك يا أبا الحكم قال قمت إليه لأفعل ما قلت لكم البارحة فلما دنوت منه عرض لي فحل من الإبل والله ما رأيت مثله قط هم بي أن يأكلني فلما ذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم قال ذاك جبريل لودنا لأخذه وإلى ذلك يشير صاحب الهمزية بقوله ** وأبو جهل إذ رأى عنق الفح ** ل إليه كأنه العنقاء **
أي وأبو جهل الذي هو أشد الأعداء على رسول الله صلى الله عليه وسلم وقت أن هم أن يلقى الحجر عليه صلى الله عليه وسلم وهو ساجد أبصر عنق الفحل وقد برزت إليه كأنه الدهية العظيمة أي فرجع عن ذلك الرمى بذلك الحجر أي وفي رواية أن أبا جهل قال رأيت بيني وبينه كخندق من نار ولا مانع أن يكون وجد الأمرين معا


وذكر في سبب نزول قوله تعالى { إنا جعلنا في أعناقهم أغلالا فهي إلى الأذقان فهم مقمحون } أي إنا جعلنا أيديهم متصلة بأعناقهم واصلة إلى أذقانهم ملصقة بها رافعون رءوسهم لا يستطيعون خفضها من أقمح البعير رفع رأسه { وجعلنا من بين أيديهم سدا ومن خلفهم سدا فأغشيناهم فهم لا يبصرون } أن الآية الأولى نزلت في أبي جهل لما حمل الحجر ليرضخ به رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم ورفعه أثبتت يداه إلى عنقه ولزق الحجر بيده فلما عاد إلى أصحابه أخبرهم فلم يفكوا الحجر من يده إلا بعد تعب شديد والآية الثانية نزلت في آخر لما رأى ما وقع لأبي جهل قال أنا ألقى هذا الحجر عليه فذهب إليه صلى الله عليه وسلم فلما قرب منه عمى بصره فجعل يسمع صوته ولا يراه فرجع إليهم فأخبرهم بذلك
وعن الحكم بن أبي العاص أي ابن مروان بن الحكم أن ابنته قالت له ما رأيت قوما كانوا أسوأ رأيا وأعجز في أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم منكم يا بني أمية فقال لها لا تلومينا يا بنية إني لا أحدثك إلا ما رأيت لقد أجمعنا ليلة على اغتياله صلى الله عليه وسلم فلما رأيناه يصلى ليلا جئنا خلفه فسمعنا صوتا ظننا أنه ما بقى بتهامة جبل إلاتفتت علينا أي ظننا أنه يتفتت وأنه يقع علينا فما عقلنا حتى قضى صلاته صلى الله عليه وسلم ورجع إلى أهله ثم تواعدنا ليلة أخرى فلما جاء نهضنا إليه فرأينا الصفا والمروة التصقتا إحداهما على الأخرى فحالتا بيننا وبينه ويتأمل هذا لأن صلاته صلى الله عليه وسلم إنما تكون عند الكعبة وليست بين الصفا والمروة
وفي رواية كان صلى الله عليه وسلم يصلى فجاءه أبو جهل فقال ألم أنهك عن هذا فأنزل الله تعالى { أرأيت الذي ينهى عبدا إذا صلى } إلى آخر السورة
وفي رواية أنه صلى الله عليه وسلم لما انصرف من صلاته زأره أبو جهل أي انتهره وقال إنك لتعلم ما بها ناد أكثر مني فأنزل الله تعالى { فليدع ناديه سندع الزبانية } قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما لودعا ناديه لأخذته زبانية الله أي قال يوما ولقد لقى النبي صلى الله عليه وسلم فقال للنبي صلى الله عليه وسلم لقد علمت أني أمنع أهل البطحاء وأنا العزيز الكريم فأنزل الله تعالى فيه { ذق إنك أنت العزيز الكريم } كذا قاله الواحدي أي تقول له الزبانية عند إلقائه في النار ما ذكر توبيخا له
ومن ذلك ما حدث به بعضهم قال لما أنزل الله تعالى سورة { تبت يدا أبي لهب }

جاءت امرأة أبي لهب وهي أم جميل وإسمها العوراء وقيل اسمها أروى بنت حرب أخت أبي سفيان بن حرب ولها ولولة وفي يدها فهر أي بكسر الفاء وسكون الهاء حجر يملأ الكف فيه طول يدق به في الهاون إلى النبي صلى الله عليه وسلم ومعه أبو بكر رضي الله تعالى عنه فلما رآها قال يا رسول الله صلى الله عليه وسلم إنها امرأة بذية أي تأتي بالفحش من القول فلو قمت لتؤذيك فقال صلى الله عليه وسلم إنها لن تراني فجاءت فقالت يا أبا بكر صاحبك هجاني أي وفي لفظ ما شأن صاحبك ينشد في الشعر قال لا وما يقول الشعر أي ينشئه وفي لفظ لا ورب هذا البيت ماهجاك والله ما صاحبي بشاعر وما يدري ما الشعر أي لا يحسن إنشاءه قال له أنت عندي تصدق وانصرفت أي وهي تقول ما علمت قريش أني بنت سيدها أي تعني عبد مناف جد أبيها ومن كان عبد مناف أباه لا ينبغي لأحد أن يتجاسر على ذمه قلت يا رسول الله لم لم ترك قال لم يزل ملك يسترني بجناحه أي فقد جاء في رواية أنه صلى الله عليه وسلم قال لأبي بكر قل لها هل ترين عندي أحدا فسألها أبو بكر فقالت أتهزأ بي والله ما أرى عندك أحدا
أقول وفي الإمتاع أنها جاءت وهو صلى الله عليه وسلم في المسجد معه أبو بكر وعمر رضي الله تعالى عنهما وفي يدها فهر فلما وقفت على النبي صلى الله عليه وسلم أخذ الله على بصرها فلم تره ورأت أبا بكر وعمر فأقبلت على أبي بكر رضي الله تعالى عنه فقالت أين صاحبك قال وما تصنعين به قالت بلغني أنه هجاني والله لو وجدته لضربت بهذا الفهر فمه فقال عمر رضي الله تعالى عنه ويحك إنه ليس بشاعر فقالت إني لا أكلمك يابن الخطاب أي لما تعلمه من شدته ثم أقبلت على أبي بكر لما تعلمه من لينه وتواضعه فقالت والثواقب أي النجوم إنه لشاعر وإني لشاعرة أي فكما هجاني لأهجونه وانصرفت فقيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم إنها لن تراك فقال إنها لن تراني جعل بيني وبينها حجاب أي لأنه قرأ قرآنا اعتصم به كما قال تعالى { وإذا قرأت القرآن جعلنا بينك وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة حجابا مستورا } وفي رواية أقبلت ومعها فهران وهي تقول ** مذمما أبينا ** ودينه قلينا ** وأمره عصينا **
فقالت أين الذي هجاني وهجا زوجي والله لئن رأيته لأضربن أنثييه بهذين

الفهرين قال أبو بكر فقلت لها يا أم جميل والله ما هجاك ولا هجا زوجك قالت والله ما أنت بكذاب وإن الناس ليقولون ذلك ثم ولت ذاهبة فقلت يارسول الله إنها لم ترك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم حال بيني وبينها جبريل ولعل مجيئها قد تكرر فلا منافاة بين ما ذكر وكذا ما يأتي وكما يقال في الحمد محمد يقال في الذم مذمم لأنه لا يقال ذلك إلا لمن ذم مرة بعد أخرى كما أن محمدا لا يقال إلا لمن حمد مرة بعد أخرى كما تقدم وقد جاء أنه صلى الله عليه وسلم قال ألا تعجبون كيف يصرف الله تعالى عني شتم قريش ولعنهم يشتمون مذمما ويلعنون مذمما وأنا محمد
وفي الدر المنثور أنها أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو جالس في الملأ فقالت يا محمد علام تهجوني قال إني والله ما هجوتك ماهجاك إلا الله قالت رأيتني أحمل حطبا أو رأيت في جيدي حبلا من مسد وهذا مما يؤيد ماقاله بعض المفسرين أن الحطب عبارة عن النميمة يقال فلان يحطب على أي ينم لأنها كانت تمشي بين الناس بالنميمة وتغرى زوجها وغيره بعداوته صلى الله عليه وسلم وتبلغهم عنه أحاديث لتحثهم بها على عداوته صلى الله عليه وسلم وأن الحبل عبارة عن حبل من نار محكم
وعن عروة بن الزبير مسد النار سلسلة من حديد ذرعها سبعون ذراعا والله أعلم وإلى ذلك أشار صاحب الهمزية بقوله ** وأعدت حمالة الحطب الفهر وجاءت كأنها الورقاء ** ** ثم جاءت غضبى تقول أفى مثلي من أحمد يقال الهجاء ** ** وتولت وما رأته ومن أين ترى الشمس مقلة عمياء **
أي وهيأت حمالة الحطب الفهر ولقبت بذلك كانت تحتطب أي تجمع الحطب وتحمله لبخلها ودناءة نفسها أو كانت تحمل الشوك والحسك وتطرحه في طريقه صلى الله عليه وسلم ولا مانع من إجتماع الأوصاف الثلاثة لكن استفهامها يبعد الوصفين الأخيرين والفهر الحجر الذي يملأ الكف كما تقدم لتضرب به النبي صلى الله عليه وسلم والحال أنها جاءت في غاية السرعة والعجلة كأنها في شدة السرعة الحمامة الشديدة الإسراع حالة كونها غضبى من شدة ما سمعت من ذمها في سورة تبت يدا أبي لهب نقول أفي مثلي وأنا بنت سيد بني عبد شمس يقال الهجاء والسب حالة كونه من أحمد وتولت والحال أنها ما رأته وكيف ترى الشمس عين عمياء


أقول في ينبوع الحياة أنها لما بلغها سورة { تبت يدا أبي لهب } جاءت إلى أخيها أبي سفيان في بيته وهي مضطرمة أي منحرقة غضبى فقالت له ويحك يا أحمس أي يا شجاع أما تغضب أن هجاني محمد فقال سأكفيك إياه ثم أخذ سيفه وخرج ثم عاد سريعا فقالت هل قتلته فقال لها يا أخية أيسرك أن رأس أخيك في فم ثعبان قالت لا والله قال فقد كان ذلك يكون الساعة أي فإنه رأى ثعبانا لو قرب منه صلى الله عليه وسلم لالتقم رأسه
ولما نزلت هذه السورة التي هي { تبت يدا أبي لهب } قال أبو لهب لأبنه عتبة أي بالتكبير رضي الله تعالى عنه فإنه أسلم يوم الفتح كما سيأتي رأسي من رأسك حرام إن لم تفارق ابنة محمد يعني رقية رضي الله تعالى عنها فإنه كان تزوجها ولم يدخل بها ففارقها ووقع في كلام بعضهم طلقها لما أسلم فليتأمل
وكان أخوه عتبة بالتصغير متزوجا ابنته صلى الله عليه وسلم أم كلثوم ولم يدخل بها فقال أي وقد أراد الذهاب إلى الشام لآتين محمدا فلأوذينه في ربه فأتاه فقال يا محمد هو كافر بالنجم أي وفي لفظ برب النجم إذا هوى وبالذي دنا فتدلى ثم بصق في وجه النبي صلى الله عليه وسلم ورد عليه ابنته وطلقها فقال النبي صلى الله عليه وسلم اللهم سلط وفي رواية الله ابعث عليه كلبا من كلابك وكان أبو طالب حاضرا فوجم لها أبو طالب وقال ما كان أغناك يا ابن أخي عن هذه الدعوة فرجع عتيبة إلى أبيه أبي لهب فأخبره بذلك ثم خرج هو وأبوه إلى الشام في جماعة فنزلوا منزلا فأشرف عليهم راهب من دير فقال لهم إن هذه الأرض مسبعة فقال أبو لهب لأصحابه إنكم قد عرفتم نسبي وحقي فقالوا أجل يا أبا لهب فقال أعينونا يا معشر قريش هذه الليلة فإني أخاف على ابني دعوة محمد فأجمعوا متاعكم إلى هذه الصومعة ثم افرشوا لإبني عليه ثم افرشوا حوله ففعلوا ثم جمعوا جمالهم وأناخوها حولهم وأحدقوا بعتيبة فجاء الأسد يتشمم وجوههم حتى ضرب عتيبة فقتله وفي رواية فضخ رأسه وفي رواية ثنى ذنبه ووثب وضربه بذنبه ضربة واحدة فخدشه فمات مكانه وفي رواية فضغمه ضغمة فكانت إياها فقال وهو بآخر رمق ألم أقل لكم إن محمدا أصدق الناس لهجة ومات فقال أبوه قد عرفت والله ما كان ليفلت من دعوة محمد أقول وحلفه بالنجم إلى آخره يدل على ذلك كان بعد الإسراء والمعراج


ووقع مثل ذلك لجعفر الصادق قيل له هذا فلان ينشد الناس هجاءكم يعني أهل البيت بالكوفة فقال لذلك القائل هل علقت من قوله بشيء قال نعم قال فأنشد ** صلبنا كمو زيدا على رأس نخلة ** ولم أر مهديا على الجذع يصلب ** ** وقستم بعثمان عليا سفاهة ** وعثمان خير من علي وأطيب **
فعند ذلك رفع جعفر يديه وقال اللهم إن كان كاذبا فسلط عليه كلبا من كلابك فخرج ذلك الرجل فافترسه الأسد وإنما سمي الأسد كلبا لأنه يشبه الكلب في أنه إذا بال رفع رجله ومن ثم قيل إن كلب أهل الكهف كان أسدا وقيل كان رجلا منهم جلس عند الباب طليعة لهم فسمى باسم الكلب لملازمته للحراسة ووصف ببسط الذراعين لأن ذلك من صفة الكلب الذي هو الحيوان
وقد جاء أنه ليس في الجنة من الحيوان إلا كلب أهل الكهف وحمار العزير وناقة صالح والله أعلم
ومما وقع لرسول الله صلى الله عليه وسلم من الأذية ما حدث به عبدالله بن مسعود رضي الله تعالى عنه قال كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد وهو يصلى وقد نحر جزور وبقى فرثه أي روثه في كرشه فقال أبو جهل ألا رجل يقوم إلى هذا القذر يلقيه على محمد أي وفي رواية قال قائل ألا تنظرون إلى هذا المرائى أيكم يقوم إلى جزور بني فلان فيعمد إلى فرثها ودمها وسلاها فيجئ به ثم يمهله حتى إذا سجد وضعه بين كتفيه وفي رواية أيكم يأخذ سلى جزور بني فلان لجزور ذبحت من يومين أو ثلاثة فيضعه بين كتفيه إذا سجد فقام شخص من المشركين وفي لفظ أشقى القوم وهو عقبة بن أبي معيط وجاء بذلك الفرث فألقاه على النبي صلى الله عليه وسلم وهو ساجد أي فاستضحكوا وجعل بعضهم يميل على بعض أي من شدة الضحك قال ابن مسعود فهبنا أي خفنا أن نلقيه عنه صلى الله عليه وسلم وفي لفظ وأنا قائم أنظر لو كانت لي منعة لطرحته عن ظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى جاءت فاطمة رضي الله تعالى عنها أي بعد أن ذهب إليها إنسان وأخبرها بذلك واستمر صلى الله عليه وسلم ساجدا حتى ألقته عنه واستمراره في الصلاة عند فقهائنا لعدم علمه بنجاسة ما ألقى عليه ولما ألقته عنه أقبلت عليهم تشتمهم فقام النبي صلى الله عليه وسلم

فسمعته يقول وهو قائم يصلى اللهم اشدد وطأتك أي عقابك الشديد على مضر سنين كسنى يوسف اللهم عليك بأبي الحكم بن هشام يعني أبا جهل وعتبة بن ربيعة وعقبة ابن أبي معيط وأمية بن خلف زاد بعضهم وشيبة بن أبي ربيعة والوليد بن عبتة بالمثناة فوق لا بالقاف كما وقع في رواية مسلم
فقد اتفق العلماء على أنه غلط لأنه لم يكن ذلك الوقت موجودا أو كان صغيرا جدا وعمارة بن الوليد أي وهو المتقدم ذكره الذي أرادوا أن يجعلوه عوضا عنه صلى الله عليه وسلم
أقول والذي في المواهب فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال اللهم عليك بقريش ثم سمى اللهم عليك بعمرو بن هشام إلى آخر ماتقدم ذكره وفي الإمتاع فلما قضى النبي صلى الله عليه وسلم صلاته رفع يديه ثم دعا عليهم وكان إذا دعا دعا ثلاثا ثم قال اللهم عليك بقريش اللهم عليك بقريش اللهم عليك بقريش فلما سمعوا صوته ذهب منهم الضحك وهابوا دعوته ثم قال اللهم عليك بأبي جهل بن هشام الحديث وإن ابن مسعود قال والله لقد رأيتهم وفي رواية رأيت الذي سمى رسول الله صلى الله عليه وسلم صرعى يوم بدر ثم سحبوا إلى القليب قليب بدر
واعترض بأن عمارة بن الوليد مات بالحبشة كافرا كما تقدم ويأتي وبأن عقبة بن أبي معيط لم يقتل ببدر وإنما أخذ أسيرا منها وقتل بعرق الظبية كما سيأتي وبأن أمية بن خلف لم يطرح بالقليب وأجيب بأن قول ابن مسعود رأيتهم أي رأيت أكثرهم
وقد يقال لا مانع أن يكون صلى الله عليه وسلم أتى بهذا الدعاء وهو قائم يصلى وبعد الفراغ من الصلاة فلا منافاة والله أعلم
والمراد بسنى يوسف بتخفيف الياء ويروى سنين بإثبات النون مع الإضافة القحط والجدب أي فاستجاب الله دعاءه فأصابتهم سنة أكلوا فيها الجيف والجلود والعظام والعلهز وهو الوبر والدم أي يخلط الدم بأوبار الإبل ويشوى على النار وصار الواحد منهم يرى ما بينه وبين السماء كالدخان من الجوع وجاءه صلى الله عليه وسلم جمع من المشركين فيهم أبو سفيان قالوا يا محمد إنك تزعم أنك بعثت رحمة وإن قومك قد هلكوا فادع الله لهم فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم فسقوا الغيث فاطبقت عليهم سبعا فشكا الناس كثرة المطر فقال اللهم حوالينا ولا علينا فانحدرت السحابة


وجاء أنهم قالوا { ربنا اكشف عنا العذاب إنا مؤمنون } أي لا نعود لما كنا عليه فلما كشف عنهم ذلك عادوا أي وفيه أن هذا إنما كان بعد الهجرة فسيأتي أنه صلى الله عليه وسلم مكث شهرا إذا رفع رأسه من ركوع الركعة الثانية من صلاة الفجر بعد قوله سمع الله لمن حمده يقول اللهم أنج الوليد بن الوليد وسلمة بن هشام وعياش بن أبي ربيعة والمستضعفين من المؤمنين بمكة اللهم اشدد وطأتك على مضر اللهم اجعلها عليهم سنين كسنى يوسف وربما فعل ذلك بعد رفعه من الركعة الأخيرة من صلاة العشاء وسيأتي ما فيه
وقد يقال لا مانع أن يكون حصل لهم ذلك قبل الهجرة وبعد الهجرة مرة أخرى سيأتي الكلام عليها
ثم رأيت في الخصائص الكبرى ما يوافق ذلك حيث قال قال البيهقي قد روى في قصة أبي سفيان ما دل على أن ذلك كان بعد الهجرة ولعله كان مرتين أي وسيأتي في السرايا أن ثمامة لما منع عن قريش الميره أن تأتي من اليمن حصل لهم مثل ذلك وكتبوا في ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم
وفي البخاري لما استعصمت قريش على النبي صلى الله عليه وسلم دعا عليهم بسنين كسنى يوسف فبقيت السماء سبع سنين لا تمطر وفي رواية فيه أيضا لما أبطئوا على النبي صلى الله عليه وسلم بالإسلام قال اللهم اكفنيهم بسبع كسبع يوسف فأصابتهم سنة حصت كل شيء الحديث وفي رواية اللهم أعنى عليهم بسبع كسبع يوسف فأصابهم قحط وجهد حتى أكلوا العظام فجعل الرجل ينظر إلى السماء فيرى ما بينه وبينها كهيئة الدخان من الجهد فأنزل الله تعالى { فارتقب يوم تأتي السماء بدخان مبين يغشى الناس هذا عذاب أليم } فأتى أبو سفيان رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله استسق لمضر فإنها قد هلكت فاستسقى صلى الله عليه وسلم فسقوا فلما أصابتهم الرفاهية عادوا إلى حالهم فأنزل الله { يوم نبطش البطشة الكبرى إنا منتقمون } يعني يوم بدر
ومن ذلك ما حدث به عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يطوف بالبيت ويده في يد أبي بكر وفي الحجر ثلاثة نفر جلوس عقبة ابن أبي معيط وأبو جهل بن هشام وأمية بن خلف فمر رسول الله صلى الله عليه وسلم

عليه فلما حاذاهم اسمعوه بعض ما يكره فعرف ذلك في وجه النبي صلى الله عليه وسلم فدنوت منه حتى وسطته أي جعلته وسطا فكان صلى الله عليه وسلم بين وبين أبي بكر وأدخل أصابعه في أصابعي وطفنا جميعا فلما حاذاهم قال أبو جهل والله لا نصالحك ما بل بحر صوفة وأنت تنهى أن نعبد ما كان يعبد آباؤنا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا ذلك ثم مشى عنهم فصنعوا به في الشوط الثالث مثل ذلك حتى إذا كان الشوط الرابع ناهضوه أي قاموا له صلى الله عليه وسلم ووثب أبو جهل يريد أن يأخذ بمجامع ثوبه صلى الله عليه وسلم فدفعت في صدره فوقع على أسته ودفع أبو بكر أمية بن خلف ودفع رسول الله صلى الله عليه وسلم عقبة بن أبي معيط ثم انفرجوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو واقف ثم قال أما والله لا تنتهون حتى يحل بكم عقابه أي ينزل عليكم عاجلا قال عثمان فوالله ما منهم رجل إلا وقد أخذته الرعدة فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول بئس القوم أنتم لنبيكم ثم انصرف إلى بيته وتبعناه حتى انتهى إلى باب بيته ثم أقبل علينا بوجهه فقال أبشروا فإن الله عز وجل مظهر دينه ومتمم كلمته وناصر نبيه إن هؤلاء الذين ترون مما يذبح الله على أيديكم عاجلا ثم انصرفنا إلى بيوتنا فوالله لقد ذبحهم الله بأيدينا يوم بدر
أقول ولا يخالف ذلك كون عقبة بن أبي معيط حمل أسيرا من بدر وقتل بعرق الظبية صبرا وهم راجعون من بدر ولا كون عثمان بن عفان لم يحضر بدرا والله أعلم
وفي رواية أن عقبة بن أبي معيط وطئ على رقبته صلى الله عليه وسلم الشريفة وهو ساجد حتى كادت عيناه تبرزان
أي وفي رواية دخل عقبة بن أبي معيط الحجر فوجده صلى الله عليه وسلم يصلي فيه فوضع ثوبه على عنقه صلى الله عليه وسلم وخنقه خنقا شديدا فأقبل أبو بكر رضي الله تعالى عنه حتى أخذ بمنكبه ودفعه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال { أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله وقد جاءكم بالبينات من ربكم }
أي وفي البخاري عن عروة بن الزبير رضي الله تعالى عنهما قال قلت لعبدالله بن عمرو بن العاص أخبرني بأشد ما صنع المشركون برسول الله صلى الله عليه وسلم قال بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بفناء الكعبة إذ أقبل عقبة بن أبي معيط فأخذ

بمنكب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولوى ثوبه في عنقه فخنقه خنقا شديدا فأقبل أبو بكر رضي الله تعالى عنه فأخذ بمنكبيه ودفع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الحديث ولعل أشدية ذلك باعتبار ما بلغ عبدالله بن عمرو رضي الله تعالى عنهما أو ما رآه
وعنه رضي الله تعالى عنه قال ما رأيت قريشا أصابت من عداوة أحد ما أصابت من عداوة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولقد حضرتهم يوما وقد اجتمع ساداتهم وكبراؤهم في الحجر فذكروا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا ما صبرنا لأمر كصبرنا لأمر هذا الرجل قط ولقد سفه أحلامنا وشتم آباءنا وعاب ديننا وفرق جماعتنا وسب آلهتنا لقد صبرنا منه على أمر عظيم فبينما هم كذلك إذ طلع عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فأقبل يمشي حتى استلم الركن ثم مر طائفا بالبيت فلما مر بهم لمزوه ببعض القول فعرفنا ذلك من وجهه ثم مر بهم الثانية فلمزوه بمثلها فعرفنا ذلك من وجهه ثم مر بهم الثالثة فلمزوه فوقف عليهم وقال أتسمعون يا معشر قريش أما والذي نفس محمد بيده لقد جئتكم بالذبح فارتعبوا لكلمته صلى الله عليه وسلم تلك وما بقى رجل منهم إلا كأنما على رأسه طائرا واقع فصاروا يقولون يا أبا القاسم انصرف فوالله ما كنت جهولا فانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما كان الغد اجتمعوا في الحجر وأما معهم فقال بعضهم لبعض ذكرتم ما بلغ منكم وما بلغكم عنه حتى إذا ناداكم بما تكرهون تركتموه فبينما هم كذلك إذ طلع عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فتواثبوا إليه وثبة رجل واحد وأحاطوا به وهم يقولون أنت الذي تقول كذا وكذا يعني عيب آلهتم ودينهم فقال نعم أنا الذي أقول ذلك فأخذ رجل منهم بمجمع ردائه عليه الصلاة والسلام فقام أبو بكر دونه وهو يبكى ويقول { أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله } فأطلقه الرجل ووقعت الهيبة في قلوبهم فانصرفوا عنه فذلك أشد ما رأيتهم نالوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم
وفي رواية ألست تقول في آلهتنا كذا وكذا قال بلى فتشبثوا به بأجمعهم فأتى الصريخ إلى أبي بكر فقيل له أدرك صاحبك فخرج أبو بكر حتى دخل المسجد فوجد رسول الله صلى الله عليه وسلم والناس مجتمعون عليه فقال ويلكم { أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله وقد جاءكم بالبينات من ربكم } فكفوا عن رسول الله صلى الله عليه

وسلم وأقبلوا على أبي بكر يضربونه قالت بنته أسماء فرجع إلينا فجعل لا يمس شيئا من غدائره إلا أجابه وهو يقول تباركت يا ذا الجلال والإكرام
وجاء أنهم جذبوا رأسه صلى الله عليه وسلم ولحيته حتى سقط أكثر شعره فقام أبو بكر دونه وهو يقول أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله أي وهو يبكى فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم دعهم يا أبا بكر فوالذي نفسي بيده إني بعثت إليهم بالذبح ففرجوا عنه صلى الله عليه وسلم
وعن فاطمة رضي الله تعالى عنها قالت اجتمعت مشركو قريش في الحجر فقالوا إذا مر محمد فليضربه كل واحد منا ضربة فسمعت فدخلت على أبي فذكرت ذلك له أي قالت له وهي تبكي تركت الملأ من قريش قد تعاقدوا في الحجر فحلفوا باللات والعزى ومناة وإساف ونائلة إذا هم رأوك يقومون إليك فيضربونك بأسيافهم فيقتلونك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم يا بنية اسكتي وفي لفظ لا تبكي ثم خرج صلى الله عليه وسلم أي بعد أن توضأ فدخل عليهم المسجد فرفعوا رءوسهم ثم نكسوا فاخذ قبضة من تراب فرمى بها نحوهم ثم قال شاهت الوجوه فما أصاب رجلا منهم إلا قتل ببدر أي وكان بجواره صلى الله عليه وسلم جماعة منهم أبو لهب والحكم بن أبي العاص ابن أمية والد مروان وعقبة بن أبي معيط فكانوا يطرحون عليه صلى الله عليه وسلم الأذى فإذا طرحوه عليه أخذه وخرج به ووقف على بابه ويقول يا بني عبد مناف أي جوار هذا ثم يلقيه في الطريق ولم يسلم ممن ذكر إلى الحكم وكان في إسلامه شيء وتقدم أنه صلى الله عليه وسلم نفاه إلى وج الطائف وأنه سيأتي السبب في نفيه وأشار صاحب الهمزية إلى أن هذه الأذية له صلى الله عليه وسلم لا يظن ظان أنها منقصة له صلى الله عليه وسلم بل هي رفعة له ودليل على فخامة قدره وعلو مرتبته وعظيم رفعته ومكانته عند ربه لكثرة صبره وحلمه وإحتماله مع علمه باستجابة دعائه ونفوذ كلمته عند الله تعالى وقد قال صلى الله عليه وسلم أشد الناس بلاء الأنبياء وذلك سنة من سنن النبيين السابقين عليهم الصلاة والسلام بقوله ** لا تخل جانب النبي مضاما ** حين مسته منهم الأسواء ** ** كل أمر ناب النبيين فالشدة ** فيه محمودة والرخاء ** ** لو يسمى النضار هو من النا ** ر لما اختير للنضار الصلاء **


أي لا تظن أن النبي صلى الله عليه وسلم حصل له الضيم وقت مسته الأذيات حالة كونها صادرة منهم لأن كل أمر من الأمور العظيمة أصاب النبيين فالشدة التي تحصل لهم منه محمودة لأنه لرفع الدرجات والضيقة التي تحصل لهم أيضا محمودة لأنه لو كان يمس الذهب هوان من إدخاله النار لما أختير له العرض على النار فالأنبياء عليهم الصلاة والسلام كالذهب والشدائد التي تصيبهم كالنار التي يعرض عليها الذهب فإن ذلك لا يزيد الذهب إلا حسنا فكذلك الشدائد لا تزيد الأنبياء إلا رفعة
قال ومما وقع لأبي بكر رضي الله تعالى عنه من الأذية ما ذكره بعضهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما دخل دار الأرقم ليعبدالله تعالى ومن معه من أصحابه فيها سرا أي كما تقدم وكانوا ثمانية وثلاثين رجلا ألح أبو بكر رضي الله تعالى عنه على رسول الله صلى الله عليه وسلم في الظهور أي الخروج إلى المسجد فقال يا أبا بكر إنا قليل فلم يزل به حتى خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن معه من أصحابه إلى المسجد وقام أبوبكر في الناس خطيبا ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس ودعا إلى الله ورسوله فهو أول خطيب دعا إلى الله تعالى وثار المشركون على أبي بكر وعلى المسلمين يضربونهم فضربوهم ضربا شديدا ووطئ أبو بكر بالأرجل وضرب ضربا شديدا وصار عتبة بن ربيعة يضرب أبا بكر بنعلين مخصوفتين أي مطبقتين ويحرفهما إلى وجهه حتى صار لا يعرف أنفه من وجهه فجاءت بنو تيم يتعادون فأجلت المشركين عن أبي بكر وحملوه في ثوب إلى أن أدخلوه منزله ولا يشكون في موته أي ثم رجعوا فدخلوا المسجد فقالوا والله لئن مات أبو بكر لنقتلن عتبة ثم رجعوا إلى أبي بكر وصار والده أبو قحافة وبنو تيم يكلمونه فلا يجيب حتى إذا كان آخر النهار تكلم وقال ما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم فعذلوه فصار يكرر ذلك فقالت أمه والله مالي علم بصاحبك فقال اذهبي إلى أم جميل بنت الخطاب أخت عمر ابن الخطاب أي فإنها كانت أسلمت رضي الله تعالى عنها كما تقدم وهي تخفى إسلامها فأساليها عنه فخرجت إليها وقالت لها إن أبا بكر يسأل عن محمد بن عبدالله صلى الله عليه وسلم فقال لا أعرف محمدا ولا أبا بكر ثم قالت لها تريدين أن أخرج معك قالت نعم فخرجت معها إلى أن جاءت أبا بكر رضي الله تعالى عنه فوجدته صريعا فصاحت وقالت إن قوما نالوا هذا منك لأهل فسق وإني لأرجو أن ينتقم الله

منهم فقال لها أبو بكر ما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت له هذه أمك تسمع قال فلا عين عليك منها ألا أنها لا تفشي سرك قالت سالم فقال أين هو فقال في دار الأرقم فقال والله لا أذوق طعاما ولا أشرب شرابا أو آتى رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت أمه فأمهلناه حتى إذا هدأت الرجل وسكن الناس فخرجنا به يتكئ علي حتى دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فرق له رقة شديدة وأكب عليه يقبله وأكب عليه المسلمون كذلك فقال بأبي وأمي أنت يا رسول الله ما بي من بأس إلا ما نال الناس من وجهي وهذه أمي برة بولدها فعسى الله أن ينقذها بك من النار فدعا لها رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعاها إلى الإسلام فأسلمت انتهى
هذا وذكر الزمخشري في كتابه خصائص العشرة أن هذه الواقعة خصلت لأبي بكر لما أسلم وأخبر قريشا بإسلامه فليتأمل فإن تعدد الواقعة بعيد
ومما وقع لإبن مسعود رضي الله تعالى عنه من الأذية أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم اجتمعوا يوما فقال والله ما سمعت قريش القرآن جهرا إلا من رسول الله صلى الله عليه وسلم فمن فيكم يسمعهم القرآن جهرا فقال عبدالله بن مسعود رضي الله تعالى عنه أنا فقالوا نخشى عليك منهم إنما نريد رجلا له عشيرة يمنعونه من القوم فقال دعوني فإن الله سيمنعني منهم ثم إنه قام عند المقام وقت الشمس وقريش في أنديتهم فقال { بسم الله الرحمن الرحيم } رافعا صوته { الرحمن علم القرآن } واستمر فيها فتأملته قريش وقالوا ما بال ابن أم عبد فقال بعضهم يتلو بعض ما جاء به محمد ثم قاموا إليه يضربون وجهه وهو مستمر في قراءته حتى قرأ غالب السورة ثم انصرف إلى أصحابه وقد أدمت قريش وجهه فقال له أصحابه هذا الذي خشينا عليك منه فقال والله ما رأيت أعداء الله أهون على مثل اليوم ولو شئتم لأتيتهم بمثلها غدا قالوا لا قد أسمعتهم ما يكرهون
ومما وقع له صلى الله عليه وسلم من الأذية أنه كان إذا قرأ القرآن تقف له جماعة من يمينه وجماعة من يساره ويصفقون ويصفرون ويخلطون عليه بالأشعار لأنهم تواصوا { وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه } حتى كان من أراد منهم سماع القرآن أتى خفية واسترق السمع خوفا منهم


ومما وقع له صلى الله عليه وسلم من الأذية ما كان سببا لإسلام عمه حمزة رضي الله تعالى عنه وهو ما حدث به ابن إسحاق قال حدثني به رجل من أسلم أن أبا جهل مر برسول الله صلى الله عليه وسلم عند الصفا أي وقيل عند الحجون فآذاه وشتمه ونال منه ما يكرهه أي وقيل إنه صب التراب على رأسه أي وقيل ألقى عليه فرثا ووطئ برجله على عاتقه فلم يكلمه رسول الله صلى الله عليه وسلم ومولاة لعبدالله بن جدعان في سكن لها تسمع ذلك وتبصره ثم انصرف أبو جهل إلى نادي قريش أي محل تحدثهم في المسجد فجلس معهم فلم يلبث حمزة أن أقبل متوشحا بسيفه راجعا من قنصه أي من صيده وكان من عادته إذا رجع من قنصه لا يدخل إلى أهله إلا بعد أن يطوف بالبيت فمر على تلك المولاة فأخبرته الخبر أي فقالت له يا أبا عمارة لو رأيت ما لقى ابن أخيك محمد صلى الله عليه وسلم آنفا من أبي الحكم بن هشام تعني أبا جهل وجده ههنا جالسا فآذاه وسبه وبلغ منه ما يكره ثم انصرف عنه ولم يكلمه محمد صلى الله عليه وسلم أي وقيل الذي أخبرته مولاة أخته صفية بنت عبدالمطلب قالت له إنه صب التراب على رأسه وألقى عليه فرثا ووطئ برجله على عاتقه وعلى إلقاء الفرث عليه اقتصر أبو حيان في النهر فقال لها حمزة أنت رأيت هذا الذي تقولين قالت نعم
وفي رواية فلما رجع من صيده إذا امرأتان تمشيان خلفه فقالت إحداهما لو علم ما صنع أبو جهل بابن أخيه أقصر عن مشيته فالتفت إليهما فقال ماذاك قالت أبو جهل فعل بمحمد كذا وكذا ولا مانع من تعدد الأخبار من المرأتين والمولاتين فاحتمل حمزة الغضب ودخل المسجد فرأى أبا جهل جالسا في القوم فأقبل نحوه حتى قام على رأسه رفع القوس وضربه فشجه شجة منكرة ثم قال أتشتمه فأنا على دينه أقول ما يقول فرد على ذلك إن استطعت
أي وفي لفظ أن حمزة لما قام على رأس أبي جهل بالقوس صار أبو جهل يتضرع إليه ويقول سفه عقولنا وسب آلهتنا وخالف آباءنا قال ومن أسفه منكم تعبدون الحجارة من دون الله أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله فقامت رجال من بني مخزوم أي من عشيرة أبي جهل إلى حمزة لينصروا أبا جهل فقالوا ما نراك إلا قد صبأت فقال حمزة وما يمنعني وقد استبان لي منه أنا أشهد أنه رسول الله

وأن الذي يقوله حق والله لا أنزع فامنعوني إن كنت صادقين فقال لهم أبو جهل دعوا أبا عمارة أي ويكنى أيضا بأبي يعلى اسم ولد له أيضا فإني والله لقد أسمعت ابن أخيه شيئا قبيحا وتم حمزة على إسلامه أي استمر أي بعد أن وسوس له الشيطان فقال لنفسه لما رجع إلى بيته أنت سيد قريش اتبعت هذا الصابي وتركت دين آبائك الموت خير لك مما صنعت ثم قال اللهم إن كان رشدا فاجعل تصديقه في قلبي وإلا فاجعل لي مما وقعت فيه مخرجا فبات بليلة ثم لم يبت بمثلها من وسوسة الشيطان حتى أصبح فغذا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال ياابن أخي إن قد وقعت في أمر لا أعرف المخرج منه وإقامة مثلي على ما لا أدري أرشد هو أم غي شديد فأقبل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكره ووعظه وخوفه وبشره فألقى الله تعالى في قلبه الإيمان بما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أشهد أنك لصادق فأظهر يابن أخي دينك
وقد قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما إن هذه الواقعة سبب لنزول قوله تعالى { أو من كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس } يعني حمزة { كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها } يعنى أبا جهل وسر رسول الله صلى الله عليه وسلم بإسلام حمزة سرورا كبيرأ لأنه كان أعز فتى في قريش واشدهم شكيمة أي أعظمهم في عزة النفس وشهامتها ومن ثم لما عرفت قريش أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد عز كفوا عن بعض ما كانوا ينالون منه صلى الله عليه وسلم وأقبلوا على بعض أصحابه بالأذية سيما المستضعفين منهم الذين لا جوار لهم أي لا ناصر لهم فإن كل قبيلة غدت على من أسلم منها تعذبه وتفتنه عن دينه بالحبس والضرب والجوع والعطش وغير ذلك أي حتى إن الواحد منهم ما يقدر أن يستوي جالسا من شدة الضرب الذي به وكان أبو جهل يحرضهم على ذلك وكان إذا سمع بأن رجلا أسلم وله شرف ومنعة جاء إليه ووبخه وقال له ليغلبن رأيك وليضعفن شرفك وإن كان تاجرا قال والله لتكسدن تجارتك ويهلك مالك وإن كان ضعيفا أغرى به حتى أن منهم من فتن عن دينه ورجع إلى الشرك كالحارث بن ربيعة بن الأسود وأبي قيس بن الوليد بن المغيرة وعلى بن أمية بن خلف والعاص بن منبه بن الحجاج وكل هؤلاء قتلوا على كفرهم يوم بدر
وممن فتن عن دينه وثبت عليه ولم يرجع للكفر بلال رضي الله تعالى عنه وكان مملوكا

لأمية بن خلف فعن بعضهم أن بلالا كان يجعل في عنقه حبل يدفع إلى الصبيان يلعبون به ويطوفون به في شعاب مكة وهو يقول أحد أحد بالرفع والتنوين أو بغير تنوين أي الله أحد أو يا أحد فهو إشارة لعدم الإشراك وقد أثر الحبل ف عنقه
وعن ابن إسحاق أن أمية بن خلف كان يخرج بلالا إذا حميت الظهيرة بعد أن يجيعه ويعطشه يوما وليلة فيطرحه على ظهره في الرمضاء أي الرمل إذا اشتدت حرارته لو وضعت عليه قطعة لحم لنضجت ثم يأمر بالصخرة العظيمة فتوصع على صدره ثم يقول له لا تزال هكذا حتى تموت أو تكفر بمحمد وتعبد اللات والعزى فيقول أحد أحد أي أنا لا أشرك بالله شيئا أنا كافر باللات والعزى
أي وقيل كان بلال مولدا من مولدي مكة وكان لعبدالله بن جدعان التيمي وكان من جملة مائة مملوك مولدة له فلما بعث الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم أمر بهم فأخرجوا من مكة أي خوف إسلامهم فأخرجوا إلا بلالا فإنه كان يرعى غنمه فأسلم بلال وكتم إسلامه فسلح بلال يوما على الأصنام التي حول الكعبة
ويقال إنه صار يبصق عليها ويقول خاب وخسر من عبدكن فشعرت به قريش فشكوه إلى عبدالله وقالوا له أصبوت قال ومثلي يقال له هذا فقالوا له إن أسودك صنع كذا وكذا فأعطاهم مائة من الإبل ينحرونها للأصنام ومكنهم من تعذيب بلال فكانوا يعذبونه بما تقدم أي ويجوز أن يكون ابن جدعان بعد ذلك ملكه لأمية بن خلف فلا يخالفه ما تقدم من أن أمية بن خلف كان يتولى تعذيبه وما يأتي من أن أبا بكر رضي الله عنه اشتراه منه ويقال إنه صلى الله عليه وسلم مر عليه وهو يعذب فقال سينجيك أحد أحد
أي وقيل مر عليه ورقة بن نوفل وهو يقول أحد أحد فقال نعم أحد أحد والله يا بلال ثم أتى إلى أمية وقال له والله لئن قتلتموه على هذا لأتخذنه حنانا أي لأتخذن قبره منسكا ومسترحما لأنه من أهل الجنة وتقدم أن هذا يدل على أن ورقة أدرك البعثة التي هي الرسالة وتقدم ما فيه فكان بلال بقوله أحد أحد يمزج مرارة العذاب بحلاوة الإيمان
وقد وقع له رضي الله تعالى عنه أنه لما احتضر وسمع امرأته تقول واحزناه صار يقول واطرباه غدا ألقى الأحبة محمدا وحزبه فكان بلال يمزج مرارة الموت بحلاوة اللقاء وقد ذكر بعضهم أن هذا قاله أبو موسى الأشعري ومن معه لما وفدوا عليه صلى الله

عليه وسلم وهو في خيبر أي صاروا يقولون غدا نلقى الأحبة محمد وحزبه
ومر به أبو بكر رضي الله تعالى عنه يوما وهو ملقى على ظهره في الرمضاء وعلى ظهره تلك الصخرة فقال لأمية بن خلف ألا تتقي الله تعالى في هذا المسكين حتى متى تعذبه قال أنت أفسدته فأنقذه مما ترى قال أبو بكر عندي غلام أسود أجلد منه وأقوى أي على دينك أعطيكه به قال قبلت قال هو لك فأعطاه أبو بكر غلامه ذلك وأخذ بلالا فأعتقه
وفي تفسير البغوي قال سعيد بن المسيب بلغني أن أمية بن خلف قال لأبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه في بلال حين قال أتبيعنيه قال نعم أبيعه بقسطاس يعني عبدا لأبي بكر رضي الله تعالى عنه كان صاحب عشرة آلاف دينار وغلمان وجوار ومواش وكان مشركا يأبى الإسلام فاشتراه أبو بكر به هذا كلامه
وفي الإمتاع لما ساوم أبو بكر أمية بن خلف في بلال قال أمية لأصحابه لألعبن بأبي بكر لعبة ما لعبها أحد بأحد ثم تضاحك وقال له أعطني عبدك قسطاس فقال أبو بكر إن فعلت تفعل قال نعم قال قد فعلت فتضاحك وقال لا والله حتى تعطيني معه امرأته قال إن فعلت تفعل قال نعم قال قد فعلت ذلك فتضاحك وقال لا والله حتى تعطيني ابنته مع امرأته قال إن فعلت تفعل قال نعم قال قد فعلت ذلك فتضاحك وقال لا والله حتى تزيدني معه مائتي دينار فقال أبو بكر رضي الله عنه أنت رجل لا تستحي من الكذب قال لا واللات والعزى لأن أعطيتني لأفعلن فقال هي لك فأخذه هذا كلامه
وقيل اشتراه بتسع وقيل بخمس أواق أي ذهبا أي وقيل ببردة وعشرة أواق من فضة وفي رواية برطل من ذهب
ويروى أن سيده قال لأبي بكر لو أبيت إلا أوقية أي لو قلت لا أشتريه إلا بأوقية لبعناكه فقال لو طلبت مائة أوقية لأخذته بها
ولما قال المشركون إنما أعتق أبو بكر بلالا ليد كانت له عنده ليكافئه بها انزل الله تعالى { والليل إذا يغشى } السورة فالأتقى أبو بكر رضي الله تعالى عنه والأشقى أمية بن خلف
قال الإمام فخر الدين أجمع المفسرون هنا على أن المراد بالأتقى أبو بكر وذهب

الشيعة إلى أن المراد به علي رضي الله تعالى عنه وكرم وجهه ويرده وصف الأتقى بقوله تعالى { وما لأحد عنده من نعمة تجزى } لأن هذا الوصف لا يصدق على علي رضي الله تعالى عنه لأنه كان في تربية النبي صلى الله عليه وسلم أي كما تقدم فكان صلى الله عليه وسلم منعما عليه نعمة يجب عليه جزاؤها أي نعمة دنيوية لأنها التي يجازى عليها بخلاف أبي بكر فإنه لم يكن له صلى الله عليه وسلم نعمة دنيوية وإنما كان له نعمة الهداية وهي نعمة لا يجازي عليها قال الله تعالى { قل لا أسألكم عليه أجرا } فتعين حمل الآية على أبي بكر رضي الله تعالى عنه فيلزم من ذلك أن يكون أبو بكر بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وبقية الأنبياء عليهم الصلاة والسلام أفضل الخلق لأن الله تعالى يقول { إن أكرمكم عند الله أتقاكم } والأكرم هوالأفضل وبين ذلك الفخر الرازي بأن الأمة مجمعة على أن أفضل الخلق بعد النبي صلى الله عليه وسلم إما أبو بكر وإما على فلا يمكن حمل الآية على علي لما تقدم فتعين حملها على أبي بكر
وذكر بعض أهل المعاني أي المبينين لمعاني القرآن كالزجاج والفراء والأخفش أن الراد بالأشقى والأتقى الشقي والتقي فأوقع أفعل التفضيل موضع فعيل فهو عام في أمية ابن خلف وأبي بكر وغيرهما وإن كان السبب خاصا والذي بخل واستغنى المراد به أبوسفيان لأنه كان عاتب أبا بكر في إنعامه وإعتاقه وقال له أضعت مالك والله لا تصيبه أبدا وقيل المراد به أمية بن خلف
ولما بلغ النبي صلى الله عليه وسلم أن أبا بكر اشترى بلالا قال له الشركة يا أبا بكر فقال قد أعتقته يا رسول الله أي لأن بلالا قال لأبي بكر حين اشتراه إن كنت اشتريتني لنفسك فأمسكني وإن كنت إنما اشتريتني لله عز وجل فدعني لله فأعتقه
هذا وذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم لقى أبا بكر رضي الله تعالى عنه فقال لو كان عندنا مال اشتريت بلالا فانطلق العباس رضي الله تعالى عنه فاشتراه فبعث به إلى أبي بكر أي ملكه له فاعتقه فليتأمل الجمع بين هذا وماتقدم
وقد اشترى أبو بكر رضي الله تعالى عنه جماعة آخرين ممن كان يعذب في الله منهم حمامة أم بلال ومنهم عامر بن فهيرة فإنه كان يعذب في الله تعالى حتى لا يدرى ما يقول وكان لرجل من بني تيم من ذوي قرابة أبي بكر رضي الله تعالى عنه ومنهم أبو فكيهة كان عبدا لصفوان بن أمية أسلم حين أسلم بلال فمر به أبوبكر رضي الله تعالى عنه وقد

أخذه أمية أبو صفوان وأخرجه نصف النهار في شدة الحر مقيدا إلى الرمضاء فوضع على بطنه صخرة فخرج لسانه وأخو أمية يقول له زده عذابا حتى يأتي محمد فيخلصه بسحره فاشتراه أبو بكر رضي الله تعالى عنه ومنهم امرأة وهي زنيرة بزاي فنون مشددة مكسورتين فمثناة تحتية ساكنة وهي في اللغة الحصاة الصغيرة عذبت في الله تعالى حتى عميت قال لها يوما أب جهل إن اللات والعزى فعلا بك ما ترين فقالت له كلا والله لا تملك اللات والعزى نفعا ولا ضرا هذا أمر من السماء وربي قادر على أن يرد علي بصري فأصبحت تلك الليلة وقد رد الله تعالى عليها بصرها فقالت قريش إن هذا من سحر محمد صلى الله عليه وسلم فاشتراها أبو بكر رضي الله تعالى عنه وأعتقها أي وكذا ابنتها
وفي السيرة الشامية أم عنيس بالنون أو الباء الموحدة فمثناة تحتية فسين مهملة أمة لبني زهرة كان الأسود بن عبد يغوث يعذبها ولم يصفها بأنها بنت زنيرة فاشتراها أبو بكر رضي الله تعالى عنه وأعتقها وكذا النهدية وابنتها وكانتا للوليد بن المغيرة وكذا امرأة يقال لها لطيفة وكذا أخت عامر بن فهيرة أو أمه كانت لعمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه قبل أن يسلم
فقد جاء أن أبا بكر رضي الله تعالى عنه مر على عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه وهو يعذب جارية أسلمت استمر يضربها حتى مل قبل أن يسلم ثم قال لها إني أعتذر إليك فإني لم أتركك حتى مليت فقالت له كذلك يعذبك ربك إن لم تسلم فاشتراها منه وأعتقها
وفي السيرة الشامية وصفها بأنها جارية بني المؤمل بن حبيب وكان يقال لها لبينة فجملة هؤلاء تسعة
وممن فتن عن دينه فثبت عليه خباب بن الأرت بالمثناة فوق فإنه سبى في الجاهلية فاشترته أم أنمار أي وكان قينا أي حدادا وكان صلى الله عليه وسلم يألفه ويأتيه فلما أسلم وأخبرت بذلك مولاته صارت تأخذ الحديدية وقد أحمتها بالنار فتضعها على رأسه فشكا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال اللهم انصر خبابا فاشتكت مولاته رأسها فكانت تعوي مع الكلاب فقيل لها اكتوي فكان خباب يأخذ الحديدة وقد أحماها فيكوي رأسها


وفي البخاري عن خباب قال أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو متوسد برده في ظل الكعبة ولقد لقينا معاشر المسلمين من المشركين شدة شديدة فقلت يا رسول الله ألا تدعو الله لنا فقعد صلى الله عليه وسلم محمرا وجهه فقال إنه كان من قبلكم ليمشط أحدهم بأمشاط الحديد ما دون عظمه من لحم وعصب ما يصرفه ذلك عن دينه ويوضع المنشار على فرق رأس أحدهم فيشق ما يصرفه ذلك عن دينه وليظهرن الله تعالى هذاالأمر حتى يصير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه
قال وعن خباب رضي الله تعالى عنه أنه حكى عن نفسه قال لقد رأيتني يوما وقد أوقدوا لي نارا ووضعوها على ظهري فما أطفأها إلا ودك ظهري أي دهنه
وممن فتن عن دينه فثبت عمار بن ياسر رضي الله تعالى عنه كان يعذب بالنار وفي كلام ابن الجوزي كان صلى الله عليه وسلم يمر به وهو يعذب بالنار فيمر يده على رأسه ويقول يانار كونى بردا وسلاما على عمار كما كنت على إبراهيم هذا كلامه
ثم إن عمارا كشف عن ظهره فإذا هو قد برص أي صار أثر النار أبيض كالبرص ولعل حصول ذلك كان قبل دعائه صلى الله عليه وسلم بأن النار تكون بردا وسلاما عليه وعن أم هانئ رضي الله تعالى عنها أن عمار بن ياسر وأباه ياسر وأخاه عبدالله وسمية أم عمار رضي الله تعالى عنهم كانوا يعذبون في الله تعالى فمر بهم النبي صلى الله عليه وسلم صبرا آل ياسر صبرا آل ياسر فإن موعدكم الجنة أي وفي رواية صبرا يا آل ياسر اللهم اغفر لآل ياسر وقد فعلت فمات يا سر في العذاب وأعطيت سمية لأبي جهل أي أعطاها له عمه أبو حذيفة بن المغيرة فإنها كانت مولاته فطعنها في قلبها فماتت أي بعد أن قال لها إن آمنت بمحمد صلى الله عليه وسلم إلا لأنك عشقتيه لجماله ثم طعنها بالحربة في قبلها حتى قتلها فهي أو شهيدة في الإسلام اه
أي وعن بعضهم كان أبو جهل يعذب عمار بن ياسر وأمه ويجعل لعمار درعا من حديد في اليوم الصائف فنزل قوله تعالى { أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون }
وجاء أن عمار بن ياسر قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم لقد بلغ منا العذاب

كل مبلغ فقال له النبي صلى الله عليه وسلم صبرا أبا اليقظان ثم قال اللهم لا تعذب أحدا من آل عمار بالنار
قال بعضهم وحضر عمار بدرا ولم يحضرها من أبواه مؤمناه إلا هو أي من المهاجرين فلا ينافى أن بشر بن البراء بن معرور الأنصاري حضر بدرا وأبواه مؤمنان
ومما أوذى به أبو بكر الصديق رضي الله تعالى عنه ما روى عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت لما ابتلى المسلمون بأذى المشركين أي وحصروا بني هاشم والمطلب في شعب أبي طالب وأذن صلى الله عليه وسلم لأصحابه في الهجرة إلى الحبشة وهي الهجرة الثانية خرج أبو بكر رضي الله تعالى عنه مهاجرا نحو أرض الحبشة حتى إذا بلغ برك الغماد بالغين المعجمة موضع بأقاصي هجر وقيل موضع وراء مكة بخمسة أميال أي وفي رواية حتى إذا سار يوما أو يومين لقيه ابن الدغنة بفتح الدال وكسر الغين المعجمة وتخفيف النون وهو سيد القارة اي وهو اسمه الحارث والقارة قبيلة مشهورة كان يضرب بهم المثل في قوة الرمى ومن ثم قيل لهم رماة الحدق لا سيما ابن الدغنة والقارة أكمة سوداء نزلوا عندها فسموا بها قال له أي تريد يا أبا بكر قال أبو بكر أخرجني قومي فأريد أن أسيح في الأرض فأعبد ربي قال ابن الدغنة فإن ملثلك يا أبا بكر قال ابو بكر أخرجني قومي فأريد أن أسيح في الأرض فأعبد ربي قال ابن الدغنة فإن مثلك يا أبا بكر لا يخرج إنك تكسب المعدوم وتصل الرحم وتحمل الكل وتقرى الضيف وتعين على نوائب الحق وأنا لك جار فارجع فاعبد ربك ببلدك فرجع مع ابن الدغنة فطاف ابن الدغنة في أشراف قريش وقال لهم إن ابا بكر لا يخرج مثله أتخرجون رجلا يكسب المعدوم 6 ويصل الرحم ويحمل الكل ويقرى الضيف ويعين على نوائب الحق وهو في جواري فلم تكذب قريش بجوار ابن الدغنة أي لم يرد جواره وقالوا لإبن الدغنة مر أبا بكر فليعبد ربه في داره فليصل فيها وليقرأ ما شاء ولا يؤذنا بذلك ولا يستعلن به فإنا نخشى أن يفتن نساءنا وأبناءنا فقال ابن الدغنة ذلك لأبي بكر رضي الله تعالى عنه فمكث ايو بكر يعبد ربه في داره ولا يستعلن بصلاته ولا يقرأ في غير داره ثم ابتنى مسجدا بفناء داره فكان يصلى فيه ويقرأ القرآن وكان رجلا بكاء لا يملك عينيه إذا قرأ القرآن فكانت نساء قريش يزدحمن عليه فأفزع ذلك كثيرا من أشراف قريش أي مع المشركين فأرسلوا إلى ابن الدغنة فقدم عليهم فقالوا إنا اجرنا أبابكر بجوارك على أن يعبد ربه في داره فقد جاوز ذلك فابتنى مسجدا بفناء داره فأعلن بالصلاة

والقراءة وإنا قد خشينا أن يفتن نساؤنا وأبناءنا بهذا فإن أحب أن يقتصر على عبادة ربه في داره فعل وإن رأى أن يعلن بذلك فاسأله أن يرد إليك ذمتك فأنا قد كرهنا أن نخفرك أي نزل خفارتك أي ننقض جوارك ونبطل عهدك فأتى ابن الدغنة إلى أبي بكر فقال قد علمت الذي قد عاقدت لك عليه فإما أن تقتصر على ذلك وإما أن ترجع إلى ذمتي فإني لا أحب أن تسمع العرب أني أخفرت أي أزيلت خفارتي في رجل عقدت له فقال له أبو بكر فإني أرد عليك جوارك وأرضى بجوار الله تعالى قال ولما رد جوار ابن الدغنة لقيه بعض سفهاء قريش وهو عابر إلى الكعبة فحثى على رأسه ترابا فمر عليه بعض كبراء قريش من المشركين فقال له أبو بكر رضي الله تعالى عنه ألا ترى ما صنع هذا السفيه فقال له أنت فعلت بنفسك فصارأبو بكر يقول رب ما أحلمك قال ذلك ثلاثا انتهى
أي وفي كلام بعضهم وينبغي لك أن تتأمل فيما وصف به ابن الدعنة أبا بكر بين أشراف قريش بتلك الأوصاف الجليلة المساوية لما وصفت به خديجة النبي صلى الله عليه وسلم ولم يطعنوا فيها مع ما هم متلبسون به من عظيم بغضه ومعاداته بسبب اسلامه فإن هذا منهم اعتراف أي اعتراف بإن أبا بكر كان مشهورا بينهم بتلك الأوصاف شهرة تامة بحيث لا يمكن أحد أن ينازع فيها ولا أن يجحد شيئا منها وإلا لبادوا إلى جحدها بكل طريق أمكنهم لما تحلوا به من قبيح العداوة له بسبب ما كانوا يرون منه من صدق موالاته لرسول الله صلى الله عليه وسلم وعظيم محبته له
ومما يؤثر عنه رضي الله عنه صنائع المعروف تقي مصارع السوء ثلاث من كن فيه كن عليه البغي والنكث والمكر
باب عرض قريش عليه صلى الله عليه وسلم أشياء من خوارق العادات وغير العادات ليكف عنهم لما رأوا المسلمين يزيدون ويكثرون وسؤالهم له أشياء من خوارق العادات معينات وغير معينات وبعثهم إلى أحبار يهود المدينة يسألونهم عن صفة النبي صلى الله عليه وسلم وعما جاء به ومن حديث الزبيدي وحديث المستهزئين به صلى الله عليه وسلم ومن حديثهم حديث الأراشي ومن قصد أذيته صلى الله عليه وسلم فرد خائبا
حدث محمد بن كعب القرظي قال حدثت أن عتبة بن ربيعة وكان سيدا مطاعا في قريش قال يوما وهو جالس في نادي قريش أي متحدثهم والنبي صلى الله عليه وسلم جالس في المسجد وحده يا معشر قريش ألا أقوم لمحمد صلى الله عليه وسلم وأكلمه وأعرض عليه أمور لعله يقبل بعضها فنعطيه إياها ويكف عنا قالوا يا أبا الوليد فقم إليه فكلمه قال وفي رواية أخرى أن نفرا من قريش اجتمعوا وفي أخرى أشراف قريش من كل قبيلة اجتمعوا وقالوا ابعثوا إلى محمد حتى تعذروا فيه فقالوا انظروا أعلمكم بالسحر والكهانة والشعر فليأت هذا الرجل الذي فرق جماعتنا وشتت أمرنا وعاب ديننا فليكلمه ولينظر ماذا يريد فقالوا لا نعلم أحدا غير عتبة بن ربيعة انتهى
فقام عتبة حتى جلس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا ابن أخي إنك منا حيث قد علمت من السطة في العشيرة والمكان في النسب أي من الوسط أي الخيار حسبا ونسبا وإنك قد أتيت قومك بأمر عظيم فرقت به جماعتهم وسفهت به أحلامهم وعبت به آلهتهم ودينهم وكفرت به من مضى من آبائهم قال زاد بعضهم أنه قال أيضا أنت خير أم عبدالله أنت خير أم عبدالمطلب أي فسكت إن كنت تزعم أن هؤلاء خير منك فقد عبدوا الآلهة التي عبدت وإن كنت تزعم أنك خير منهم فقل يسمع لقولك لقد أفضحتنا في العرب حتى طار فيهم أن في قريش ساحرا وأن في قريش كاهنا

ما تريد إلا أن يقوم بعضنا لبعض بالسيوف حتى نتفانى انتهى فاسمع مني أعرض عليك أمورا تنظر فيها لعلك تقبل منها بعضها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم قل يا أبا الوليد أسمع فقال يا ابن أخي إن كنت إنما تريد بما جئت به من هذا الأمر مالا جمعنا من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالا وإن كنت تريد شرفا سودناك علينا حتى لا نقطع أمرا دونك وإن كنت تريد ملكا ملكناك علينا أي فيصير لك الأمر والنهى فهو أخص ما قبله وإن كان هذا الذي يأتيك رئيا من الجن تراه لا تستطيع رده عن نفسك طلبنا لك الطب وبذلنا فيه أموالنا حتى نبرئك منه فإنه ربما غلب التابع على الرجل حتى يداوى حتى إذا فرغ عتبة ورسول الله صلى الله عليه وسلم يسمع منه قال لقد فرغت يا أبا الوليد قال نعم قال فاسمع مني قال أفعل قال { بسم الله الرحمن الرحيم حم تنزيل من الرحمن الرحيم كتاب فصلت آياته قرآنا عربيا لقوم يعلمون بشيرا ونذيرا فأعرض أكثرهم فهم لا يسمعون } ثم مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها فقرأها عليه وقد أنصت عتبة لها وألقى يديه خلف ظهره معتمدا عليهما يسمع منه ثم انتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى قوله تعالى { فإن أعرضوا فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود } فأمسك عتبة على فيه صلى الله عليه وسلم وناشده الرحم أن يكف عن ذلك ثم انتهى إلى السجدة فيها فسجد ثم قال قد سمعت يا أبا الوليد ما سمعت فأنت وذاك فقام عتبة إلى أصحابه فقال بعضهم لبعض يحلف لقد جاءكم أبو الوليد بغير الوجه الذي ذهب به فلما جلس إليهم قالوا ما وراءك يا أبا الوليد قال ورائي أني سمعت قولا والله ما سمعت مثله قط والله ما هو بالشعر ولا بالسحر ولا بالكهانة يا معشر قريش أطيعوني فاجعلوها لي خلوا بين هذا الرجل وبين ما هو فيه فاعتزلوه فوالله ليكونن لقوله الذي سمعت منه نبأ فإن تصبه العرب فقد كفيتموه بغيركم وإن يظهر على العرب فملكه ملككم وعزه عزكم وكنتم أسعد الناس به قالوا سحرك والله يا أبا الوليد بلسانه قال هذا رأيى فيه فاصنعوا ما بدالكم قال وفي رواية أن عتبة لما قام من عند النبي صلى الله عليه وسلم أبعد عنهم ولم يعد عليهم فقال أبو جهل والله يا معشر قريش ما نرى عتبة إلا قد صبأ إلى محمد صلى الله عليه وسلم وأعجبه كلامه فانطلقوا بنا إليه فأتوه فقال أبو جهل والله يا عتبة ما جئناك إلا أنك قد صبوت إلى محمد صلى الله عليه وسلم وأعجبك أمره فقص عليهم القصة فقال والله الذي

تصبها بنية يعني الكعبة ما فهمت شيئا مما قال غير أنه أنذركم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود فأمسكت بفيه فأنشدته الرحم أن يكف وقد علمت أن محمدا صلى الله عليه وسلم إذا قال شيئا لم يكذب فخفت أن ينزل عليكم العذاب فقالوا له ويلك يكلمك الرجل بالعربية لا تدري ماقال قال والله ما سمعت مثله والله ما هو بالشعر إلى آخر ماتقدم فقالوا والله سحرك يا أبا الوليد قال هذا رأيي فيكم فاصنعوا ما بدا لكم اه
وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن قريشا أي أشرافهم وشيختهم منهم الأسود بن زمعة والوليد بن المغيرة وأمية بن خلف والعاص بن وائل وعتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة وأبو سفيان والنضر بن الحارث وأبو جهل
وفي الينبوع أتى الوليد بن المغيرة في أربعين رجلا من الملأ أي من السادات منزل أبي طالب وسألوه أن يحضر لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ويأمره بإشكائهم ما يشكون منه أي أن يزيل شكواهم منه ويجيبهم إلى أمر فيه الألفة والإصلاح فأحضره وقال يا بن أخي هؤلاء الملأ من قومك فأشكهم وتألفهم فعاتبوا النبي صلى الله عليه وسلم على تسفيه أحلامهم وأحلام آبائهم وعيب آلهتهم الحديث أي قالوا له يا محمد إنا بعثنا إليك لنكلمك فإنا والله لا نعلم رجلا من العرب أدخل على قومه ما أدخلت على قومك لقد شتمت الآباء وعيبت الدين وسببت الآلهة وسفهت الأحلام وفرقت الجماعة ولم يبق أمر قبيح إلا أتيته فيما بيننا وبينك فإن كنت إنما جئت بهذا الحديث تطلب به مالا جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالا وإن كنت إنما تطلب الشرف فينا فنحن نسودك ونشرفك علينا وإن كان هذا الذي يأتيك تابعا من الجن قد غلب عليك بذلنا أموالنا في طبك
وفي رواية أنهم لما اجتمعوا ودعوه صلى الله عليه وسلم فجاءهم مسرعا طمعا في هدايتهم حتى جلس إليهم وعرضوا عليه الأموال والشرف والملك فقال صلى الله عليه وسلم ما جئت بما جئتكم به أطلب أموالكم ولا الشرف فيكم ولا الملك عليكم ولكن الله بعثني إليكم رسولا وأنزل علي كتابا وأمرني أن أكون لكم بشيرا ونذيرا فبلغتكم رسالات ربي ونصحت لكم وأن تقبلوا مني ما جئتكم به فهو حظكم في الدنيا والآخرة وإن تردوه علي أصبر لأمر الله تعالى حتى يحكم الله بيني وبينكم
وفي رواية أخرى عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما دعت قريش النبي صلى الله

عليه وسلم إلى أن يعطوه مالا فيكون به أغنى رجل بمكة ويزوجوه ما أراد من النساء ويكف عن شتم آلهتهم ولا يذكرها بسوء فقد ذكر أن عتبة بن ربيعة قال له إن كان أن ما بك الباءة فاختر أي نساء قريش فنزوجك عشرا وقالوا له ارجع إلى ديننا واعبد آلهتنا واترك ما أنت عليه ونحن نتكفل لك بكل ما تحتاج إليه في دنياك وآخرتك وقالوا له إن لم تفعل فإنا نعرض عليك خصلة واحدة ولك فيها صلاح قال وماهي قال تعبد آلهتنا اللات والعزى سنة ونعبد إلهك سنة فنشترك نحن وأنت في الأمر فإن كان الذي تعبده خيرا مما نعبد كنت أخذت منه بحظك وإن كان الذي نعبد خيرا مما تعبد كما قد أخذنا منه بحظنا فقال لهم حتى أنظر ما يأتي من ربي فجاء الوحي بقوله تعالى { قل يا أيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون ولا أنتم عابدون ما أعبد ولا أنا عابد ما عبدتم } السورة
وعن جعفر الصادق أن المشركين قالوا له اعبد معنا آلهتنا يوما نعبد معك إلهك عشرة واعبد معنا آلهتنا شهرا نعبد معك إلهك سنة فنزلت اي لا أعبد ما تعبدون يوما ولا أنتم عابدون ما أعبد شهرا ولا أنا عابد ما عبدتم شهرا ولا أنتم عابدون ما أعبد سنة روى ذلك التقدير جعفر ردا على بعض الزنادقة حيث قالوا له طعنا في القرآن لو قال امرؤ القيس ** قفا نبك من ذكري حبيب منزل ** وكرر ذلك أربع مرات في نسق أما كان عيبا فكيف وقع في القرآن { قل يا أيها الكافرون } السورة وهي مثل ذلك وقوله { لكم دينكم ولي دين } نسخ بآية القتال وبقوله تعالى { أفغير الله تأمروني أعبد أيها الجاهلون } { بل الله فاعبد وكن من الشاكرين } ولما قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الله أنزل لما كرهتموه القرآن قالوا أئت بقرآن غير هذا فأنزل الله تعالى { ولو تقول علينا } الآيات
وقد يقال المناسب للرد عليهم قوله تعالى { قل ما يكون لي أن أبدله من تلقاء نفسي } الآية ثم رأيت في الكشاف ما يوافق ذلك وهو لما غاظهم ما في القرآن من ذم عبادة الأصنام والوعيد الشديد قالوا ائت بقرآن آخر ليس فيه ما يغيظنا من ذلك نتبعك أو بدله بأن تجعل مكان آية عذاب رحمة وتسقط ذكر الآلهة وذم عبادتها نزل قوله تعالى { قل ما يكون لي أن أبدله } الآية
قال وجلس أي صلى الله عليه وسلم مجلسا فيه ناس من وجوه قريش منهم أبو جهل

ابن هشام وعتبة بن ربيعة أي وشيبة بن ربيعة وأمية بن خلف والوليد بن المغيرة فقال لهم أليس حسنا ما جئت به فيقولون بلى والله وفي لفظ هل ترون بما أقول بأسا فيقولون لا فجاء عبدالله بن أم مكتوم وهو ابن خال خديجة أم المؤمنين وهوممن أسلم بمكة قديما والنبي صلى الله عليه وسلم مشتغل بأولئك القوم وقد رأى منهم مؤانسة وطمع في إسلامهم فصار يقول يا رسول الله علمني مما علمك الله وأكثر عليه فشق عليه صلى الله عليه وسلم ذلك فأعرض عن ابن أم مكتوم ولم يكلمه انتهى
أي وفي رواية أشار صلى الله عليه وسلم إلى قائد ابن أم مكتوم بأن يكفه عنه حتى يفرغ من كلامه فكفه القائد فدفعه ابن أم مكتوم فعبس صلى الله عليه وسلم وأعرض عنه مقبلا على من كان يكلمه فعاتبه الله تعالى في ذلك بقوله { عبس وتولى أن جاءه الأعمى وما يدريك } السورة أي والمجئ مع الأعمى ينشأ عن مزيد من الرغبة وتجشم الكلفة والمشقة في المجئ ومن كان هذا شأنه فحقه الإقبال عليه لا الإعراض عنه فكان بعد ذلك إذا جاءه يقول مرحبا بمن عاتبني فيه ربي ويبسط له رداءه قال وبهذا يسقط ما للقاضي أبي بكر ابن العربي هنا انتهى
أقول لعل الذي له هو ما ذكره تلميذه السهيلي وهو أن ابن أم مكتوم لم يكن أسلم حينئذ وإلا لم يسمعه بالإسم المشتق من العمر دون الإسم المشتق من الإيمان لو كان دخل في الإيمان قبل ذلك وإنما دخل فيه بعد نزول الآية ويدل على ذلك قوله للنبي صلى الله عليه وسلم استدنني يا محمد وليم يقل استدنني يا رسول الله ولعل في قوله تعالى { لعله يزكى } ما يعطى الترجى والإنتظار ولو كان إيمانه قد تقدم قبل هذا لخرج عن حد الترجي والإنتظار للتزكي هذا كلامه
وعن الشعبي قال دخل رجل على عائشة رضي الله تعالى عنها وعندها ابن أم مكتوم وهي تقطع له الأترج وتجعله في العسل وتطعمه فقيل لها في ذلك فقالت ما زال هذا له من آل محمد منذ عاتب الله عز وجل فيه نبيه صلى الله عليه وسلم والله أعلم
وفي فتاوي الجلال السيوطي من جملة أسئلة رفعت إليه فأجاب عنها بأنها باطلة أن أبا جهل قال يا محمد إن أخرجت لنا طاوسا من صخرة في داري آمنت بك فدعا ربه عز وجل فصارت الصخرة تئن كأنين المرأة الحبلى ثم انشقت عن طاوس صدره من ذهب

ورأسه من زبرجد وجناحاه من ياقوتة ورجلاه من جوهر فلما رأى ذلك أبو جهل أعرض ولم يؤمن
ومما سألوه صلى الله عليه وسلم من الآيات غير المعينات على ما رواه الشيخان أو معينة كما في رواية عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وسيأتي ما يعلم منه أنهم سألوه صلى الله عليه وسلم أولا آية غير معينة ثم عينوها فلا مخالفة
فقد ذكر ابن عباس أن قريشا سألت النبي صلى الله عليه وسلم أن يريهم آية
أي رواية عن ابن عباس اجتمع المشركون اي بمنى منهم الوليد بن المغيرة وأبو جهل بن هشام والعاص بن وائل والعاص بن هشام والأسود بن عبد يغوث والأسود بن المطلب وزمعة بن الأسود والنضر بن الحارث على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا إن كنت صادقا فشق لنا القمر فرقتين نصفا على أبي قبيس ونصفا على قعيقعان وقيل يكون نصفه بالمشرق ونصفه الآخر بالمغرب وكانت ليلة أربعة عشر أي ليلة البدر فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إن فعلت تؤمنوا قالوا نعم فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم ربه أن يعطيه ما سألوا فانشق القمر نصفا على ابي قبيس ونصفا على قعيقعان وفي لفظ فانشق القمر فرقتين فرقة فوق الجبل وفرقة دونه ولعل الفرقة التي كانت فوق الجبل كانت جهة المشرق والتي كانت دون الجبل كانت جهة المغرب فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم اشهدوا اشهدوا ولا منافاة بين الروايتين ولا بينهما وبين ما جاء في رواية فانشق القمر نصفين نصفا على الصفا ونصفا على المروة قدر ما بين العصر إلى الليل ينظر إليه ثم غاب أي ثم إن كان الإنشقاق قبل الفجر فواضح وإلا فمعجزة أخرى لأن القمر ليلة أربعة عشر يستمر جميع الليل وسيأتي عن زين المعمر أنه عاد بعد غروبه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أشهدوا والفرقتان هما المرادتان بالمرتين في بعض الروايات التي أخذ بظاهرها بعضهم كالزين العراقي فقال إنه انشق مرتين لأن المرة قد تستعمل في الأعيان وإن كان أصل وضعها الأفعال فقد قال ابن القيم كون القمر انشق مرتين مرة بعد مرة في زمانين من له خبرة بأحوال الرسول صلى الله عليه وسلم وسيرته يعلم أنه غلط وأنه لم يقع الإنشقاق إلا مرة واحدة وعند ذلك قال كفار قريش سحركم ابن أبي كبشة أي وهو أبو كبشة أحد أجداده صلى الله عليه وسلم من قبل أمه لأن وهب بن عبد مناف

ابن زهرة جد أبي آمنة أمه يكنى أبا كبشة أو هو من قبل مرضعته حليمة لأن والدها أو جدها كان يكنى بذلك أو كان لها بنت تسمى كبشة فكان زوجها الذي هو أبوه من الرضاعة يكنى بتلك البنت كما تقدم في الرضاع
وقد روى عنه صلى الله عليه وسلم فقال حدثني حاضني أبو كبشة أنهم لما أرادوا دفن سلول وكان سيدا معظما حفروا له فوقعوا على باب مغلق ففتحوه فإذا سرير وعليه رجل وعليه حلل عدة وعند رأسه كتاب أنا أبو شهر ذو النون مأوى المساكين ومستفاد الغارمين أخذني الموت غصبا وقد أعيى الجبابرة قيل قال صلى الله عليه وسلم كان ذو النون هذا هو سيف بن ذي يزن الحميري وقيل أبو كبشة جده صلى الله عليه وسلم لأبيه لأن أبا أم جده عبدالمطلب كان يدعى أبا كبشة وكان يعبد النجم الذي يقال له الشعرى وترك عبادة الأصنام مخالفة لقريش فهم يشيرون بذلك إلى أن له في مخالفته سلفا
وقيل الذي عبد الشعرى وترك الأصنام رجل من خزاعة فشبهوه صلى الله عليه وسلم به في مخالفته لهم في عبادة الأصنام أي ومما قد يؤيد هذا الأخير ما في الإتقان حيث مثل بهذا الآية للنوع المسمى بالتنكيت وهو أن يخص المتكلم شيئا من بين الأشياء بالذكر لأجل نكتة كقوله تعالى { وأنه هو رب الشعرى } خص الشعرى بالذكر دون غيرها من النجوم وهو سبحانه وتعالى رب كل شيء لأن العرب كان ظهر فيهم رجل يعرف بابن أبي كبشة عبدالشعرى ودعا خلقا إلى عبادتها فأنزل الله تعالى { وأنه هو رب الشعرى } التي ادعيت فيها الربوبية هذا كلامه وكبشة ليس مؤنث كبش لأن مؤنث كبش ليس من لفظه فقال رجل منهم إن محمدا إن كان سحر القمر أي بالنسبة إليكم فإنه لا يبلغ من سحره أن يسحر الأرض كلها أي جميع أهل الأرض وفي رواية لئن كان سحرنا ما يستطيع أن يسحر الناس كلهم فاسألوه من يأتيكم من بلد آخر هل رأوا هذا فسألوهم فأخبروهم أنهم رأوا مثل ذلك وفي رواية أن أبا جهل قال هذا سحر فسألوا أهل الآفاق وفي لفظ انظروا ما يأتيكم به السفار حتى تنظروا هل رأوا ذلك أم لا فأخبروا أهل الآفاق وفي لفظ فجاء السفار وقد قدموا من كل وجه فأخبروهم أنهم رأوه منشقا فعند ذلك قالوا هذا سحر مستمر أي مطرد فهو إشارة إلى ذلك وإلى ما قبله من الآيات وفي لفظ قالوا هذا سحر أسحر

السحرة فأنزل الله تعالى { اقتربت الساعة وانشق القمر وإن يروا آية يعرضوا ويقولوا سحر مستمر } أي مطرد كما تقدم أو محكم أو قوي شديد أو مار ذاهب لا يبقى وهذا الكلام كما لا يخفى يدل على أنه لم يختص برؤية القمر منشقا أهل مكة بل جميع أهل الآفاق وبه يرد قول بعض الملاحدة لو وقع إنشقاق القمر لاشترك أهل الأرض كلهم في معرفته ولم يختص بها أهل مكة ولا يحسن الجواب عنه بأنه طلبه جماعة خاصة فاختصت رؤيته بمن اقترح وقوعه ولا بأنه قد يكون القمر حينئذ في بعض المنازل التي تظهر لبعض أهل الآفاق دون بعض ولا بقول بعضهم إن انشقاق القمر آية ليلية جرى مع طائفة في جنح ليلة ومعظم الناس نيام
وفي فتح الباري حنين الجذع وإنشقاق القمر نقل كلا منهما نقلا مستفيضا يفيد القطع عند من يطلع على طرق الحديث
أقول وإلى إنشقاق القمر أشار صاحب الهمزية بقوله ** شق عن صدره وشق له البد ** ر ومن شرط كل شرط جزاء **
أي شق عن صدره صلى الله عليه وسلم وفي نسخة قلبه وكل منهما صحيح لأنه شق صدره أولا ثم شق قلبه ثانيا وشق لأجله القمر ليلة أربعة عشر وإنما شق له صلى الله عليه وسلم لأن من شرط كل شرط جزاء لأنه لما شق صدره صلى الله عليه وسلم جوزى على ذلك بأعظم مشابه له في الصورة وهو شق القمر الذي هو من أظهر المعجزات بل أعظمها بعد القرآن وقد أشار إلى ذلك أيضا الإمام السبكي في تائيته بقوله ** وبدر الدياجى انشق نصفين عندما ** أرادت قريش منك إظهار آية **
أي فإنهم ائتمروا فيما بينهم فاتفقوا على أن يقترحوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يريهم إنشقاق القمر الذي هو بعيد عن الأطماع في غاية الإمتناع أي فقد سألوه أولا آية غير معينة ثم عينوها
وفي الإصابة عن بعضهم قال وأنا ابن تسع عشرة سنة سافرت مع أبي وعمي من خراسان إلى الهند في تجارة فلما بلغنا أوائل بلاد الهند وصلنا إلى شيعة من الضياع فعرج أهل القافلة نحوها فسألناهم عن ذلك فقالوا هذه ضيعة الشيخ زين الدين المعمر فرأينا شجرة خارج الضيعة تظل خلقا كثيرا وتحتها جمع عظيم من أهل تلك الضيعة فلما رأونا رحبوا بنا فرأينا زنبيلا معلقا في بعض أغصان تلك الشجرة فسألناهم فقالوا في هذا

الزنبيل الشيخ زين الدين رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعا له بطول العمر ست مرات فبلغ ستمائة سنة كل دعوة بمائة سنة فسألناهم أن ينزلوا الشيخ لنسمع كلامه وحديثه فتقدم شيخ منهم فأنزل الزنبيل فإذا هو مملوء بالقطن والشيخ في وسط القطن وهو كالفرخ فوضع فمه على أذنه وقال يا جداه هؤلاء قوم قد قدموا من خراسان وقد سألوا أن تحدثهم كيف رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وماذا قال لك فعند ذلك تنفس الشيخ وتكلم بصوت كصوت النحل بالفارسية ونحن نسمع فقال سافرت مع أبي وأنا شاب من هذه البلاد إلى الحجاز في تجارة فلما بلغنا بعض أودية مكة وكان المطر قد ملأ الأودية فرأيت غلاما حسن الشمائل يرعى إبلا في تلك الأودية وقد حالت السيل بينه وبين إبله وهو يخشى من خوض الماء لقوة السيل فعلمت حاله فأتيت إليه وحملته وخضت به السيل إلى عند إبله من غير معرفة سابقة فلما وضعته عند إبله نظر إلي ودعا لي ثم عدنا إلى بلادنا وتطاولت المدة ففي ليلة ونحن جلوس في ضيعتنا هذه في ليلة مقمرة ليلة البدر والبدر في كبد السماء إذ نظرنا إليه قد انشق نصفين فغرب نصف في المشرق ونصف في المغرب وأظلم الليل ساعة ثم طلع النصف من المشرق والثاني من المغرب إلى أن ألتقيا في وسط السماء كما كان أول مرة فتعجبنا من ذلك غاية العجب ولم نعرف لذلك سببا فسألنا الركبان عن سببه فأخبرونا أن رجلا هاشميا ظهر بمكة وادعى أنه رسول الله إلى كافة العالم وأن أهل مكة سألوه معجزة واقترحوا عليه أن يأمر لهم القمر فينشق في السماء ويغرب نصفه في المشرق ونصفه في المغرب ثم يعود إلى ما كان عليه ففعل لهم ذلك فاشتقت إلى رؤياه فذهبت إلى مكة وسألت عنه فدلوني على موضعه وأتيت إلى منزله واستأذنت فأذن لي في الدخول فدخلت عليه فلما سلمت عليه نظر إلي وتبسم وقال ادن مني وبين يديه طبق فيه رطب فتقدمت وجلست وأكلت من الرطب وصار يناولني إلى أن ناولني ست رطبات ثم نظر إلي وتبسم وقال لي ألم تعرفني قلت لا فقال ألم تحملني في عام كذا في السيل ثم قال امدد يدك فصافحني وقال قل أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله فقلت ذلك فسر أي وقال عند خروجي من عنده بارك الله في عمرك قال ذلك ست مرات فبارك الله لي عمري بكل دعوه مائة سنة فعمري اليوم ستمائة سنة أي في المائة السادسة مشرف على تمامها تأمل


وسئل الحافظ السيوطي عن مثل هذا الحديث وهو الحديث الذي رواه معمر الذي يزعم أنه صحابي وأنه يوم الخندق صار ينقل التراب بغلقين وبقية الصحابة بغلق واحد فضرب النبي صلى الله عليه وسلم بكفه الشريف بين كتفيه أربع ضربات وقال له عمرك الله يا معمر فعاش بعد ذلك أربعمائة سنة ببركة الضربات التي ضربها بين كتفيه كل ضربة مائة سنة وقال له بعد أن صافحه من صافحك إلى ست أو سبع لم تمسه النار هل هو صحيح أم كذب وإفتراء لا تجوز روايته فأجاب بأنه باطل وأن معمرا هذا كذاب دجال لأنه ثبت في الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم قال قبل موته بشهر أرأيتكم ليلتكم هذه فإن على رأس مائة سنة لا يبقى ممن هو اليوم على ظهر الأرض أحد وقد قال أهل الحديث وغيرهم إن من ادعى الصحبة بعد مائة سنة من وفاته صلى الله عليه وسلم فهو كذاب ومعلوم أن آخر الصحابة مطلقا موتا أبو الطفيل مات سنة عشر ومائة من الهجرة ثبت ذلك في صحيح مسلم واتفق عليه العلماء فمن ادعى الصحبة بعد أبي الطفيل فهو كذاب
ومما سألوه صلى الله عليه وسلم من الآيات المعينات ما حدث به بعضهم قال إن قريشا قالت له صلى الله عليه وسلم سل ربك يسير عنا هذه الجبال التي قد ضيقت علينا ويبسط لنا بلادنا وليخرق فيها أنهارا كأنهار الشام والعراق وليبعث لنا من مضى من آبائنا وليكن فيمن بعث لنا قصي بن كلاب فإنه كان شيخ صدق فنسأله عما تقول أحق هو أم باطل قال زاد في رواية فإن صدقوك وصنعت ما سألناك صدقناك وعرفنا منزلتك من الله تعالى وأنه بعثك إلينا رسولا كما تقول فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ما بهذا بعثت لكم إنما جئتكم من الله بما بعثني به اه
ثم قالوا له واسأل ربك يبعث معك ملكا يصدقك فيما تقول ويراجعنا عنك أي وفي لفظ قالوا له لم لا ينزل علينا الملائكة فتخبرنا بأن الله أرسلك أو نرى ربنا فيخبرنا بأنه أرسلك فنؤمن حينئذ بك وقال آخر يا محمد لن نؤمن لك حتى تأتينا بالله والملائكة قبيلا واسأله أن يجعل لك جنانا وقصورا وكنوزا من ذهب وفضة يغنيك بها عما نراك تبتغي فإنك تقوم بالأسواق وتلتمس المعاش كما نلتمسه أي فلا بد أن تتميز عنا حتى نعرف فضلك ومنزلتك من ربك إن كنت رسولا أي وفي لفظ قالوا إن محمدا يأكل الطعام كما نحن نأكل ويمشي في الأسواق ويلتمس المعاش كما نلتمس نحن فلا يجوز

أن يمتاز عنا بالنبوة فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أنا بالذي يسأل ربه هذا وأنزل الله تعالى { وقالوا ما لهذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق } ولما قالوا الله أعظم أن يكون رسوله بشرا منا أنزل الله تعالى { أكان للناس عجبا أن أوحينا إلى رجل منهم أن أنذر الناس } ثم قالوا وأسقط السماء علينا كسفا أي قطعا كما زعمت أن ربك إن شاء فعل وقد بلغنا أنك إنما يعلمك رجل باليمامة يقال له الرحمن وإنا والله لن نؤمن بالرحمن أبدا أي وقد عنوا بالرحمن مسيلمة وقيل عنوا كاهنا كان لليهود باليمامة وقد رد الله تعالى عليهم بأن الرحمن المعلم له هو الله تعالى بقوله { قل هو } أي الرحمن { ربي لا إله إلا هو عليه توكلت وإليه متاب } أي توبتي ورجوعي وعند ذلك قام صلى الله عليه وسلم حزينا آسفا على ما فاته من هدايتهم التي طمع فيها وقال له عبدالله بن عمته عاتكة بنت عبدالمطلب قبل أن يسلم رضي الله تعالى عنه يا محمد قد عرض عليك قومك ما عرضوا فلم تقبل ثم سألوك أن تعجل بعض ما تخوفهم به من العذاب فلم تفعل والله لن نؤمن بك أبدا حتى تتخذ إلى السماء سلما ثم ترقى فيه وأنا أنظر إليك حتى تأتيها ثم تأتي معك بصك أي كتاب معه أربعة من الملائكة يشهدون أنك كما تقول وأيم الله إنك لو فعلت ذلك ما ظننت أني أصدقك فأنزل الله تعالى عليه الآيات التي فيها شرح هذه المقالات في سورة الإسراء وفيها الإشارة إلى أنه تعالى خيره بين أن يعطيه جميع ما سألوا وأنهم إن كفروا بعد ذلك استأصلهم بالعذاب كالأمم السابقة وبين أن يفتح لهم باب الرحمة والتوبة لعلهم يتوبون وإليه يرجعون فاختار الثاني لأنه صلى الله عليه وسلم يعلم من كثير منهم العناد وأنهم لا يؤمنون وإن حصل ما سألوا فيستأصلون بالعذاب لأن الله تعالى يقول { واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة }
وعن محمد بن كعب ما حاصله أن الملأ من قريش أقسموا للنبي صلى الله عليه وسلم بالله عز وجل أنهم يؤمنون به إذا صار الصفا ذهبا فقام يدعو الله تعالى أن يعطيهم ما سألوه فأتاه جبريل فقال له إن شئت كان ذلك ولكني لم آت قوما بآية اقترحوها فلم يؤمنوا بها إلا أمرت بتعذيبهم وفيه أنه حينئذ يشكل رواية سؤالهم إنشقاق القمر
وفي رواية أتاه جبريل فقال يامحمد إن ربك يقرئك السلام ويقول إن شئت

أن يصبح لهم الصفا ذهبا فإن لم يؤمنوا أنزلت عليهم العذاب عذابا لا أعذبه أحدا من العالمين وإن شئت لا تصير الصفا ذهبا وفتحت لهم باب الرحمة والتوبة فقال لا بل أن تفتح لهم باب الرحمة والتوبة
وفي رواية وإن شئت تركتهم حتى يتوب تائبهم فقال صلى الله عليه وسلم بل حتى يتوب تائبهم وأيضا وافق على فتح باب الرحمة والتوبة لأنه صلى الله عليه وسلم علم أن سؤالهم لذلك جهل لأنه خفيت عليهم حكمة إرسال الرسل وهي إمتحان الخلق وتعبدهم بتصديق الرسل ليكون إيمانهم عن نظر وإستدلال فيحصل الثواب لمن فعل ذلك ويحصل العقاب لمن أعرض عنه إذ مع كشف الغطاء يحصل العلم الضروري فلا يحتاج إلى إرسال الرسل ويفوت الإيمان بالغيب
وأيضا لو يسألوا من تلك الآيات إلا تعنتا وإستهزاء لا على جهة الإسترشاد ودفع الشك وإلى سؤالهم تلك الآيات وإرتيابهم في القرآن وقولهم فيه إنه سحر وإفتراء أي سحر يأثره أي يأخذه عن مثله وعن أهل بابل يفرق به بين المرء وأخيه وبين المرء وزوجه وبين المرء وعشيرته { إن هذا إلا قول البشر } من قول أبي اليسر وهوعبد لبني الحضرمي كان النبي صلى الله عليه وسلم يجالسه وإلى قول أبي جهل أيضا تزاحمنا نحن وبنو عبدالمطلب الشرف حتى صرنا كفرسى رهان قالوا منا نبي يوحى إليه والله لا نرضى به ولا نتبعه أبدا إلا أن يأتينا وحي كما يأتيه فنزل قوله تعالى { وإذا جاءتهم آية قالوا لن نؤمن حتى نؤتى مثل ما أوتي رسل الله } وإلى هذا أشار صاحب الهمزية بقوله ** عجبا للكفار زادوا ضلالا ** بالذي فيه للعقول اهتداء ** ** والذي يسألون منه كتاب ** منزل قد أتاهم وإرتقاء **
أي أعجب عجبا من حال الكفار حالة كونهم زادوا ضلالا بالقرآن الذي فيه إهتداء للعقول وأعجب عجبا أيضا من الأمر الذي يطلبونه منه صلى الله عليه وسلم وهو كثير من جملته كتاب منزل معه عليهم من السماء وهو القرآن ** أو لم يكفهم من الله ذكر ** فيه للناس رحمة وشفاء ** ** أعجز الإنس آية منه والجن ** فهلا يأتي به البلغاء ** ** كل يوم يهدى إلى سامعيه ** معجزات من لفظه القراء ** ** تتحلى به المسامع والأفواه ** فهو الحلى والحلواء ** **

رق لفظا وراق معنى فجاءت ** في حلاها وحليها الخنساء ** ** وأرتنا فيه غوامض فضل ** رقة من زلاله وصفاء ** ** إنما تجتلي الوجوه إذا ما ** جليت عن مرآتها الأصداء ** ** سور منه أشبهت صورا منا ** ومثل النظائر النظراء ** ** والأقاويل عندهم كالتماثيل ** فلا يوهمنك الخطباء ** ** كم أبانت آياته عن علوم ** من حروف أبان عنها الهجاء ** ** فهي كالحب والنوى أعجب الزرا ** ع منها سنابل وزكاء ** ** فأطالوا فيه التردد والريب فقالوا سحر وقالوا افتراء ** وإذا البينات لم تغن شيئا ** فالتماس الهدى بهن عناء ** ** وإذا ضلت العقول على علم ** فماذا تقوله الفصحاء **
أي أو لم يكفهم عما سألوه عنادا ذكر واصل إليهم حالة كونه من الله تعالى رحمة وشفاء للناس والجن والملائكة أعجز الإنس والجن آية منه فهلا يأتي بتلك الآية أهل البلاغة كل وقت يهدى قراؤه إلى سامعيه معجزات من لفظه ولذلك تتحلى بسماعه المسامع من التحلية التي هي لبس الحلي وتتحلى بألفاظه الأفواه من الحلواء فهو الحلى والحلواء حسن من جهة اللفظ وتصفى من شوائب النقص من جهة المعنى فأرتنارقة من زلاله وصفاء من ذلك الزلال خبايا فضل فيه وهي العلوم المستنبطة منه وإنما تظهر الوجوه ظهورا واضحا لا خفاء معه بوجه إذا قوبلت بمرآة وقت جلاء الأصداء عن تلك المرآة سور منه أشبهت صورا منا من حيث إشتمال كل صورة منا على عقل وفهم وخلق لا يشاركه فيه غيره والأقاويل الصادرة من الكفار في القرآن كالصور التي يصورها المصورون فإنه لا وجود لها في الحقيقة فما قالوه في القرآن باطل قطعي البطلان فاحذر الخطباء أن توقع في وهمك أن ما تأتي به يقارب القرآن كم أوضحت آياته علوما حالة كونها متولدة من حروف قليلة كشف عنها التهجي كالحب الذي يلقيه الزارع والنوى الذي يلقيه الغارس أعجب الزراع والغراس منها أي من تلك الحبوب والنوى سنابل وثمار وتمر فاق الحصر فأطالوا في تلك السور الشك فقالوا سحر وتمويه لا حقيقة له وقالوا مرة أخرى أساطير الأولين وإذا كانت الحجج والبراهين لم تفدهم شيئا من الهدى فطلب الهدى منهم بتلك الحجج تعب لا يفيد شيئا وإذا ضلت العقول

عن طرق الحق مع علم منها بتلك الطرق فأي قول يقوله الفصحاء أي وقال الوليد ابن المغيرة يوما أينزل القرآن على محمد وأترك أنا وأنا كبير قريش وسيدنا ويترك أبو مسعود الثقفي سيد ثقيف ونحن عظماء القريتين أي مكة والطائف فأنزل الله تعالة { وقالوا لولا } أي هلا { لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم } أي أعظم وأشرف من محمد صلى الله عليه وسلم فرد الله تعالى عليهم بقوله { أهم يقسمون رحمة ربك } الآية
وفي لفظ قال بعضهم كان الأحق بالرسالة الوليد بن المغيرة من أهل مكة أو عروة بن مسعود الثقفي من أهل الطائف ثم لا يخفى أن كفار قريش بعثوا مع النضر بن الحارث عقبة بن أبي معيط إلى أحبار يهود بالمدينة وقالوا لهما اسالاهم عن محمد وصفا لهم صفته وأخبراهم بقوله فإنهم أهل الكتاب الأول أي التوراة لأنه قبل الإنجيل وعندهم علم ليس عندنا فخرجا حتى قدما المدينة وسألا أحبار يهود أي قالا لهم أتيناكم لأمر حدث فينا منا غلام يتيم حقير يقول قولا عظيما يزعم أنه رسول الله وفي لفظ رسول الرحمن قالوا صفوا لنا صفته فوصفوا قالوا فمن يتبعه منكم قالوا سفلتنا فضحك حبر منهم وقالوا هذا النبي الذي نجد نعته ونجد قومه أشد الناس له عداوة
قالت لهم أحبار اليهود سلوه عن ثلاث فإن أخبركم بهن فهو نبي مرسل وإن لم يفعل فالرجل متقول سلوه عن فتية ذهبوا في الدهر الأول أي وهم أهل الكهف ما كان من أمرهم فإنه قد كان لهم حديث عجيب وسلوه عن رجل طواف قد بلغ مشارق الأرض ومغاربها أي وهو ذو القرنين ما كان نبؤه وسلوه عن الروح ما هي فإذا أخبركم بذلك أي بحقيقة الأولين وبعارض من عوارض الثالث وهو كونها من أمر الله فاتبعوه فإنه نبي فرجع النضر وعقبة إلى قريش وقالا لهم قد جئناكم بفصل ما بينكم وبين محمد وأخبراهم الخبر فجاءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وسألوه عن ذلك فقال لهم عليه الصلاة والسلام أخبركم غدا ولم يستثن أي لم يقل إن شاء الله تعالى وانصرفوا فمكث صلى الله عليه وسلم خمسة عشرة يوما وقيل ثلاثة أيام وقيل أربعة أيام لا يأتيه الوحي وتكلمت قريش في ذلك بما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا إن محمدا قلاه ربه وتركه أي ومن جملة من قال ذلك له صلى الله عليه وسلم أم جميل امرأة عمه أبي لهب قالت له ما أرى صاحبك إلا وقد ودعك وقلاك أي تركك

وبغضك وفي رواية قالت امرأة من قريش أبطأ عليه شيطانه وشق عليه صلى الله عليه وسلم ذلك منهم ثم جاءه جبريل بسورة الكهف وفيها خبر الفتية الذين ذهبوا وهم أهل الكهف
ويروى أنهم يكونون مع عيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلام إذا نزل ويحجون البيت وخبر الرجل الطواف وهو ذو القرنين أي وهو إسكندر ذو القرنين كان له قرنان صغيران من لحم تواريهما العمامة
وفي لفظ كان له شبه القرنين في رأسه وقيل غديرتان من شعر وقيل لأنه قرن ما بين طلوع الشمس ومغربها أي بلغ قطرى المشرق والمغرب وقيل ضرب على قرن رأسه فمات ثم أحيى ثم ضرب على قرنه الآخر فمات ثم أحيى وقيل لأنه ملك الروم وفارس وقيل لأنه انقرض في زمنه قرنان من الناس والقرن زمان مائة سنة وكان ذو القرنين رجلا صالحا من أهل مصر من ولد يونن وفي لفظ يونان بن يافث بن نوح وكان من الملوك العادلة وكان الخضر صاحب لوائه الأكبر وقيل كان نبيا قاله الضحاك
وجاءه صلى الله عليه وسلم جبريل بالجواب عن الروح المذكور ذلك في سورة الإسراء وهو أن الروح من أمر الله أي قل لهم الروح من أمر ربي أي من علمه لا يعلمه إلا هو أي وكان في كتبهم أن الروح من أمر الله أي مما استأثر الله تعالى بعلمه ولم يطلع عليه أحدا من خلقه ومن ثم جاء في بعض الروايات ما تقدم إن أجابكم عن حقيقة الروح فليس بنبي وإلا بأن أجابكم عنها بأنها من أمر الله فهو نبي ولعل هذا هو المراد كما جاء في بعض الروايات سلوه عن الروح مما استأثر الله تعالى بعلمه كيف يسألونه فيخبرهم بذلك إلا أن يقال المراد إن أجابكم بغير قوله من أمر ربي فاعلموا أنه غير نبي فإنه يحاول أن يخبركم عن حقيقتها وحقيقتها لا يعلمها إلا الله تعالى
ويوافقه ما في مأثور التفسير { من أمر ربي } من علم ربي لا علم لي به وفي بعض الروايات عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما سلوه عن الروح التي نفخ الله تعالى في آدم فإن قال لكم من الله تعالى فقولوا له كيف يعذب الله في النار شيئا هو منه
وحاصل الجواب الذي أشارت إليه الآية أن الروح أمر بمعنى مأمور أي مأمور

من مأموراته وخلق من خلقه لا أنها جزء منه والله أعلم أي وهذا يدل على أن المسئول عنه روح الإنسان التي هي سبب في إفادة الحياة للجسد
وفي كلام الإمام الغزالي رحمه الله تعالى أن الروح روحان حيواني وهي التي تسميه الأطباء المزاج وهو جسم لطيف بخاري معتدل سار في البدن الحامل لقواه من الحواس الظاهرة والقوى الجسمانية وهذه الروح تفنى بفناء البدن وتنعدم بالموت وروح روحاني وهي التي يقال لها النفس الناطقة ويقال لها اللطيفة الربانية ويقال لها العقل ويقال لها الروح ويقال لها القلب من الألفاظ الدالة على معنى واحد لها تعلق بقوى النفس الحيواني وهذه الروح لا تفنى بفناء البدن وتبقى بعد الموت هذا كلامه
وفي كلام بعضهم والروح عند أكثر أهل السنة جسم لطيف مغاير للأجسام ماهية وهيئة متصرف في البدن حال فيه حلول الدهن في الزيتون يعبر عنه بأنا وأنت وإذا فارق البدن مات
وذهب جمع منهم الغزالي والإمام الرازي وفاقا للحكماء والصوفية إلى أنه جوهر مجرد غير حال بالبدن يتعلق به تعلق العاشق بالمعشوق يدبره أمره على وجه لا يعلمه إلا الله اه
ورأيت في كلام الشيخ الأكبر أن الإمام ركن الدين السمرقندي لما فتح المسلمون بلاد الهند خرج بعض علمائها ليناظر المسلمين فسأل عن العلماء فأشاروا إلى الإمام ركن الدين السمرقندي فقال له الهندي ما تعبدون قالوا نعبد الله بالغيب قال من أنبأكم قالوا محمد صلى الله عليه وسلم قال فما الذي قال في الروح قال هو من أمر ربي فقال صدقتم فأسلم وليس المراد بالروح خلق من الملائكة على صورة بني آدم أو ملك عظيم عرض شحمة أذنه خمسمائة عام إلى غير ذلك مما قيل قال بعضهم قلت كذا في هذه الرواية أنهم سألوه أي مشركو مكة عن الروح وحديث ابن مسعود يدل على أن السؤال عن الروح ونزول الآية كان بالمدينة أي من اليهود هذا كلامه
وفيه أنه سيأتي جواز تكرار السؤال وتكرر نزول الآية إلى آخر ما يأتي وبه يعلم ما في الإتقان حيث تعقب حيث تعقب قول بعضهم إن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم سألوه عن الروح وعن ذي القرنين بقوله قلت السائل عن الروح وذي القرنين مشركو مكة أو اليهود كما في أسباب النزول لا الصحابة


وفي الإتقان قد يعدل عن الجواب اصلا إذا كان السائل قصده التعنت نحو { ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي } قال صاحب الإفصاح إنما سأل اليهود تعجيزا وتغليظا إذا كان الروح يقال بالإشتراك على روح الانسان والقرآن وعيسى وجبريل وملك آخر وصنف من الملائكة فقصد اليهود أن يسألوه صلى الله عليه وسلم فبأي مسمى أجابهم قالوا ليس هو فجاءهم الجواب مجملا وكان هذا الإجمال كيدا يرد به كيدهم وفي سورة الكهف أيضا { ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا إلا أن يشاء الله واذكر ربك إذا نسيت } أي إذا أردت أن تقول سأفعل شيئا فيما يستقبل من الزمان تقول إن شاء الله فإذا نسيت التعليق بذلك ثم تذكرت تأتي بها فذكرها بعد النسيان كذكرها بعد القول قال جمع منهم حسن مادام في المجلس أي وظاهره وإن طال الفصل
وفي الخصائص الكبرى أن هذا أي الإتيان بالمشيئة بعد التذكر من خصائصه صلى الله عليه وسلم ليس لأحد منا أن يستثني أي يأتي بالمشيئة إلا في صلة يمينه
أقول كان ينبغي أن يقول في صلة إخباره لأن مساق الآية في الإخبار لافي الحلف
فإن قيل هي علامة في الخبر ة الحلف قلنا كان ينبغي أن يقول حينئذ في صلة كلامه وحينئذ يقتضي كلامه أنا نشاركه في الخبر دون الحلف والله أعلم
ثم لا يخفى أنه قيل سبب احتباس الوحي أنه لم يقل إن شاء الله تعالى وهو مشهور وقيل لإنه كان في بيته كلب وفي لفظ كان تحت سريره جرو ميت فقد جاء أنه لما صلى الله عليه وسلم عاتب جبريل في احتباسه قال أما علمت أن الملائكة لا تدخل بيتا فيه كلب أي أنه صلى الله عليه وسلم قال لخادمته خولة يا خولة ما حدث في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم جبريل لا يأتيني قالت فقلت في نفسي لو كنست البيت فأهوبت بالمكنسة تحت السرير فأخرجت الجرو الميت
أقول قال ابن كثير قد ثبت في الحديث المروي في الصحاح والسنن والمسانيد من حديث جماعة من الصحابة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال لا تدخل الملائكة بيتا فيه صورة ولا كلب ولا جنب وقد أورد بعض الزنادقة سؤالا وهو

إذا كانت الملائكة لا تدخل بيتا فيه كلب أو صورة أي صورة التماثيل التي فيها الأرواح يلزم أن لا يموت من عنده كلب أو صورة وأن لا يكتب عمله
وأجيب عنه بأن المراد لا تدخل الملائكة ذلك البيت دخول إكرام لصاحبه وتحصيل بركة فلا ينافي دخولهم لكتابة الأعمال وقبض الأرواح والله أعلم
وقيل لأنه صلى الله عليه وسلم زجر سائلا ملحا وقد كان قبل ذلك يرد السائل بقوله آتاكم الله من فضله أي ربما سكت فقد روى الشيخان ما سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا فقال لا قال الحافظ بن حجر المراد بذلك أنه لا ينطق بالرد بل إن كان عنده شيئ أعطاه وإلا سكت وهذا هو المراد بما جاء أنه صلى الله عليه وسلم ما رد سائلا قط أي ما شافهه بالرد
وقد حكى بعضهم قال رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في النوم فقلت يا رسول الله استغفر لي فسكت فقلت يا رسول الله إن ابن عيينة حدثنا عن جابر أنك ما سئلت شيئا قط فقلت لا فتبسم صلى الله عليه وسلم واستغفر لي أي فكان يأتي بالأول حيث لا يكون المقام يقتضي الاقتصار على السكوت ولعل هذا في غير رمضان
فلا يخالف ما رواه البزار عن أنس رضي الله تعالى عنه قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل شهر رمضان اطلق كل أسير وأعطى كل سائل وبين الشيخ ابن الجوزي فبي النشر سبب إلحاح هذا السائل فقال إن النبي صلى الله عليه وسلم أهدى إليه قطف عنب قبل أوانه فهم أن يأكل منه فجاءه سائل فقال أطعموني مما رزقكم الله فسلم إليه ذلك القطف فلقيه بعض أصحابه فاشتراه منه وأهداه للنبي صلى الله عليه وسلم فعاد السائل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسأله فأعطاه إياه فلقيه رجل آخر من الصحابة فاشتراه منه وأهداه للنبي صلى الله عليه وسلم فعاد السائل فسأله فانتهره وقال إنك ملح قال وهذا سياق غريب جدا وهو معضل
وقيل سبب ذلك غير ذلك من ذلك الغير أن جبريل عليه السلام لما قال له صلى الله عليه وسلم ما حبسك في قال كيف نأتيكم وأنتم لا تقصون أظفاركم و لا تنقون براجمكم ولا تأخذون شعوركم و لا تستاكون
أقول واختلاف هذه الأسباب ظاهر في أن الواقعة متعددة ولا ينافيه قوله ونزلت أي سورة الضحى ردا عليهم في قولهم إن محمداقلاه ربه وتركه وهي

{ ما ودعك ربك وما قلى } أي ما قطعك قطع المودع وما أبغضك لأنه لا يجوز أن يكون مما تكرر نزوله لاختلاف سببه
ويمكن أن يقال يجوز أن تكون الواقعة واحدة وتعددت أسبابها ولا ينافيه إخبار جبريل عليه السلام تارة بأن سبب احتباسه عدم قص الأظفار وما ذكر معه وتارة بأن الملائكة لا تدخل بيتا فيه كلب وتارة بقوله { وما نتنزل إلا بأمر ربك } كما يأتي قريبا وكما سيأتي في قصة الإفك لكن فال الحافظ بن حجر قصة إبطال جبريل بسبب الجرو مشهورة لكن كونها سبب نزول الآية أي { ما ودعك ربك وما قلى } غريب فالمعتمد ما في الصحيح هذا كلامه
أقول ومما يدل على أن واقعة الجرو كانت بالمدينة مافي بعض التفاسير أن هذا الجرو كان للحسن والحسين رضي الله عنهما ومارواه مسلم عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت واعد رسول الله صلى الله عليه وسلم جبريل عليه السلام في ساعة أن يأتيه فجاء تلك الساعة ولم يأته فيها قالت وكان بيده عصا فطرحها من يده وهو يقول ما يخلف الله وعده ولا رسله ثم التفت فإذا كلب تحت السرير فقال متى دخل هذا الكلب فقلت والله مادريت به فأمر به فأخرج فجاء جبريل عليه الصلاة والسلام فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم وعدتني فجلست لك ولم تأت فقال منعني الكلب الذي كان في بيتك إنا لا ندخل بيتا فيه كلب ولا صورة
وفي زيادة الجامع الصغير أتاني جبريل فقال لي إني كنت أتيتك البارحة فلم يمنعني أن أكون دخلت عليك البيت الذي كنت فيه إلا أنه كان على الباب تماثيل وكان في البيت ستر فيه تماثيل وكان في البيت كلب فأمر صلى الله عليه وسلم برأس التمثال الذي في البيت فليقطع فيصير كهيئة الشجرة وأمر بالستر فليقطع فيجعل منه وسادتين منبوذتين توطآن وأمر بالكلب فأخرج ومعلوم أن مجئ جبريل له صلى الله عليه وسلم إكرام وتشريف له صلى الله عليه وسلم فلا ينافي ما تقدم فليتأمل
لما نزلت السورة المذكورة كبر صلى الله عليه وسلم فرحا بنزول الوحي واستمر صلى الله عليه وسلم لا يجاهر قومه بالدعو حتى نزل { وأما بنعمة ربك فحدث } فعند ذلك كبر صلى الله عليه وسلم أيضا وكان ذلك سببا للتكبير في افتتاح السورة التي بعدها وفي ختمها إلى آخر القرآن وعن أبي بن كعب رضي الله تعالى عنه أنه قرأ كذلك على النبي صلى الله عليه وسلم بعد أمره له بذلك وأنه كان كلما ختم سورة وقف وقفة ثم قال الله أكبر
هذا وقيل ابتداء التكبير من أول ألم نشرح لا من أول والضحى وقيل إن التكبير إنما هو لآخر السورة وابتداؤه من آحر سورة الضحى إلى آخر { قل أعوذ برب الناس } والأتيان بالتكبير في الأول والآخر جمع بين الروايتين والرواية التي جاءت بأنه كبر في أول السورة المذكورة والرواية الأخرى أنه كبر في آخرها
ومما يدل على أن التكبير أول سورة الضحى ما جاء عن عكرمة بن سليمان قال قرأت على اسماعيل بن عبد ربه فلما بلغت الضحى قال كبر فإني قرأت على عبد الله بن كثير أحد القراء السبعة فلما بلغت والضحى قال لي كبر حتى تختم وأخبري ابن كثير أنه قرأ على مجاهد فأمره بذلك وأخبره أن ابن عباس رضى الله تعالى عنهما أمره بذلك وأخبره ابن عباس أن أبي بن كعب أمره بذلك أخبره أبي أن النبي صلى الله عليه وسلم أمره بذلك قال بعضهم حديث غريب
ونقل عن إمامنا الشافعي رضي الله تعالى عنه أنه قال لآخر إذا تركت التكبير من الضحى إلى الحمد في الصلاة وخارجها فقد تركت سنة من سنن نبيك صلى الله عليه وسلم لكن في كلام الحافظ ابن كثير ولم يرد ذلك أي التكبير عند نزول سورة الضحى باسناد يحكم عليه بصحة ولا ضعف
وقد ذكر الشيخ أبو المواهب الشاذلي رضي الله تعالى عنه عن شيخه أبي عثمان أنه قال إنما نزلت سورة ألم نشرح عقب قوله { وأما بنعمة ربك فحدث } إشارة إلى أن من حدث بنعمة الله فقد شرح الله صدره قال كأنه تعالى يقول إذا حدثت بنعمتي ونشرتها بين عبادي فقد شرحت صدرك
وعن ابن اسحاق ذكر لي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لجبريل لقد احتبست عني يا جبريل حتى سؤت ظنا وفي لفظ ما منعك أن تزورنا أكثر مما تزورنا فقال له جبريل { وما نتنزل إلا بأمر ربك له ما بين أيدينا وما خلفنا وما بين ذلك وما كان ربك نسيا } أي لا ننتقل من مكان إلى مكان ولا ننزل في زمان دون زمان إلا بأمره ومشيئته على مقتضى حكمته وما كان ربك تاركا لك كما زعم الكفار بل كان ذلك لحمكة رآها //

مجلد 5.

===============
كتاب:السيرة الحلبية في سيرة الأمين المأمون
المؤلف:علي بن برهان الدين الحلبي
وأما حديث الزبيدي فقد حدث بعضهم قال بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس في المسجد ومعه من الصحابة إذا رجل من زبيد يطوف على حلق قريش حلقة بعد أخرى وهو يقول يا معشر قريش كيف تدخل عليكم المارة أو يجلب إليكم جلب أو يحل بضم الحاء أي ينزل بساحتكم تاجر وأنتم تظلمون من دخل عليكم في حرمكم حتى انتهى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في أصحابه فقال له صلى الله عليه وسلم ومن ظلمك فذكر أنه قدم بثلاث أجمال خيرة إبله أي أحسنها فسامه بها أبو جهل ثلث أثمانها ثم لم يسمه بها لأجله سائم قال فأكسد علي سلعتي فظلمني فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم وأين جمالك قال هذه هي بالحزورة فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم وقام أصحابه فنظروا إلى الجمال فرأى جمالا حسانا فساوم ذلك الرجل حتى ألحقه برضاه وأخذها رسول الله صلى الله عليه وسلم فباع جملين منها بالثمن وأفضل بعيرا باعه وأعطى أرامل بني عبد المطلب ثمنه وكل ذلك وأبو جهل جالس في ناحية من السوق ولم يتكلم ثم أقبل إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له إياك يا عمرو أن تعود لمثل ما صنعت بهذا الرجل فترى مني ما تكره فجعل يقول لا أعود يا محمد لا أعود يا محمد فانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم فأقبل على أبي جهل أمية بن خلف ومن معه من القوم فقالوا له ذللت في يد محمد فإما أن تكون تريد أن تتبعه وإما رعب دخلك منه فقال لهم لا أتبعه أبدا إن الذي رأيتم مني لما رأيته رأيت معه رجالا عن يمينه ورجالا عن شماله معهم رماح يشرعونها إلي لو خالفته لكانت إياها أي لأتوا على نفسي
ونظير ذلك أن أبا جهل كان وصيا على يتيم فأكل ماله وطرده فاستغاث اليتيم بالنبي صلى الله عليه وسلم على أبي جهل فمشى معه إليه ورد عليه ماله فقيل له في ذلك فقال خفت من حربة عن يمينه وحربة عن شماله لو امتنعت أن أعطيه لطعنني
وأما حديث المستهزئين فمما استهزئ به على رسول الله صلى الله عليه وسلم ما حدث به بعضهم أن أبا جهل بن هشام ابتاع من شخص يقال له الإراشي بكسر الهمزة نسبة إلى إراشة بطن من خثعم أجمالا فمطله بأثمانها فدلته قريش على النبي صلى الله عليه وسلم لينصفه من أبي جهل استهزاء برسول الله صلى الله عليه وسلم لعلمهم بأنه لا قدرة له على أبي جهل أي بعد أن وقف على ناديهم فقال يا معشر قريش من رجل يعينني على أبي الحكم بن هشام فإني غريب وابن سبيل وقد غلبي على حقي فقالوا له أترى ذلك

الرجل يعنون رسول الله صلى الله عليه وسلم اذهب إليه فهو يعينك عليه فجاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر له حاله مع أبي جهل أي قال له يا أبا عبد الله إن أبا الحكم بن هشام غلبني على حق لي قبله وأنا غريب وابن سبيل وقد سألت هؤلاء القوم عن رجل يأخذ لي بحقي منه فأشاروا إليك فخذ حقي منه يرحمك الله فخرج النبي صلى الله عليه وسلم مع الرجل إلى أبي جهل وضرب عليه بابه فقال من هذا قال محمد فخرج إليه وقد انتقع لونه أي تغير وصار كلون النقع الذي هو التراب وهو الصفرة مع كدرة كما تقدم فقال له أعط هذا حقه قال نعم لا تبرح حتى أعطيه الذي له فدفعه إليه قال ثم إن الرجل أقبل حتى وقف على ذلك المجلس فقال جزاه الله خيرا يعني النبي صلى الله عليه وسلم فقد والله أخذ لي بحقي وقد كانوا أرسلوا رجلا ممن كان معهم خلف النبي صلى الله عليه وسلم وقالوا له انظر ماذا يصنع فقالوا لذلك الرجل ماذا رأيت قال رأيت عجبا من العجب والله ما هو إلا أن ضرب عليه بابه فخرج إليه وما معه روحه فقال أعط هذا حقه فقال نعم لا تبرح حتى أخرج إليه حقه فدخل فخرج إليه بحقه فأعطاه إليه فعند ذلك قالوا لأبي جهل ويلك ما رأينا مثل ما صنعت قال ويحكم والله ما هو إلا أن ضرب علي بابي وسمعت صوته فملئت رعبا ثم خرجت إليه وإن فوق رأسي فحلا من الإبل ما رأيت مثله قط لو أبيت أو تأخرت لأكلني وإلى هذه القصة أشار صاحب الهمزية بقوله ** واقتضاه النبي دين الإراشي ** وقد ساء بيعه والشراء ** ** ورأى المصطفى أتاه بما لم ** ينج منه دون الوفاء النجاء ** ** هو ما قد رآه من قبل لكن ** ما على مثله يعد الخطاء **
أي وطلب صلى الله عليه وسلم من أبي جهل أن يؤدي دين الإراشي وقد ساء بيعه وشراؤه مع ذلك الرجل ورأى المصطفى صلى الله عليه وسلم وقد أتاه بفحل من الإبل لم ينج منه دون الوفاء لذلك الدين كثير النجاء وذلك الذي أتاه به هو الفحل الذي قد رآه من قبل أي لما أراد عدو الله أن يلقي عليه صلى الله عليه وسلم الحجر وهو ساجد كما تقدم لكن ما على مثله فضلا عنه يعد الخطأ لأن خطأه لا ينحصر
أي ومن استهزاء أبي جهل بالنبي صلى الله عليه وسلم أنه في بعض الأوقات سار

خلف النبي صلى الله عليه وسلم يخلج بأنفه وفمه يسخر به فاطلع عليه صلى الله عليه وسلم فقال له كن كذلك فكان كذلك إلى أن مات
قال ابن عبدالبر وكان من المستهزئين الذين قال الله تعالى فيهم { إنا كفيناك المستهزئين } أبو جهل وأبو لهب وعقبة بن أي معيط والحكم بن العاص بن أمية وهو والد مروان بن الحكم عم عثمان بن عفان والعاص بن وائل فمن استهزاء أبي جهل ما تقدم
ومن استهزاء أبي لهب به صلى الله عليه وسلم أنه كان يطرح القذر على باب رسول الله صلى الله عليه وسلم كما تقدم ومر يوما من الأيام فرآه أخوه حمزة رضي الله تعالى عنه قد فعل ذلك فأخذه وطرحه على رأسه فجعل أبو لهب ينفض رأسه ويقول صابئ أحمق
ومن استهزاء عقبة بن أبي معيط به صلى الله عليه وسلم أنه كان يلقى القذر أيضا على بابه صلى الله عليه وسلم كما تقدم وقد قال صلى الله عليه وسلم كنت بين شر جارين أبي لهب وعقبة بن أبي معيط إن كانا يأتيان بالفروث فيطرحانها على بابي كما تقدم
ومن استهزائه أنه بصق في وجه النبي صلى الله عليه وسلم فعاد بصاقه على وجهه وصار برصا أي فإنه صلى الله عليه وسلم كان يكثر مجالسة عقبة بن أبي معيط فقدم عقبة يوما من سفر فصنع طعاما ودعا الناس من أشراف قريش ودعا النبي صلى الله عليه وسلم فلما قرب إليهم الطعام أبى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأكل فقال ما أنا بآكل طعامك حتى تشهد أن لا إله إلا الله فقال عقبة أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أنك رسول الله فأكل صلى الله عليه وسلم من طعامه وانصرف الناس وكان عقبة صديقا لأبي بن خلف فأخبر الناس أبيا بمقالة عقبة فأتى إليه وقال يا عقبة صبوت قال والله ما صبوت ولكن دخل منزلي رجل شريف فأبى أن يأكل طعامي إلا أن أشهد له فاستحييت أن يخرج من بيتي ولم يطعم فشهدت له فطعم والشهادة ليست في نفسي فقال له أبي وجهي ووجهك حرام إن لقيت محمدا فلم تطأه وتبزق في وجهه وتلطم عينه فقال له عقبة لك ذلك ثم إن عقبة لقى النبي صلى الله عليه وسلم ففعل به ذلك قال الضحاك لما بزق عقبة لم تصل البزقة إلى وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم بل وصلت إلى وجهه هو كشهاب نار فاحترق مكانها وكان أثر الحرق في وجهه إلى الموت وحينئذ يكون المراد بقوله فيما تقدم فعاد بصاقه برصا في وجهه أي صار

كالبرص وأنزل الله تعالى في حقه { ويوم يعض الظالم على يديه } أي في النار يأكل إحدى يديه إلى المرفق ثم يأكل الأخرى فتنبت الأولى فيأكلها وهكذا
ومن استهزاء الحكم بن العاص أنه كان صلى الله عليه وسلم يمشى ذات يوم وهو خلفه يخلج بفمه وأنفه يسخر بالنبي صلى الله عليه وسلم فالتفت إليه النبي صلى الله عليه وسلم فقال له كن كذلك فكان كذلك أي كما تقدم نظير ذلك لأبي جهل واستمر الحكم بن العاص يخلج بأنفه وفمه بعد أن مكث شهرا مغشيا عليه حتى مات أسلم يوم فتح مكة وكان في إسلامه شيء اطلع على رسول الله صلى الله عليه وسلم من باب بيته وهو عند بعض نسائه بالمدينة فخرج إليه صلى الله عليه وسلم بالعنزة أي وقيل بمدرى في يده والمدرى كالمسلة يفرق به شعر الرأس وقال من عذيرى من هذه الوزغة لو أدركته لفقأت عينه ولعنه وما ولد وغربه عن المدينة إلى وج الطائف فلم يزل حتى ولى ابن أخيه عثمان رضي الله تعالى عنه الخلافة فدخل المدينة بعد أن سأل عثمان أبا بكر في ذلك فقال لا أحل عقدة عقدها رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم سأل عمر لما ولى الخلافة فقال له مثل ذلك ولما أدخله عثمان نقم عليه الصحابة بسبب ذلك فقال أنا كنت شفعت فيه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فوعدني برده أي أني أرده ولا ينافى ذلك سؤال عثمان لأبي بكر وعمر رضي الله تعالى عنهم في ذلك كما لا يخفى لأنه يحتمل أن يرده عثمان إما بنفسه أو بسؤاله وسيأتي ذلك في جملة أمور نقمها عليه الصحابة
وعن هند ابن خديجة أم المؤمنين رضي الله تعالى عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بالحكم فجعل يغمز بالنبي صلى الله عليه وسلم فرآه فقال اللهم اجعل به وزغا فرجف وأرتعش مكانه والوزغ الإرتعاش وفي رواية فما قام حتى ارتعش
وعن الواقدي استأذن الحكم بن العاص على رسول الله صلى الله عليه وسلم فعرف صوته فقال ائذنوا له لعنه الله ومن يخرج من صلبه إلا المؤمنين منه وقليل ما هم ذو مكر وخديعة يعطون الدنيا وما لهم في الآخرة من خلاق وكان لا يولد لأحد ولد بالمدينة إلا أتى به النبي صلى الله عليه وسلم فأتى إليه بمروان لما ولد فقال هو الوزغ بن الوزغ الملعون ابن الملعون وعلى هذا فهو صحابي إن ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم رآه لأنه يحتمل أنه أتى به إليه صلى الله عليه وسلم فلم يأذن بإدخاله عليه وربما يدل ذلك قوله هو الوزغ إلى آخره


وفي كلام بعضهم أن مروان ولد بمكة وفي كلام بعض آخر أنه ولد بالطائف بعد أن نفى أبوه إلى الطائف أي ولم يجتمع بالنبي صلى الله عليه وسلم فهو ليس بصحابي ومن ثم قال البخاري مروان بن الحكم لم ير النبي صلى الله عليه وسلم وعن عائشة رضي الله تعالى عنها أنها قالت لمروان نزل في أبيك { ولا تطع كل حلاف مهين هماز مشاء بنميم } وقالت له سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لأبيك وجدك الذي هو العاص بن أمية إنهم الشجرة الملعونة في القرآن ولى مروان الخلافة تسعة أشهر
وعن عائشة رضي الله تعالى عنها أنها قالت لمروان بن الحكم حيث قال لأخيها عبدالرحمن بن أبي بكر لما بايع معاوية لولده قال مروان سنة أبي بكر وعمر رضي الله تعالى عنهما فقال عبدالرحمن بل سنة هرقل وقيصر وامتنع من البيعة ليزيد بن معاوية فقال له مروان أنت الذي أنزل الله فيك { والذي قال لوالديه أف لكما } فبلغ ذلك عائشة فقالت كذب والله ما هو به ثم قالت له أما أنت يا مروان فأشهد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن أباك وأنت في صلبه
وعن جبير بن مطعم كنا مع رسول الله صلى لله عليه وسلم فمر الحكم بن العاص فقال النبي صلى الله عليه وسلم ويل لأمتي مما في صلب هذا قال بعضهم وكون النبي صلى الله عليه وسلم مع ما هو عليه من الحلم والإغضاء على ما يكره فعل بالحكم ذلك يدل على أمر عظيم ظهر له في الحكم وأولاده
وعن حمران بن جابر الجعفي قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ويل لبني أمية ثلاث مرات أي وقد ولى منهم الخلافة أربعة عشر رجلا أولهم معاوية بن أبي سفيان وآخرهم مروان بن محمد وكان مدة ولايتهم ثنتين وثمانين سنة وهي ألف شهر وقال بعضهم لا يزيد ذلك يوما ولا ينقص يوما قال ابن كثير وهذا غريب جدا وفيه نظر لأن معاوية حين تسلم الخلافة من الحسن كان ذلك سنة أربعين أو إحدى وأربعين واستمر الأمر في بني أمية إلى أن انتقل إلى بني العباس سنة ثنتين وثلاثين ومائة ومجموع ذلك ثنتان وتسعون سنة وألف شهر تعدل ثلاثا وثمانين سنة وأربعة أشهر هذا كلامه
ومن استهزاء العاص بن وائل أنه كان يقول غر محمد نفسه وأصحابه أن وعدهم أن يحيوا بعد الموت والله ما يهلكنا إلا الدهر ومرور الأيام والأحداث


أي ومن استهزائه أن خباب بن الأرت رضي الله تعالى عنه كان قينا بمكة أي حدادا يعمل السيوف وقد كان باع للعاص سيوفا فجاءه يتقاضى ثمنها فقال له يا خباب أليس يزعم محمد هذا الذي أنت على دينه أن في الجنة ما ابتغى أهلها من ذهب أو فضة أو ثياب أو خدم أو ولد قال خباب بلى قال فانظرني إلى يوم القيامة يا خباب حتى أرجع إلى تلك الدار فأقضيك هناك حقك ووالله لا تكونن أنت وصاحبك آثر عندالله مني ولا أعظم حظا في ذلك
وفي لفظ أن العاص قال له لا أعطيك حتى تكفر بمحمد فقال والله لا أكفر بمحمد حتى يميتك الله ثم يبعثك قال فذرني حتى أموت ثم أبعث فسوف أوتى مالا وولدا فأقضيك فأنزل الله تعالى فيه { أفرأيت الذي كفر بآياتنا وقال لأوتين مالا وولدا أطلع الغيب أم اتخذ عند الرحمن عهدا كلا سنكتب ما يقول ونمد له من العذاب مدا ونرثه ما يقول ويأتينا فردا }
وفي كلام ابن حجر الهيتمي وفي البخاري من عدة طرق أن خبابا رضي الله تعالى عنه طلب من العاص بن وائل السهمي دينا له عليه قال لا أعطيك حتى تكفر بمحمد فقال لا أكفربه حتى يميتك الله ثم يبعثك
وفيه أن هذا تعليق للكفر بممكن أي وتعليق الكفر ولو بمحال عادي وكذا شرعي أو عقلي على إحتمال كفر لأنه ينافى عقد التصميم الذي هو شرط في الإسلام
وأجيب بأنه لم يقصد التعليق قطعا وإنما أراد تكذيب ذلك اللعين في إنكار البعث ولا ينافيه قوله حتى لأنها تأتي بمعنى إلا المنقطعة فتكون بمعنى لكن الذي صرحوا بأن ما بعدها كلام مستأنف وعليه خرج ابن هشام الخضراوي حديث كل مولود يولد على الفطرة حتى يكون أبواه يهودانه أي لكن أبواه
وعد بعضهم من المستهزئين الحارث بن عيطلة ويقال ابن عيطل ينسب إلى أمه وكان من استهزائه ما تقدم عن العاص بن وائل وأبي جهل من الإختلاج خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم
وعد منهم الأسود بن عبد يغوث وهو ابن خال النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا رأى المسلمين قال لأصحابه استهزاء بالصحابة قد جاءكم ملوك الأرض الذي يرثون كسرى

وقيصر أي لأن الصحابة كانوا متقشفين ثيابهم رثة وعيشهم خشن ويقول للنبي صلى الله عليه وسلم أما كلمت اليوم من السماء يا محمد وما أشبه هذا القول
وعد منهم الأسود بن عبدالمطلب ومن استهزائه أنه كان هو وأصحابه يتغامزون بالنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ويصفرون إذا رأوهم
وعد منهم النضر بن الحارث فهلك غالبهم قبيل الهجرة بضروب من البلاء
أقول والذي ينبغي أن يكون المراد بالمستهزئين في الآية وهي { إنا كفيناك المستهزئين } الوليد بن المغيرة والد خالد وعم أبي جهل فإنه كان من عظماء قريش وكان في سعة من العيش ومكنة من السيادة كان يطعم الناس أيام منى حيسا وينهى أن توقد نار لأجل طعام غير ناره وينفق على الحاج نفقة واسعه وكان الأعراب تثنى عليه كانت له البساتين من مكة إلى الطائف وكان من جملتها بستان لا ينقطع نفعه شتاء ولا صيفا وببركته صلى الله عليه وسلم أصابته الجوائح والآفات في أمواله حتى ذهبت بأسرها ولم يبق له في أيام الحج ذكر وكان المقدم في قريش فصاحة وكان يقال له ريحانة قريش ويقال له الوحيد أي في الشرف والسودد والجاه والرياسة قال بعضهم بل هو وحيد في الكفر والخبث والعناد
والعاص بن وائل والد عمرو بن العاص والأسود بن المطلب والأسود بن عبد يغوث والحارث بن عيطلة وفي لفظ ابن الطلاطلة في اللغة الداهية قال بعضهم وهو إشتباه لأن ابن الطلاطلة اسمه مالك لا حارث
والحارث بن العيطلة كان أحد أشراف قريش في الجاهلية وإليه كانت الحكومة والأموال التي تجعل للآلهة وذكره ابن عبدالبر في الصحابة قال في أسد الغابة لم أر أحدا ذكره في الصحابة إلا أبا عمرو يعني ابن عبد البر والصحيح أنه كان من المستهزئين وهؤلاء الخمسة هم الذين اقتصر عليهم القاضي البيضاوي لما يروى أن جبريل أتى النبي صلى الله عليه وسلم وهو في المسجد أي يطوف بالبيت وقال له أمرت أن أكفيكهم فلما مر الوليد بن المغيرة قال له يا محمد كيف تجد هذا فقال بئس عبدالله فأومأ إلى ساق الوليد وقال كفيته ومر العاص بن وائل فقال كيف تجد هذا يا محمد قال عبد سوء فأشار إلى أخمصه وقال كفيته ثم مر الأسود بن المطلب فقال كيف تجد هذا يا محمد قال عبد سوء فأومأ إلى عينه وقال كفيته ثم مر الأسود بن عبد يغوث

فقال كيف تجد هذا يامحمد قال عبد سوء فأومأ إلى رأسه وقال كفيته ثم مر الحارث بن عيطلة فقال كيف تجد هذا يا محمد قال عبد سوء فأومأ إلى بطنه وقال كفيته وحينئذ يكون معنى كفاية هذا له صلى الله عليه وسلم أنه لم يسع ولم يتكلف في تحصيل ذلك وإلى هذا أشار الإمام السبكي في تائيته بقوله ** وجبريل لما استهزأت فرقة الردى ** أشار إلى كل بأقبح ميتة **
والله أعلم قال وروى الزهري أن الأسود بن عبد يغوث خرج من عند أهله فاصابته السموم فاسود وجهه فأتى أهله فلم يعرفوه وأقفلوا دونه الباب وسلط عليه العطش فلا زال يشرب الماء حتى انشق بطنه وهذا يناسب ما سيأتي عن الهمزية ولا يناسب أن جبريل عليه الصلاة والسلام أشار إلى رأسه وف يكلام البلاذري عن عكرمة أن جبريل أخذ بعنق الأسود بن عبد يغوث فحنى ظهره حتى احقوقف فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم خالي خالي أي لأنه كما تقدم ابن خاله فهو إما على حذف المضاف أو لأجل مراعاة أبيه أي يراعى لأجل أبيه الذي هو خالي فقال جبريل يا محمد دعه وفي رواية قال له جبريل خل عنك ثم حثاه حتى قتله وهذا لا يناسب كون جبريل أشار إلى رأسه
والمناسب لذلك ما ذكره بعضه أنه امتخض رأسه قيحا ثم لم يزل يضرب برأسه أصل شجرة حتى مات وكذا الحارث بن عيطلة أي وفي كلام القاضي حارث ابن قيس
وفي تكملة الجلال السيوطي عدي بن قيس فقد أكل حوتا مملحا فلم يشرب عليه الماء حتى انقد بطنه وهذا المناسب لما ذكر هنا أن جبريل أشار إلى بطنه لكن لا يناسب ما قاله القاضي البيضاوي أنه أشار إلى أنفه فامتخض قيحا
وأما الأسود بن المطلب فقد عمى بصره فقد ذكر أنه خرج ليستقبل ولده وقد قدم من الشام فلما كان ببعض الطريق جلس في ظل شجرة فنجعل جبريل يضرب وجهه وعينيه بورقة من ورقها حتى عمى فجعل يستغيث بغلامه فقال له غلامه لا أحد يصنع بك شيئا أي وقيل ضربه بغصن فيه شوك فسالت حدقتاه وصار يقول ها هو ذا طعن بالشوك في عيني فيقال له ما نرى شيئا وقيل أتى شجرة فجعل ينطح رأسه بها حتى خرجت عيناه أي وفعل ذلك لا ينافي ما ورد فأشار أي جبريل إلى وجهه فعمى بصره

في الحال لجواز أن يراد بالحال الزمن القريب وفي رواية أنه كان يقول دعا علي محمد بالعمى فاستجيب له ودعوت عليه بأن يكون طريدا شريدا فاستجيب لي وسيأتي عن بعضهم في غزوة بدر أنه صلى الله عليه وسلم دعا على الأسود بن المطلب بالعمى وفقد أولاده فعجل له العمى وفقد أولاده ببدر وأما الوليد بن المغيرة فمر بشخص يعمل النبل فتعلق بثوبه سهم فلم ينقلب لينحيه تعاظما فعدا فأصاب السهم عرقا في ساقه فقطعه فمات وأما العاص بن وائل فدخلت شوكة في أخمصه فانتفخت رجله حتى صارت كالرحا ومات وإلى الخمسة الذين ذكرنا أنهم المرادون بقوله تعالى { إنا كفيناك المستهزئين } أشار صاحب الهمزية بقوله ** وكفاه المستهزئين وكم سا ** ء نبيا من قومه استهزاء ** ** خمسة كلهم أصيبوا بداء ** والردى من جنوده الأدواء ** ** فدهى الأسود بن مطلب ** أي عمى ميت به الأحياء ** ** ودهى الأسود بن عبد يغوث ** أن سقاه كأس الردى استسقاء ** ** وأصاب الوليد خدشة سهم ** قصرت عنها الحية الرقطاء ** ** وقضت شوكة على مهجة العا ** ص فلله النقعة الشوكاء ** ** وعلى الحارث القيوح وقد سا ** ل بها رأسه وسال الوعاء ** ** خمسة طهرت بقطعهم الأر ** ض فكف الأذى بهم شلاء **
أي وكفى الله رسوله صلى الله عليه وسلم المستهزئين به ومرات كثيرة أحزن نبينا صلى الله عليه وسلم كغيره من الأنبياء استهزاء قومه به وهؤلاء المستهزئون به صلى الله عليه وسلم خمسة كلهم أصيبوا بداء عظيم والهلاك من جملة جنوده الأمراض
فأهلك الأسود بن المطلب عمى عظيم الأحياء أموات بسببه وهو المناسب لكون جبريل أشار إلى عينيه ودهى أيضا الأسود بن عبد يغوث استسقاء سقاه كأس الموت وهذا لا يناسب كون جبريل أشار إلى رأسه وأصاب الوليد أثر سهم في ساقه قصرت عنه الحية الرقطاء أي سمها وقضت شوكة على مهجة العاص دخلت في رجله فلله هذا النقعة الخشنة اللمس وقضت على الحارث القيوح والحال أنه قد سال رأسه وفسد ذلك الوعاء لتلك القيوح وهذا هو المناسب لكون جبريل أشار إلى أنفه

لا لقول بعضهم إنه أشار إلى بطنه خمسة طهرت بهلاكهم الأرض فكف الأذى بهم شلاء فاقدة الحركة
وقد جاء عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن هؤلاء الخمسة هلكوا في ليلة واحدة فعلم أن هؤلاء هم المرادون بقوله تعالى { إنا كفيناك المستهزئين } كما ذكرنا وإن كان المستهزئون غير منحصرين فيهم فلا ينافى عد منبه ونبيه ابنى الحجاج منهم
فقد قيل كانا ممن يؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانا يليقيانه فيقولان له أما وجد الله من يبعثه غيرك إن ها هنا من هو أسن منك وأيسر فإن كنت صادقا فأتنا بملك ليشهد لك ويكون معك وإذا ذكر لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم قالا معلم مجنون يعمله أهل الكتاب ما يأتي به ولا ينافي عد أبي جهل وغيره منهم كما تقدم
وفي سيرة ابن المحدث قال عليه الصلاة والسلام من قرأ سورة الهمزة أعطاه الله عشر حسنات بعدد من استهزأ بمحمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه
ومن استهزاء أبي جهل أيضا بالنبي صلى الله عليه وسلم أنه قال يوما لقريش يا معشر قريش يزعم محمد أن جنود الله الذي يقذفونكم في النار ويحبسونكم فيها تسعة عشر وأنتم أكثر الناس عددا فيعجز كل مائة رجل منكم عن واحد منهم
أي وفي رواية أن بعض قريش وكان شديدا قوي البأس بلغ من شدته أنه كان يقف على جلد البقرة ويجاذبه عشرة لينزعوه من تحت قدمه فيتمزق الجلد ولا يتزحزح عنه قال له أنا أكفيك سبعة عشر واكفوني أنتم إثنين ويقال إن هذا دعا النبي صلى الله عليه وسلم إلى المصارعة وقال له يامحمد إن صرعتني آمنت بك فصرعه اليب صلى الله عليه وسلم مرارا فلم يؤمن
أي وفي رواية أن أبا جهل قال أنا أكفيكم عشرة فاكفوني تسعة فأنزل الله تعالى { وما جعلنا أصحاب النار إلا ملائكة } أي لا يطاقون كما تتوهمون { وما جعلنا عدتهم إلا فتنة } ضلالا { للذين كفروا } الآيات أي بأن يقولوا ما ذكر أو يقولوا لم كانوا تسعة عشرة وماذا أراد الله بهذا العدد أي وهذا العدد لحكمة استأثر الله تعالى بعلمها وقد أبدى بعض المفسرين لذلك حكما تراجع
وقد جاء في وصف تلك الملائكة أن أعينهم كالبرق الخاطف وأنيابهم كالصياصى

أي القرون ما بين منكبي أحدهم مسيرة سنة وفي رواية ما بين منكبي أحدهم كما بين المشرق والمغرب لأحدهم قوة مثل قوة الثقلين نزعت الرحمة منهم
وأخرج العتبى في عيون الأخبار عن طاوس إن الله خلق مالكا وخلق له أصابع على عدد أهل النار فما من أهل النار معذب إلا ومالك يعذبه بأصبع من أصابعه فوالله لو وضع مالك أصبعا من أصابعه على السماء لأذابها وهؤلاء التسعة عشرة هم الرؤساء ولكل واحد أتباع لا يعلم عدتهم إلا الله تعالى قال تعالى { وما يعلم جنود ربك إلا هو } أي وهؤلاء الأتباع منهم
وأخرج هناد عن كعب قال يؤمر بالرجل إلى النار فيبتدره مائة ألف ملك أي والمتبادر أن هؤلاء من خزنتها
وفي كلام بعضهم لم يثبت لملائكة النار عدد معين سوى ما في قوله تعالى { عليها تسعة عشر } وإنما ذلك لسقر التي هي إحدى دركات النار لقوله تعالى قبل ذلك { سأصليه سقر } وقد يكون على كل واحدة منها مثل هذا العدد أو أكثر قيل وبسم الله الرحمن الرحيم عدد حروفها على عدد هؤلاء الزبانية التسعة عشر فمن قرأها وهو مؤمن دفع الله تعالى عنه بكل حرف منها واحد منهم
أقول ومن استهزاء أبي جهل أيضا أنه قال يوما لقريش وهو يهزأ برسول الله صلى الله عليه وسلم وبما جاء به من الحق يا معشر يخوفنا محمد بشجرة الزقوم يزعم أنها شجرة في النار يقال لها شجرة الزقوم والنار تأكل الشجر إنما الزقوم التمر والزبد
وفي لفظ العجوة تترب بالزبد هاتوا تمرا وزبدا تزقموا فأنزل الله تعالى { إنها شجرة تخرج في أصل الجحيم } أي منبتها في أصل جهنم ولا تسلط لجهنم عليها أما علموا أن من قدر على خلق من يعيش في النر ويلتذ بها فهو أقدر على خلق الشجر في النار وحفظه من الإحراق بها
وقد قال ابن سلام رضي الله تعالى عنه إنها تحيا باللهب كما يحيا شجر الدنيا بالمطر وثمر تلك الشجرة مر له زفرة وأخرج الترمذي وصححه النسائي والبيهقي وابن حبان والحاكم عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لو أن قطرة من الزقوم قطرت في بحار الدنيا لأفسدت على أهل الأرض معايشهم فكيف بمن تكون

طعامه أي وقال يا محمد لتتركن سب آلهتنا أو لنسبن إلهك الذي تعبد فأنزلها الله تعالى { ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم } فكف عن سب آلهتهم وجعل يدعوهم إلى الله عز وجل
ثم رأيت في الدر المنثور في تفسير { إنا كفيناك المستهزئين } قيل نزلت في جماعة مر النبي صلى الله عليه وسلم بهم فجعلوا يغمزون في قفاه ويقولون هذا الذي يزعم أنه نبي ومعه جبريل فغمز جبريل عليه الصلاة والسلام بأصبعه في أجسادهم فصارت جروحا وأنتنت فلم يستطع أحد يدنو منهم حتى ماتوا فلينظر الجمع على تقدير الصحة
وقد يدعى أنهم طائفة آخرون غير من ذكر لأنهم المستهزئون ذلك الوقت أي فقد تكرر نزول الآية والله أعلم
قال ومن استهزاء النضر بن الحارث أنه كان إذا جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم مجلسا يحدث فيه قومه ويحذرهم ما أصاب من قبلهم من الأمم من نقمة الله تعالى خلفه في مجلسه ويقول لقريش هلموا فإني والله يا معشر قريش أحسن حديثا منه يعني النبي صلى الله عليه وسلم ثم يحدثهم عن ملوك فارس لأنه كان يعلم أحاديثهم ويقول ما حديث محمد إلا أساطير الأولين
ويقال إنه الذي { قال سأنزل مثل ما أنزل الله } فانتهى أي لأنه ذهب إلى الحيرة واشترى منها أحاديث الأعاجم ثم قدم بها مكة فكان يحدث بها ويقول هذه كأحاديث محمد عن عاد وثمود وغيرهم ويقال إن ذلك كان سببا لنزول قوله تعالى { ومن الناس من يشتري لهو الحديث }
قال في الينبوع والمشهور أنها نزلت في شراء المغنيات وقال ولا بعد في أن تكون الآية نزلت فيهما ليتحقق العطف في قوله تعالى { وإذا تتلى عليه آياتنا ولى مستكبرا } أي فإن هذا الوصف الثاني إنما يناسب النضر فليتأمل ولما تلا عليهم صلى الله عليه وسلم نبأ الأولين قال النضر بن الحارث لو نشاء لقلنا مثل هذا إن هذا إلا أساطير الأولين فأنزل الله تعالى تكذيبا له { قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا } أي معينا له
وجاء أن جماعة من بني مخزوم منهم أبو جهل والوليد بن المغيرة تواصوا على قتله صلى الله عليه وسلم فبينما النبي صلى الله عليه وسلم قائما يصلى سمعوا قراءته فأرسلوا

الوليد ليقتله فانطلق حتى أتى المكان الذي يصلى فيه فجعل يسمع قراءته ولا يراه فانصرف إليهم وأعلمهم بذلك فأتوه فلما سمعوا قراءته قصدوا الصوت فإذا الصوت من خلفهم فذهبوا إليه فسمعوه من أمامهم ولا زالوا كذلك حتى انصرفوا خائبين فانزل الله تعالى قوله { وجعلنا من بين أيديهم سدا ومن خلفهم سدا فأغشيناهم فهم لا يبصرون } وتقدم في سبب نزولها غير ذلك ويمكن أن يدعى أنها نزلت لوجود الأمرين فليتأمل
وجاء أن النضر بن الحارث رأى النبي صلى الله عليه وسلم منفردا أسفل ثنية الحجون فقال لا أجده أبدا أخلى منه الساعة فاغتاله فدنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليغتاله فرأى أسود تضرب بأذنابها على رأسه فاتحة أفواهها فرجع على عقبه مرعوبا فلقى أبا جهل فقال من أين فأخبره النضر الخبر فقال أبو جهل هذا بعض سحره
ومما تعنتوا به أنه لما نزل قوله تعالى { إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم } أي وقودها وحصب بالزنجية حطب أي حطب جهنم وقد قرأتها عائشة رضي الله تعالى عنها كذلك { أنتم لها واردون لو كان هؤلاء آلهة ما وردوها وكل فيها خالدون } شق على كفار قريش وقالوا لعبدالله بن الزبعري قد زعم محمد أنا وما نعبد من آلهتنا حصب جهنم فقال ابن الزبعري أنا أخصم لكم محمدا ادعوه لي فدعوه له فقال يا محمد هذا شيء لآلهتنا خاصة أم لكل من عبد من دون الله فقال بل لكل من عبد من عبد دون الله فقال ابن الزبعري أخصمت ورب هذه البنية يعني الكعبة ألست تزعم يا محمد أن عيسى عبد من دون الله وكذا عزير والملائكة عبدت النصارى عيسى واليهود عزيرا وبنوا مليح الملائكة فضج الكفار وفرحوا فأنزل الله تعالى { إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون } يعنى عيسى وعزيرا والملائكة وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
تم بعون الله الجزء الأول ويليه الجزء الثاني وأوله
باب الهجرة الأولى

بسم الله الرحمن الرحيم & باب الهجرة الاولى الى أرض الحبشة وسبب رجوع من هاجر اليها من المسلمين الى مكة واسلام عمر بن الخطاب رضى الله تعالى عنه
لما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما نزل بالمسلمين من توالى الاذى عليهم من كفار قريش مع عدم قدرته على انقاذهم مما هم فيه قال لهم تفرقوا فى الارض فان الله تعالى سيجمعكم قالوا الى أين نذهب قال هاهنا وأشار بيده الى جهة أرض الحبشة قال وفى رواية قال لهم أخرجوا الى جهة أرض الحبشة فان بها ملكا لا يظلم عنده احد اي وهى أرض صدق حتى يجعل الله لكم فرجا مما أنتم فيه انتهى أى ويجوز أن يكون قال ذلك عند استفساره صلى الله عليه وسلم عن محل اشارته فقد جاء فى الحديث من فر بدينه من أرض الى ارض وان كان شبرا من الارض استوجب له الجنة وكان رفيق أبيه ابراهيم خليل الله ونبيه محمد صلى الله عليه وسلم فهاجر اليها ناس ذو عدد مخافة الفتنة وفرارا الى الله تعالى بدينهم ومنهم من هاجر بأهله ومنهم من هاجر بنفسه فممن هاجر بأهله عثمان بن عفان رضى الله تعالى عنه هاجر ومعه زوجته رقية بنت النبى صلى الله عليه وسلم وكان أول خارج وقيل أول من هاجر الى الحبشة حاطب بن أبي عمرو وقيل سليط بن عمرو ولا ينافيهما قوله صلى الله عليه وسلم ان عثمان لاول من هاجر بأهله بعد لوط أى حيث قال انى مهاجر الى ربى فهاجر الى عمه ابراهيم الخليل ثم هاجرا عليهما الصلاة والسلام حتى أتيا حران ثم هاجرا الى أن نزل ابراهيم عليه الصلاة والسلام فلسطين ونزل لوط عليه الصلاة والسلام المؤتفكة


ووجه عدم المنافى أن كلا من حاطب وسليط يجوز أن يكون هاجر بغير أهله وكان مع رقية أم أيمن حاضنته صلى الله عليه وسلم وكانت رقية رضى الله تعالى عنها ذات جمال بارع وكذا عثمان رضى الله تعالى عنه ومن ثم كان النساء يغنينهما بقولهن ** أحسن شىء قد يرى انسان ** رقية وبعدها عثمان **
ومن ثم ذكر أنه صلى الله عليه وسلم بعث رجلا الى عثمان ورقية رضى الله تعالى عنهما فاحتبس عليه الرسول فلما جاء اليه قال له صلى الله عليه وسلم ان شئت أخبرتك ما حبسك قال نعم قال وقفت تنظر الى عثمان ورقية تعجب من حسنهما أى ومعلوم أن ذلك كان قبل اية الحجاب
ويذكر أن نفرا من الحبشة كانوا ينظرون اليها فتأذت من ذلك فدعت عليهم فقتلوا جميعا وقد جاء فى وصف حسن عثمان رضى الله تعالى عنه قوله صلى الله عليه وسلم قال لى جبريل ان أردت أن تنظر من أهل الارض شبيه يوسف الصديق فانظر الى عثمان بن عفان وسيأتى ذلك مع زيادة
وأبو سلمة هاجر ومعه زوجته أم سلمة أى وقيل هو أول من هاجر بأهله وهو مخالف للرواية السابقة أن عثمان أول من هاجر بأهله ويمكن أن تكون الاوليه فيه اضافية فلا ينافى ما سبق عن عثمان
وعامر بن ربيعة هاجر ومعه امرأته ليلى أى وعنها رضى الله تعالى عنها كان عمر بن الخطاب رضى الله تعالى عنه من أشد الناس علينا فى اسلامنا فلما ركبت بعيرى أريد أن أتوجه الى أرض الحبشة اذا أنا بعمر بن الخطاب فقال لى الى أين يا أم عبدالله فقلت قد اذيتمونا في ديننا نذهب فى أرض الله حيث لا نؤذى فقال صحبكم الله ثم ذهب فجاء زوجى عامر فأخبرته بما رأيت من رقة عمر فقال ترجين أن يسلم عمر والله لا يسلم حتى يسلم حمار الخطاب أى استبعادا لما كان يرى من قسوته وشدته على أهل الاسلام وهذا دليل على أن اسلام عمر كان بعد الهجرة الاولى للحبشة وهو كذلك أى خلافا لمن قال انه كان تمام الاربعين من المسلمين أى ممن أسلم
وفيه أن المهاجرين الى أرض الحبشه كانوا فوق ثمانين كما قاله بعضهم اللهم الا أن يقال انه كان تمام الاربعين بعد خروج المهاجرين الى أرض الحبشة وربما يدل لذلك قول عائشة رضى الله تعالى عنها فى قصة الصديق وفى ضرب قريش له رضى الله تعالى عنه

لما قام خطيبا في المسجد الحرام وقد تقدمت حيث قالت وكان المسلمون تسعة وثلاثين رجلا لكن فى الرواية أنهم قاموا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في الدار شهرا وهم تسعة وثلاثون رجلا وقد كان حمزة بن عبدالمطلب أسلم يوم ضرب أبو بكر فليتأمل
وفى لفظ عن أم عبد الله زوج عام قالت انا لنرحل الى أرض الحبشة وقد ذهب عامر تعنى زوجها الى بعض حاجته اذ أقبل عمر بن الخطاب حتى وقف على وكنا نتقى منه الاذى والبلاء والشدة علينا فقال انه لخروج يا أم عبدالله فقلت والله لنخرجن الى أرض فقد اذيتمونا وقهرتمونا حتى يجعل الله لنا مخرجا وفرجا فقال صحبكم الله ورأيت له رقة لم أكن أراها ثم انصرف وتفرست فيه حزنا لخروجنا وقلت لعامر يا أبا عبدالله لو رأيت ما وقع من عمر وذكرت ما تقدم
وممن هاجر أبو سبرة وهو أخو أبى سلمة رضى اله تعالى عنهما لامه أمهما برة بنت عبدالمطلب عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم هاجر ومعه امرأته أم كلثوم
وممن هاجر بنفسه عبدالرحمن بن عوف وعثمان بن مظعون رضى الله تعالى عنهما أى وكان أميرا عليهم كما قيل وجزم به ابن المحدث فى سيرته وقال الزهرى لم يكن لهم أمير وسهيل بن البيضاء أى والزبير بن العوام وعبدالله بن مسعود رضى الله تعالى عنهم وقيل انما كان عبدالله بن مسعود فى الهجرة الثانية فخرجوا سرا أى متسللين منهم الراكب ومنهم الماشى حتى انتهوا الى البحر فوفق الله تعالى لهم سفينتين للتجار حملوهم فيهما بنصف دينار أى وفى المواهب وخرجوا مشاة الى البحر فاستأجروا سفينة بنصف دينار هذا كلامه فليتأمل
وكان مخرجهم فى رجب من السنة الخامسة من النبوة فخرجت قريش فى اثارهم حتى جاءوا الى البحر لم يجدوا أحدا منهم ولعل خروجهم سرا لا ينافيه ما تقدم عن ليلى امرأة عامر بن ربيعة من سؤال عمر لها واخبارها له بأنها تريد أرض الحبشة فلما وصلوا الى أرض الحبشة نزلوا بخير دار عند خير جار فمكثوا فى أرض الحبشة بقية رجب وشعبان الى رمضان فلما كان شهر رمضان قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم على المشركين سورة { والنجم إذا هوى } أى وقد أنزلت عليه فى ذلك الوقت ففى كلام بعضهم جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما مع المشركين وأنزل الله تعالى عليه سورة { والنجم إذا هوى } فقرأها عليهم حتى اذا بلغ { أفرأيتم اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى }

وسوس اليه الشيطان بكلمتين فتكلم بهما ظانا أنهما من جملة ما أوحى اليه وهما تلك الغرانيق العلى أى الاصنام وان شفاعتهن لترتجى وفى لفظ لهى التى ترتجى شبهت الاصنام بالغرانيق التى هى طير الماء جمع غرنوق بكسر الغين المعجمه واسكان الراء ثم نون مفتوحة أو غرنوق بضم الغين والنون أيضا أو غرنوق بضم الغين وفتح النون وهو طير طويل العنق وهو الكركى أو يشبهه ووجه الشبه بين الاصنام وتلك الطيور أن تلك الطيور تعلو وترتفع فى السماء فالاصنام شبهت بها فى علو القدر وارتفاعه ثم مضى يقرأ السورة حتى بلغ السجدة فسجد وسجد القوم جميعا أى المسلمون والمشركون
أقول قال بعضهم ولم يكن المسلمون سمعوا الذى ألقى الشيطان وانما سمع ذلك المشركون فسجدوا لتعظيم الهتهم ومن ثم عجب المسلمون من سجود المشركين معهم من غير ايمان
قال بعضهم والنجم هى أول سورة نزل فيها سجدة أى أول سورة نزلت جملة كاملة فيها سجدة فلا ينافى أن { اقرأ باسم ربك } سورة نزلت فيها سجدة لان النازل منها أوائلها كما علمت
وقد جاء أنه صلى الله عليه وسلم قرأ يوما { اقرأ باسم ربك } فسجد في اخرها وسجد معه المؤمنون فقام المشركون على رءوسهم يصفقون
وقد روى أبو هريرة رضى الله تعالى عنه أنه صلى الله عليه وسلم سجد في النجم أى غير سجدته المتقدمة التى سجد معه المشركون ومجموع ذلك يرد حديث ابن عباس رضى الله تعالى عنهما أنه صلى الله عليه وسلم لم يسجد فى شىء من المفصل قبل أن يتحول الى المدينة لان سورة النجم من المفصل لان عند أئمتنا أن أول المفصل الحجرات على الراجح من أقوال عشرة
لا يقال لعل ابن عباس رضى الله تعالى عنهما ممن يرى أن النجم ليس من المفصل لانا نقول { اقرأ باسم ربك } من المفصل اتفاقا وعلى ما قال أئمتنا يكون فى المفصل ثلاث سجدات في النجم والانشقاق { اقرأ باسم ربك } وهى أى النجم أول سورة أعلنها رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة
وذكر الحافظ الدمياطى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان رأى من قومه كفا عنه أى تركا وعدم تعرض له فجلس خاليا فتمنى فقال ليته لم ينزل على شىء ينفرهم عنى وفى رواية تمنى أن ينزل عليه ما يقارب بينه وبينهم حرصا على اسلامهم وقارب رسول الله صلى الله عليه وسلم قومه ودنا منهم ودنوا منه فجلس يوما مجلسا فى ناد من تلك الاندية حول الكعبة فقرأ عليهم { والنجم إذا هوى } الى اخر ما تقدم والله أعلم

ومن جملة من كان مع المشركين حينئذ الوليد بن المغيرة لكنه رفع ترابا الى جبهته فسجد عليه لانه كان شيخا كبيرا لا يقدر على السجود
وقيل الذى فعل ذلك سعيد بن العاص ويقال كلاهما فعل ذلك وقيل الفاعل لذلك أمية بن خلف وصحح وقيل عتبة بن ربيعة وقيل أبو لهب وقيل المطلب
وقد يقال لا مانع أن يكونوا فعلوا ذلك جميعا بعضهم فعل ذلك تكبرا وبعضهم فعل ذلك عجزا وممن فعل ذلك تكبرا أبو لهب فقد جاء وفيها سجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وسجد معه المؤمنون والمشركون والجن والانس غير أبى لهب فانه رفع حفنة من تراب الى جبهته وقال يكفى هذا
ولا يخالف ذلك مانقل عن ابن مسعود ولقد رأيت الرجل أى الفاعل لذلك قتل كافرا لانه يجوز أن يكون المراد بقتل مات فعند ذلك قال المشركون له صلى الله عليه وسلم قد عرفنا أن الله تعالى يحيى ويميت ويخلق ويرزق ولكن الهتنا هذه تشفع لنا عنده فأما اذا جعلت لنا نصيبا فنحن معك فكبر ذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم وجلس فى البيت
وفيه أنه كيف يكبر عليه صلى الله عليه وسلم ذلك مع أنه موافق لما تمناه من أن الله ينزل عليه ما يقارب بينه وبين المشركين حرصا على اسلامهم المتقدم ذلك عن سيرة الدمياطى الا أن يقال هذا كان بعد ما عرض السورة على جبريل وقال له ما جئتك بهاتين الكلمتين المذكور ذلك فى قولنا فلما أمسى صلى الله عليه وسلم أتاه جبريل فعرض عليه السورة وذكر الكلمتين فيها فقال له جبريل ما جئتك بهاتين الكلمتين فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت على الله ما لم يقل أى فكبر عليه ذلك فأوحى الله تعالى اليه ما فى سورة الاسراء { وإن كادوا ليفتنونك عن الذي أوحينا إليك لتفتري علينا غيره } بموافقتك لهم على مدح الهتهم بما لم نرسل به اليك { وإذا } لو فعلت أى دمت عليه { لاتخذوك خليلا } الى قوله { ثم لا تجد لك علينا نصيرا } أى مانعا يمنع العذاب عنك وهذا يدل لما تقدم أنه تكلم بذلك ظانا أنه من جملة ما أوحى اليه
وقيل نزل ذلك لما قال له اليهود حسدا له صلى الله عليه وسلم على اقامته بالمدينة لئن كنت نبيا فالحق بالشام لانها أرض الانبياء حتى نؤمن بك فوقع ذلك فى قلبه فخرج برحله فنزلت فرجع أى بدليل ما بعدها وقيل ان التى بعدها نزلت فى أهل مكة

وقيل ان اية { وإن كادوا ليفتنونك عن الذي أوحينا إليك } نزلت في ثقيف قالوا لاندخل فى أمرك حتى تعطينا خلالا نفتخر بها على العرب لا نعشر ولا نحشر ولا ننحنى في صلاتنا وكل ربا لنا فهو لنا وكل ربا علينا فهو موضوع عنا وأن تمتعنا باللات سنة وأن تحرم وادينا كما حرمت مكة فان قالت العرب لم فعلت ذلك فقل ان الله أمرنى
وقيل نزلت فى قريش قالوا لا نمكنك من استلام الحجر حتى تلم بالهتنا وتمسها بيدك
وقد يدعى أن هذا مما تعدد أسباب نزوله والقاضى البيضاوى اقتصر على ما عدا الاول والله أعلم
قال وقيل ان هاتين الكلمتين لم يتكلم بهما رسول الله صلى الله عليه وسلم وانما ارتصد الشيطان سكتة عند قوله الاخرى فقالهما محاكيا نغمته صلى الله عليه وسلم فظنهما النبى صلى الله عليه وسلم كما فى شرح المواقف ومن سمعه أنهما من قوله صلى الله عليه وسلم أى حتى قال قلت على الله ما لم يقل وتباشر بذلك المشركون وقالوا ان محمدا قد رجع الى ديننا أى دين قومه حتى ذكر أن الهتنا لتشفع لنا وعند ذلك أنزل الله تعالى قوله { وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته } أى قراءته ما ليس من القران أى مما يرضاه المرسل اليهم وفى البخارى اذا حدث ألقى الشيطان فى حديثه فينسخ الله ما يلقى الشيطان يبطله ثم يحكم الله اياته أى يثبتها والله عليم بالقاء الشيطان ما ذكر حكيم فى تمكينه من ذلك يفعل ما يشاء ليميز به الثابت على الايمان من المتزلزل فيه ولم أقف على بيان أحد من الانبياء والمرسلين وقع له مثل ذلك
وفيه كيف يجترىء الشيطان على التكلم بشىء من الوحى ومن ثم قيل هذه القصة طعن فى صحتها جمع وقالوا انها باطلة وضعها الزنادقة أى ومن ثم أسقطها القاضى البيضاوى ومن جملة المنكرين لها القاضى عياض فقد قال هذا الحديث لم يخرجه أحد من أهل الصحة ولا رواه ثقة بسند سليم متصل وانما أولع به المفسرون المؤرخون المولعون بكل غريب أى وقال البيهقى رواة هذه القصة كلهم مطعون فيهم وقال الامام النووى نقلا عنه

وأما ما يرويه الاخباريون والمفسرون أن سبب سجود المشركين مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ما جرى على لسانه من الثناء على الهتهم فباطل لا يصح منه شىء لا من جهة النقل ولا من جهة العقل لان مدح اله غير الله كفر ولا يصح نسبة ذلك الى رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أن يقوله الشيطان على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يصح تسليط الشيطان على ذلك أى وألا يلزم عدم الوثوق بالوحى
وقال الفخر الرازى هذه القصة باطلة موضوعة لا يجوز القول بها قال الله تعالى { وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى } أى الشيطان لايجترىء أن ينطق بشىء من الوحى وقال بصحتها جمع منهم خاتمة الحفاظ الشهاب ابن حجر وقال رد عياض لافائدة فيه ولا يعول عليه هذا كلامه وفشا أمر تلك السجدة فى الناس حتى بلغ أرض الحبشة أن أهل مكة أى عضماءهم قد سجدوا وأسلموا حتى الوليد بن المغيرة وسعيد بن العاص
وفى كلام بعضهم والناقل لاسلامه أنه لما رأى المشركين قد سجدوا متابعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم اعتقد أنهم أسلموا واصطلحوا معه ولم يبق نزاع معهم فطار الخبر بذلك وانتشر حتى بلغ مهاجرة الحبشة فظنوا صحة ذلك فقال المهاجرون بها من بقي بمكة اذا أسلم هؤلاء عشائرنا أحب الينا فخرجوا أى خرج جماعة منهم من أرض الحبشة راجعين الى مكة أى وكانوا ثلاثة وثلاثين رجلا منهم عثمان بن عفان والزبير ابن العوام وعثمان بن مظعون وذلك فى شوال حتى اذا كانوا دون مكة ساعة من نهار لقوا ركبا فسألوهم عن قريش فقال الركب ذكر محمد الهتهم بخير فتابعه الملاء ثم عاد لشتم الهتهم وعادوا له بالشر وتركناهم على ذلك فائتمر القوم فى الرجوع الى أرض الحبشة ثم قالوا قد بلغنا مكة فندخل ننظر مافيه قريش ويحدث عهدا من أراد بأهله ثم نرجع فدخلوا مكة أى بعضهم بجوار وبعضهم مستخفيا
قال فى الامتاع ويقال ان رجوع من كان مهاجرا بالحبشة الى مكة كان بعد الخروج من الشعب هذا كلامه وفيه نظر ظاهر ويرشد اليه التبرى لانهم مكثوا فى الشعب ثلاث سنين او سنتين ومكث هؤلاء عند النجاشى حينئذ كان دون ثلاثة أشهر كما علمت وأيضا الهجرة الثانية للحبشة انما كانت بعد دخول الشعب كما سيأتى

قال فى الاصل ولم يدخل أحد مهم الا بجوار الا ابن مسعود فانه مكث يسيرا ثم رجع الى أرض الحبشة
أى وهذا من صاحب الاصل تصريح بأن ابن مسعود كان فى الهجرة الاولى وهو موافق فى ذلك لشيخه الحافظ الدمياطى لكن الحافظ الدمياطى جزم بأن ابن مسعود كان فى الهجرة الاولى ولم يحك خلافا وصاحب الاصل حكى خلافا أنه لم يكن فيها وبه جزم ابن اسحاق حيث قال ان ابن مسعود انما كان فى الهجرة الثانية فكان ينبغى للاصل أن يقول على ما تقدم
هذا وفى كلام بعضهم فلم يدخل أحد منهم مكة الا مستخفيا ولكهم دخلوا مكة الا عبدالله بن مسعود فانه رجع الى أرض الحبشة
وقد يقال لما لم يطل مكث ابن مسعود بمكة ظن به أنه لم يدخلها فلا ينافى ما سبق ويجوز أن يكون أكثرهم دخل مكة بلا جوار فأطلقوا على الكل أنهم دخلوا مستخفين فلا يخالف ماسبق أيضا ولما رجعوا لقوا من المشركين أشد ما عهدوا
قال وممن دخل بجوار عثمان بن مظعون دخل فى جوار الوليد بن المغيره ولما رأى ما يفعل بالمسلمين من الاذى قال والله ان غدوى ورواحى امنا بجوار رجل من أهل الشرك وأصحابي وأهل دينى يلقون من الاذى فى الله مالا يصيبنى لنقص كبير فمشى الى الوليد فقال يا أبا عبدشمس وفت ذمتك وقد رددت اليك جوارك قال له يا ابن أخى لعله اذاك أحد من قومى وأنت فى ذمتى فأكفيك ذلك قال لا والله ما اعترض لى أحد ولا اذانى ولكن أرضى بجوار الله عز وجل وأريد أن لا أستجير بغيره قال انطلق الى المسجد فاردد الى جوارى علانية كما أجرتك علانية فانطلقا حتى أتيا المسجد فقال الوليد هذا عثمان قد جاء يرد على جوارى فقال عثمان صدق وقد وجدته وفيا كريم الجوار ولكنى لا أستجير بغير الله عزوجل قد رددت عليه جواره فقال الوليد أشهدكم أنى برىء من جواره الا أن يشاء ثم انصرف عثمان ولبيد بن ربيعة بن مالك فى مجلس من قريش ينشدهم قبل اسلامه فجلس عثمان معهم فقال لبيد ألا كل شىء ما خلا الله باطل فقال عثمان صدقت فقال لبيد وكل نعيم لا محالة زائل فقال عثمان كذبت نعيم الجنة لا يزول فقال لبيد يا معشر قريش ما كان يؤذى جليسكم فمتى حدث هذا فيكم فقال رجل من القوم ان هذا سفيه فمن سفاهته فارق ديننا فلا

تجدن فى نفسك من قوله فرد عليه عثمان فقام ذلك الرجل فلطم عينه والوليد بن المغيرة قريب يرى ما بلغ من عثمان فقال أما والله يا ابن أخى كانت عينك عما أصابها لغنية ولقد كنت فى ذمة منيعة فخرجت منها وكنت عن الذى لقيت غنيا فقال عثمان رضى الله تعالى عنه بل كنت الى الذى لقيت فقيرا والله ان عينى الصحيحة التى لم تلطم لفقيرة الى مثل ما أصاب أختها فى الله عز وجل ولى فيمن هو أحب الى منكم أسوة وانى لفى جوار من هو أعز منك انتهى فعثمان فهم أن لبيدا أراد بالنعيم ما هو شامل لنعيم الاخرة ومن ثم قال له نعيم الجنة لا يزول لا يقال لولا أن لبيدا يريد مطلق النعيم الشامل لنعيم الاخرة لما تشوش من الرد عليه لانا نقول يجوز أن يكون تشوشه من مشافهة عثمان له بقوله كذبت
على أن هذا السياق دال على أن لبيدا قال هذا الشعر قبل اسلامه ويؤيده ما قيل أكثر أهل الاخبار على أن لبيدا لم يقل شعرا منذ أسلم وبه يرد ما فى الاستيعاب أن هذا أى قوله أ لا كل شىء الى اخره شعر حسن فيه ما يدل على أنه قاله فى الاسلام وكذلك قوله ** وكل امرىء يوما سيعلم سعيه ** اذا كشفت عند الاله المحاصل **
وقد يقال لا يلزم من قوله المذكور الذى لا يصدر غالبا الا عن مسلم أن يكون قاله فى حال اسلامه كما وقع لامية بن أبى الصلت حيث قال فى شعره ما لايقوله الا مسلم مع كفره ومن ثم قال صلى الله عليه وسلم فيه امن شعره وكفر قلبه وفى رواية كاد يسلم
وذكر محيى الدين بن العربى فى قوله صلى الله عليه وسلم أصدق بيت قالته العرب وفى رواية أشعر كلمة تكلمت بها العرب كلمة لبيد ألا كل شىء ما خلا الله باطل
اعلم أن الموجودات كلها وان وصفت بالباطل فهى حق من حيث الوجود ولكن سلطان المقام اذا غلب على صاحبه يرى ما سوى الله تعالى باطلا من حيث انه ليس له وجود من ذاته فحكمه حكم العدم وهذا معنى قول بعضهم قوله باطل أى كالباطل لان العالم قائم بالله تعالى لا بنفسه فهو من هذا الوجه باطل والعارف اذا وصل الى مقامات القرب فى بداية عرفانه ربما تلاشت هذه الكائنات وحجب عن شهودها بشهود الحق لا أنها زالت من الوجود بالكلية ثم اذا كمل عرفانه يشهد الحق تعالى

والخلق معا فى ان واحد وما كل أحد يصل الى هذا المقام فان غالب الناس ان شهد الحق لم يشهد الخلق وان شهد الخلق لم يشهد الحق كما تقدم عند الكلام على الوحدة أنه لا يدركها الا من أدرك اجتماع الضدين ولعل من المشهد الاول قول الاستاذ الشيخ أبى الحسن البكرى رضى الله تعالى عنه أستغفر الله مما سوى الله لان الباطل يستغفر من اثبات وجوده لذاته
ويوافق قول أكثر أهل الاخبار قول السهيلى وأسلم لبيد وحسن اسلامه وعاش فى الاسلام ستين سنة لم يقل فيها بيت شعر فسأله عمر رضى الله تعالى عنه أى فى خلافته عن تركه للشعر فقال ما كنت لاقول شعرا بعد أن علمنى الله تعالى البقرة وال عمران فزاده عمر فى عطائه خمسمائة من أجل هذا القول فكان عطاؤه ألفين وخمسمائة وقيل انه قال بيتا واحدا فى الاسلام وهو ** الحمد لله الذى لم يأتنى أجلى ** حتى اكتسيت من الاسلام سربالا ** قال وممن دخل بجوار أبو سلمة بن عبد الاسد ابن عمته صلى الله عليه وسلم فانه دخل فى جوار خاله أبى طالب ولما أجاره مشى اليه رجال من بنى مخزوم فقالوا يا أبا طالب منعت منا ابن أختك فمالك ولصاحبنا تمنعه منا فقال انه استجار بى وهو ابن أختى وأنا ان لم أمنع ابن أختى لم أمنع ابن أخى فقام أبو لهب على أولئك الرجال وقال لهم يا معشر قريش لا تزالون تعارضون هذا الشيخ فى جواره من قومه والله لتنتهن أو لاقومن معه فى كل مقام يقوم فيه حتى يبلغ ما أراد قالوا بل ننصرف عما تكره يا أبا عتبة أى لانه كان لهم وليا وناصرا على رسول الله صلى الله عليه وسلم انتهى أى وطمع أبو طالب فى أبى لهب حيث سمعه يقول ما ذكر ورجا أن يقوم معه فى شأنه صلى الله عليه وسلم وأنشد أبياتا يحرضه فيها على نصرته صلى الله عليه وسلم
وممن أوذى فى الله بعد اسلامه ووقع له نظير ما وقع لعثمان بن مظعون رضى الله عنه عمر بن الخطاب
وسبب اسلامه على ما حدث به بعضهم قال قال لنا عمر بن الخطاب رضى الله تعالى عنه أتحبون أن أعلمكم كيف كان بدء اسلامى أى ابتداؤه والسبب فيه قلنا نعم قال كنت من أشد الناس على رسول الله صلى الله عليه وسلم فبينا أنا فى يوم حار شديد الحر بالهاجرة فى بعض طرق مكة اذ لقينى رجل من قريش أى وهو نعيم بن عبدالله

النحام بالحاء المهملة قيل له ذلك لانه صلى الله عليه وسلم قال فيه لقد سمعت نحمته فى الجنة أى صوته وحسه كان يخفى اسلامه خوفا من قومه وأخبرنى أن أختى يعنى أم جميل واسمها فاطمة كما تقدم وقيل زينب وقيل امنة قد صبئت أى أسلمت وكذا زوجها وهو سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل أحد العشرة المشهود لهم بالجنة وهو ابن عم عمر وكانت أخت سعيد عاتكة تحت عمر فرجعت مغضبا وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجمع الرجل والرجلين اذا أسلما عند الرجل به قوة يكونان معه يصيبان من طعامه وقد ضم الى زوج أختى رجلين ممن أسلم أى أحدهما خباب بن الارت بالمثناة فوق والاخر لم أقف على اسمه
وفى السيرة الهشامية الاقتصار على خباب وأنه كان يختلف اليهما ليعلمهما القران فجئت حتى قرعت الباب فقيل لى من بالباب قلت ابن الخطاب وكان القوم جلوسا يقرءون صحيفة معهم فلما سمعوا صوتى تبادروا أى واستخفوا ونسوا الصحيفة فقامت المراة يعنى أخته ففتحت لى فقلت لها يا عدوة نفسها قد بلغنى أنك قد صبوت وضربتها بشىء كان فى يدى فسال الدم فلما رات الدم بكت وقالت يا ابن الخطاب ما كنت فاعلا فافعل فقد أسلمت فدخلت وجلست على السرير فنظرت فاذا بالصحيفة فى ناحية من البيت فقلت ما هذا الكتاب اعطينيه أى فان عمر كان كاتبا فقالت لا أعطيكه لست من أهله أنت لا تغتسل من الجنابة و لا تتطهر وهذا لا يمسه الا المطهرون فلم أزل حتى أعطتنيه أى بعد أن اغتسل كما فى بعض الروايات وفي بعض الروايات قالت له يا أخى انك نجس على شركك فانه لا يمسه الا المطهرون وقولها لا تغتسل من الجنابة ربما يخالف قول بعضهم ان أهل الجاهلية كانوا يغتسلون من الجنابة وكون عمر كان يخالفهم فى ذلك من البعيد وكون هذا منها يحمل على أنه لم يغتسل غسلا يعتد به يخالفه ما تقدم عن بعض الروايات أنه لما اغتسل دفعت له تلك الرقعة وفى لفظ قالت له انا نخشاك عليها قال لا تخافى وحلف لها بالهته ليردنها اذا قرأها فدفعتها له أى وطمعت فى اسلامه فاذا فيها { بسم الله الرحمن الرحيم } قال فلما مررت على { بسم الله الرحمن الرحيم } ذعرت أى فزعت ورميت الصحيفة من يدى ثم رجعت الى نفسى فأخذتها فاذا فيها { سبح لله ما في السماوات والأرض وهو العزيز الحكيم } فكلما مررت باسم من أسمائه عزوجل ذعرت أى فألقيها ثم ترجع الى نفسى

فاخذها حتى بلغت { آمنوا بالله ورسوله } الى قوله تعالى { إن كنتم مؤمنين } فقلت أشهد أن لا اله الا الله وأن محمدا رسول الله فخرج القوم يتبادرون بالتكبير استبشارا بما سمعوا منى وحمدوا الله عزوجل ثم قالوا يا ابن الخطاب أبشر فان رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا فقال اللهم أعز الاسلام وفى لفظ أيد الاسلام بأحد الرجلين اما بأبي جهل بن هشام واما بعمر بن الخطاب أى وفى لفظ بأحب هذين الرجلين اليك أبى الحكم عمرو بن هشام يعنى أبا جهل وعمر بن الخطاب أى وفى غير ما رواية بعمر ابن الخطاب من غير ذكر أبى جهل
وعن عائشة رضى الله تعالى عنها قالت انما قال صلى الله عليه وسلم اللهم أعز عمر بالاسلام لان الاسلام يعز ولا يعز ولعل قول عائشة ما ذكر نشأ عن اجتهاد منها بدليل تعليلها واستبعادها أن يعز الاسلام بعمر فليتأمل وكان دعاؤه صلى الله عليه وسلم بذلك يوم الاربعاء فأسلم عمر يوم الخميس قال عمر رضى الله تعالى عنه فلما عرفوا منى الصدق قلت لهم أخبرونى بمكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا هو فى بيت بأسفل الصفا ووصفوه أى وهى دار الارقم فخرجت وفى رواية أن عمر قال ياخباب انطلق بنا الى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقام خباب وابن عمه سعيد معه قال عمر لما قرعت الباب قيل من هذا قلت ابن الخطاب فما اجترأ أحد أن يفتح لى الباب لما عرفوه من شدتى على رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يعلموا اسلامى فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم افتحوا له فان يرد الله به خيرا يهده وفى لفظ يهديه باثبات الياء وهى لغة ففتحوا لى أى والذى أذن فى دخوله حمزة بن عبدالمطلب رضى الله تعالى عنه فان اسلام عمر كان بعد اسلام حمزة بثلاثة أيام وقيل بثلاثة أشهر وكان اسلام عمر وهو ابن ست وعشرين سنة قال وأخذ رجلان بعضدى حى دنوت من النبى صلى الله عليه وسلم فقال أرسلوه فارسلونى فجلست بين يديه صلى الله عليه وسلم فاخذ بمجامع قميصى فجذبني اليه ثم قال أسلم يا ابن الخطاب اللهم اهده فقلت أشهد أن لا اله الا الله وأنك رسول الله فكبر المسلمون تكبيرة سمعت بطرف مكة
أى وفى الاوسط للطبرانى ورواه الحاكم باسناد حسن عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ضرب صدر عمر بيده حين أسلم ثلاث مرات وهو يقول اللهم

أخرج ما فى صدر عمر من غل وأبدله ايمانا أى ولعل خبابا وسعيدا لم يدخلا معه والا لبشرا باسلام عمر
وفى رواية لما ضرب الباب وسمعوا صوته قام رجل فنظر من خلل الباب فراه متوشحا سيفه أى ولم ير معه خبابا ولا سعيدا فرجع الى النبى صلى الله عليه وسلم وهو فزع فقال يا رسول الله هذا عمر بن الخطاب متوشحا سيفه نعوذ بالله من شره فقال حمزه بن عبدالمطلب فائذن له فان كان جاء يريد خيرا بذلنا له وان كان جاء يريد شرا قتلناه بسيفه
وفى لفظ أنه صلى الله عليه وسلم قال ان جاء بخير قبلناه وان جاء بشر قتلناه وفى لفظ ان يرد بعمر خير يسلم وان يرد غير ذلك يكن قتله علينا هينا ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ائذن له فاذن له الرجل ونهض اليه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى لقيه فى صحن الدار فأخذ بحجزته وجذبه جذبة شديدة وقال ما جاء بك يا بان الخطاب فو الله ما أدرى أن تنتهى حتى ينزل الله بك قارعة وفى لفظ أخذ بمجامع ثوبه وحمائل سيفه وقال ما أنت منته ياعمر حتى ينزل الله بك من الخزى والنكال ما أنزل الله بالوليد بن المغيرة أى أحد المستهزئين به صلى الله عليه وسلم كما تقدم فقال يارسول الله جئت لأومن بالله ورسوله أشهد أنك رسول الله وفى رواية ( أشهد أن لا اله الا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله فكبر رسول الله صلى الله عليه وسلم تكبيره عرفت وفى رواية سمعها أهل المسجد
وفى رواية لما جاء دفع الباب فوجد بلالا وراء الباب فقال بلال من هذا فقال عمر بن الخطاب فقال حتى أستأذن لك على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال بلال يا رسول الله عمر بالباب فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ان يرد الله به خيرا أدخله فى الدين فقال لبلال افتح له وأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بضبعه فهزه
وفى رواية أخذ ساعده وانتهره فارتعد عمر هيبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وجلس وفى لفظ أخذ بمجامع ثيابه ثم نتره نترة فما تمالك عمر أن وقع على ركبتيه فقال صلى الله عليه وسلم الله اللهم هذا عمر بن الخطاب اللهم أعز الاسلام بعمر بن الخطاب ما الذى تريد وما الذى جئت له فقال عمر اعرض على الذى تدعو اليه

فقال تشهد أن لا اله الا الله وحده لا شريك له وأن محمدا عبده ورسوله فأسلم عمر مكانه
أقول ولا ينافى هذا ما تقدم من اسلامه واتيانه بالشهادتين فى بيت اخته قبل خروجه اليه صلى الله عليه وسلم وقوله ولم يعلموا اسلامى لانه يجوز أن يكون مراده بقوله جئت لأومن جئت لاظهر ايمانى عندك وعند أصحابك وعند ذلك قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم أسلم يا ابن الخطاب الى اخره وقوله للنبى صلى الله عليه وسلم اعرض على الذى تدعو اليه يجوز أن يكون عمر جوز أن الذى يدعو اليه ويصير به المسلم مسلما أخص مما نطق به من الشهادتين والله أعلم قال عمر وأحببت أن يظهر اسلامى وأن يصيبنى ما يصيب من أسلم من الضرر والاهانة فذهبت الى خالى وكان شريفا فى قريش وأعلمته أنى صبوت أى وهو أبو جهل
وقد جاء فى بعض الروايات قال عمر لما أسلمت تذكرت أى أهل مكة أشد لرسول الله صلى الله عليه وسلم عداوة حتى اتيه فأخبره أنى قد أسلمت فذكرت أبا جهل فجئت له فدققت عليه الباب فقال من بالباب قلت عمر بن الخطاب فخرج الى فقال مرحبا وأهلا يا ابن أختى ما جاء بك قلت جئت لاخبرك وفى لفظ لابشرك ببشارة فقال أبو جهل وما هى يا ابن أختى فقلت انى قد امنت بالله وبرسوله محمد صلى الله عليه وسلم وصدقت ما جاء به فضرب الباب فى وجهى أى أغلقه وهو بمعنى أجاف الباب كما فى بعض الروايات وقال قبحك الله وقبح ما جئت به أى وانما كان أبو جهل خال عمر بن الخطاب رضى الله تعالى عنه قيل لان أم عمر أخت أبى جهل وقيل لان أم عمر بنت هشام بن المغيرة والد أبى جهل فأبو جهل خال أم عمر وقيل ان أم عمر بنت عم أبى جهل وصححه ابن عبد البر وعصبة الام أخوال الابن قال عمر وجئت رجلا اخر من عظماء قريش وأعلمته أنى صبوت فم يصبنى منها شىء فقال لى رجل تحب أن يعلم اسلامك قلت نعم قال اذا جلس الناس يعنى قريشا فى الحجر واجتمعوا فائت فلانا لشخص كان لا يكتم السر وهو جميل بن معمر رضى الله عنه أسلم يوم الفتح وشهد مع النبى صلى الله عليه وسلم حنينا وكان يسمى ذا القلبين وفيه نزلت { ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه } ومات فى خلافة عمر رضى الله تعالى عنه وحزن عليه عمر حزنا شديدا فقل له فيما بينك وبينه اني قد صبوت قال فلما اجتمعت الناس فى الحجر جئت الرجل فدنوت منه واخبرته فرفع صوته بأعلاه فقال

الا ان عمر بن الخطاب قد صبأ فما زال الناس يضربونى وأضربهم فقام خالى يعنى أباجهل على الحجر فأشار بكمه وقال ألا انى أجرت ابن اختى فانكشف الناس عنى فصرت أى بعد ذلك أرى الواحد من المسلمين يضرب وأنا لا أضرب فقلت ما هذا بشىء حتى يصيبنى ما يصيب المسلمين فأمهلت حتى جلس الناس فى الحجر وصلت الى خالى وقلت له جوارك عليك رد فقال لا تفعل يا ابن أختى فقلت بل هو ذاك فمازلت أضرب وأضرب حتى أعز الله الاسلام
أى وفى السيرة الهشامية بينما القوم يقاتلونه ويقاتلهم اذ أقبل شيخ من قريش عليه حلة حبرة وقميص موشى حتى وقف عليه أى وهو العاص بن وائل فقال ويلكم ما شأنكم قالوا صبأ عمر قال فمه رجل اختار لنفسه أمرا فماذا تريدون أترون بنى عدى بن كعب مسلمين لكم صاحبهم هكذا خلوا عن الرجل فانفرجوا عنه كأنهم ثوب كشط عنه
أى وفى البخارى لما أسلم عمر اجتمع الناس عند داره وقالوا صبأ عمر فبينما عمر في داره خائفا اذ جاءه العاص بن وائل فقال له مالك قال زعم قومك أنهم سيقتلونى ان أسلمت أى اذ أسلمت قال أمنت لا سبيل اليك فخرج العاص فلقى الناس قد سال بهم الوادى فقال أين تريدون فقالوا نريد هذا عمر بن الخطاب الذى صبأ قال لا سبيل اليه فأنا له جار فكسر الناس وتصدعوا عنه أى ويذكر أن عتبة بن ربيعة وثب عليه فالقاه عمر الى الارض وبرك عليه وجعل يضربه وأدخل أصبعيه في عينيه فجعل عتبة يصيح وصار لا يدنو منه أحد الا أخذ بشرا سيفه وهى أطراف أضلاعه
وعن عمر رضى الله تعالى عنه فى سبب اسلامه قال خرجت أتعرض لرسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن أسلم فوجدته قد سبقنى الى المسجد فقمت خلفه فاستفتح بسورة الحاقة فجعلت أتعجب من تأليف القران فقلت هذا والله شاعر كما قالت قريش فقرأ { إنه لقول رسول كريم وما هو بقول شاعر قليلا ما تؤمنون } قال قلت كاهن علم ما فى نفسى فقرأ { ولا بقول كاهن قليلا ما تذكرون } الى اخر السورة فوقع الاسلام فى قلبى كل موقع
أى ومن ذلك ما فى السيرة الهشامية عن عمر رضى الله تعالى عنه قال جئت المسجد

أريد أن أطوف بالكعبة فاذا رسول الله صلى الله عليه وسلم قائم يصلى وكان اذا صلى استقبل الشام أى صخرة بيت المقدس وجعل الكعبة بينه وبين الشام فكان مصلاه بين الركن الاسود والركن اليمانى أى لانه لايكون مستقبلا لبيت المقدس الا حينئذ كما تقدم قال فقلت حين رأيته صلى الله عليه وسلم لو أنى استمعت لمحمد الليلة حتى أسمع ما يقول قال فقلت لئن دنوت منه أستمع لاروعنه فجئت من قبل الحجر فدخلت تحت ثيابها يعنى الكعبة فجعلت أمشى رويدا ورسول الله صلى الله عليه وسلم قائم يصلى فقرأ صلى الله عليه وسلم الرحمن حتى قمت فى قبلته مستقبله ما بينى وبينه الا ثياب الكعبة فلما سمعت القران رق له قلبى فبكيت ودخلنى الاسلام فلم أزل قائما فى مكانى ذلك حتى قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاته ثم انصرف فتبعته فلما سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم حسى عرفنى وظن أنما تبعته لاوذيه فنهمنى أى زجرني ثم قال ما جاء بك يا ابن الخطاب هذه الساعة قلت جئت لأومن بالله ورسوله وبما جاء من عند الله وفى رواية ضرب أختى المخاض ليلا فخرجت من البيت فدخلت فى أستار الكعبة فجاء النبى صلى الله عليه وسلم فدخل الحجر فصلى فيه ماشاء الله ثم انصرف فسمعت شيئا لم أسمع مثله فخرج فاتبعته فقال من هذا قلت عمر قال ياعمر ماتدعنى لا ليلا ولا نهارا فخشيت أن يدعو على فقلت أشهد أن لا اله الا الله وأنك رسول الله فقال يا عمر أتسره قلت لا والذى بعثك بالحق لاعلننه كما أعلنت الشرك فحمد الله تعالى ثم قال هداك الله يا عمر ثم مسح صدرى ودعا لى بالثبات ثم انصرفت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ودخل بيته
أى ويحتاج للجمع بين هذه الروايات على تقدير صحتها ثم رأيت العلامة ابن حجر الهيتمى قال ويمكن الجمع بتعداد الواقعة قبل اسلامه هذا كلامه ليتأمل مافيه
قال ومن ذلك أى مما كان سببا لاسلام عمر أن أبا جهل بن هشام قال يا مشعر قريش ان محمدا قد شتم الهتكم وسفه أحلامكم وزعم أن من مضى من أسلافكم يتهافتون فى النار ألا ومن قتل محمدا فله على مائة ناقة حمراء وسوداء وألف أوقية من فضة أى وفى لفظ جعلوا لم يقتله كذا وكذا أوقية من الذهب وكذا كذا أوقية من الفضة وكذا كذا نافجة من المسك وكذا كذا ثوبا وغير ذلك فقال عمر أنا لها فقالوا له أنت لها ياعمر وتعاهد معهم على ذلك قال عمر فخرجت متقلدا سيفى متنكبا كنانتى

أى جعلتها فى منكبى أريد رسول الله صلى الله عليه وسلم فمررت على عجل يذبح فسمعت من جوفه صوتا يقول يا ال ذريح صائح يصيح بلسان فصيح يدعو الى شهادة أن لا اله الا الله وأن محمدا رسول الله فقلت فى نفسى ان هذا الامر لا يراد به الا أنت وذريح اسم للعجل المذبوح وقيل له ذلك من أجل الدم لان الذريح شديد الحمرة يقال أحمر ذريحى أى شديد الحمرة ثم مر برجل أسلم وكان يكتم اسلامه خوفا من قومه يقال له نعيم أى ابن عبدالله النحام كما تقدم فقال له أين تذهب يا ابن الخطاب فقال أريد هذا الصابى الذى فرق أمر قريش وسفه أحلامها وسب الهتها فأقتله فقال له نعيم والله لقد غرتك نفسك أترى بنى عبدمناف تاركيك تمشى على وجه الارض وقد قتلت محمدا فلا ترجع الى أهل بيتك فتقيم أمرهم قال وأى أهل بيتى قال ختنك أى زوج أختك وابن عمك سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل وأختك قد أسلما فعليك وانما فعل ذلك نعيم ليصرفه عن أذية رسول الله صلى الله عليه وسلم وقيل الذى لقيه سعد بن أبى وقاص فقال له أين تريد يا عمر فقال أريد أن أقتل محمدا قال له أنت أصغر وأحقر من ذلك تريد أن تقتل محمدا وتدعك بنو عبدمناف أن تمشى على الارض فقال له عمر ما أراك الا وقد صبأت فأبدأ بك فاقتلك فقال سعد أشهد أن لا اله الا الله وأن محمدا رسول الله فسل عمر سيفه وسل سعد سيفه وشد كل منهما على الاخر حتى كاد أن يختلطا ثم قال سعد لعمر مالك يا عمر لا تصنع هذا بختنك وأختك فقال صبا قال نعم فتركه عمر وسار الى منزل أخته أى ولا مانع أن يكون لقى كلا من نعيم وسعد بن أبى وقاس وقال له كل منهما ماذكر
وفى هذه الرواية وجد عندهم خباب بن الارت معه صحيفة فيها سورة طه يقرؤها عليهم وانه دق عليهم الباب فلما سمعوا حس عمر تغيب خباب أى وترك الصحيفة فلما دخل قال لاخته ما هذه الهينمة التى سمعت قالت له ماسمعت شيئا غير حديث تحدثنا به بيننا قال بلى والله لقد أخبرت أنكما يخاطب أخته وزوجها بايعتما محمدا على دينه وبطش بزوج أخته فألقاه الى الارض وجلس على صدره وأخذ بلحيته فقامت اليه أخته لتكفه عن زوجها فضربها فشجها أى فلما رأت الدم قالت له ياعدو الله أتضربنى على أن أوحد الله تعالى لقد أسلمت على رغم أنفك فاصنع ما أنت صانع فلما رأى ما بأخته وما صنع بزوجها ندم وقال لاخته أعطنى هذه الصحيفة أنظر ما هذا الذى جاء

به محمد وكان عمر كاتبا قالت أخشاك عليها فحلف ليردنها اذا قرأها اليها فقالت له يا أخى أنت نجس ولا يمسه الا الطاهر فقام واغتسل أى وفى لفظ فذهب يغتسل فخرج اليها خباب وقال أتدفعين كتاب الله تعالى الى عمر وهو كافر قالت نعم انى أرجو أن يهدى الله أخى ورجع خباب الى محله ودخل عمر فأعطته تلك الصحيفة فلما قرأها عمر وبلغ { فلا يصدنك عنها من لا يؤمن بها واتبع هواه فتردى } قال أشهد أن لا اله الا الله وأن محمدا عبده ورسوله أه أى وفى رواية أنه لما قرأ الصحيفة قال ما أحسن هذا الكلام وأكرمه أى وقيل انه لما انتهى الى قوله تعالى { إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني وأقم الصلاة لذكري } قال ينبغى لمن يقول هذا أن لا يعبد معه غيره فلما سمع ذلك خباب خرج اليه فقال يا عمر انى لارجو أن يكون الله تعالى قد خصك بدعوة نبيه صلى الله عليه وسلم فانى سمعته أمس وهو يقول اللهم أيد الاسلام بأبى الحكم ابن هشام أو بعمر بن الخطاب فالله الله يا عمر فقال له عند ذلك دلنى يا خباب على محمد حتى اتيه فأسلم أى عنده وعند أصحابه فلا ينافى ما فى الرواية الاولى أنه أسلم فقال له خباب هو فى بيت عند الصفا معه نفر من أصحابه فعمد الى رسول الله صلى الله عليه وسلم الحديث
أقول ويمكن الجمع بين هاتين الروايتين حيث كانت القصة واحدة ولم تتعدد بأنه يجوز أن يكون زوج أخته استخفى أولا مع خباب ورفيقه ثم ظهر فأوقع به وباخته ما ذكر وأنه فى الرواية الاولى اقتصر على ذكر أخته والصحيفة تعددت واحدة فيها { سبح لله ما في السماوات والأرض } والثانية فيها طه اقتصر فى الرواية الاولى على احداهما وهى التى فيها { سبح لله } وفى الرواية الثانية على الاخرى التى فيها { طه } وانه في الرواية الاولى أسلم وفى الرواية الثانية سكت عن ذلك والله أعلم
وعن ابن عباس أيضا رضى الله تعالى عنهما لما أسلم عمر رضى الله تعالى عنه قال المشركون لقد انتصف القوم منا
وعن ابن عباس أيضا رضى الله تعالى عنهما لما أسلم عمر رضى الله تعالى عنه نزل جبريل عليه السلام على النبى صلى الله عليه وسلم فقال يا محمد استبشر أهل السماء باسلام عمر
قال وروى البخارى عن ابن مسعود رضى الله تعالى عنه مازلنا أعزة منذ أسلم

عمر اه وزاد بعضهم عن ابن مسعود والله لقد رأيتنا وما نستطيع أن نصلى بالكعبة أى عندها ظاهرين امنين حتى أسلم عمر فقاتلهم حتى تركونا فصلينا أى وجهروا بالقراءة وكانوا قبل ذلك لا يقرءون الا سرا كما تقدم وعن صهيب لما أسلم عمر جلسنا حول البيت حلقا
وفى كلام ابن الاثير مكث صلى الله عليه وسلم مستخفيا فى دار الارقم ومن معه من المسلمين الى أن كملوا أربعين بعمر بن الخطاب وعند ذلك خرجوا وتقدم ما فى ذلك
ومما يؤثر عن عمر رضى الله تعالى عنه من اتقى الله وقاه ومن توكل عليه كفاه السيد هو الجواد حين يسأل الحليم حين يستجهل أشقى الولاة من شقيت به رعيته أعدل الناس أعذرهم للناس
وفى مختصر تاريخ الخلفاء لابن حجر الهيتمى أن عمر أول من قال أطال الله تعالى بقاءك وأيدك الله قال ذلك لعلى رضى الله تعالى عنه وهو أول من استقضى القضاة فى الامصار
ويروى أن الارقم هذا لما كان بالمدينة بعد الهجرة تجهز ليذهب فيصلى فى بيت المقدس فلما فرغ من جهازه جاء الى النبى صلى الله عليه وسلم يودعه فقال له ما يخرجك أى من المدينة حاجة أم تجارة قال لا يا رسول الله بأبى أنت وأمى ولكن أريد الصلاة فى بيت المقدس فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة فى مسجدى هذا خير من ألف صلاة فيما سواه من المساجد الا المسجد الحرام فجلس الارقم ولم يذهب لبيت المقدس
ولما حضرته الوفاة أوصى أن يصلى عليه سعد بن أبى وقاص فلما مات كان سعد بالعقيق فقال مروان يحبس صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم لرجل غائب وأراد الصلاة عليه فأبى ولده ذلك على مروان ووقع بينهم كلام ثم جاء سعد وصلى على الارقم
أى وقيل لعمر رضى الله عنه ما سبب تسمية النبى صلى الله عليه وسلم لك بالفاروق قال لما أسلمت والنبى صلى الله عليه وسلم وأصحابه مختفون قلت يا رسول الله ألسنا على

الحق ان متنا وان حيينا قال بلى والذى نفسى بيده انكم على الحق ان متم وان حييتم فقلت ففيم الاختفاء والذى بعثك بالحق ما بقى مجلس كنت أجلس فيه بالكفر الا أظهرت فيه الاسلام غير هائب ولا خائف والذى بعثك بالحق لنخرجن فخرجنا فى صفين حمزة فى أحدهما وأنا فى الاخر له أى لذلك الجمع كديد ككديد الطحين أى لذلك الجمع غبار ثائر من الارض لشدة وطء الاقدام لان الكديد التراب الناعم اذا وطىء ثار غباره قال حتى دخلنا المسجد فنظرت قريش الى والى حمزة فأصابتهم كآبة لم يصبهم مثلها أى فطاف صلى الله عليه وسلم بالبيت وصلى الظهر معلنا ثم رجع ومن معه الى دار الارقم فسمانى رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ الفاروق فرق الله بى بين الحق والباطل
أى وفى رواية أنه صلى الله عليه وسلم خرج فى صفين حمزة فى أحدهما وعمر فى الاخر لهم كديد ككديد الطحين
وفى رواية أن عمر رضى الله تعالى عنه قال له يارسول الله لا ينبغى أن تكتم هذا الدين أظهر دينك وفى رواية والله لا يعبد الله سرا بعد اليوم فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه المسلمون وعمر أمامهم معه سيفه يناى لا اله الا الله محمد رسول الله حتى دخل المسجد ثم صاح مسمعا لقريش كل من تحرك منكم لامكنن سيفى منه ثم تقدم أمام رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يطوف والمسلمون ثم صلوا حول الكعبة وقرءوا القران جهرا وكانوا كما تقدم لا يقدرون على الصلاة عند الكعبة ولا يجهرون بالقرآن
وفى المنتقى على ما نقله بعضهم فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وعمر أمامه وحمزة بن عبدالمطلب رضى الله تعالى عنهما حتى طاف بالبيت وصلى الظهر معلنا ثم انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم الى دار الارقم
وفيه أن صلاة الظهر لم تكن فرضت حينئذ الا أن يقال المزاد بصلاة الظهر الصلاة التى وقعت فى ذلك الوقت أى ولعل المراد بها صلاة الركعتين اللتين كان يصليهما بالغداة صلاهما فى وقت الظهر
وعن عمر رضى الله عنه وافقت ربى فى ثلاث قلت يا رسول الله لو اتخذنا من مقام ابراهيم مصلى فنزلت { واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى } وقلت يا رسول الله

ان نساءك يدخل عليهن البر والفاجر فلو أمرتهن ان يحتجبن فنزلت اية الحجاب واجتمع على رسول الله صلى الله عليه وسلم نساؤه فى الغيرة فقلت لهن عسى ربه ان طلقكن أن يبدله أزواجا خيرا منكن فنزلت أى وقد قال له بعض نسائه صلى الله عليه وسلم يا عمر أما فى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يعظ نساءه حتى تعظهن أنت ومنع رضى الله عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يصلى على عبدالله بن أبى بن سلول
وفى البخارئ لما توفى عبدالله بن أبى جاء ولده عبدالله رضى الله عنه الى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأله أن يعطيه قميصه يكفن فيه أباه فأعطاه وهذا لا يخالف مافى تفسير القاضى البيضاوى من أن ابن أبى دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم فى مرضه فلما دخل عليه فسأله أن يستغفر له ويكفنه فى شعاره الذى يلى جسده الشريف ويصلى عليه فلما ما أرسل له صلى الله عليه وسلم قميصه ليكفن فيه لانه يجوز أن يكون ارساله للقميص بسؤال ولده له صلى الله عليه وسلم بعد موت أبيه
قال فى الكشاف فان قلت كيف جازت له صلى الله عليه وسلم تكرمة المنافق وتكفينه فى قميصه
قلت كان ذلك مكافأة له على صنيع سبق له وذلك أن العباس عم رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أخذ أسيرا ببدر لم يجدوا له قميصا وكا رجلا طوالا فكساه عبدالله قميصه أى ولأن الضنة بارساله القميص سيما وقد سئل فيه مخل بالكرم وقال له المشركون يوم الحديبية انا لانأذن لمحمد ولكن نأذن لك فقال لا ان لى فى رسول الله أسوة حسنة فشكر رسول الله صلى الله عليه وسلم له ذلك واكراما لابنه
وفى هذا تصريح بأن ابن أبى كان مع المسلمين فى بدر وفى الحديبية ثم ان ابنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يصلى عليه فقال له أسألك أن تقوم على قبره لا تشمت به الاعداء أى وذلك بعد سؤال ولده له صلى الله عليه وسلم فى ذلك كما تقدم عن القاضى البيضاوى فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصلى عليه فقام عمر رضى الله تعالى عنه فأخذ بثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال يا رسول الله أتصلى عليه وقد نهاك ربك أن تصلى عليه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم انما خيرت فقال { استغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم } وسأزيده على السبعين وفى رواية أتصلى على ابن أبى وقد قال يوم كذا كذا وكذا أعد عليه

قوله فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال أخر عنى ياعمر فلما أكثرت عليه قال انى خيرت لو أعلم أنى ان زدت على السبعين يغفر له لزدت عليها فصلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فانزل الله تعالى { ولا تصل على أحد منهم مات أبدا ولا تقم على قبره } الى قوله { وهم فاسقون } ولينظر ما معنى التخيير فى الاية وما الجمع بين قوله سازيد علة السبعين وقوله ولو أعلم أنى ان زدت على السبعين يغفر له لزدت عليها
ثم رأيت القاضى البيضاوى قال فى وجه التخيير وقوله سأزيد على السبعين انه صلى الله عليه وسلم فهم من السبعين العدد المخصوص لانه الاصل فجوز أن يكون ذلك حدا يخالفه حكم ما وراءه فبين له أى الحق سبحانه أن المراد به التكثير بقوله فى الاية الاخرى { سواء عليهم أستغفرت لهم أم لم تستغفر لهم لن يغفر الله لهم } هذا كلامه وحينئذ يشكل قوله لو أعلم أنى ان زدت على السبعين يغفر له لزدت عليها فان هذا مقتض لعدم الصلاة عليه لا للصلاة عليه فليتأمل وقد قال على رضى الله تعالى عنه ان فى القران لقرانا من رأى عمر وما قال الناس فى شىء وقال فيه عمر الا جاء القران بنحو ما يقول عمر
وقد أوصل بعضهم موافقاته أى الذى نزل القران على وفق ما قال وما أراد الى أكثر من عشرين أى وقد أفردها بعضهم بالتأليف وقد سئل عنها الجلال السيوطي فأجاب عنها نظما
قال عبدالله بن عمر رضى الله تعالى عنهما ما نزل بالناس أمر فقال الناس وقال عمر الا نزل القران على نحو ما قال عمر
وعن مجاهد كان عمر يرى الرأى فينزل به القران وقد قال صلى الله عليه وسلم ان الله جعل الحق على لسان عمر وقلبه ومن موافقاته ما سيأتى فى أسارى بدر
ومنها أنه لما سمع قوله تعالى { ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين } الاية قال { فتبارك الله أحسن الخالقين } فنزلت كذلك
ومنها أن بعض اليهود قال له ان جبريل الذى يذكره صاحبكم عدو لنا فقال { من كان عدوا لله وملائكته ورسله وجبريل وميكال فإن الله عدو للكافرين } فنزلت كذلك واستأذن رضى الله تعالى عنه النبى صلى الله عليه وسلم فى العمرة فأذن له وقال يا أخى

لا تنسنا من دعائك أى وفى رواية يا أخى أشركنا فى صالح دعائك ولا تنسنا قال عمر ما أحب أن لى بقوله يا أخى ما طلعت عليه الشمس وجاء أول من يصافحه الحق عمر بن الخطاب وأول من يسلم عليه وجاء ان الله وضع الحق على لسان عمر يقول به وجاء لو كان بعدى نبى لكان عمر بن الخطاب وممن نزل القران على وفق ما قال مصعب بن عمير أيضا رضى الله تعالى عنه كان اللواء بيده يوم أحد وسمع الصوت أن محمدا قد قتل فصار يقول { وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل } فنزلت = باب اجتماع المشركين على منابذة بنى هاشم وبنى المطلب ابنى عبدمناف وكتابة الصحيفة
قد اجتمع كفار قريش على قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا قد أفسد علينا أبناءنا ونساءنا وقالوا لقومه خذوا منا دية مضاعفة ويقتله رجل من قريش وتريحونا وتريحون أنفسكم فأبى قومه فعند ذلك اجتمع رأيهم على منابذة بنى هاشم وبنى المطلب واخراجهم من مكة الى شعب أبى طالب
فيه تصريح بأن شعب أبى طالب كان خارجا عن مكة والتضييق عليهم بمنع حضور الاسواق وأن لا يناكحوهم وأن لايقبلوا لهم صلحا أبدا ولا تأخذهم بهم رأفة حتى يسلموا رسول الله صلى الله عليه وسلم للقتل أى وفى لفظ لا تنكحوهم ولا تنكحوا اليهم ولا تبيعوهم شيئا ولا تبتاعوا منهم شيئا ولا تقبلوا منهم صلحا الحديث وكتبوا بذلك صحيفة وعلقوها فى الكعبة أى توكيدا على أنفسهم وقيل كانت عند خالة أبى جهل
وقد يجمع بأنه يجوز أن تكون كانت عندها قبل أن تعلق فى الكعبة على أنه سيأتى أنه يجوز أن الصحيفة تعددت وكان اجتماعهم وتخالفهم فى خيف بنى كنانة بالابطح ويسمى محصبا وهو بأعلى مكى عند المقابر فدخل بنو هاشم وبنو المطلب مؤمنهم وكافرهم الشعب الا أبا لهب فانه ظاهر عليهم قريشا وكان سنه صلى الله عليه وسلم حين دخل الشعب ستة وأربعين سنة وفى الصحيح أنهم فى الشعب جهدوا حتى كانوا يأكلون الخبط وورق الشجر
وفى كلام السهيلى كانوا اذا قدمت العير مكة يأتى أحدهم السوق ليشترى شيئا من

الطعام يقتاته فيقوم أبو لهب فيقول يا معشر التجار غالوا على أصحاب محمد حتى لا يدركوا شيئا معكم فقد علمتم مالى ووفاء ذمتى فيزيدون عليهم فى السلعة قيمتها أضعافا حتى يرجع الى أطفاله وهم يتضاغون من الجوع وليس فى يده شىء يعللهم به فيغدو التجار على أبى لهب فيربحهم هذا كلامه
ولا منافاة بين خروج أحدهم السوق اذا جاءت العير بالميرة الى مكة وكونهم منعوا من الاسواق والمبايعة لهم كما لا يخفى
وكان دخولهم الشعب هلال المحرم سنة سبع من النبوة وحينئذ أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم من كان بمكة من المسلمين أن يخرجوا الى الحبشة
أقول وفى رواية أن خروج بنى هاشم وبنى المطلب الى الشعب لم يكن اخراج قريش لهم وانما خرجوا اليه لان قريشا لما قدم عليهم عمرو بن العاص من عند النجاشى خائبا وردت معه هديتهم وفقد صاحبه الذى هو عمارة بن الوليد وبلغهم اكرام النجاشى لجعفر ومن معه من المسلمين أى كما سيأتى وظهور الاسلام فى القبائل كبر ذلك عليهم واشتد أذاهم على المسلمين واجتمع رأيهم على أن يقتلوا النبى صلى الله عليه وسلم علانية فلما رأى أبو طالب ذلك جمع بنى هاشم والمطلب مؤمنهم وكافرهم وأمرهم أن يدخلوا برسول الله صلى الله عليه وسلم الشعب ويمنعوه ففعلوا فبنو هاشم وبنو المطلب كانوا شيئا واحدا لم يفترقوا حتى دخلوا معهم فى الشعب وانخزل عنهم بنو عميهم عبد شمس ونوفل ولهذا يقول أبو طالب فى قصيدته ** جزى الله عنا عبدشمس ونوفلا ** عقوبة شر عاجلا غير اجل **
وقال فى قصيدة أخرئ ** جزى الله عنا عبدشمس ونوفلا ** وتيما ومخزوما عقوقا ومأثما **
فلما علمت قريش ذلك أجمع رأيهم على أن يكتبوا عهودا ومواثيق على أن لا يجالسوهم الحديث
وفيه أنه سيأتى أن خروج عمرو بن العاص الى الحبشة انما كان بعد الهجرة الثانية وهى بعد دخول بنى هاشم والمطلب الى الشعب والله أعلم

= باب الهجرة الثانية الى الحبشة
لا يخفى أنه لما وقع ماذكر انطلق الى الحبشة عامة من امن بالله ورسوله أى غالبهم فكانوا عند النجاشى ثلاثة وثمانين رجلا وثمانى عشرة امراة وهذا بناء على أن عمار بن ياسر كان منهم وقد اختلف فى ذلك وكلام الاصل يميل الى ذلك وكان من الرجال جعفر ابن ابى طالب ومعه زوجته أسماء بنت عميس والمقداد بن الاسود وعبدالله بن مسعود وعبيدالله بالتصغير بن جحش ومعه امرأته أم حبيبة بنت أبى سفيان فتنصر هناك ثم مات على النصرانية أى وبقيت أم حبيبة رضى الله تعالى عنها على اسلامها وتزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم كما سياتى
وعن أم حبيبة رضى الله تعالى عنها قالت رأيت فى المنام كأن عبيدالله بن جحش زوجى بأسواء حال وتغيرت صورته فاذا هو يقول حين أصبح يا أم حبيبة انى نظرت فى هذا الدين فلم أر دينا خيرا من دين النصرانية وقد كنت دنت بها ثم دخلت فى دين محمد ثم خرجت الى دين النصرانية قالت فقلت والله ماخير لك وأخبرته بما رأيته له لم يحفل بذلك وأكب على الخمر يشربه حتى مات فرأيت فى المنام كأن اتيا يقول لى يا أم المؤمنين ففزعت وأولتها بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم يتزوجنى فكان كذلك
أى وذكر ابن اسحاق ان أبا موسى الاشعرى هاجر الى الحبشة ومراده أنه هاجر اليها من اليمن لامن مكة كما فهم الواقدى فاعترض عليه في ذلك فعن أبى موسى أنه بلغه مخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو باليمن فخرج هو ونحو خمسين رجلا فى سفينة مهاجرين اليه صلى الله عليه وسلم فألقتهم السفينة الى النجاشى بالحبشة فوجدوا جعفرا وأصحابه فأمرهم جعفر بالاقامة واستمروا كذلك حتى قدموا عليه صلى الله عليه وسلم هم وجعفر عند فتح خيبر كما سيأتى
وبهذا يندفع قول بعضهم ما ذكره ابن اسحق من أن أبا موسى الاشعرى هاجر من مكة الى الحبشة من الغريب جدا ولعله مدرج من بعض الرواة فأقاموا بخير دار عند خير جار فبعثت قريش خلفهم عمرو بن العاص ومعه عمارة بن الوليد بن المغيرة التى أرادت قريش دفعه لابى طالب ليكون بدلا عن النبى صلى الله عليه وسلم اذا قتلوه بهدية

الى النجاشى والهدية فرس وجبة ديياج أى وأهدوا لعظماء الحبشة هدايا ليرد من جاء اليه من المسلمين فلما دخلا عليه سجدا له وقعد واحد عن يمينه والاخر عن شماله
وفى كلام بعضهم فأجلس عمرو بن العاص على سريره وقبل هديتهما فقالا ان نفرا من بنى عمنا نزلوا أرضك فرغبوا عنا وعن الهتنا أى ولم يدخلوا فى دينكم بل جاءوا بدين مبتدع لا نعرفه نحن ولا انتم وقد بعثنا الى الملك فيهم أشراف قريش لتردوهم اليهم قال وأين هم قالوا بأرضك فأرسل فى طلبهم أى وقال له عظماء الحبشة ادفعهم اليهما فهما أعرف بحالهم فقال لا والله حتى أعلم على أى شىء هم فقال عمرو هم لا يسجدون للملك أى وفى لفظ لايخرون لك ولا يحيونك بما يحييك الناس اذا دخلوا عليك رغبة عن سنتكم ودينكم فلما جاءوا قال لهم جعفر رضى الله تعالى عنه أنا خطيبكم اليوم أى فانه لما جاءهم رسول النجاشى يطلبهم اجتمعوا ثم قال بعضهم لبعض ما تقولون للرجل اذا جئتموه قال جعفر ما ذكر وقال انما نقول ما علمنا وما أمرنا به رسول الله صلى الله عليه وسلم ودع يكون ما يكون وقد كان النجاشى دعا أساقفته وأمرهم بنشر مصاحفهم حوله فلما جاء جعفر وأصحابه صاح جعفر وقال جعفر بالباب يستأذن ومعه حزب الله فقال النجاشى نعم يدخل بأمان الله وذمته فدخل عليه ودخلوا خلفه فسلم فقال له الملك مالك لا تسجد
وفى لفظ ان عمرا قال لعمارة ألا ترى كيف يكتنون بحزب الله وما أجابهم به وان عمرا قال للنجاشى ألا ترى أيها الملك أنهم مستكبرون لم يحيوك بتحيتك فقال النجاشى ما منعكم أن لا تسجدوا وتحيونى بتحيتى التى أحيى بها فقال جعفر انا لا نسجد الا لله عزوجل قال ولم ذلك قال لان الله تعالى أرسل فينا رسولا وأمرنا أن لا نسجد الا لله عز وجل وأخبرنا أن تحية أهل الجنة السلام فحييناك بالذى يحيى به بعضنا بعضا أى وعرف النجاشى ذلك لانه كذلك فى الانجيل كما قيل أى وأمرنا بالصلاة أى غير الخمس لانها لم تكن فرضت بل التى هى ركعتان بالغداة وركعتان بالعشى أى ركعتان قبل طلوع الشمس وركعتان قبل غروبها على ما تقدم والزكاة أى مطلق الصدقة لازكاة المال لانها انما فرضت بالمدينة أى فى السنة الثانية ومراده بالزكاة الطهارة قال عمرو بن العاص للنجاشى فانهم يخالفونك فى ابن مريم ولا يقولون انه ابن الله عز وجل وعلا قال فما تقولون فى ابن مريم وأمه قال نقول كما قال الله عز وجل

روح الله وكلمته ألقاها الى مريم العذراء أى البكر البتول أى المنقطعة عن الازواج التى لم يمسها بشر ولم يفرضها أى يشقها ويخرج منها ولد أى غير عيسى صلى الله على نبينا وعليه وسلم فقال النجاشى يامعشر الحبشة والقسيسين والرهبان ما يزيدون على ما تقولون أشهد أنه رسول الله وأنه الذى بشر به عيسى فى الانجيل أى ومعنى كونه روح الله أنه حاصل عن نفخه روح القدس الذى هو جبريل ومعنى كونه كلمة الله تعالى أنه قال له كن فكان أى حصل فى حال القول
وفى لفظ أن النجاشى قال لمن عنده من القسيسين والرهبان أنشدكم الله الذى أنزل الانجيل على عيسى هل تجدون بين عيسى وبين يوم القيامة نبيا مرسلا أى صفته ما ذكر هؤلاء فقالوا اللهم نعم قد بشرنا به عيسى فقال من امن به فقد امن بى ومن كفر به فقد كفر بى فعند ذلك قال النجاشى والله لولا ما أنا فيه من الملك لاتيته فأكون أنا الذى أحمل نعله وأوضئه أى أغسل يديه وقال للمسلمين انزلوا حيث شئتم سيوم بأرضى أى امنون بها وأمر لهم بما يصلحهم من الرزق وقال من نظر الى هؤلاء الرهط نظرة تؤذيهم فقد عصانى
وفى لفظ ثم قال اذهبوا فأنتم امنون من سبكم غرم قالها ثلاثا أى أربع دراهم وضعفها كما جاء فى بعض الروايات وأمر بهدية عمرو ورفيقه فردت عليهما
وفى لفظ أن النجاشى قال ما أحب أن يكون لى ديرا من ذهب أى جبلا وأن أوذى رجلا منكم ردوا عليهم هداياهم فلا حاجة لى بها فو الله ما أخذ الله تعالى منى الرشوة حين رد على ملكى فاخذ الرشوة وما أطاع الناس فى فأطيعهم فيه
وكان النجاشى أعلم النصارى بما أنزل على عيسى وكان قيصر يرسل اليه علماء النصارى لتأخذ عنه العلم
أى وقد بينت عائشة رضى الله تعالى عنها السبب فى قول النجاشى ما أخذ الله منى الرشوة حين رد على ملكى وهو أن والد النجاشى كان ملكا للحبشة فقتلوه وولوا أخاه الذى هو عم النجاشى فنشأ النجاشى فى حجر عمه لبيبا حازما وكان لعمه اثنا عشر ولدا لا يصلح واحد منهم للملك فلما رأت الحبشة نجابة النجاشى خافوا أن يتولى عليهم فيقتلهم بقتلهم لابيه فمشوا لعمه فى قتله فأبى وأخرجه وباعه ثم لما كان عشاء تلك الليلة مرت على عمه صاعقة فمات فلما رأت الحبشة أن لا يصلح امرها الا النجاشى ذهبوا

وجاءوا به من عند الذي اشتراه وعقدوا له التاج وملكوه عليهم فسار فيهم سيرة حسنة
وفى رواية ما يقتضى أن الذى اشتراه رجل من العرب وأنه ذهب به الى بلاده ومكث عنده مدة ثم لما مرج أمر الحبشة وضاق عليهم ماهم فيه خرجوا فى طلبه وأتوا به من عند سيده ويدل لذلك ما سيأتى عنه أنه عند وقعة بدر أرسل خلف من عنده من المسلمين فدخلوا عليه فاذا هو قد لبس مسحا وقعد على التراب والرماد فقالوا له ما هذا أيها الملك انا نجد فى الانجيل أن الله سبحانه وتعالى اذا أحدث بعبده نعمة وجب على العبد أن يحدث لله تواضعا وان الله تعالى قد أحدث الينا واليكم نعمة عظيمة هى أن محمدا صلى الله عليه وسلم التقى هو وأعداؤه بواد يقال له بدر كثير الاراك كنت أرعى فيه الغنم لسيدى وهو من بنى ضمرة وان الله تعالى قد هزم أعداءه فيه ونصر دينه
وذكر السهيلى أن بكاءه عند ما تليت عليه سورة مريم أى كما سيأتى حتى أخضل لحيته يدل على طول مكثه ببلاد العرب حتى تعلم من لسان العرب مافهم به تلك السورة
قال وعن جعفر بن أبى طالب رضى الله تعالى عنه لما نزلنا أرض الحبشة جاورنا خير جار وأمنا على ديننا وعبدنا الله تعالى لا نؤذى ولا نسمع شيئا نكرهه فلما بلغ ذلك قريشا ائتمروا أن يبعثوا رجلين جلدين وأن يهدوا للنجاشى هدايا مما يستظرف من متاع مكة وكان أعجب ما يأتيه منها الادم فجمعوا له أدما كثيرا ولم يتركوا من بطارقته بطريقا الا أهدوا له هدية أى هيئوا له هدية ولا يخالف ما تقدم من أن الهدية كانت فرسا وجبة ديباج لانه يجوز أن يكون بعض الادم ضم الى تلك الفرس والجبة للملك وبقية الادم فرق على أتباعه ليعاونوهما على ما جاء بصدده والاقتصار على الفرس والجبة فى الرواية السابقة لان ذلك خاص بالملك ثم بعثوا عمارة بن الويد وعمرو ابن العاص يطلبان من النجاشى أن يسلمنا لهم أى قبل أن يكلمنا وحسن له بطارقته ذلك لانهما لما أوصلا هداياهم اليهم قالوا لهم اذا نحن كلمنا الملك فيهم فأشيروا عليه بأن يسلمهم لنا قبل أن يكلمهم أى موافقة لما وصت عليه قريش فقد ذكر أنهم قالوا لهما ادفعوا لكل بطريق هدية قبل أن تكلما النجاشى فيهم ثم قدما للنجاشى هداياه ثم اسألاه أن يسلمهم اليكما قبل أن يكلمهم فلما جاءا الى الملك

قالا له أيها الملك انه قد صبا الى بلدك منا غلمان سفهاء فارقوا دين قومهم ولم يدخلوا فى دينك وجاءوا بدين مبتدع لانعرفه نحن ولا أنت أى جاءهم به رجل كذاب خرج فينا يزعم أنه رسول الله ولم يتبعه منا الا السفهاء وقد بعثنا اليك فيهم أشراف قومهم من ابائهم وأعمامهم وعشائرهم ليردوهم اليهم فهم أعلم بما عابوا عليهم فقال بطارقته صدقوا أيها الملك قومهم أعلم بهم فأسلمهم لهما ليرداهم الى بلادهم وقومهم فغضب النجاشى وقال لا ها الله أى لا والله لا أسلمهم ولا يكاد قوم يجاورونى ونزلوا بلادى واختارونى على من سواى حتى أدعوهم فأسألهم عما يقول هذان من أمرهم فان كان كما يقولان سلمتهم اليهما والا منعتهم منهما وأحسنت جوارهم ما جاورونى ثم أرسل لنا ودعانا فلما دخلنا سلمنا فقال من حضره مالكم لا تسجدون للملك قلنا لانسجد الا لله عز وجل فقال النجاشى ما هذا الدين الذى فارقتم فيه قومكم ولم تدخلوا فى دينى ولا فى دين أحد من الملل فقلنا أيها الملك كنا قوما أهل جاهلية نعبد الاصنام ونأكل الميتة ونأتى الفواحش ونقطع الارحام ونسىء الجوار ويأكل القوى الضعيف فكنا على ذلك حتى بعث الله لنا رسولا كما بعث الرسل الى من قبلنا وذلك الرسول منا نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه فدعانا الى الله تعالى لنوحده ونعبده ونخلع أى نترك ما كان يعبد اباؤنا من دونه من الحجارة والاوثان وأمرنا أن نعبد الله تعالى وحده وأمرنا بالصلاة أى ركعتين بالغداة وركعتين بالعشى والزكاة أى مطلق الصدقة والصيام أى ثلاثة أيام من كل شهر أى وهى البيض أو أى ثلاثة على الخلاف فى ذلك وامرنا بصدق الحديث وأداء الامانة وصلة الارحام وحسن الجوار والكف عن المحارم والدماء أى ونهانا عن الفواحش وقول الزور وأكل مال اليتيم وقذف المحصنة فصدقناه وامنا به واتبعناه على ما جاء به فعدا علينا قومنا ليردونا الى عبادة الاصنام واستحلال الخبائث فلما قهرونا وظلمونا وضيقوا علينا وحالوا بيننا وبين ديننا خرجنا الى بلادك واخترناك على من سواك ورجوناك أن لانظلم عندك يا أيها الملك فقال النجاشى لجعفر هل عندك مما جاء به شىء قلت نعم قال فقرأه على فقرأت عليه صدرا من كهيعص فبكى والله النجاشى حتى أخضل أى بل لحيته وبكت أساقفته وفى لفظ هل عندك مما جاء به عن الله تعالى شىء فقال جعفر نعم قال فاقرأه على قال البغوى فقرأ عليه سورة

العنكبوت والروم ففاضت عيناه وأعين أصحابه بالدمع وقالوا زدنا يا جعفر من هذا الحديث الطيب فقرأ عليهم سورة الكهف فقال النجاشى هذا والله الذى جاء به موسى أى وفى رواية ان هذا والذى جاء به موسى ليخرج من مشكاة واحدة أى وهذا كما قيل يدل على أن عيسى كان مقررا لما جاء به موسى وفى رواية بدل موسى عيسى ويؤيده ما فى لفظ أنه قال ما زاد هذا على ما فى الانجيل الا هذا العود لعود كان فى يده أخذه من الارض
وفى لفظ أن جعفرا قال للنجاشى سلهما أعبيد نحن أم أحرار فان كنا عبيدا أبقنا من أربابنا فأرددنا اليهم فقال عمروا بل أحرار فقال جعفر سلهما هل أهرقنا دماء بغير حق فيقتص منا هل أخذنا أموال الناس بغير حق فعلينا قضاؤه فقال عمروا لا فقال النجاشى لعمرو وعمارة هل لكما عليهما دين قالا لا قال انطلقا فو الله لا أسلمهم اليكما أبدا زاد فى رواية ولو أعطيتمونى ديرا من ذهب أى جبلا من ذهب ثم غدا عمرو الى النجاشى أى أتى اليه فى غد ذلك اليوم وقال له انهم يقولون فى عيسى قولا عظيما أى يقولون انه عبد الله أى وانه ليس ابن الله
أى وفى لفظ أن عمرا قال للنجاشى أيها الملك انهم يشتمون عيسى وأمه فى كتابهم فاسألهم فذكر له جعفر ما تقدم فى الرواية الاولى
هذا وعن عروة بن الزبير انما كان يكلم النجاشى عثمان بن عفان وهو حصر عجيب فليتأمل
وروى الطبرانى عن أبى موسى الاشعرى بسند فيه رجال الصحيح أن عمرو ابن العاص مكر بعمارة بن الوليد أى للعداوة التى وقعت بينه وبينه فى سفرهما أى من أن عمرو بن العاص كان معه زوجته وكا قصيرا دميما وكان عمارة رجلا جميلا فتن امرأة عمرو وهوته فنزل هو واياه فى السفينة فقال له عمارة مر امرأتك فلتقبلنى فقال له عمرو ألا تستحى فأخذ عمارة عمرا ورمى به فى البحر فجعل عمرو يصيح وينادى أصحاب السفينة ويناشد عمارة حتى أدخله السفينة وأضمرها عمرو في نفسه ولم يبدها لعمارة بل قال لامرأته قبلى ابن عمك عمارة لتطيب بذلك نفسه فلما أتيا أرض الحبشة مكر به عمرو فقال أنت رجل جميل والنساءيحببن الجمال فتعرض لزوجه النجاشى لعلها أن تشفع لنا عنده ففعل عمارة ذلك وتكرر تردده عليها حتى أهدت اليه

من عطرها أى ودخل عندها فلما رأى عمرو ذلك أتى النجاشى وأخبره بذلك أى فقال له ان صاحبى هذا صاحب نساء وانه يريد أهلك وهو عندها الان فاعلم علم ذلك فبعث النجاشى فاذا عمارة عند امرأته فقال لولا أنه جارى لقتلته ولكن سأفعل به ما هو شر من القتل فدعا بساحر فنفخ فى احليله نفخة طار منها هائما على وجهه مسلوب العقل حتى لحق بالوحوش فى الجبال الى أن مات على تلك الحال اه
أى ومن شعر عمرو بن العاص يخاطب به عمارة بن الوليد ** اذا المرء لم يترك طعاما يحبه ** ولم ينه قلبا غاويا حيث يمما ** ** قضى وطرا منه وغادر سبة ** اذا ذكرت أمثالها تملا الفما ** ولا زال عمارة مع الوحوش الى أن كان موته فى خلافة عمر بن الخطاب رضى الله تعالى عنه وان بعض الصحابة وهو ابن عمه عبدالله بن أبى ربيعة فى زمن عمر بن الخطاب رضى الله تعالى عنه قد استأذنه فى المسير اليه لعله يجده فأذن له عمر رضى الله تعالى عنه فسار عبدالله الى أرض الحبشة وأكثر النشدة عنه والفحص عن أمره حتى أخبر أنه فى جبل يرد مع الوحوش اذا وردت ويصدر معها اذا صدرت فجاء اليه ومسكه فجعل يقول له أرسلنى والا أموت الساعة فلم يرسله فمات من ساعته وسيأتى بد غزوة بدر أنهم أرسلوا للنجاشى عمرو بن العاص أيضا وعبدالله بن أبى ربيعة
هذا وكان اسمه قبل أن يسلم بجيرا فلما أسلم سماه رسول الله صلى الله عليه وسلم عبدالله وأبوه ربيعة الذى هو أبو عبدالله كان يقال له ذو الرمحين وأم عبدالله هى أم أبى جهل بن هشام فهو أخو أبى جهل لامه أرسلوهما اليه ليدفع لها من عنده من المسلمين ليقتلوهم فيمن قتل ببدر
ومن العجب أن صاحب المواهب ذكر أن ارسال قريش لعمرو بن العاص وعبدالله ابن أبى ربيعة ومعهما عمارة بن الويد في الهجرة الاولى للحبشة وانما كان عمرو وعمارة فى الهجرة الثانية وابن أبى ربيعة انما كان مع عمرو بعد بدر كما علمت وان كان يمكن أن يكون عبدالله بن أبى ربيعة أرسلته قريش مرتين الا أنه بعيد
ويرده قول بعضهم ان قريشا أرسلت فى أمر من هاجر الى الحبشة مرتين الاولى أرسلت عمرو بن العاص وعمارة والثانية أرسلت عمرو بن العاص وعبدالله بن أبى ربيعة فليتأمل

ومكث بنو هاشم فى الشعب ثلاث سنين وقيل سنتين فى أشد ما يكون من البلاء وضيق العيش وولد عبدالله بن عباس فى الشعب فمن قريش من سره ذلك ومنهم من ساءه وقالوا انظروا ما أصاب كاتب الصحيفة أى من شلل يده كما تقدم وصار لا يقدر أحد أن يوصل اليهم طعاما ولا أدما حتى أن أبا جهل لقى حكيم بن حزام ومعه غلام يحمل قمحا يريد عمته خديجة زوج النبى صلى الله عليه وسلم وهى معه فى الشعب فتعلق به وقال أتذهب بالطعام الى بنى هاشم والله لا تذهب أنت وطعامك حتى أفضحك بمكة فقال له أبو البخترى بن هشام مالك وماله فقال أبو جهل انما يحمل الطعام لبنى هاشم فقال أبو البحترى طعام كان لعمته عنده أفتمنعه أن يأتيها خل سبيل الرجل فأبى أبو جهل حتى نال أحدهما من صاحبه فأخذ أبو البحترى لحى بعير أى العظم الذى تنبت عليه الاسنان فضربه فشجه ووطئه وطئا شديدا وأبو البحترى بالحاء المهملة وفى مختصر أسد الغابة بالخاء المعجمة ممن قتل ببدر كافرا وحتى ان هاشم بن عمرو بن الحارث العامرى رضى الله تعالى عنه فانه أسلم بعد ذلك أدخل عليهم فى ليلة ثلاثة أجمال طعاما فعلمت بذلك قريش فمشوا اليه حين أصبح وكلموه فى ذلك فقال انى غير عائد لشىء خالفكم ثم أدخل عليه ثانيا جملا وقيل جملين فعلمت به قريش فغالظته أى أغلظت له القول وهمت به فقال أبو سفيان بن حرب دعوه وصل رحمه أما انى أحلف بالله لو فعلنا مثل ما فعل كان أحسن بنا وكان أبو طالب فى كل ليلة يأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأتى فراشه ويضطجع به فاذا نام الناس أقامه وأمر أحد بنيه أو غيرهم أى من اخوته أو بنى عمه ان يضطجع مكانه خوفا عليه أن يغتاله أحد ممن يريد به السوء أى وفى الشعب ولد عبدالله بن عباس رضى الله تعالى عنهما ثم أطلع الله رسوله صلى الله عليه وسلم على أن الارضة أى وهى سوسة تأكل الخشب اذا مضى عليها سنة نبت لها جناحان تطير بهما وهى التى دلت الجن على موت سليمان على نبينا وعليه أفضل الصلاة والسلام أكلت ما فى الصحيفة من ميثاق وعهد أى الالفاظ المتضمنة للظلم وقطيعة الرحم ولم تدع فيها اسما لله تعالى الا أثبتته فيها وفى رواية ولم تترك الارضة فى الصحيفة اسما لله عز وجل الا لحسته وبقى ما فيها من شرك أو ظلم أو قطيعة رحم أى والرواية الاولى أثبت من الثانية
قال وجمع بين الروايتين بأنهم كتبوا نسخا فأكلت الارضة من بعض النسخ اسم

الله تعالى وأكلت من بعض النسخ ما عدا اسم الله تعالى لئلا يجتمع اسم الله تعالى مع ظلمهم انتهى أى والتى علقت فى الكعبة هى التى لحست تلك الدابة ما فيها من اسم الله تعالى كما يدل عليه ما يأتى فذكر ذلك لعمه أبة طالب فقال له عمه والثواقب أى النجوم لانها تثقب الشياطين وقيل التى تضىء لانها تثقب الظلام بضوئها وقيل الثريا خاصة لانها أشد النجوم ضوءا ما كذبتنى قط أى ما حدثتنى كذبا وفى رواية أنه قال له أربك أخبرك بهذا الخبر قال نعم فانطلق فى عصابة أى جماعة من قومه أى من بنى هاشم وبنى المطلب
أى وفى رواية أن أبا طالب لما ذكر لاهله قالوا له فما ترى قال أرى أن تلبسوا أحسن ثيابكم وتخرجوا الى قريش فتذكروا ذلك لهم قبل أن يبلغهم الخبر فخرجوا حتى أتوا المسجد على خوف من قريش فلما رأتهم قريش ظنوا أنهم خرجوا من شدة البلاء ليسلموا رسول الله صلى الله عليه وسلم للقتل فتكلم معهم أبو طالب وقال جرت أمور بيننا وبينكم فأتوا بصحيفتكم التى فيها مواثيقكم فلعله أن يكون بيننا وبينكم صلح أى مخرج يكون سببا للصلح وانما قال أبو طالب ذلك خشية أن ينظروا فى الصحيفة قبل أن ياتوا بها أى فلا يأتون بها فأتوا بصحيفتهم لا يشكون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يدفع اليهم أى لانه الذى وقعت عليه العهود والمواثيق فوضعوها بينهم وقالوا لابى طالب أى توبيخا له ولمن معه قد آن لكم أن ترجعوا عما أحدثتم علينا وعلى أنفسكم فقال أبو طالب انما أتيتكم فى أمر نصف بيننا وبينكم أى أمر وسط لا حيف فيه علينا ولا عليكم ان ابن أخى أخبرنى أن هذه الصحيفة التى فى أيديكم قد بعث الله تعالى عليها دابة لم تترك فيها اسما من أسماء الله تعالى الا لحستة وتركت فيها غدركم وتظاهركم علينا بالظلم
أقول هذه على الرواية الثانية وأما على الرواية الاولى التى هى أثبت فيكون قوله لم تترك اسما الا أثبتته ولحست مواثيقكم وعهدكم
ثم رأيت ابن الجوزى ذكر ذلك فقال ان أبا طالب قال ان ابن أخى قد أخبرنى ولم يكذبنى قط أن الله تعالى قد سلط على صحيفتكم التى كتبتم الارضة فلحست كل ما كان فيها من جور أو ظلم أو قطيعة رحم وبقى فيها كل ما ذكر به الله تعالى
وفى الينبوع أن أبا طالب قال لما حضرت الصحيفة ان صحيفتكم هذه صحيفة اثم وقطيعة

رحم وان ابن أخى أخبرنى أن الله تعالى سلط عليها الارضة لم تدع ما كتبتم الا باسمك اللهم والله أعلم قال أبو طالب فان كان الحديث كما يقول فأفيقوا أى وفى رواية نزعتم أى رجعتم عن سوء رأيكم أى وان لم ترجعوا فوالله لا نسلمه حتى نموت من عند اخرنا وان كان الذى يقول باطلا دفعنا اليكم صاحبنا فقتلتم أو استحييتم فقالوا قد رضينا بالذى تقول أى وفى رواية أنصفتنا ففتحوا الصحيفة فوجدوا الامر كما أخبر به الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم فلما رأت قريش صدق ما جاء به أبو طالب قالوا أى قال أكثرهم هذا سحر ابن أخيك وزادهم ذلك بغيا وعدوانا وبعضهم ندم وقال هذا بغى منا على اخواننا وظلم لهم
أى وقد جاء أن أبا طالب قال لهم أى بعد أن وجدوا الامر كما أخبر به صلى الله عليه وسلم يامعشر قريش علام نحصر ونحبس وقد بان الامر وتبين أنكم أولى بالظلم والقطيعة والاساءة ودخلوا بين أستار الكعبة وقالوا اللهم انصرنا على من ظلمنا وقطع أرحامنا واستحل ما يحرم عليه منا ثم انصرفوا الى الشعب وعند ذلك مشى طائفة منهم وهم خمسة فى نقض الصحيفة أى ما تضمنته وهم هشام بن عمرو بن الحارث وزهير بن أمية ابن عمته صلى الله عليه وسلم عاتكة بنت عبدالمطلب وقد أسلم بعد ذلك كالذى قبله كما تقدم والمطعم بن عدى مات كافرا كماتقدم وأبو البحترى بن هشام قتل ببدر كافرا كما تقدم وزمعة بن الاسود قتل ببدر كافرا
واختلف فى كاتب الصحيفة فعند ابن سعد أنه بغيض بن عامر فشلت يده ولم يعرف له اسلام وعند ابن اسحاق أن الكاتب لها هشام بن عمرو المتقدم ذكره
قال وقيل ان الكاتب لها منصور بن عكرمة أى فشلت يده فيما يزعمون كذا فى النور نقلا عن سيرة ابن هشام وقيل النضر بن الحارث فدعا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فشلت بعض أصابعه وهو ممن قتل على كفره عند منصرفه صلى الله عليه وسلم من بدر وقيل الكاتب لها طلحة بن أبى طلحة العبدرى قال ابن كثير رحمه الله والمشهور أنه منصور
ويجمع بين هذه الاقوال باحتمال أن يكون كتب بها نسخ أى فكل كتب نسخة أنتهى أى وينبغى أن يكون الذى شلت يده هو كاتب الصحيفة التى علقت فى الكعبة ولعلها هى التى كتبت أولا والى أكل الارضة الصحيفة والى عد الخمسة الذين سعوا فى نقض الصحيفة أشار صاحب الهمزية بقوله

** فديت خمسة الصحيفة بالخمسة اذ كان للكرام فداء ** ** فتية بيتوا على فعل خير ** حمد الصبح أمره والمساء ** ** بالامر أتاه بعد هشام ** زمعة انه الفتى الاتاء ** ** وزهير والمطعم بن عدى ** وأبو البحترى من حيث شاءوا ** ** نقضوا مبرم الصحيفة اذ شد ** دت عليه من العدا الانداء ** ** أذكرتنا بأكلها أكل منسا ** ة سليمان الارضة الخرساء ** ** وبها أخبر النبى وكم أخرج خبا له الغيوب خباء **
أى فديت خمسة الصحيفة أى الناقضين لها بالخمسة المستهزئين السابق ذكرهم فتية ثبتوا وتراودوا واشتوروا بالحجون ليلا على فعل خير وهو نقض الصحيفة حمد الصباح والمساء منهم ذلك الفعل بالامر عظيم وهو نقض الصحيفة أتاه بعد هشام زمعة بن الاسود وانه الكريم فى قومه الاتاء أى المبالغ فى ايتاء الخير وأتاه زهير وأتاه المطعم بن عدى وأتاه أبو البحترى من المكان الذى قصدوه فنقضوا مبرم الصحيفة أى الامر الذى أبرمته أذكرتنا الارضة الخرساء بأكلها تلك الصحيفة منساة أى عصى سليمان وبأكلها للصحيفة أخبر النبى صلى الله عليه وسلم ومرات كثيرة أخرج صلى الله عليه وسلم شيئا مخبأ الغيوب له ساترة والمراد أن كل واحد من هؤلاء الخمسة الذين نقضوا الصحيفة فدى بأولئك الخمسة المستهزئين من الاذى الذى أصابهم المتقدم ذكره فلا ينافى أن بعض هؤلاء الذين نقضوا الصحيفة مات كافرا
قال جاء أن هشام بن عمرو بن الحارث رضى الله تعالى عنه فانه أسلم بعد ذلك كما تقدم مشى الى زهير بن أمية بن عاتكة بنت عبدالمطلب رضى الله تعالى عنه فانه أسلم بعد ذلك أيضا كما تقدم فقال له يا زهير أرضيت أن تأكل الطعام وتلبس الثياب وأخوالك قد علمت لا يبايعون ولا يبتاعون فقال ويلك يا هشام فماذا أصنع انما أنا رجل واحد والله لو كان معى رجل اخر لقمت لانقضها يعنى الصحيفة قال وجدت رجلا قال من هو قال أنا فقال زهير ابغنا رجلا ثالثا فذهب الى المطعم بن عدى فقال له يا مطعم أرضيت أن يهلك بطنان من بنى عبد مناف يعنى بنى هشام وبنى المطلب وأنت شاهد على ذلك فقال له ويحك ماذا أصنع انما أنا رجل واحد قال وجدت ثانيا قال من هو قلت أنا قال ابغنا رجلا ثالثا قال قد فعلت قال

من هو قلت زهير بن أمية قال ابغنا رابعا فذهبت الى أبى البحترى بن هشام فقلت له نحوا مما قلت للمطعم فقال وهل معين على هذا الامر قلت نعم قال من هو قلت زهير بن أمية والمطعم بن عدى وأنا معك قال ابغنا خامسا فذهبت الى زمعة بن الاسود فكلمته فقال وهل من أحد يعين على ذلك فسميت له القوم
ثم ان هؤلاء اجتمعوا ليلا عند الحجون وأجمعوا أمرهم وتعاهدوا على القيام فى نقض الصحيفة حتى ينقضوها وقال زهير أنا أبدؤكم فأكون أول من يتكلم فلما أصبحوا غدوا الى أنديتهم وغدا زهير وعليه حلة فطاف بالبيت ثم أقبل على الناس فقال يا أهل مكة أنأكل الطعام ونلبس الثياب وبنو هاشم أى والمطلب هلكى لا يباعون ولا يبتاع منهم والله لا أقعد حتى تشق هذه الصحيفة القاطعة الظالمة فقال أبو جهل كذبت والله لا تشق قال زمعة بن الاسود أنت والله أكذب ما رضينا كتابتها حين كتبت قال أبو البحترى صدق زمعة قال المطعم صدقتما وكذب من قال غير ذلك نبرأ الى الله تعالى منها ومما كتب فيها وقال هشام بن عمرو نحوا من ذلك فقال أبو جهل هذا أمر قضى بالليل فقام المطعم بن عدى الى الصحيفة فشقها انتهى
أى وهذا يدل للرواية الدالة على أن الارضة لحست اسم الله تعالى وأثبتت ما فيها من العهود والمواثيق والا فبعد امحاء ذلك منها لا معنى لشقها
وفى كلام بعضهم يحتمل أن أبا طالب انما أخبرهم بعد سعيهم فى نقضها قال ابن حجر الهيتمى ويبعده أن الاخبار بذلك حينئذ ليس له كبيرجدوى وقام هؤلاء الخمسة ومعهم جماعة ولبسوا السلاح ثم خرجوا الى بنى هاشم وبنى المطلب فأمروهم بالخروج الى مساكنهم ففعلوا = باب ذكر خبر وفد نجران
ثم قدم عليه صلى الله عليه وسلم وهو بمكة وفد نجران وهم قوم من النصارى ونجران بلدة بين مكة واليمن على نحو من سبع مراحل من مكة كانت منزلا للنصارى وكانوا نحوا من عشرين رجلا حين بلغهم خبره ممن هاجر من المسلمين الى الحبشة فوجدوه صلى الله عليه وسلم في المسجد فجلسوا اليه سالوه وكلموه ورجال من قريش فى أنديتهم

حول الكعبة ينظرون اليهم فلما فرغوا من مسألة رسول الله صلى الله عليه وسلم كما أرادوا دعاهم رسول اله صلى الله عليه وسلم الى الله تعالى وتلا عليهم القران فلما سمعوه فاضت أعينهم من الدمع ثم استجابوا له وامنوا به وعرفوا منه ما هو موصوف به في كتابهم فلماقاموا عنه اعترضهم أبو جهل فى نفر من قريش فقالوا لهم خيبكم الله من ركب بعثكم من وراءكم من أهل دينكم ترتادون أى تنظرون الاخبار لهم لتاتوهم بخبر الرجل فلم تطمئن مجالسكم عنده حتى فارقتم دينكم فصدقتموه بما قال لا نعلم ركبا أحمق أى أقل عقلا منكم فقالوا لهم سلام عليكم لا نجاهلكم لنا ما نحن عليه ولكم ما أنتم عليه ويقال نزل فيهم قوله تعالى { الذين آتيناهم الكتاب } الى قوله { لا نبتغي الجاهلين } ونزل قوله تعالى { وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق }
وذكر فى الوفاء وفود ضماد الازدى عليه صلى الله عليه وسلم فقال عن ابن عباس رضى الله تعالى عنهما أن ضمادا قدم مكة وكان من أزد شنوءة وكان يرقى من الريح أى ولعل المراد به اللمة من الجن فسمع سفهاء من أهل مكة يقولون ان محمدا مجنون فقال لو أنى رأيت هذا الرجل لعل الله أن يشفيه على يدى قال فأتيته فقلت يا محمد انى أرقى من الريح فان الله يشفى على يده من شاء فهل لك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ان الحمد لله نحمده ونستعينه من يهدى الله فلا مضل له ومن يضلل الله فلا هادى له وأشهد أن لا اله الا الله وحده لا شريك له وأن محمدا عبده ورسوله فقال ضماد أعد على كلماتك هؤلاء فأعادهن عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث مرات فقال لقد سمعت قول الكهنة وقول السحرة وقول الشعراء فما سمعت مثل كلماتك هؤلاء هات يدك أبايعك على الاسلام فبايعه وقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى قومك قال وعلى قومي

= باب ذكر وفاة أبي طالب وزوجته صلى الله عليه وسلم خديجة رضي الله الله تعالى عنها
لتعلم أنهما ماتا في عام واحد أي بعد خروج بني هاشم والمطلب من الشعب بثمانية وعشرين يوما وإلى موتهما في عام واحد أشار صاحب الهمزية بقوله ** وقضى عمه أبو طالب والد ** دهر فيه السراء والضراء ** ** ثم ماتت خديجة ذلك العا ** م ونالت من أحمد المناء **
وذلك قبل الهجرة إلى المدينة بثلاث سنين وبعد مضى عشر سنين من بعثته صلى الله عليه وسلم أي من مجيء جبريل عليه السلام بالوحي وهو يرد قول ابن اسحاق ومن تبعه أن خديجة رضي الله تعالى عنها عنها ماتت بعد الاسراء
وأفاد كلام صاحب الهمزية أن موت خديجة كان بعد موت أبي طالب وقيل كانت وفات خديجة رضى الله عنها قبل أبى طالب بخمس وثلاثين ليلة وقيل بعده بثلاثة أيام ويؤيد ما في الهمزية قول الحافظ عماد الدين بن كثير المشهور أنه مات قبل خديجة رضي الله تعالى عنها أي بثلاثة أيام ودفنت بالحجون ونزل صلى الله عليه وسلم في حفرتها ولها من العمر خمس وستون سنة ولم تكن الصلاة على الجنازة شرعت
وذكر الفكهاني المالكي في شرح الرسالة أن صلاة الجنازة من خصائص هذه الأمة لكن ذكر ما يخالفه في الشرح المذكور حيث قال وروى أن آدم عليه الصلاة والسلام لما توفي أتى بحنوط وكفن من الجنة ونزلت الملائكة فغسلته وكفنته في وتر من الثياب وحنطوه وتقدم ملك منهم فصلى عليه وصلت الملائكة خلفه ثم أقبروه وألحدوه ونصبوا اللبن عليه وابنه شيث عليه الصلاة والسلام الذي هو وصيه معهم فلما فرغوا قالوا له هكذا فاصنع بولدك وإخوتك فإنهم سنتكم هذا كلامه أي ويبعد أنه لم يفعل ذلك بعد القول المذكور له ويحتمل أن المراد بالصلاة مجرد الدعاء لا هذه الصلاة المعروفة المشتملة على التكبير لكن يبعده مافي العرائس عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن آدم لما مات قال ولده شيث لجبريل صل عليه فقال له جبريل بل أنت تقدم فصل على أبيك فصلى عليه وكبر ثلاثين تكبيرة وقد أخرج الحاكم نحوه مرفوعا وقال صحيح الإسناد

ومنه تعلم أن الغسل والتكفين والصلاة والدفن واللحد من الشرائع القديمة بناء على أن المراد بالصلاة الصلاة المشتملة على التكبير لا مجرد الدعاء
وحينئذ لا يحسن القول بأن صلاة الجنازة من خصائص هذه الأمة إلا أن يقال لا يلزم من كونها من الشرائع القديمة أن تكون معروفة لقريش إذ لو كانت كذلك لفعلوا ذلك وسيأتي عنهم أنهم لم يفعلوا ذلك
وأيضا لو كانت معروفة لهم لصلى صلى الله عليه وسلم على خديجة ومن مات قبلها من المسلمين كالسكران ابن عم سودة أم المؤمنين رضي الله تعالى عنهما الذي هو زوجها وسيأتي أنه صلى الله عليه وسلم لما قدم الى المدينة وجد البراء بن معرور قد مات فذهب هو وأصحابه فصلى على قبره وأنها أول صلاة صليت على الميت في الإسلام ومعرور معناه في الأصل مقصود
لا يقال يجوز أن يكون المراد بتلك الصلاة مجرد الدعاء لأنا نقول قد جاء أنه كبر في صلاته أربعا وقد روى هذه الصلاة تسعة من الصحابة ذكرهم السهيلي وسيأتي عن الإمتاع لم أجد في شيء من السير متى فرضت صلاة الجنازة ولم ينقل أنه صلى الله عليه وسلم على أسعد بن زرارة وقد مات في السنة الأولى ولا على عثمان بن مظعون وقد مات في السنة الثانية
وفي كلام بعضهم صلاة الجنازة فرضت في السنة الأولى من الهجرة وأول من صلى عليه صلى الله عليه وسلم أسعد بن زرارة فليتأمل
وفي كلام بعضهم كانوا في الجاهلية يغسلون موتاهم وكانوا يكفنونهم ويصلون عليهم وهو أن يقوم ولى الميت بعد أن يوضع على سريره ويذكر محاسنه كلها ويثنى عليه ثم يقول عليك رحمة الله ثم يدفن أي وكأن رسول الله صلى الله عليه وسلم يسمى ذلك العام عام الحزن ولزم بيته وأقل الخروج وكانت مدة إقامتها معه صلى الله عليه وسلم خمسا وعشرين سنة على الصحيح
ويذكر أنه صلى الله عليه وسلم دخل على خديجة رضي الله تعالى عنها وهي مريضة فقال لها يا خديجة أتكرهين ما أرى منك وقد يجعل الله في الكره خيرا أشعرت أن الله قد أعلمني أنه سيزوجني وفي رواية أما علمت أن الله قد زوجني معك في الجنة مريم ابنة عمران وكلثم أخت موسى وهي التي علمت ابن عمها قارون الكيمياء وآسية امرأة فرعون فقالت آ لله أعلمك بهذا يا رسول الله وفي رواية آ لله فعل ذلك

يا رسول الله قال نعم قالت بالرفاء والبنين زاد في رواية أنه صلى الله عليه وسلم أطعم خديجة من عنب الجنة وقولها بالرفاء والبنين هو دعاء كان يدعى به فى الجاهلية عند التزويج والمراد منه الموافقة والملايمة مأخوذ من قولهم رفأت الثوب ضممت بعضه إلى بعض ولعل هذا كان قبل ورود النهى عن ذلك
هذا وفي الإمتاع أن سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه جاء إلى مجلس المهاجرين الأولين في الروضة فقال رفئوني فقالوا ماذا يا أمير المؤمنين قال تزوجت أم كلثوم بنت على هذا كلامه ولعل النهى لم يبلغ هؤلاء الصحابة حيث لم ينكروا قوله كما لم يبلغ سيدنا عمر رضي الله تعالى عنهم
وفي الشهر الذي ماتت فيه خديجة رضي الله تعالى عنها وهو شهر رمضان بعد موتها بأيام تزوج سودة بنت زمعة وكانت قبله عند السكران ابن عمها وهاجر بها إلى أرض الحبشة الهجرة الثانية ثم رجع بها إلى مكة فمات عنها فلما انقضت عدتها تزوجها صلى الله عليه وسلم وأصدقها أربعمائة درهم
وقد كانت رأت فى نومها أن النبي صلى الله عليه وسسلم وطىء عنقها فأخبرت زوجها فقال إن صدقت رؤياك أموت أنا ويتزوجك رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم رأت فى ليلة أخرى أن قمرا انقض عليها من السماء وهي مضطجعة فأخبرت زوجها فقال لا ألبث حتى أموت فمات من يومه ذلك
وعقد صلى الله عليه وسلم على عائشة رضي الله عنها وهي بنت ست أو سبع سنين في شوال فعن خولة بنت حكيم امرأة عثمان بن مظعون قالت قلت لما ماتت خديجة يا رسول الله ألا تتزوج قال من قلت إن شئت بكرا وإن شئت ثيبا قال فمن البكر قلت أحق خلق الله بك بنت أبى بكر رضى الله عنهما قال ومن الثيب قلت سودة بنت زمعة قد آمنت بك واتبعتك على ما تقول قال فاذهبي فاذكريهما علي قالت فدخلت على سودة بنت زمعة فقلت لها ماذا أدخل الله عليك من الخير والبركة قالت وما ذاك قالت أرسلنى رسول الله صلى الله عليه وسلم أخطبك عليه قالت وددت ادخلي على أبى فاذكرى ذلك له وكان شيخا كبيرا فدخلت عليه وحيته بتحية الجاهلية فقال من هذه قلت خولة بنت حكيم قال فما شأنك قلت أرسلنى محمد بن عبد الله أخطب عليه سودة قال كفء كريم

قال ما تقول صاحبتك قالت تحب ذلك قال ادعيها الى فدعوتها قال أى بنية إن هذه تزعم أن محمد بن عبد الله بن عبد المطلب قد أرسل يخطبك وهو كفء كريم أتحبين أن أزوجك منه قالت نعم قال ادعيه لى فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فزوجه إياها ولما قدم أخوها عبد بن زمعة وقد بلغه ذلك صار يحثى على رأسه التراب ولما أسلم قال لقد كدنى السفه يوم أحثى على رأسى التراب إذ تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم سودة يعنى أخته وذهبت خولة إلى أم رومان أم عائشة فقالت لها ماذا أدخل الله عليكم من البركة والخير قد أرسلنى رسول الله صلى الله عليه وسلم اخطب عليه عائشة قالت انتظرى ابا بكر حتى ياتى فجاء ابو بكر فقلت له يا ابابكرماذاادخل عليكم من الخيروالبركة قال وما ذاك قلت قد ارسلنى رسول الله صلى الله عليه وسلم أخطب عليه عائشة قال وهل تصلح أى تحل له إنما هي بنت أخيه فرجعت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرت له ذلك فقال ارجعى إليه فقولي له أنا أخوك وأنت أخي في الإسلام وابنتك تصلح لى أي تحل فرجعت فذكرت ذلك له قالت أم رومان رضي الله عنها إن مطعم بن عدى قد كان ذكرها على ابنه جبير ووعده والله ما وعد وعدا قط فأخلفه تعنى أبا بكر فدخل أبو بكر على مطعم وعنده امرأته أم ابنه المذكور فكلمت أبا بكر بما أوجب ذهاب ما كان فى نفسه من عدته لمطعم فإن المطعم لما قال له أبو بكر ما تقول في أمر هذه الجارية أقبل المطعم على امرأته وقال لها ماذا تقولين يا هذه فأقبلت على أبى بكر وقالت له لعلنا إن أنكحنا هذا الفتى إليكم تصيبه وتدخله في دينك الذى أنت عليه فأقبل أبوبكر على المطعم وقال له ماذا تقول أنت فقال إنها لتقول ما تسمع فقام أبو بكر وليس في نفسه من الوعد شيء فرجع فقال لخولة ادعى لى رسول الله صلى الله عليه وسلم فدعته فزوجه إياها وعائشة حينئذ بنت ست سنين وقيل سبع سنين وهو الأقرب
فعلم أن العقد على سودة تقدم على العقد على عائشة لأن العقد على سودة كان في رمضان الشهر الذي ماتت فيه خديجة رضي الله تعالى عنها وعلى عائشة كان فى شوال ومعلوم أن الدخول بسودة كان بمكة وعلى عائشة كان بالمدينة
ثم رأيت بعضهم ذكر أن خولة ذهبت إلى طلب عائشة وأن النبي صلى الله عليه وسلم

عقد عليها قبل ذهابها لسودة وعقده عليها ولا تخفى المخالفة إلا أن يراد بالعقد على سودة الدخول بها وفيه أنه لا يحسن ذلك مع قوله قبل ذهابها لسودة
ولما اشتكى أبو طالب أى مرض وبلغ قريشا ثقله أى اشتداد المرض به قال بعضهم لبعض إن حمزة وعمر قد أسلما وقد فشا أمر محمد في قبائل قريش كلها فانطلقوا بنا إلى أبى طالب فليأخذ لنا على ابن أخيه وليعطه منا فإنا والله ما نأمن أن يبتزونا أمرنا أى يسلبونه ومنه قولهم من عز بز أى من غلب أخذ السلب ووهو الثياب التي هي البز وفي لفظ إنا نخاف أن يموت هذا الشيخ فيكون منا شيء أي قتل محمد كما فى بعض الروايات فتعيرنا العرب ويقولون تركوه حتى إذا مات عمه تناولوه فمشى إليه أشرافهم منهم عتبة وشيبة ابنا ربيعه وأبو جهل وأمية بن خلف وأبو سفيان رضى الله تعالى عنه فإنه أسلم ليلة الفتح كما سيأتى وأرسلوا رجلا يدعى المطلب فاستأذن لهم على ابى طالب فقال هؤلاء شيخة قومك وسرواتهم يستأذنون عليك قال أدخلهم فدخلوا عليه فقالوا يا أبا طالب أنت منا حيث قد علمت وفى لفظ قالوا يا أبا طالب أنت كبيرنا وسيدنا وقد حضرك ما ترى وتخوفنا عليك وقد علمت الذى بيننا وبين ابن أخيك فادعه وخذ له منا وخذ لنا منه لينكف عنا وننكف عنه وليدعنا وديننا وندعه ودينه فبعث إليه صلى الله عليه وسلم أبو طالب فجاءه ولما دخل صلى الله عليه وسلم على أبي طالب وكان بين أبي طالب وبين القوم فرجة تسع الجالس فخشى أبو جهل أن يجلس النبي صلى اله عليه وسلم في تلك الفرجة فيكون أرقى منه فوثب أبو جهل فجلس فيها فلم يجد النبي صلى الله عليه وسلم مجلسا قرب أبى طالب فجلس عند الباب انتهى
وفى الوفاء أنه صلى الله عليه وسلم قال لهم خلوا بينى وبين عمى فقالوا ما نحن بفاعلين وما أنت بأحق به منا إن كانت لك قرابة فإن لنا قرابة مثل قرابتك فقال أبو طالب لرسول الله عليه وسلم يا ابن أخى هؤلاء أشراف قومك وفى لفظ هؤلاء شيخة قومك وسرواتهم وقد اجتمعوا لك ليعطوك وليأخذوا منك وفي لفظ سألوك النصف وفى لفظ أعط سادات قومك ما سألوك فقد أنصفوك أن تكف عن شتم آلهتهم ويدعوك وإلهك فقال رسول الله عليه وسلم أرأيتكم

إن أعطيتكم ما سألتم هل تعطونى كلمة واحدة تملكون بها العرب وتدين لكم بها العجم أى تطيع وتخضع فقال أبو جهل نعم وآتيك عشر كلمات وفى لفظ لنعطيكها وعشرا معها فما هى قال تقولون لا إله إلا الله وتقلعون عما تعبدون من دونه فصفقوا بأيديهم ثم قالوا يا محمد أتريد أن تجعل الآلهة إلها واحدا إن أمرك لعجب فأنزل الله تعالى ص والقرآن ذى الذكر إلى آخر الآيات وفى لفظ قالوا أيسع لحاجاتنا جميعا إله واحد وفى لفظ قالوا سلنا غير هذه الكلمة وفى لفظ أن أبا طالب قال يا ابن أخى هل من كلمة غيرها فإن قومك قد كرهوها قال يا عم ما أنا بالذى يقول غيرها ثم قال صلى الله عليه وسلم لو جئتمونى بالشمس حتى تضعوها فى يدى ما سألتكم غيرها ثم قال بعضهم لبعض والله ما هذا الرجل بمعطيكم شيئا مما تريدون فانطلقوا وامضوا على دين آبائكم حتى يحكم الله بينكم وبينه ثم تفرقوا وفى لفظ قالوا عند قيامهم والله لنشتمك وإلهك الذى يأمرك بهذا أى وفى لفظ لتكفن عن سب آلهتنا أو لنسبن إلهك الذى أمرك بهذا
قال فى الينبوع وهذه العبارة أحسن من الأولى لأنهم كانوا يعرفون أنه يعبد الله وما كانوا ليسبوا الله عالمين لكنهم ما كانوا يعرفون أن الله أمره بذلك وذكره أن ذلك سبب نزول قوله تعالى { ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم }
هذا وفى النهر أن سبب نزول هذه الآية أن كفار قريش قالوا لأبى طالب إما أن تنهى محمداعن سب آلهتنا والنقص منها وإما أن نسب إلهه ونهجوه قال فيه وحكم هذه الآية باق فى هذه الأمة فإذا كان الكافر فى منعة وخيف أن يسب الإسلام أو الرسول فلا يحل للمسلم ذم دين الكافر ولا يتعرض لما يؤدى إلى ذلك لأن الطاعة إذا كانت تؤدى إلى مفسدة خرجت عن أن تكون طاعة فيجب النهى عنها كما ينهى عن المعصية هذا كلامه
وعند ذلك قال أبو طالب لرسول الله عليه وسلم والله يا ابن أخى ما رأيتك سألتهم شحطا أى بالحاء والطاء المهملتين أمرا بعيدا فلما قال ذلك طمع رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه فجعل يقول أى عم فأنت فقلها أستحل بها الشفاعة يوم القيامة أى لو ارتكبت ذنبا بعد قولها وإلا فالاسلام يجب ما قبله فلما رأى حرص رسول الله عليه وسلم قال له والله يا ابن أخى لولا مخافة السبة أى العار عليك

وعلى بنى أبيك من بعدى وأن تظن قريش أنى إنما قلتها جزعا أى بالجيم والزاى خوفا من الموت وهذا هو المشهور وقيل بالخاء المعجمة والراء أى ضعفا لقلتها وفى رواية لأقررت بها عينك لما أرى من شدة وجدك لكنى أموت على ملة الأشياخ عبد المطلب وهاشم وعبد مناف فأنزل الله تعالى إنك لا تهدى من أحببت الآية
أى وعن مقاتل أن أبا طالب قال عند موته يا معشر بنى هاشم أطيعوا محمدا وصدقوه تفلحوا وترشدوا فقال له النبى صلى الله عليه وسلم ياعم تأمرهم بالنصيحة لأنفسهم وتدعها لنفسك قال فما تريد يا ابن أخى قال أريد أن تقول لا إله إلا الله أشهد لك بها عند الله تعالى فقال يا ابن أخي قد علمت أنك صادق لكنى أكره أن يقال الحديث قال فى الهدى وكان من حكمة أحكم الحاكمين بقاؤه على دين قومه لما فى ذلك من المصالح التي تبدو لمن تأملها أى وكذا أقرباؤه وبنو عمه تأخر إسلاتم من أسلم منهم ولو أسلم أبو طالب وبادر أقرباؤه وبنو عمه تأخر إسلام من أسلم منهم ولو أسلم أبو طالب وبادر وبنو عمه إلى الإيمان به لقيل قوم أرادوا الفخر برجل منهم وتعصبوا له فلما بادر إليه الأباعد وقاتلوا على حبه من كان منهم حتى إن الشخص منهم يقتل أباه وأخاه علم أن ذلك إنما هو عن بصيرة صادقة ويقين ثابت
وذكر أنه لما تقارب من أبى طالب الموت نظر العباس إليه يحرك شفتيه فاصغى إليه بأذنه فقال يا ابن أخى والله لقد قال أخى الكلمة التى أمرته بقولها فقال رسول الله عليه وسلم لم أسمع وفيه أنه لم يثبت ن العباس ذكر ذلك بعد الإسلام وأيضا نزول الآية حيث ثبت أن نزولها فى حق أبى طالب يرد ذلك
ويرده أيضا ما فى الصحيحين عن العباس رضى الله تعالى عنه أنه قال قلت يا رسول الله إن أبا طالب كان يحيطك وينصرك فهل ينفعه ذلك قال نعم وجدته أى كشف لى عن حاله وما يصير إليه يوم القيامة فوجدته فى غمرات من النار فأخرجته إلى ضحضاح أى وفى لفظ آخر قال نعم هو أى يوم القيامة فى ضحضاح من النار لولا أنا لكان فى الدرك الأسفل من النار ولو كانت الشهادة المذكورة عند العباس ما سأل هذا السؤال ولأداها بعد الإسلام إذ لو أداها لقبلت
وقد يقال إنما سأل هذا السؤال ولم يعد الشهادة بعد الإسلام لأنه لما قال له صلى الله عليه وسلم أولا لم أسمع فهم أنه حيث لم يسمعها صلى الله عليه وسلم لم يعتد بها سأل هذا السؤال وفهم أن إعادة الشهادة بعد إسلامه لا تفيد شيئا

ويرده أيضا ما جاء فى رواية أنه صلى الله عليه وسلم لما كرر على أبى طالب أن يقول كلمة الشهادة وهو يأبى إلى أن قال هو على دين عبد المطلب قال صلى الله عليه وسلم أما والله لأستغفرن لك مالم أنه عن ذلك أى عن الاستغفار لك فأنزل الله عز وجل ما كان للنبى والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولى قربى من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم أى وتقدم أن سبب نزول هذه الآية طلب استغفاره لأمه عند زيارة قبرها أن يقال لا مانع من تكرر سبب نزولها لجواز أنه صلى الله عليه وسلم جوز الفرق بين أمه وعمه لأن أمه لم تدع للإسلام بخلاف عمه وفى منع استغفاره لأمه ما تقدم ولا يشكل على ذلك قوله يوم أحد اللهم اغفر لقومى لأن ذلك أى غفران الذنوب مشروط بالتوبة أى الإسلام فكأنه صلى الله عليه وسلم دعا لهم بالتوبة التى هى الإسلام ويؤيده رواية اللهم اهد قومى أى للإسلام قال وأيضا جاء فى صحيح ابن حيان عن على رضى الله تعالى عنه قال لما مات أبو طالب أتيت رسول الله عليه وسلم فقلت يا رسول الله إن عمك الشيخ الضال قد مات قال اذهب فواره قال على رضى الله تعالى عنه فلما واريته جئت إليه فقال لى اغتسل
أقول لأنه غسله وبه وبقوله صلى الله عليه وسلم من غسل ميتا فليغتسل استدل أئمتنا على أن من غسل ميتا مسلما أو كافرا استحب له أن يغتسل
وروى البيهقى خبر أن عليا رضى الله تعالى عنه غسله بأمر النبى صلى الله عليه وسلم له بذلك لكن ضعفه وفى رواية عن على رضى الله تعالى عنه لما أخبرت النبى صلى اله عليه وسلم بموت أبى طالب بكى وقال اذهب فاغسله وكفنه وواره غفر الله له ورحمه
وأما ما روى عنه أنه صلى الله عليه وسلم عارض جنازة عمه أبى طالب فقال وصلتك رحم وجزيت خيرا يا عم فقال الذهبى إنه خبر منكر والله أعلم
وجاء أيضا أنه ذكر عنده عمه أبو طالب فقال إنه ستنفعه شفاعتى وفى رواية لعله تنفعه شفاعتى يوم القيامة فيجعل فى ضحضاح من النار أى مقدار ما يغطى بطن قدميه وفى روايه فى ضحضاح من النار يبلغ كعبيه يغلى منها دماغه وفى لفظ عن ابن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كان يوم القيامة شفعت لأبى وأمى وعمى أبى طالب وأخ لى كان فى الجاهلية يعنى أخاه من حليمة كما فى رواية تأتى

أقول يجوز أن يكون ذكر شفاعته لأبويه كان قبل إحيائهما وإيمانهما به كما قدمناه جوابا عن نهيه عن الإستغفار لهما والله أعلم
وفى لفظ آخر شفعت فى أبى وعمى أبى طالب وأخى من الرضاعة يعنى من حليمة ليكوونوا من بعد البعث هباء
ومما يستأنس به لإيمان أبيه ما جاء أنه صلى لله عليه وسلم قال لابنته فاطمة رضى الله تعالى عنها وقد عزت قوما من الأنصار فى ميتهم لعلك بلغت معهم الكدى بالدال المهملة أو الكرا بالراء يعنى القبور فقالت لا فقالت لو كنت بلغت معهم الكدى ما رأيت الجنة حتى يراها جد أبيك يعنى عبد المطلب ولم يقل جدك يعنى أباه الذى هو عبد الله وتقدم القول بأن حليمة وأولادها أسلموا
وعليه فيجوز أن يكون هذا منه صلى الله عليه وسلم قبل أن يسلم أخوه من الرضاعة كما تقدم مثل ذلك فى أبيه وأمه وفى رواة الحديث الأول من هو منكر الحديث وفى الثانى من هو ضعيف وقال فيه ابن الجوازى إنه موضوع بلا شك أى وهذا أى قبول شفاعته صلى الله عليه وسلم فى عمه أبى طالب عد من خصائصه صلى الله عليه وسلم فلا يشكل بقوله تعالى فما تنفعهم شفاعة الشافعين أو لا تنفعهم شفاعة الشافعين فى الإخراج من النار بالكلية أى وفى هذا الثانى أنه لا يناسب أن شفاعته لهم أن يكونوا من بعد البعث هباء أى فى صيرورتهم هباء إلا أن يقال إنه لم يستجب له فى ذلك
قال وجاء أيضا عن ابن عباس رضى الله تعالى عنهما أن رسول الله عليه وسلم قال إن أهون أهل النار أى وهم الكفار عذابا أبو طالب وهو ينتعل بنعلين يغلى منهما دماغه أى وفى رواية كما يغلى الماء فى المرجل أى القدر من النحاس حتى يسيل دماغه على قدميه وفى رواية كما يغلى المرجل بالقمقم قيل والقمقم بكسر القافين البسر الأخضر يطبخ فى المرجل استعجالا لنضجه يفعل ذلك أهل الحاجة
وذكر السهيلى الحكمة فى اختصاص قدميه بالعذاب وزعم بعض غلاة الرافضة أن أبا طالب أسلم واستدل له بأخبار واهية ردها الحافظ ابن حجر فى الإصابة
أى وقد قال وقفت على جزء جمعه بعض أهل الرفض أكثر من الأحاديث الواهية الدالة على إسلام أبى طالب ولم يثبت من ذلك شيء
وروى أبو طالب عن النبي صلى الله عليه وسلم قال حدثني محمد أن الله أمره بصلة

الأرحام وأن يعبد الله وحده ولا يعبد معه غيره وقال سمعت ابن أخى الأمين يقول اشكر ترزق ولا تكفر تعذب انتهى
وفى المواهب عن شرح التنقيح للقرافى أن أبا طالب ممن آمن بظاهره وباطنه وكفر بعدم الإذعان للفروع لأنه كان يقول إنى لا أعلم ما يقوله ابن أخى لحق ولولا أنى أخاف أن يعيرنى نساء قريش لأتبعته فهذا تصريح باللسان واعتقاد بالجنان غير أنه لم يذعن للأحكام هذا كلامه وفيه أن الإيمان باللسان الإتيان بلا إله إلا الله ولم يوجد ذلك منه كما علمت وتقدم أن الإيمان النافع عند الله الذى يصير به الشخص مستحقا لدخول الجنة ناجيا من الخلود فى النار التصديق بالقلب بما علم بالضرورة أنه من دين محمد صلى الله عليه وسلم وإن لم يقر بالشهادتين مع التمكين من ذلك ويمتنع وأبو طالب طلب منه ذلك وامتنع
وقد روى الطبرانى عن أم سلمة أن الحارث بن هشام أى أخا أبى جهل بن هشام أتى النبى صلى الله عليه وسلم يوم حجة الوداع فقال إنك تحث عل صلة الرحم والإحسان إلى الجار وإيواء اليتيم وإطعام الضيف وإطعام المسكين وكل هذا مما يفعله هشام يعنى والده فما ظنك به يا رسول الله فقال رسول الله صى الله عليه وسلم كل قبر لا يشهد صاحبه أن لا إله إلا الله فهو جذوة من النار وقد وجدت عمى أبا طالب فى طمطام من النار فأخرجه الله لمكانه منى وإحسانه إلى فجعله فى ضحضاح من النار
وذكر أن أبا طالب لما حضرته الوفاة جمع إليه وجهاء قريش فأوصاهم وكان من وصيته أن قال يا معشر قريش أنتم صفوة الله من خلقه وقلب العرب فيكم المطاع وفيكم المقدم الشجاع والواسع الباع لم تتركوا للعرب فى المآثر نصيبا إلا أحرزتموه ولا شرفا إلا أدركتموه فلكم بذلك على الناس الفضيلة ولهم به إليكم الوسيلة أوصيكم بتعظيم هذه البنية أى الكعبة فإن فيها مرضاة للرب وقواما للمعاش صلوا أرحامكم ولاتقطعوها فإن فى صلة الرحم منسأ أى فسحة في الأجل وزيادة فى العدد واتركوا البغى والعقوق ففيهما هلكت القرون قبلكم أجيبوا الداعى وأعطوا السائل فإن فيهما شرف الحياة والممات وعليكم بصدق الحديث وأداء الأمانة فإن فيهما محبة فى الخاص ومكرمة فى العام وإنى أوصيكم بمحمد خيرا فإنه الأمين فى قريش أى وهو الصديق فى العرب وهو الجامع لكل ما أوصيكم به وقد جاء بأمر قبله الجنان

وأنكره اللسان مخافة الشنآن أى البغض وهو لغة فى الشنآن وايم الله كأنى أنظر إلى صعاليك العرب وأهل البر فى الأطراف والمستضعفين من الناس قد أجابوا دعوته وصدقوا كلمته وعظموا أمره فخاض بهم غمرات الموت فصارت رؤساء قريش وصناديدها أذنابا ودورها خرابا وضعفاؤها أربابا وإذا أعظمهم عليه أحوجهم إليه وأبعدهم منه أحظاهم عنده قد محضته العرب ودادها وأعطته قيادها دونكم يا معشر قريش كونوا له ولاة ولحزبه حماة والله لا يسلك أحد منكم سبيله إلا رشد ولا يأخذ حد بهديه إلا سعد
وفى لفظ آخر أنه لما حضرته الوفاة دعا بنى عبد المطلب فقال لن تزالوا بخير ما سمعتم من محمد وما اتبعتم أمره فأطيعوه ترشدوا
ولما مات أبو طالب نالت قريش من النبى صلى الله عليه وسلم من الأذى مالم تكن تطمع فيه فى حياة أبى طالب حتى إن بعض سفهاء قريش نثنر على رأس النبى صلى الله عليه وسلم التراب فدخل صلى الله عليه وسلم بيته والتراب على رأسه فقامت إليه بعض بناته وجعلت تزيله عن رأسه وتبكى ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لها لا تبكى لا تبكى يا بنية فإن الله تعالى مانع أباك وكان صلى الله عليه وسلم يقول مانالت قريش منى شيئا أكرهه أى أشد الكراهة حتى مات أبو طالب وتقدم وسيأتى بعض ما أوذوى به
قال ولما رأى قريشا تهجموا قال يا عم ما أسرع ما وجدت فقدك ولما بلغ أبا لهب ذلك قام أبو لهب بنصرته أياما وقال له يا محمد امض لما أردت وما كنت صانعا إذا كان أبو طالب حيا فاصنعه لا واللات والعزى لا يوصل إليك حتى أموت
واتفق أن ابن العطيلة أى وهو أحد المستهزئين المتقدم ذكرهم سب النبى صلى الله عليه وسلم فأقبل عليه ابو لهب ونال منه فولى وهو يصيح يا معشر قريش صبا أبو عتبة يعنى أبا لهب فأقبلت قريش على أبى لهب وقالوا له أفارقت دين عبد المطلب فقال ما فارقت وفى لفظ قالوا له أصبوت قال ما فارقت دين عبد المطلب ولكن أمنع ابن أخى أن يضام حتى يمضى لما يريد قالوا قد أحسنت وأجملت ووصلت الرحم فمكث رسول الله صلى الله عليه وسلم على ذلك أياما لا يتعرض له أحد من قريش وهابوا أبا لهب إلى أن جاء أبو جهل وعقبة بن أبى معيط إلى أبى لهب فقالا له أخبرك

ابن أخيك أين مدخل أبيك أى المحل الذى يكون فيه يزعم أنه فى النار فقال له أبو لهب يا محمدأيدخل عبد المطلب النار فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم نعم ومن مات على مثل ما مات عليه عبد المطلب دخل النار فقال أبو لهب لا برحت لك عدوا وأنت تزعم أن عبد المطلب فى النار فاشتد عليه هو وسائر قريش انتهى
وفى لفظ قال له يا محمد أين مدخل عبد المطلب قال مع قومه فخرج أبو لهب إلى أبى جهل وعقبة فقال قد سألته فقال مع قومه فقالا يزعم أنه فى النار فقال يا محمد أيدخل عبد المطلب النار فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم نعم الحديث ولا يخفى أن عبد المطلب من أهل الفترة وتقدم الكلام عليهم والله أعلم = باب ذكر خروج النبى صلى الله عليه وسلم الى الطائف
سميت بذلك لأن رجلا من حضرموت نزلها فقال لأهلها ألا أبنى لكم حائطا يطيف ببلدكم فبناه فسمى الطائف وقيل غير ذلك
لما مات أبو طالب ونالت قريش من النبى صلى الله عليه وسلم مالم تكن نالته منه فى حياته كما تقدم خرج إلى الطائف اى وهو مكروب مشوش الخاطر مما لقى من قريش وقرابته وعترته خصوصا من أبى لهب وزوجته أم جميل حمالة الحطب من الهجو والسب والتكذيب
وعن على رضى الله تعالى عنه أنه قال بعد موت أبى طالب لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذته قريش تتجاذبه وهم يقولون له صلى الله عليه وسلم أنت الذى جعلت الآلهة إلها واحدا قال فوالله مادنا منا أحد إلا أبو بكر فصار يضرب هذا ويدفع هذا وهو يقول أتقتلون رجلا أن يقول ربى الله
وخروجه صلى الله عليه وسلم إلى الطائف كان فى شوال سنة عشر من النبوة وحده وقيل معه مولاه زيد بن حارثة يلتمس من ثقيف الإسلام رجاء أن يسلموا وأن يناصروه

على الإسلام والقيام معه على من خالفه من قومه قال فى الإمتاع لأنهم كانوا أخواله قال بعضهم ومن ثم أى من أجل أنه صلى الله عليه وسلم خرج إلى الطائف عند ضيق صدره وتعب خاطره جعل الله الطائف مستأنسا على من ضاق صدره من أهل مكة كذا قال
وفى كلام غيره ولا جرم جعل الله الطائف مستأنسا لأهل الإسلام ممن بمكة إلى يوم القيامة فهى راحة الأمة ومتنفس كل ذى ضيق وغمة سنة الله فى الذين خلوا من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلا فليتأمل
فلما انتهى صلى الله عليه وسلم إلى الطائف عمد إلى سادات ثقيف وأشرافهم وكانوا إخوة ثلاثة أحدهم عبد يا ليل أى واسمه كنانة لم يعرف له إسلام وأخوه مسعود أى وهو عبد كلال بضم الكاف وتخفيف اللام لم يعرف له إسلام أيضا وحبيب قال الذهبى فى صحبته نظر أى وهم أولاد عمرو بن عمير بن عوف الثقفى وجلس صلى الله عليه وسلم إليهم وكلمهم فيما جاءهم به أى من نصرته على الإسلام والقيام معه على من خالفه من قومه فقال أحدهم هو يمرط ثياب الكعبة أى ينتفها ويقطعها أى وقيل يسرقها إن كان الله أرسلك وقال له آخر ما وجد الله أحدا يرسله غيرك وقال له الثالث والله لا أكلمك أبدا ولئن كنت تكذب على الله ما ينبغى لى أن أكلمك فقام صلى الله عليه وسلم من عندهم وقد أيس من خير ثقيف وقال لهم اكتموا على وكره صلى الله عليه وسلم أن يبلغ قومه ذلك فيشتد أمرهم عليه وقالوا له أخرج من بلدنا والحق بمنجاتك من الأرض وأغروا به أى سلطوا عليه سفهاءهم وعبيدهم يسبونه ويصيحون به حتى اجتمع عليه الناس وقعدوا له صفين على طريقه فلما مر صلى الله عليه وسلم بين الصفين جعل لا يرفع رجليه ولا يضعهما إلا أرضخوهما أى دقوهما بالحجارة تى أدموا رجليه صلى الله عليه وسلم
وفى لفظ حتى اختضبت نعلاه بالدماء وكان صلى الله عليه وسلم إذا أزلقته الحجارة أى وجد ألمها قعد إلى الأرض فيأخذون بعضديه فيقيمونه فإذا مشى رجموه وهم يضحكون كل ذلك وزيد بن حارثة أى بناء على أنه كان معه صلى الله عليه وسلم يقيه بنفسه حتى لقد شج رأسه شجاجا فلما خلص منهم رجلاه يسيلان دما

عمد إلى حائط من حوائطهم أى بستان من بساتينهم فاستظل فى حبلة أى بفتح الباء الموحدة وتسكينها غير معروف شجرة كرم وقيل لها حبلة لأنها تحمل بالعنب وقد فسر نهيه صلى الله عليه وسلم عن بيع حبل الحبلة ببيع العنب قبل أن يطيب قال السهيلي وهو غريب لم يذهب إليه أحد فى تأويل الحديث فجاء إلى ذلك المحل وهو مكروب موجع أى وقد جاء النهى عن أن يقال لشجر العنب الكرم فى قوله صلى الله عليه وسلم لا يقولن أحدكم الكرم فإن الكرم قلب المؤمن ولكن قولوا حدائق العنب قال وسبب النهى عن تسميتها كرما لأن الخمر تتخذ من ثمرتها وهو يحمل على الكرم فاشتقوا لها اسما من الكرم
وفى لفظ ثم إن هؤلاء الثلاثة أى عبد ياليل وإخوته أغروا عليه سفهاءهم وعبيدهم فصاروا يسبونه ويصيحون به حتى اجتمع عليه الناس وألجئوه إلى حائط لعتبة وشيبة ابنى ربيعة فلما دخل الحائط رجعوا عنه
قال وذكر أنه صلى الله عليه وسلم دعا بدعاء منه اللهم إنى أشكو إليك ضعف قوتى وقلة حيلتى وهوانى على الناس يا أرحم الراحمين أنت رب المستضعفين وأنت ربى إلى من تكلنى إن لم يكن بك غضب على فلا أبالى أهوإذا فى الحائط أى البستان عتبة وشيبة ابنا ربيعة أى وقد رأيا ما لقى من سفهاء أهل الطائف فلما رآهما كره مكانهما لما يعلم من عداوتهما لله ولرسوله فلما رأياه وما لقى تحركت له رحمهما فدعوا غلاما لهما نصرانيا يقال له عداس معدود فى الصحابة مات قبل الخروج إلى بدر فقالا خذ قطفا من هذا العنب فضعه في هذا الطبق ثم اذهب به إلى ذلك الرجل فقل له يأكل منه أي وهذا العنب فضعه في هذا الطبق ثم اذهب به إلى ذلك الرجل فقل له يأكل منه أي وهذا لا ينافى كون زيد بن حارثة كان معه كما لا يخفى ففعل عداس ثم أقبل به حتى وضعه بين يدى رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال له كل فلما وضع رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه يده الشريفة قال بسم الله ثم أكل أى لأنه صلى الله عليه وسلم كان إذا وضع يده فى الطعام قال بسم الله ويأمر الآكل بالتسمية وأمر من نسى التسمية أوله أن يقول بسم الله أوله وآخره فنظر عداس فى وجهه وقال والله إن هذا الكلام ما يقوله أهل هذه البلاد فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم من أى البلاد أنت وما دينك يا عداس قال نصرانى وأنا من أهل نينوى بكسر النون الأولى وفتح الثانية وقيل بضمها قرية على شاطىء دجلة فى أرض الموصل فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم

من أهل قرية أى وفى رواية من مدينة الرجل الصالح يونس بن متى اسم ابيه أى كما فى حديث ابن عباس رضى الله عنهما وفى تاريخ حماة أنه اسم أمه قال ولم يشتهر باسم أمه غير عيسى ويونس عليهما الصلاة والسلام
أى وفى مزيل الخفاء فان قيل قد ورد فى الصحيح لا تفضلونى على يونس بن متى ونسبه إلى أبيه وهو يقتضى أن متى أبوه لا أمه
أجيب بأن متى مدرج فى الحديث من كلام الصحابى لبيان يونس بما اشتهر به لا من كلام النبى صلى الله عليه وسلم
ولما كان ذلك موهما أن الصحابى سمع هذه النسبة من النبى صلى الله عليه وسلم دفع الصحابى ذلك بقوله ونسبه إلى أبيه لا إلى أمه هذا كلامه
وعند ذلك قال عداس له صلى الله عليه وسلم وما يدريك ما يونس بن متى فإنى والله لقد خرجت منها يعنى نينوى وما فيها عشرة يعرفون ما متى فمن أين عرفت ابن متى وأنت أمى وفى أمة أمية فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ذاك أخى كان نبيا وأنا نبى أمى وفى رواية أنا رسول الله والله أخبرنى خبره وما وقع له مع قومه أى حيث وعدهم العذاب بعد أربعين ليلة لما دعاهم فأبوا أن يجيبوا وخرج عنهم وكانت عادة الأنبياء إذا واعدت قومها العذاب خرجت عنهم فلما فقدوه قذف الله تعالى فى قلوبهم التوبة أى الإيمان بما دعاهم إليه يونس
وقيل كما فى الكشاف إنه قال لهم يونس أنا أؤجلكم أربعين ليلة فقالوا إن رأينا أسباب الهلاك آمنا بك فلما مضت خمس وثلاثون ليلة أطبقت السماء غيما أسود يدخن دخانا شديدا ثم يهبط حتى يغشى ودينتهم فعند ذلك لبسوا المسموح وأخرجوا المواشى وفرقوا بين النساء وأولادها وبين كل بهيمة وولدها فلما أقبل عليهم العذاب جأروا إلى الله تعالى وبكى الناس والولدان ورغت الإبل وفصلانها وخارت البقر وعجاجيلها وثغت الغنم وسخالها وقالوا يا حي حيث لا حي ويا حي يحيى الموتى ويا حى لا إله إلا أنت
وعن الفضيل أنهم قالوا اللهم إن ذنوبنا قد عظمت وجلت وأنت أعظم منها وأجل فافعل بنا ما أنت أهله ولا تفعل بنا ما نحن أهله

وفى الكشاف أنهم عجوا أربعين ليلة وعلم الله تعالى منهم الصدق فتاب عليهم وصرف عنهم العذاب بعد أن صار بينه وبينهم قدر ميل فمر رجل على يونس فقال له ما فعل قوم يونس فحدثه بما صنعوا فقال لا أرجع إلى قوم قد كذبتهم قيل وكان فى شرعهم أن من كذب قتل فانطلق مغاضبا لقومه وظن أن لن نقضى عليه بما قضى به عليه أى من الغم وضيق الصدر قال تعالى { وذا النون إذ ذهب مغاضبا فظن أن لن نقدر عليه } أى لن نضيق عليه وكانت التوبة عليهم يوم عاشوراء وكان يوم الجمعة
أى وفى كلام بعضهم كشف العذاب عن قوم يونس يوم عاشوراء وأخرج فيه يونس من بطن الحوت وهو يؤيد القول بأنه نبذ من يومه وهو قول الشعبى التقمه ضحوة ونبذه عشية أى بعد العصر وقاربت الشمس الغروب وذكر أن الحوت لم يأكل ولم يشرب مدة بقاء يونس فى بطنه لئلا يضيق عليه
وقال السدى مكث أربعين يوما وقال جعفر الصادق سبعة أيام وقال قتادة ثلاثة أيام وذلك بعد أن نزل السفينة فلم تسر فقال لهم إن معكم عبدا آبقا من ربه وإنها لا تسير ححتى تلقوه فى البحر وأشار إلى نفسه فقالوا لا نلقيك يا نبى الله أبدا قال فاقترعوا فخرجت القرعة عليه ثلاث مراتفألقوه فالتقمه الحوت وقيل قائل ذلك بعض الملاحين وحين خرجت القرعة عليه ثلاثا ألقى نفسه فى البحر وهذا السياق يدل على أن رسالته كانت قبل أن يلتقمه الحوت وقيل إنما أرسل بعد نبذ الحوت له وفيه كيف يدعوهم ويعدهم العذاب وهو غير مرسل لهم
وعن وهب بن منبه وقد سئل عن يونس فقال كان عبدا صالحا وكان فى خلقه ضيق فلما حملت عليه أثقال النبوة تفسخ تحتها فألقاها عنه وخرج هاربا أى فقد تقدم أن للنبوة أثقالا لا يستطيع حملها إلا أولو العزم من الرسل وهم نوح وهود وإبراهيم ومحمد صلوات الله وسلامه عليهم
أما نوح فلقوله يا قوم إن كان كبر عليكم مقامى وتذكيرى بآيات الله الآية وأما هود فلقوله إنى أشهد الله واشهدوا أنى برىء مما تشركون من دونه الآية وأما ابراهيم فلقوله هو والذين آمنوا معه إنا برآء منكم ومما تعبدون من دون الله الآية وأما محمد صلى الله عليه وسلم فلقول الله تعالى له فاصبر كما صبر أولو العزم من الرسل فصبر صلى الله عليه وسلم

فعند ذلك أكب عداس على رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبل رأسه ويديه وقدميه أى فقال أحدهما أى عتبة وشيبة للآخر أما غلامك فقد أفسده عليك فلما جاءهما عداس قال له أحدهما ويلك مالك تقبل رأس هذا الرجل ويديه وقدميه قال يا سيدي ما فى الأرض شيء خير من هذا لقد أعلمنى بأمر لا يعلمه إلا نبى قال ويحك يا عداس لا يصرفنك عن دينك
أقول وفى رواية قال له وما شأنك سجدت لمحمد وقبلت قدميه ولم نرك فعلته بأحدنا قال هذا رجل صالح أخبرنى بشيء عرفته من شأن رسول بعثه الله إلينا يدعى يونس بن متى فضحكنا به وقالا لا يفتننك عن نصرانيتك فإنه رجل خداع ودينك خير من دينه وقد تقدم فى بعض الروايات أن خديجة رضى الله تعالى عنها قبل أن تذهب بالنبى صلى الله عليه وسلم لورقة بن نوفل ذهبت به الى عداس وكان نصرانيا من أهل نينوى قرية سيدنا يونس عليه الصلاة والسلام وتقدم أنه غير هذا خلافا لمن اشتبه عليه به
وفى كلام الشيخ محيى الدين بن العربى قد اجتمعت بجماعة من قوم يونس سنة خمس وثمانين وخمسمائة بالأندلس حيث كنت فيه وقست أثر رجل واحد منهم فى الأرض فرأيت طول قدمه ثلاثة أشبار وثلثى شبر والله أعلم
وفى الصحيح عن عائشة رضى الله تعالى عنها إنها قالت للنبى صلى الله عليه وسلم هل أتى عليك يوم أشد من أحد قال لقد لقيت من قومك وكان أشد ما لقيت يوم العقبة إذ عرضت نفسى على ابن عبد ياليل بن كلال أى والمناسب لما سبق إسقاط لفظ ابن الأولى والإتيان بواو العطف موضع ابن الثانية أى فيقال عبد ياليل وكلال أى وعبد كلال ويكون خصهما بالذكر دون أخيهما حبيب لأنهما كانا أشرف وأعظم منه أو لأنهما كانا المحبين له صلى الله عليه وسلم بالقبيح دون حبيب إلا إن ثبت أن آباء هؤلاء الثلاثة شخصا يقال له عبد ياليل وعبد كلال وحينئذ يكون المراد هؤلاء الثلاثة لأن ابن مفرد مضاف ثم رأيته فى النور ذكر ما يفيد أن لفظ ابن ثابت فى الصحيح
والذى فى كلام ابن اسحاق وأبى عبيد وغيرهما إسقاطه ثم رأيت الشمس الشامى

قال الذى ذكره أهل المغازى أن الذى كلمه رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد ياليل نفسه لا ابنه
وعند أهل السير أن عبد كلال أخوه لا أبوه أى أبو أبيه كما لا يخفى فلم يجبنى إلى ما أردت فانطلقت وأنا مهموم على وجهى فلم أستفق إلا وأنا بقرن الثعالب أى ويقال له قرن المنازل وهو ميقات أهل نجد الحجاز أو اليمن بينه وبين مكة يوم وليلة وفى لفظ وهو موضع على ليلة من مكة وراء قرن بسكون الراء ووهم الجوهرى فى تحريكها وفى قوله إن أويسا القرنى منسوب إليه وإنما هو منسوب إلى قرن قبيلة من مراد كما ثبت فى مسلم فرفعت رأسى فإذا أنا بالسحابة قد أظلتنى فنطرت فإذا فيها جبريل عليه السلام فنادى فقال قد سمع قول قومك لك أى أهل ثقيف كما هو المتبادر وماردوا عليك به وقد بعثت إليك بملك الجبال فتأمره بما شئت فيهم فناداه صلى الله عليه وسلم ملك الجبال وسلم عليه وقال له إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين فعلت أى وهما جبلان يضافان تارة إلى مكة وتارة إلى منى فمن الأول قوله وهما قبيس وقعيقعان وقيل الجبل الأحمر الذى يقابل أبا قبيس المشرف على قعيقعان ومن الثانية الجبلان اللذان تحث العقبة بمنى فوق المسجد
وفيه أن ثقيفا ليسوا بينهما بل الجبلان خارجان عنهم فكيف يطبقهما عليهم وفى لفظ إن شئت خسفت بهم الأرض أو دمدمت عليهم الجبال أى التى بتلك الناحية
ثم رأيت الحافظ ابن حجر قال المراد بقوم عائشة فى قوله لقد لقيت من قومك قريش أى لا أهل الطائف الذين هم ثقيف لأنهم كانوا هم السبب الحامل على ذهابه صلى الله عليه وسلم لثقيف ولأن ثقيفا ليسوا قوم عائشة رضى الله تعالى عنها وعليه فلا إشكال ويوافقه قول الهدى فأرسل ربه تبارك وتعالى إليه صلى الله عليه وسلم ملك الجبال يستأمره أن يطبق على أهل مكة الأخشبين وهما جبلاها التى هى بينهما
وعبارة الهدى فى محل آخر وفى طريقه صلى الله عليه وسلم أرسل الله تعالى إليه ملك الجبال فأمره بطاعته صلى الله عليه وسلم وأن يطبق على قومه أخشبى مكة وهما جبلاها إن أراد هذا كلامه
ولا يخفى أن هذا خلاف السياق إذ قوله وكان أشد مالقيت منهم يوم العقبة إذ عرضت نفسى إلى آخره وقول جبريل قد سمع قول قومك لك وما ردوا عليك به ظاهر فى أن

المراد بهم ثقيف لا قريش ويوافق هذا الظاهر قول ابن الشحنة فى شرح منظومة ده بعد أن ساق دعاءه صلى الله عليه وسلم المتقدم بعضه فأرسل الله عز وجل جبريل ومعه ملك الجبال فقال إن شئت أطبقت عليهم الأخشبين وحينئذ يكون المراد إطباقهما عليهم بعد نقلهما من محلها إلى محل ثقيف الذى هو الطائف لأن القدرة صالحة وعند قول ملك الجبال له ما ذكر قال النبى صلى الله عليه وسلم بل أرجو أن يخرج الله تعالى وفي رواية أستأني بهم لعل الله أن يخرج من أصلابهم من يعبد الله تعالى لا يشرك به شيئا وعند ذلك قال له ملك الجبال أنت كما سماك ربك رؤوف رحيم قال الحافظ ابن حجر ولم أقف على اسم ملك الجبال وإلى حلمه وإغضائه صلى الله عليه وسلم أشار صاحب الهمزية بقوله ** جهلت قومه عليه فأغضى ** وأخو الحلم دأبه الإغضاء ** ** وسع العالمين علما وحلما ** فهو بحر لم تعيه الأعباء **
أى جهلت قومه صلى اله عليه وسلم عليه فآذوه أذية لا تطاق فأغضى عنهم حلما وأخو الحلم أى وصاحب عدم الانتقام شأنه التغافل فإن علمه وسع لوم العالمين ووسع حلمه حلمهم فهو واسع العلم والحلم لم تعيه الأعباء أي لم تتعبه الأثقال لكن تقييده بقومه السياق يدل على أن المراد به ثقيف وقد علمت ما فيه فليتأمل
وعند منصرفه صلى الله عليه وسلم المذكور من الطائف نزل نخلة وهى محلة بين مكة والطائف فمر به نفر سبعة وقيل تسعة من جن نصيبين أى وهى مدينة بالشام وقيل باليمن أثنى عليها صلى الله عليه وسلم بقوله رفعت إلى نصيبين حتى رأيتها فدعوت الله تعالى أن يعذب نهرها وينضر شجرها ويكثر مطرها وقد قام رسول الله صلى الله عليه وسلم من جوف الليل أى وسطه يصلى وفى رواية يصلى صلاة الفجر وفى رواية هبطوا على النبى صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ القرآن ببطن نخلة فلعله كان يقرأ فى الصلاة والمراد بصلاة الفجر الركعتان اللتان كان يصليهما قبل طلوع الشمس ولعله صلاهما عقب الفجر وذلك ملحق بالليل وفى قوله جوف الليل تجوز من الراوى أو صلى صلاتين صلاة في جوف الليل وصلاة بعد الفجر وقرأ فيهما أو جمع بين القراءة والصلاة وأن الجن استمعوا للقراءتين وإطلاق صلاة الفجر على الركعتين المذكورتين سائغ وبهذا

يندفع قول بعضهم صلاة الفجر لم تكن وجبت وكان صلى الله عليه وسلم يقرأ سورة الجن وفيه أى فى الصحيحين أن سورة الجن إنما نزلت بعد استماعهم
وقد يقال سيأتى ما يعلم منه أنه ليس المراد بالاستماع الاستماع المذكور هنا بل استماع سابق على ذلك وهو المذكور في رواية ابن عباس رضي الله تعالى عنهما الآتية ورواية صلاة الفجر هنا ذكرها الكشاف كالفخر وإلا فالروايات التى وقفت عليها فيها الاقتصار على صلاة الليل وصلاة الفجر كانت فى ابتداء البعث فى بطن نخلة عند ذهابه وأصحابه إلى سوق عكاظ كما سيأتى عن ابن عباس رضى الله عنهما فآمنوا به وكانوا يهودا لقولهم إنا سمعنا كتابا أنزل من بعد موسى ولم يقواوا من بعد عيسى إلا أن يكون ذلك بناء على أن شريعة عيسى مقررة لشريعة موسى لا ناسخة لها ولا يخفى أنهم غلبوا ما نزل من الكتاب على مالم ينزل لأنهم لم يسمعوا جميع الكتاب ولا كان كله منزلا قال وأنكر ابن عباس رضى الله تعالى عنهما اجتماع النبى صلى الله عليه وسلم بالجن أى بأحد منهم
ففى الصحيحين عنه قال ما قرأ رسول الله عليه وسلم على الجن ولا رآهم انطلق رسول الله عليه وسلم فى طائفة من أصحابه عامدين إلى سوق عكاظ أى وكان بين الطائف ونخلة كان لثقيف وقيس عيلان كما تقدم وقد حيل بين الشياطين وبين خبر السماء وأرسلت عليهم الشهب ففزعت الشياطين إلى قومهم فقالوا مالكم قالوا قد حيل بيننا وبين خبر السماء وأرسلت علينا الشهب قالوا وما ذاك إلا من شيء قد حدث فاضربوا مشارق الأرض ومغاربها فمن النفر جماعة أخذوا نحو تهامة فإذا هم بالنبى صلى الله عليه وسلم وهو بنخلة عامدا إلى سوق عكاظ يصلي بأصحابه صلاة الفجر فلما سمعوا القرآن استمعوا له وقالوا هذا الذي حال بيننا وبين خبر السماء فرجعوا إلى قومهم فقالوا يا قومنا إنا سمعنا قرآنا عجبا يهدي إلى الرشد فأنزل الله تعالى على نبيه صلى الله عليه وسلم قل أوحى إلى أى قل أخبرت بالوحى من الله تعالى أنه استمع لقراءتى نفر من الجن أى جن نصيبين
أقول تقدم أن إطلاق الفجر على الركعتين اللتين كان يصليهما قبل طلوع الشمس سائغ فإن ذلك باعتبار الزمان لا لكونهما إحدى الخمس المفترضة ليلة الإسراء وقوله بأصحابه يجوز أن تكون الباء بمعنى مع ويجوز أن يكون صلى بهم إماما لأن الجماعة فى ذلك جائزة

ولا يخفى أن هذه القصة التى تضمنتها رواية ابن عباس غير قصة انصرافه صلى الله عليه وسلم من الطائف يدل لذلك قوله انطلق فى طائفة من أصحابه عامدين إلى سوق عكاظظ لأنه فى تلك القصة التي هى قصة الطائف كان وحده أو معه مولاه زيد بن حارثة على ماتقدم وكان مجيئه صلى الله عليه وسلم من الطائف قاصدا مكة وفى هذه كان ذهابه من مكة قاصدا سوق عكاظ وأنه قرأ فى تلك أى مجيئه من الطائف سورة الجن وفى هذه قرأ غيرها ثم نزلت تلك السورة وأن هذه القصة تضمنتها رواية ابن عباس سابقة على تلك لأن قصة ابن عباس كانت فى ابتداء الوحى لأن الحيلولة بين الجن وبين خبر السماء بالشهب كانت فى ذلك الوقت وتلك كانت بعد ذلك بسنين عديدة
وسياق كل من القصتين يدل على أنه لم يجتمع الجن به صلى الله عليه وسلم ولا قرأ عليهم وإنما استمعوا قراءته من غير أن يشعر بهم وقد صرح به ابن عباس رضى الله تعالى عنهما فى هذه وصرح به الحافظ الدمياطى فى تلك حيث قال فى سيرته فلما انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم من الطائف راجعا إلى مكة ونزل نخلة قام يصلى من الليل فصرف إليه نفر من الجن سبعة من أهل نصيبين فاستمعوا له صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ سورة الجن ولم يشعر بهم رسول الله عليه وسلم حتى نزل عليه وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن يستمعون القرآن هذا كلامه ونزول ما ذكر كان بعد انصرافهم
فقد قال ابن إسحاق فلما فرغ من صلاته ولوا إلى قومهم منذرين قد آمنوا به وأجابوا إلى ماسمعوا فقص الله تعالى خبرهم على النبى صلى الله عليه وسلم وبهذا يعلم مافى سفر السعادة
ولما وصل صلى الله عليه وسلم فى رجوعه إلى نخلة جاءه الجن وعرضوا إسلامهم عليه وكذا يعلم مافى المواهب من قوله ولما انصرف صلى الله عليه وسلم عن أهل الطائف ونزل نخلة صرف إليه سبعة من جن نصيبين إلى أن قال وفي الصحيح أن الذي آذنه صلى الله عليه وسلم بالجن ليلة الجن شجرة وأنهم سألوه الزاد فقال كل عظم إلى آخره لأن سؤالهم له صلى الله عليه وسلم الزاد فرع اجتماعهم وقد ذكر هو أنهم لم يؤذنه صلى الله عليه وسلم إلا شجرة هناك وعلى جواز أن الشجرة آذنته بهم قبل انصرافهم أى أعلمته بوجودهم وأن ذلك كان سببا لاجتماعهم به صلى الله عليه وسلم وأن دعوى

ذلك لا ينافى أنه صلى الله عليه وسلم لم يشعر باجتماعهم للقرآن إلا مما نزل عليه من القرآن فسسؤالهم له صلى الله عليه وسلم الزاد كان فى قصة اأخرى غير هاتين القصتين كانت بمكة سيأتى الكلام عليها
ثم رأيت عن ابن جرير أنه تبين من الأحاديث أن الجن سمعوا قراءة النبى صلى الله عليه وسلم بنخلة وأسلموا فأرسلهم صلى الله عليه وسلم إلى قومهم منذرين إذ لا جائز أن يكون ذلك فى أول البعث لمخالفته لما تقدم عن ابن عباس رضى الله تعالى عنهما وحينئذ يؤيد الاحتمال الثانى الذى ذكرناه من أنه يجوز أنهم اجتمعوا به صلى الله عليه وسلم بعد أن آذنته بهم الشجرة وقوله فأرسلهم إلى قومهم منذرين لم أقف فى شىء من الروايات على ما هو صريح فى ذلك أى أن إرساله لهم كان من نخلة عند رجوعه من الطائف ولعل قائله فهم ذلك من قوله تعالى ولوا إلى قومهم منذرين
وغاية ما رأيت أن ابن جرير والطبرانى رويا عن ابن عباس رضى الله تعالى عنهما أن الجن الذين اجتمعوا به صلى الله عليه وسلم ببطن نخلة كانوا تسعة نفر من أهل نصيبين فجعلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم رسلا إلى قومهم وهذا ليس صريحا فى أنه صلى الله عليه وسلم كان عند رجوعه من الطائف
لا يقال يعنى ذلك إنكار ابن عباس رضى الله تعالى عنهما اجتماعه صلى الله عليه وسلم بالجن المرة الأولى التى كانت عند البعث لاحتمال أنه صلى الله عليه وسلم كان فى بطن نخلة فى مرة أخرى ثالثة
ثم رأيت فى النور ما يخالف ما تقدم عن ابن عباس من قوله إنه لم يجتمع صلى الله عليه وسلم بهم بالجن حين خروجه إلى سوق عكاظ حيث قال الذى فى الصحيح وغيره أنه اجتمع بهم وهو خارج من مكة إلى سوق عكاظ ومعه أصحابه فليتأمل
قال وذكر أنه صلى الله عليه وسلم أقام بنخله أياما بعد أن أقام بالطائف عشرة أيام وشهرا لا يدع أحدا من أشرافهم أي زيادة على عبد ياليل وأخويه إلا جاء إليه وكلمه لم يجبه أحد فلما أراد الدخول إلى مكة قال له زيد بن حارثة كيف تدخل عليهم يعنى قريشا وهم قد أخرجوك أى كانوا سببا لخروجك وخرجت تستنصر فلم تنصر فقال يا زيد إن الله جاعل لما ترى فرجا ومخرجا وإن الله ناصر دينه ومظهر نبيه فسار صلى الله عليه وسلم إلى حراء ثم بعث إلى الأخنس بن شريق أى رضى الله تعالى

عنه فإنه أسلم بعد ذلك ليجيره أى ليدخل صلى الله عليه وسلم مكة فى جواره فقال أنا حليف والحليف لا يجير أى فى قاعدة العرب وطريقتهم واصطلاحهم فبعث صلى الله عليه وسلم إلى سهيل بن عمرو رضى الله تعالى عنه فإنه أسلم بعد ذلك أيضا فقال إن بنى عامر لا تجير على بنى كعب وفيه أنه هـلو كان كذلك لما سألهما صلى الله عليه وسلم وكونه صلى الله عليه وسلم لم يكن يعرف هذا الإصطلاح بعيد إلا أن يقال جوز صلى الله عليه وسلم مخالفة هذه الطريقة فبعث صلى الله عليه وسلم إلى المطعم بن عدى أى وقد مات كافرا قبل بدر بنحو سبعة أشهر يقول له إنى داخل مكة فى جوارك فأجابه إلى ذلك وقال له قل له فليأت فرجع إليه صلى الله عليه وسلم فأخبره فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة ثم تسلح المطعم بن عدى وأهل بيته وخرجوا حتى أتوا المسجد فقام المطعم بن عدى على راحلته فنادى يا معشر قريش إنى قد أجرت محمدا فلا يؤذه أحد منكم ثم بعث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ادخل فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم المسجد وطاف بالبيت وصلى عنده ثم انصرف إلى منزله أى والمطعم بن عدى وولده مطيفون به صلى الله عليه وسلم قال وذكر أنه صلى الله عليه وسلم بات عنده تلك الليلة فلما أصبح خرج مطعم وقد لبس سلاحه هو وبنوه وكانوا ستة أو سبعة وقالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم طف واحتبوا بحمائل سيوفهم في المطاف مدة طوافه صلى الله عليه وسلم وأقبل أبو سفيان على المطعم فقال أمجير أم تابع فقال بل مجيز فقال إذن لا تخفر أى لا تزال خفارتك أى جوارك قد أجرنا من أجرت فجلس معه حتى قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم طوافه اه
أى ولا بدع فى دخوله صلى الله عليه وسلم فى أمان كافر لأن حكمة الحكيم القادر قد تخفى وهذا السياق يدل على أن قريشا كانوا أزمعوا على عدم دخوله صلى الله عليه وسلم مكة بسبب ذهابه إلى الطائف ودعائه لأهله أى ولهذا المعروف الذى فعله المطعم قال صلى الله عليه وسلم فى أسارى بدر لو كان المطعم بن عدى حيا ثم كلمنى فى هؤلاء النتنى لتركتهم له
ورأيت فى أسد الغابة أن جبيرا ولد المطعم رضى الله تعالى عنه فإنه أسلم بين الحديبية والفتح وقيل يوم الفتح جاء إلى النبى صلى الله عليه وسلم وهو كافر فسأله

فى أسارى بدر فقال لو كان الشيخ أبوك حيا فأتانا فيهم لشفعناه فيهم كما سيأتى أى لأنه فعل معه صلى الله عليه وسلم هذا الجميل وكان من جملة من سعى فى نقض الصحيفة كما تقدم
قال وعن كعب الأحبار رضى الله تعالى عنه لما انصرف النفر السبعة من أهل نصيبين من بطن نخلة جاءوا قومهم منذرين ثم جاءوا مع قومهم وافدين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بمكة وهم ثلثمائة فانتهوا إلى الحجون فجاء واحد من أولئك النفر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال إن قومنا قد حضروا بالحجون يلقونك فوعده رسول الله صلى الله عليه وسلم ساعة من الليل بالحجون اه
وعن ابن مسعود رضى الله تعالى عنه قال أتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال إنى أمرت أن أقرأ على إخوانكم من الجن فليقم معى رجل منكم ولا يقم رجل فى قلبه مثقال حبة خردل من كبر فقمت معه أى بعد أن كرر ذلك ثلاثا ولم يجبه أحد منهم ولعلهم فهموا أن من الكبر ماليس منه وهو محبة الترفع فى نحو الملبس الذى لا يكاد يخلو منه أحد
وقد بين صلى الله عليه وسلم الكبر فى الحديث ببطر الحق وغمص الناس أى استصغارهم وعدم رؤيتهم شيئا بعد أن قالوا له يا رسول الله إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسنا ونعله حسنا قال إن الله جميل يحب الجمال الكبر من بطر الحق وغمط الناس بالطاء المهملة كما فى رواية أبى داود وجاء لا يدخل الجنة من كان فى قلبه مثقال ذرة من كبر ولا يدخل النار أحد فى قلبه مثقال حبة خردل من إيمان قال الخطابى المراد بالكبر هنا أى فى هذه الرواية كبر الكفر لأنه قابله بالإيمان قال ابن مسعود وذهب صلى الله عليه وسلم فى بعض نواحى مكة أى بأعلاها بالحجون فلما برز خط لى خطا أى برجله وقال لا تخرج فإنك إن خرجت لم ترنى ولم أرك إلى يوم القيامة وفى رواية لا تحدثن شيئا حتى آتيك لا يروعنك أى لا يخوفنك ويفزعنك ولا يهولنك أى لا يعظم عليك شىء تراه ثم جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا رجال سود كأنهم رجال الزط وهم طائفة من السودان الواحد منهم زطى وكانوا كما قال الله تعالى كادوا يكونون عليه أى لازدحامهم لبدا أى كاللبد فى ركوب بعضهم بعضا حرصا على سماع القرآن منه صلى الله عليه وسلم فأردت أن أقوم فأذب

عنه فذكرت عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فمكثت ثم إنهم تفرقوا عنه صلى الله عليه وسلم فسمعتهم يقولون يا رسول الله إن شفتنا أى أرضنا التى نذهب إليها بعيدة ونحن منطلقون فزودونا أى لأنفسنا ودوابنا ولعله كان نفد زادهم وزاد دوابهم فقال كل عظم ذكر اسم الله عليه يقع فى يد أحدكم أوفر ما كان لحما رواه مسلم
وفى رواية إلا وجد عليه لحمه الذى كان عليه يوم أكل وكل بعر علف دوابكم وعن ابن مسعود رضى الله تعالى عنه أنهم لما سألوه صلى الله عليه وسلم الزاد قال لهم لكم كل عظم عراق ولكم كل روثة خضرة والعراق بضم العين وفتح الراء جمع عرق بفتح العين وسكون الراء العظم الذى أخذ عنه اللحم وقيل الذى أخذ عنه معظم اللحم قلت يا رسول الله وما يغنى ذلك عنهم أى عن أنفسهم وعن دوابهم بدليل قوله فقال إنهم لا يجدون عظما إلا وجدوا عليه لحمه يوم أكل ولا روثة إلا وجدوا فيها حبها يوم أكلت وفى رواية وجدوه أى الروث والبعر شعيرا فهذه الرواية تدل على أن الروثة مطعوم دوابهم ويوافقه ما جاء أن الشعير يعود خضرا لدوابهم ويحتاج للجمع بين كون الروث كالبعر يعود حبا يوم أكل وبين كونه يعود شعيرا وبين كونه يعود خضرا
هذا وفى رواية لأبى نعيم أن الروث يعود لهم تمرا وهى تدل على أن الروث من مطعومهم ويحتاج إلى الجمع وجمع ابن حجر الهيتمى بأن الروث يكون تارة علفا لدوابهم وتارة يكون طعاما لهم أنفسهم أى وفى لفظ سألونى المتاع فمتعتهم كل عظم حائل وكل روثة وبعرة والحائل البالى بمرور الزمن لأنه لم يخرج بذلك عن كونه مطعوما كما يخرج بذلك عن كونه مطعوما لهم لهم لو حرق وصار فحما ولعل الغرض من ذكر الحائل الإشارة إلى أن زادهم العظم ولو كان حائلا لا أنه لم يمنعهم إلا الحائل وقوله إلا وجدوا عليه لحمه يوم أكل يدل على أن المراد عظم المذكاة وبدليل ذكر اسم الله تعالى عليه فلا يأكلون مالم يذكر اسم الله تعالى عليه من عظم أى وكذا من طعام الإنس سرقة كما جاء فى بعض الأخبار هذا ولكن فى رواية أبى داود كل عظم لم يذكر اسم الله تعالى عليه قال السهيلى وأكثر الأحاديث تدل على معنى رواية أبى داود
وقال بعض العلماء رواية ذكر اسم الله عليه فى الجن المؤمنين ورواية لم يذكر اسم الله تعالى عليه فى حق الشياطين منهم وهذا قول صحيح يعضده الأحاديث هذا

كلامه أى التى من تلك الأحاديث أن إبليس قال يا رب لليس أحد من خلقك إلا وقد جعلت له رزقا ومعيشة فما رزقى قال كل مالم يذكر عليه اسمى ومعلوم أن إبليس أبو الجن وأن مالم يذكر اسم الله عليه يشمل عظم الميتة
ومقابلة الشياطين بالمؤمنين تدل على أن المراد بهم فسقتهم لا الكفار منهم لأن فى كون الكفا رمن الجن اجتمعوا به صلى الله عليه وسلم مع المؤمنين وأن كلا الفريقين سأله الزاد وأنه خاطب كلا بما يليق به فيه بعد لا سيما مع ما تقدم عن ابن مسعود ومايأتى من قوله إخوانكم من الجن ومن ثم قال بعضهم إن السائلين له صلى الله عليه وسلم الزاد كانوا مسلمين فليتأمل
ولما ذكر صلى الله عليه وسلم لهم العظم والروث قالوا يا رسول الله إن الناس يقذرونهما علينا فنهى النبى صلى الله عليه وسلم أن يستنجى بالعظم أو بروثه بقوله فلا يستنقين أحدكم إذا خرج من الخلاء بعظم ولا بعرة ولا روثة لأنه زاد إخوانكم من الجن
وفى رواية قالوا له صلى الله عليه وسلم انه أمتك عن الاستنجاء بهما فإن الله تعالى قد جعل لنا فيهما رزقا فنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الاستنجاء بالعظم والبعر أى وحرمه نحو البول أو التغوط عليهما تعلم من ذلك بالأولى ومنه يعلم أن مرادهم بالتقذير التنجيس لا ما يشمل التقذير بالطاهر كالبصاق والمخاط
وعن جابر بن عبد الله رضى الله تعالى عنهما قال بينا أنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أمشى إذ جاءت حية فقامت إلى جنبه صلى الله عليه وسلم وأدنت فاها من أذنه وكأنها تناجيه فقال النبى صلى الله عليه وسلم نعم فانصرفت قال جابر فسألته فأخبرنى أنه رجل من الجن وأنه قال له مر أمتك لا يستنجوا بالروث ولا بالرمة أى العظم لأن الله تعالى جعل لنا فى ذلك رزقا ولعل هذا الرجل من الجن لم يبلغه أنه صلى الله عليه وسلم نهى عن ذلك ولا يخفى أن سؤال الزاد يقتضى أن ذلك لم يكن زادهم وزاد دوابهم قبل ذلك وحينئذ يسأل ماكان زادهم قبل ذلك وقد يقال هو كل مالم يذكر اسم الله عليه من طعام الآدميين وحينئذ يكون ماتقدم فى خبر إبليس المراد يمالم يذكر اسم اله عليه غير العظم فليتأمل والنهى عن الاستنجاء يدل على أن ذلك لا يختص بحالة السفر بل هو زادهم بعد ذلك دائما وأبدا

وقصة جابر هذه سيأتي فى غزوة تبوك نظيرها وهو أن حية عظيمة الخلق عارضتهم فى الطريق فانحاز الناس عنها فأقبلت حتى وقفت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على راحلته طويلا والناس ينظرون إليها ثم التوت حتى اعتزلت الطريق فقامت قائمة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أتدرون من هذا قالوا الله ورسوله أعلم قال هذا أحد الرهط الثمانية من الجن الذين وفدوا إلى يستمعون القرآن قال فى المواهب وفى هذا رد على من زعم أن الجن لا تأكل ولا تشرب أى وإنما يتغذون بالشم
أقول ذكرت فى كتابى عقد المرجان فيما يتعلق بالجان أن فى أكل الجن ثلاثة أقوال قيل يأكلون بالمضغ والبلع ويشربون بالازدراد والثانى لا يأكلون ولا يشربون بل يتغذون بالشم والثالث أنهم صنفان صنف يأكل ويشرب وصنف لا يأكل ولا يشرب وإنما يتغذون بالشم وهو خلاصتهم والله أعلم
قال ابن مسعود فلماولوا قلت من هؤلاء قال هؤلاء جن نصيبين وفى رواية فتوارى عنى حتى لم أره فلما سطع الفجر أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لى أراك قائما فقلت ماقعدت فقال ماعليك لو فعلت أى قعدت قلت خشيت أن أخرج منه فقال أما إنك لو خرجت لم ترنى ولم أرك إلى يوم القيامة أى وفى رواية لم آمن عليك أن يخطفك بعضهم وفيه أن الخروج لا ينشأ عن القعود حتى يخشى منه الخروج وفى رواية قال لي أنمت فقلت لا والله يا رسول الله ولقد هممت مرارا أن أستغيث بالناس أى لما تراكموا عليك وسمعت منهم لغطا شديدا حتى خفت عليك إل أن سمعتك تقرعهم بعصاك وتقول اجلسوا وسأله عن سبب اللغط الشديد الذى كان منهم فقال إن الجن تداعت فى قتيل قتل بينهم فتحاكموا إلى فحكمت بينهم بالحق
وفى رواية عن سعيد بن جبير أنه أى ابن مسعود قال له أولئك جن نصيبين وكانوا اثنى عشر ألفا والسورة التى قرأها عليهم اقرأ باسم ربك أى ولا ينافى ذلك ما جاء عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه أنه افتتح القرآن لأن المراد بالقرآن القراءة زاد ابن مسعود على ما فى بعض الروايات ثم شبك أصابعه فى أصابعى وقال إنى وعدت أن تؤمن بى الجن والإنس أما الإنس فقد آمنت وأما الجن فقد رأيت
أقول وفى هذا أن ابن مسعود لم يخرج من الدائرة التى اختطها له صلى الله عليه وسلم

وفى السيرة الهشامية ما يقتضى أنه خرج منها حيث قال عن ابن مسعود فجئتهم فرأيت الرجال ينحدرون عليه صلى الله عليه وسلم من الجبال فازدحمواعليه إلى آخره فليتأمل
فعلم أن هذه القصة بعد كل من قصة ابن عباس وقصة رجوعه صلى الله عليه وسلم من الطائف فإن قصة ابن عباس رضى الله تعالى عنهما كانت فى أول البعث وقصة رجوعه صلى الله عليه وسلم من الطائف بعدها بمدة مديدة كما علمت وهذه القصة كانت بعدهما بمكة والله أعلم ثم قال صلى الله عليه وسلم لابن مسعود هل معك وضوء أى ماء نتوضأ به قلت لا فقال ما هذه الإداوة أى وهى إناء من جلد قلت فيها نبيذ قال ثمرة طيبة وماء طهور صب على فصببت عليه فتوضأ وأقام الصلاة وصلى
أقول وهو محمول عند أئمتنا معاشر الشافعية على أن الماء لم يتغير بالتمر تغيرا كثيرا يسلب اسم الماء ومن ثم قال ماء طهور وقول ابن مسعود رضى الله تعالى عنه فيها نبيذ أى منبوذ الذى هو التمر وسماه نبيذا باعتبار الأول على حد قوله تعالى إنى أرانى اعصر خمرا وهذا بناء على فرض صحة الحديث وإلا فقد قال بعضهم حديث النبيذ ضعيف باتفاق المحدثين
وفى كلام الشيخ محيى الدين بن العربى رضى الله تعالى عنه الذى أقول به منع التطهر بالنبيذ لعدم صحة الخبر المروى فيه ولو أن الحديث صح لم يكن نصا فى الوضوء به فإنه صلى الله عليه وسلم قال ثمرة طيبة وماء طهور أى قليل الامتزاج والتغير عن وصف الماء وذلك لأن الله تعالى ما شرع الطهارة عند فقد الماء إلا بالتيمم بالتراب خاصة
قال ومن شرف الإنسان أن الله تعالى جعل له التطهر بالتراب وقد خلقه الله من تراب فأمره بالتطهر أيضا به تشريفا له وعند أحمد ومسلم والترمذى عن علقمة قلت لابن مسعود هل صحب النبى صلى الله عليه وسلم ليلة الجن منكم أحد فقال ما صحبه منا أحد ولكنا فقدناه ذات ليلة فقلنا استطير أو اغتيل وطلبناه فلم نجده فبتنا بشر ليلة فلما أصبحنا إذ هو جاء من قبل الحجون وفى لفظ من قبل حراء فقلنا يا رسول الله إنا فقدناك فطلبناك فلم نجدك فبتنا بشر ليلة فقال إنه أتانى داعى الجن فذهبت معهم فقرأت عليهم القرآن فانطلق فأرانا آثارهم وآثار نيرانهم وهذه القصة

يجوز أت تكون هى المنقولة عن كعب الأحبار المتقدم ذكرها وهى سابقة على القصة التى كان فيها ابن مسعود ويجوز أن تكون غيرها وهى المرادة بقول عكرمة إنهم كانوا اثنى عشر ألفا جاءوا من جزيرة الموصل لأن المتقدم فى تلك عن كعب الأحبار رضى الله تعالى عنه أنهم كانوا ثلثمائة من جن نصيبين
وحينئذ يحتمل أن تكون هذه القصة سابقة على القصة التى كان بها ابن مسعود ويحتمل أن تكون متأخرة عنها وعلى ذلك يكون اجتماع الجن به صلى الله عليه وسلم فى مكة ثلاث مرات مرة كان فيها معه ابن مسعود ومرتين لم يكن معه ابن مسعود فيهما
قال فى الأصل ويكفى فى أمر الجن ما فى سورة الرحمن وسورة قل أوحى إلى وسورة الأحقاف
أقول فعلم أن الجن سمعوا قراءته صلى الله عليه وسلم ولم يجتمعوا به ولا شعر بهم فى المرة الأولى وهو ذاهب من مكة إلى سوق عكاظ فى ابتداء البعث المتقدمة عن ابن عباس على ما تقدم ولا فى المرة الثانية عند منصرفه من الطائف بنخلة على ما قدمنا فيه وعلم أن الروايات متفقة على استماعهم لقراءته صلى الله عليه وسلم فى المرتين وبه يعلم ما فى المواهب عن الحافظ ابن كثير أن كون الجن اجتمعوا له صلى الله عليه وسلم فى نخلة عند منصرفه من الطائف فيه نظر وإنما استماعهم له كان فى ابتداء البعث كما يدل عليه حديث ابن عباس أى من أن ذلك كان عند ذهابه إلى سوق عكاظ وعلم أنهم اجتمعوا به صلى الله عليه وسلم وقرأ عليهم وآمنوا به فى مكة مرتين أو ثلاثة بعد ذلك والله أعلم
وقد أخرج البيهقى فى شعب الإيمان عن قتادة أنه قال لما أهبط إبليس قال أى رب قد لعنته فما علمه قال السحر قال فما قراءته قال الشعر قال فما كتابته قال الوشم قال فما طعامه قال كل ميتة وما لم يذكر اسم الله عليه أى من طعام الإنس يأخذه سرقة قال فما شرابه قال كل مسكر قال فأين مسكنه قال الحمام قال فأين محله قال فى الأسواق قال فما صوته قال المزمار قال فما مصايده قال النساء فالحمام محل أكثر إقامته والسوق محل تردده فى بعض الأوقات والظاهر أن مثل إبليس فيما ذكر كل من لم يؤمن من الجن

= باب ذكر خبر الطفيل بن عمرو الدوسى وإسلامه رضى الله تعالى عنه
كان الطفيل بن عمرو الدوسى شريفا فى قومه شاعرا نبيلا قدم مكة فمشى إليه رجال من قريش فقالوا يا أبا الطفيل كنوه بذلك تعظيما ل فلم يقولوا يا طفيل إنك قدمت بلادنا وهذا الرجل بين أظهرنا قد أعضل أمره بنا اى اشتد وفرق جماعتنا وشتت أمرنا وإنما قوله كالسحر يفرق به بين المرء وأخيه وبين الرجل وزوجته وإنا نخشى عليك وعلى قومك ما دخل علينا فلا تكلمه ولا تسمع منه قال الطفيل فو الله ما زالوا بى حتى أجمعت أى قصدت وعزمت على أن لا أسمع منه شيئا ولا أكلمه أى حتى حشوت فى أذنى حين غدوت إلى المسجد كرسفا وهو بضم الكاف وسكون الراء ثم سين مهملة مضمومة ثم فاء أى قطنا فرقا أى خوفا من أن يبلغنى شىء من قوله فغدوت إلى المسجد فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم قائم يصلى عند الكعبة فقمت قريبا منه فأبى الله إلا أن أسمع بعض قوله أى فسمعت كلاما حسنا فقلت فى نفسى أنا ما يخفى على الحسن من القبيح فما يمنعنى من أن أسمع من هذا الرجل ما يقول فإن كان الذى يأتى به حسنا قبلت وإن كان قبيحا تركت فمكثت حتى انصرف إلى بيته فقلت يا محمد إن قومك قالوا لى كذا وكذا حتى سددت أذنى بكرسف حتى لا أسمع قولك فاعرض على أمرك فعرض عليه الإسلام وتلا عليه القرآن أى قرأ عليه قل هو الله أحد إلى آخرها و قل أعوذ برب الفلق إلى آخرها وقل أعوذ برب الناس إلى آخرها
وفيه أنه سيأتى أن نزول قل أعوذ برب الفلق وقل أعوذ برب الناس كان بالمدينة عند ما سحر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أن يقال يجوز أن يكون ذلك مما تكرر نزوله فقال والله ماسمعت قط قولا أحسن من هذا ولا أمرا أعدل منه فأسلمت فقلت يا نبى الله إنى امرؤ مطاع فى قومى وأنا راجع إليهم فأدعوهم إلى الإسلام فادع الله أن يكون لى عونا عليهم قال اللهم اجعل له آيه فخرجت حتى إذا كنت بثنية تطلعنى على الحاضر أى وهم النازلون المقيمون على الماء لا يرحلون عنه وكان ذلك فى ليلة مظلمة وقع نور بين عينى مثل المصباح فقلت اللهم فى غير وجهى فإنى أخشى أن

يظنوا أنه مثله فتحول فى رأس سوطى فجعل الحاضر يتراءون ذلك كالقنديل المعلق أى ومن ثم عرف بذى النور وإلى ذلك أشار الإمام السبكى فى تائيته بقوله ** وفى جبهة الدوسى ثم بسوطه ** جعلت ضياء مثل شمس منيرة **
قال فأتانى أبى فقلت له إليك عنى يا أبت فلست منى ولست منك فقال لم يا بنى قلت قد أسلمت وتابعت دين محمد صلى الله عليه وسلم فقال أى بنى دينى دينك فأسلم أى بعد أن قال له اغتسل وطهر ثيابك ففعل ثم جاء فعرض عليه الإسلام ثم أتتنى صاحبتى فذكرت لها مثل ذلك أى قلت لها إليك عنى فلست منك ولست منى قد أسلمت وتابعت دين محمد صلى الله عليه وسلم قالت فدينى دينك فأسلمت ثم دعوت دوسا إلى الإسلام فأبطأوا على ثم جئت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت يا رسول الله قد غلبنى دوس وفى رواية قد غلبنى على دوس الزنا فادع الله عليهم فقال الهم اهد دوسا قال زاد فى رواية وأت بهم فقال الطفيل فرجعت فلم أزل بأرض قومى أدعوهم إلى الإسلام حتى هاجر النبى صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ومضى بدر وأحد والخندق اه فأسلموا قال فقدمت بمن أسلم من قومى عليه صلى الله عليه وسلم وهو بخيبر سبعين أو ثمانين بيتا من دوس أى ومنهم أبو هريرة فأسهم لنا مع المسلمين أى مع عدم حضورهم القتال اه
أقول قال فى النور وفى الصحيح ما ينفى هذا وأنه لم يعط أحدا لم يشهد القتال إلا أهل السفينة الجائين من أرض الحبشة جعفرا ومن معه أى ومنهم الأشعريون أبو موسى الأشعرى وقومه فقد تقدم أنهم هاجروا من اليمن إلى الحبشة ثم جاءوا إلى المدينة
وفيه أنه سيأتى أنه صلى الله عليه وسلم سأل أصحابه أن يشركوهم معهم فى الغنيمة ففعلوا وسيأتى أنه إنما أعطى أهل السفينة أى والدوسيين على ما علمت من الحصنين اللذين فتحا صلحا فقد أعطاهما مما أفاء الله عليه لا من الغنيمة وسؤال أصحابه فى إعطائهم من المشهورة العامة المأمور بها فى قوله تعالى وشاورهم فى الأمر لا لاستنزالهم عن شىء من حقهم والله أعلم

= باب ذكر الإسراء والمعراج وفرض الصلوات الخمس
أعلم أنه لا خلاف فى الإسراء به صلى الله عليه وسلم إذ هو نص القرآن عل سبيل الإجمال وجاءت بتفصيله وشرح أعاجيبه أحاديث كثيرة عن جماعة من الصحابة من الرجال والنساء نحو ثلاثين أي ومن ثم ذهب الحاتمي الصوفي إلى أن الإسراء وقع له صلى الله عليه وسلم ثلاثين مرة فجعل كل حديث إسراء واتفق العلماء على أن لإسراء كان بعد البعثة اه أى الاسراء الذى كان فى اليقظة بجسده صلى الله عليه وسلم فلا ينافى حديث البخارى عن أنس بن مالك رضى الله تعالى عنه أن الإسراء كان قبل أن يوحى إليه صلى الله عليه وسلم لأن ذلك كان فى نومه بروحه فكان هذا الإسراء توطئه له وتيسيرا عليه كما كان بدء نبوته صلى الله عليه وسلم الرؤيا الصادقة
وفى كلام الشيخ عبد الوهاب الشعرانى أن إسراءاته صلى الله عليه وسلم كانت أربعا وثلاثين واحد بجسمه صلى الله عليه وسلم والباقى بروحه وتلك الليلة أى التى كانت بجسمه صلى الله عليه وسلم كانت ليلة سبع عشرة وقيل سبع وعشرين خلت من شهر ربيع الأول وقيل ليلة تسع وعشرين خلت من رمضان أي وقيل سبع وعشرين خلت من ربيع الآخر الآخر وقيل من رجب واختار هذا الأخير الحافظ عبد الغنى المقدسى وعليه عمل الناس وقيل فى شوال وقيل فى ذى الحجة
وفى كلام الشيخ عبد الوهاب ما يفيد أن إسرءاته صلى الله عليه وسلم كلها كانت فى تلك الليلة التى وقع فيها هذا الخلاف فليتأمل وذلك قبل الهجرة قيل بسنة وبه جزم ابن حزم وادعى فيه الإجماع وقيل بسنتين وقيل يثلاث سنين وكل من الإسراء والمعراج كان بعد خروجه صلى الله عليه وسلم للطائف كما دل عليه السياق وعن ابن إسحاق أن ذلك كان قبل خروجه صلى الله عليه وسلم إلى الطائف وفيه نظر ظاهر
واختلف فى اليوم الذى يسفر عن ليلتهما قيل الجمعه وقيل السبت وقال ابن دحية يكون يوم الاثنين إن شاء الله تعالى ليوافق المولد والمبعث والهجرة والوفاة أى لأنه صلى الله عليه وسلم ولد يوم الاثنين وبعث يوم الإثنين وخرج من مكة يوم الاثنين ودخل المدينة يوم الاثنين ومات يوم الإثنين فليتأمل

عن أم هانىء بنت أبى طالب رضى الله تعالى عنها أى واسمها على الأشهر فاختة وسأتى فى فتح مكة أنها أسلمت يوم الفتح وهرب زوجها هبيرة إلى نجران ومات بها على كفره قالت دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم بغلس أى فى لظلام بعيد الفجر وأنا على فراشى فقال أشعرت أى علمت أنى نمت الليلة فى المسجد الحرام أي عند البيت أو فى الحجر وهو المراد بالحطيم الذى وقع فى بعض الروايات وفى رواية فرج سقف بيتى
قال الحافظ ابن حجر يحتمل أن يكون السر فى ذلك أى فى انفراج السقف التمهيد لما يقع من شق صدره صلى الله عليه وسلم فكأن الملك أراه بانفراج السقف والتئامه فى الحال كيفية ما سيصنع به لطفا به وتثبيتا له صلى الله عليه وسلم أي زيادة تمهيد وتثبيت له وإلا فشق صدره صلى الله عليه وسلم تقدم له غير مرة وفى رواية أنه صلى الله عليه وسلم نام فى بيت أم هانىء قالت فقدته من الليل فامتنع منى النوم مخافة أن يكون عرض له بعض قريش
أى وحكى ابن سعد أن النبى صلى الله عليه وسلم فقد تلك الليلة فتفرقت بنو عبد المطلب يلتمسونه ووصل العباس إلى ذى طوى وجعل يصرخ يا محمد فأجابه لبيك لبيك فقال يا بن أخى عنيت قومك فأين كنت قال ذهبت إلى بيت المقدس قال من ليلتك قال نعم قال هل أصابك إلا خير قال ما أصابنى إلا خير ولعله صلى الله عليه وسلم نزل عن البراق فى ذلك المحل
وعن أم هانىء رضى الله تعالى عنها قالت ما أسرى برسول الله صلى الله عليه وسلم إلا وهو فى بيتى نائم عندى تلك الليلة فصلى العشاء الآخرة ثم نام ونمنا فلما كان قبل الفجر أهبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أي أقامنا من نومنا ومن ثم جاء في رواية نبهنا فلما صلى الصبح وصلينا معه قال يا أم هانيء لقد صليت معك العشاء الآخرة كما رأيت بهذا الوادي ثم جئت بيت المقدس فصليت فيه ثم صليت صلاة الغداة معكم الآن كما ترين الحديث
والمراد أنه صلى الله عليه وسلم صلى صلاته التى كان يصليها وهى الركعتان فى الوقتين المذكورين وإلا فصلاة العشاء وصلاة الصبح التى هى صلاة الغداة لم يكونا فرضا وفى قولها وصلينا معه نظر لما تقدم ويأتى أنها لم تسلم إلا يوم الفتح ثم رأيت فى مزيل

الخفاء وأما قولها يعنى أم هانىء وصلينا فأرادت به وهيأنا له ما يحتاج إليه فى الصلاة كذا أجاب
وأقرب منه أنها تكلمت على لسان غيرها أو أنها لم تظهر إسلامها إلا يوم الفتح فليتأمل فقال صلى الله عليه وسلم إن جبريل أتانى وفى رواية أسرى به من شعب أبى طالب قال الحافظ ابن حجر والجمع بين هذه الروايات أنه صلى الله عليه وسلم نام فى بيت أم هانىء وبيتها عند شعب أبى طالب ففرج عن سقف بيته الذى هو بيت أم هانىء لأنه صلى الله عليه وسلم كان نائما به فنزل الملك وأخرجه إلى المسجدوكان به أثر النعاس أى فاضطجع فيه عند الحجر فيصح قوله صلى الله عليه وسلم نمت الليلة فى المسجد الحرام إلى آخره
وفى رواية أنه صلى الله عليه وسلم أتاه جبريل وميكائيل ومعهما ملك آخر أى وهو مضطجع فى المسجد فى الحجر بين عمه حمزه وابن عمه جعفر رضى الله تعالى عنهما فقال أحدهم خذوا سيد القوم الأوسط بين الرجلين فاحتملوه حتى جاءوا به زمزم فاستقلوه على ظهره فتولاه منهم جبريل فشق من ثغرة نحره وهو الموضع المنخفض بين الترقوتين إلى أسفل بطنه أى وفى رواية إلى مراق بطنه وفى رواية إلى شعرته أى أشار إلى ذلك فانشق فلم يكن الشق فى المرات كلها بآلة ولم يسل منه دم ولم يجد لذلك ألما كما تقدم التصريح به فى بعض الروايات لأنه من خرق العادات وظهور المعجزات ثم قال جبريل لميكائيل ائتنى بطشت من ماء زمزم كيما أطهر قلبه وأشرح صدره فاستخرج قلبه أى فشقه فغسله ثلاث مرات ونزع ما كان فيه من أذى وهذا الأذى يحتمل أن يكون من بقايا تلك العلقة السوداء التى نزعت منه صلى الله عليه وسلم وهو مسترضع فى بنى سعد بناء على تجزئتها كما تقدم فى المرة الثانية وهو ابن عشر سنين والثالث عند البعث فلا يخالف أن العلقة السوداء نزعت منه صلى الله عليه وسلم فى المرة الأولى وهو مسترضع فى بنى سعد ويستحيل تكرار إخراجها وإلقائها والذى ينبغى أن يكون نزع الملك العلقة إنما هو فى المرة الأولى والواقع فى غيرها إنما هو إخراج الأذى وأنه غير تلك العلقة وأن المراد به مايكون في الجبليات البشرية وتكرر إخراج ذلك الأذى استئصاله ومبالغة فيه وذكر العلقة في المرة الأولى وقول الملك هذا حظ الشيطان وهم من بعض الرواة

واختلف إليه ميكائيل بثلاث طسات من ماء زمزم ثم أتى بطست من ذهب ممتلىء حكمة وإيمانا أى نفس الحكمة والإيمان لأن المعانى قد تمثل بالأجسام أو فيه ما هو سبب لحصول ذلك والمراد كما لهما فلا ينافى ما تقدم فى قصة الرضاع أنه ملىء حكمة وإيمانا ووضعت فيه السكينة ثم أطبقه ثم ختم بين كتفيه بخاتم النبوة وتقدم فى قصة الرضاع أن فى رواية أن الختم كان فى قلبه وفى أخرى أنه كان فى صدره وفى أخرى أنه كان بين كتفيه وتقدم الكلام على ذلك وأنكر القاضى عياض شق صدره صلى الله عليه وسلم ليلة الإسراء وقال إنما كان وهو صلى الله عليه وسلم صبى فى بنى سعد وهو يتضمن إنكار شقه عند البعثة أيضا أي والتي قبلها وعمره صلى الله عليه وسلم عشر سنين ورده الحافظ ابن حجر بأن الروايات تواردت بشق صدره صلى الله عليه وسلم في تلك الليلة وعند البعثة أى زيادة على الواقع له صلى الله عليه وسلم فى بنى سعد وأبدى لكل من الثلاثة حكمة وتقدم أنه شق صدره صلى الله عليه وسلم وهو ابن عشر سنين وأنه صلى الله عليه وسلم شق صدره وهو ابن عشرين سنة وتقدم ما فيه
أقول ويمكن أن يكون إنكار القاضى عياض لشق صدره صلى الله عليه وسلم ليلة المعراج على الوجه الذى جاء فى بعض الروايات أنه أخرج من قلبه علقة سوداء وقال الملك هذا حظ الشيطان منك لأن هذا إنما كان وهو صلى الله عليه وسلم مسترضع فى بنى سعد ويستحيل تكرر إلقاء تلك العلقة وحمل ذلك على بعض بقايا تلك العلقة السوداء كما قدمناه ينافى قول الملك هذا حظ الشيطان منك إلا أن يقال المراد أنه من حظ الشيطان أى بعض حظ الشيطان أى بعض حظ الشيطان فليتأمل ذلك والأولى ماقدمناه فى ذلك ثم لا يخفى أنه ورد غسل صدرى وفى رواية قلبى
وقد يقال الغسل وقع لهما معا كما وقع الشق لهما معا فأخبر صلى الله عليه وسلم بإحداهما مرة وبالأخرى أخرى أى وتقدم فى مبحث الرضاع فى رواية شق بطنه صلى الله عليه وسلم ثم قلبه وفى أخرى شق صدره ثم قلبه وفى اخرى الاقتصار على شق صدره وفى أخرى الاقتصار على شق قلبه وتقدم أن المراد بالبطن الصدر وليس المراد بإحدهما القلب
وفى كلام غير واحد ما يقتضى أن المراد بالصدر القلب ومن ثم قيل هل شق صدره وغسله مخصوص به صلى الله عليه وسلم أو وقع لغيره من الأنبياء

وأجيب بأنه جاء فى قصة تابوت بنى اسرائيل الذى أنزله الله تعالى على آدم حين أهبطه إلى الأرض فيه صور الأنبياء من أولاده وفيه بيوت بعدد الرسل وآخر البيوت بيت محمد صلى الله عليه وسلم وهو من ياقوتة حمراء ثلاثة أذرع فى ذراعين وقيل كان من نوع من الخشب تتخذ منه الأمشاط مموها بالذهب فكان عند آدم إلى أن مات ثم عند شيث ثم توارثه أولاد آدم إلى أن وصل إلى إبراهيم عليه الصلاة والسلام ثم كان عند اسماعيل ثم عند ابنه قيدار فنازعه ولد اسحاق ثم أمر من السماء أن يدفعه الى ابن عمه يعقوب إسرائيل الله فحمله إلى أن أوصله له ثم وصل إلى موسى عليه الصلاة والسلام فوضع فيه التوراة وعصاه وعمامة هارون ورضاض الألواح التى تكسرت لما ألقاها وأنه كان فيه الطشت طشت من ذهب الجنة الذى غسل فيه قلوب الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وذلك مقتض لعدم الخصوصية وكان هذا التابوت إذا اختلفوا فى شىء سمعوا منه ما يفصل بينهم وما قدموه أمامهم فى حرب إلا نصروا وكان كل من تقدم عليه من الجيش لا بد أن يقتل أو ينهزم الجيش
وفى الخصائص للسيوطى ومما اختص به صلى الله عليه وسلم عن جميع الأنبياء ولم يؤتها نبى قبله شق صدره فى أحد القولين وهو الأصح وجمع بعضهم بحمل الخصوصية على تكرر شق الصدر لأن تكرر شق صدره الشريف ثبت فى الأحاديث وشق صدر غيره من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام إنما أخذ من قصة التابوت وليس فيها تعرض للتكرار ولو جمع بأن شق الصدر مشترك وشق القلب وإخراج العلقة السوداء مختص به صلى الله عليه وسلم ويكون المراد بالقلب في قصة التابوت الصدر وبالصدر فى كلام الخصائص القلب لم يكن بعيدا إذ ليس فى قصة التابوت مايدل على أن تلك العلقة السوداء أخرجت من غير قلب نبينا صلى الله عليه وسلم ولم أقف على أثر يدل على ذلك وغسل قلب الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ليس من لازمة الشق بل يجوز أن يكون غسله من خارج وقد أحلنا على هذا الجمع فى بحث الرضاع وبهذا يرد ما قدمناه من قول الشمس الشامى الراجح المشاركة ولم أر لعدم المشاركة ما يعتمد عليه بعض الفحص الشديد فليتأمل
ثم رأيته ذكر أنه جمع جزءا سماه نور البدر فيما جاء فى شق الصدر ولم أقف عليه والله أعلم

قال فأتانى جبريل عليه الصلاة والسلام فذهب بى إلى باب المسجد أى وعن الحسن قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم بينا أنا نائم فى الحجر جاءنى جبريل عليه الصلاة والسلام فهمزني بقدمه فجلست فلم أر شيئا فعدت لمضجعي فجاني الثانية فهمزنى بقدمه فجلست فلم أر شيئا فعدت لمضجعي فجاءني الثالثة فهمزني بقدمه فجلست فلم أر شيئا فأخذ بعضدى فقمت معه فخرج بى ألى باب المسجد
وفيه أنه إذا لم يجد شيئا من أخذ بعضديه إلا أن يقال ثم رآه عند أخذه بعضديه فإذا دابة أبيض أى ومن ثم قيل له البراق بضم الموحدة لشدة بريقه وقيل قيل له ذلك لسرعته أى فهو كالبرق وقيل لأنه كان ذا لونين أبيض وأسود أى يقال شاة برقاء إذا كان خلال صوفها الأبيض طاقات سوداء أى وهى العفراء ومن ثم جاء فى الحديث أبرقوا فإن دم عفراء عند الله أذكى من دم سوداوين أى ضحوا بالبلقاء وهى العفراء لكن فى الصحاح الأعفر الأبيض وليس بالشديد البياض وشاة عفراء يعلو بياضها حمرة ولغلبة بياض شعره على سواده أو حمرته قيل أبيض ولعل سواد شعره لم يكن حالكا بل كان قريبا من الحمرة فوصف بأنه أحمر وهذا لا يتم إلا لو كان البراق كذلك أي شعره أبيض داخله طاقات سود أو حمر ولعله كان كذلك ويدل له قول بعضهم إنه ذو لونين أى بياض وسواد والسواد كما علمت إذا صفا شبه بالأحمر وهذه الرواية طوى فيها ذكر أنه كان بين حمزة وجعفر وأنه جاءه جبريل وميكائيل وملك آخر وأنهم احتملوه إلى زمزم وشق جبريل صدره إلى آخر ما تقدم وذلك البراق فوق الحمار ودون البغل مضطرب الأذنين أى طويلهما أى وكان مسرجا ملجما كما فى بعض الروايات فركبته فكان يضع حافره مد بصره أى حيث ينتهى بصره
وفى رواية ينتهى خفها حيث ينتهى طرفها إذا أخذ فى هبوط طالت يداه وقصرت رجلاه وإذا أخذ فى صعود طالت رجلاه وقصرت يداه أى وقد ذكره هذا الوصف فى فرس فرعون موسى فقد قيل كان لفرعون أربع عجائب فذكر منها أن لحيته كانت خضراء ثمانية أشبار وقامته سبعة أشبار فكانت لحيته أطول منه بشبر وكان لهه فرس وقيل برذون إذا صعد الجبل قصرت يداه وطالت رجلاه وإذا انحدر يكون على ضد ذلك وفى رواية أن البزاق خطوه مد البصر قال ابن المنير فعلى هذا يكون قطع من الأرض إلى السماء فى خطوة واحدة لأن بصر الذى فى الأرض يقع على السماء فبلغ أعلى السموات فى سبع خطوات انتهى أى لأن بصر من يكون فى سماء الدنيا يقع

على السماء فوقها وهكذا وهذا بناء على أنه عرج به صلى الله عليه وسلم على المعراج راكب البراق وسيأتى ما فيه
قال صلى الله عليه وسلم فلما دنوت منه اشمأز أى نفر وفى رواية فاستصعب ومنع ظهره أن يركب فقال جبريل اسكن فما ركبك أحد أكرم على الله من محمد وفى رواية فى فخذيها أى تلك الدابة التى هى البراق جناحان تحفز بهما أى تدفع بهما رجليها ففى اللغة الحفز الحث والإعجال فلما دنوت لأركبها شمست أى نفرت ومنعت ظهرها وفى رواية شمس وفى رواية صرت أذنيها أى جمعتهما وذلك شأن الدابة إذا نفرت فوضع جبريل يده على معرفتها ثم قال ألا تستحين يا براق مما تصنعين والله ما ركب عليك أحد وفى رواية عبد الله قبل محمد صلى الله عليه وسلم أكرم على الله منه فاستحيت حتى ارفضت عرقا أى كثر عرقها وسال ثم قرت حتى ركبها أى وفى رواية فقال جبريل مه يا براق فوالله ماركبك مثله من الأنبياء أى لأن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام كانت تركبها قبله صلى الله عليه وسلم
ففى البيهقى وكانت الأنبياء تركبها قبلى وعند النسائى وكانت تسخر للأنبياء قبلى وبعد عليها العهد من ركوبهم لأنها لم تكن ركبت فى الفترة بين عيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام كما ذكره ابن بطال وهو يقتضى أنه لم يركبه أحد ممن كان بين عيسى ومحمد من الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين وجاء التصريح بذلك فى بعض الروايات أى والمتبادر منها أنها التى بينه وبين عيسى عليهما الصلاة والسلام فيكون عيسى ممن ركبها دون من بعده من الأنبياء عليهما الصلاة والسلام على تقدير ثبوت وجود أنبياء عليهم الصلاة والسلام بعد عيسى وتقدم عن النهر أنه كان بينهما ألف نبى
وقوله لأن الأنبياء ظاهرة يدل على أن جميع الأنبياء أى عيسى ومن قبله ركبوه قال الإمام النووى القول باشتراك جميع الأنبياء فى ركبوها يحتاج إلى نقل صحيح هذا كلامه
ومما يدل على أن الأنبياء كانت تركبه قبله صلى الله عليه وسلم ما تقدم وظاهر ما سيأتى فى بعض الروايات فربطه بالحلقة التى توثق بها الأنبياء وإنما قلنا ظاهر لأنه لم يذكر الموثق بفتح المثلثة إذ يحتمل أن الأنبياء كانت تربط غير البراق من دوابهم بها ثم رأيت فى رواية البيهقى فأوثقت دابتى يعنى البراق التى كانت الأنبياء تربطها فيه

ومن ثم قال الشيخ عبد الوهاب الشعرانى رحمه الله مامن رسول إلا وقد أسرى به راكبا على ذلك البراق هذا كلامه وقد تقدم أن إبراهيم صلوات الله وسلامه عليه حمل هو وهاجر وولدهما يعنى إسماعيل على البراق إلى مكة
وفى تاريخ الأزرقى وكان إبراهيم يحج كل سنة على البراق فعن سعيد بن المسيب وغيره أن البراق هو دابة إبراهيم عليه الصلاة والسلام التى كان يزور عليها البيت الحرام وعلى تسليم أنه لم يركب البراق أحد قبله صلى الله عليه وسلم كما يقول ابن دحية ووافقه الإمام النووى فقول جبريل عليه الصلاة والسلام ما ركبك ونحوه لا ينافيه لأن السالبة تصدق بنفى الموضوع ومن ثم قال فى الخصائص الصغرى وخص صلى الله عليه وسلم بركوب البراق فى أحد القولين أى وقيل إن الذى خص به هو ركوبه مسرجا ملجما
وفى المنتقى أن البراق وإن كان يركبه الأنبياء إلا أنه لم يكن يضع حافره عند منتهى طرفه إلا عند ركوب النبى صلى الله عليه وسلم وجاء فى غريب التفسير أن البراق لما شمس قال له جبريل لعلك يا محمد مسيت الصفر اليوم وهو صنم كان بعضه من ذهب وبعضه من نحاس كسره صلى الله عليه وسلم يوم الفتح فقال له صلى الله عليه وسلم ما مسيته إلا أنى مررت به وقلت تبا لمن يعبدك من دون الله فقال جبريل وما شمس إلا لذلك أى لمجرد مرورك عليه وهذا حديث موضوع كما نقل عن الإمام أحمد
وقال الحافظ ابن حجر إنه من الأخبار الواهية وقال مغلطاى لا ينبغى أن يذكر ولا يعزى لرسول الله صلى الله عليه وسلم ويقال فرس شموس أى صعبة ولا يقال شموسة وذكر لاستصعاب البراق غير ذلك من الحكم لانطيل بذكره
قال وعن الثعلبى بسند ضعيف فى صفة البراق عن ابن عباس له خد كخد الإنسان وعرف كعرف الفرس وقوائم كالإبل وأظلاف وذنب كالبقر أى وحينئذ يكون إطلاق الخف على ذلك فى الرواية السابقة ينتهى خفها حيث ينتهى طرفها مجازا لأن مع كونها لها قوائم كقوائم الإبل لا خف لها بل ظلف وهو الحافر
وفى كلام بعضهم فى صفة البراق وجهه كوجه الإنسان وجسده كجسد الفرس وقوائمه كقوائم الثور وذنبه كذنب الغزال لا ذكر ولا أنثى اه ومن وصف بوصف المذكر تارة وبوصف المؤنث أخرى فهى حقيقة ثالثة ويكون خارجا من

قوله تعالى ومن كل شىء خلقنا زوجين كما خرجت من ذلك الملائكة فإنهم ليسوا ذكورا ولا إناثا
وذكر بعضهم أن أذنيها كأذنى الفيل وعنقها كعنق البعير وصدرها كصدر الفيل كأنه من ياقوت أحمر لها جناحان كجناح النسر فيهما من كل لون قوائمها كقوائم الفرس وذنبها كذنب البعير ويحتاج إلى الجمع بين هذه الروايات على تقدير الصحة
قال صلى الله عليه وسلم ثم سرت وجبريل عليه الصلاة والسلام لا يفارقنى أى وفى رواية أنه ركب معه البراق وفى الشفاء مازايلا ظهر البراق حتى رجعا وفى رواية ركبت البراق خلف جبريل أى وفى صحيح ابن حبان وحمله جبريل على البراق رديفا له
قال وفى الشرف كان الآخذ بركابه جبريل وبزمام البراق ميكائيل وفى رواية جبريل عن يمينه وميكائيل عن يساره اه
أقول لا منافاة لجواز أن يكون جبريل تارة ركب مردفا له صلى الله عليه وسلم وتارة أخذ بركابه من جهة اليمين وميكائيل تارة أخذ بالزمام وتارة لم يأخذه وكان جهة يساره أو كان آخذ بالزمام من جهة اليسار ولا يخالف هذا الجمع قول الشفاء مازايلا ظهر البراق لإمكان حمله على غالب المسافة هذا وفى حياة الحيوان الظاهر عندى أن جبريل لم يركب مع النبى صلى الله عليه وسلم البراق ليلة الإسراء لأنه المخصوص بشرف الإسراء هذا كلامه فليتأمل والله أعلم
قال صلى الله عليه وسلم ثم انتهيت إلى بيت المقدس فأوثقته بالحلقة التى بالباب أى باب المسجد التى كانت الأنبياء عليهم الصلاة والسلام توثق أى تربط بهاأى تربطه بها على ما تقدم عن رواية البيهقى وفى رواية أن جبريل خرق بأصبعه الحجر أى الذى هو الصخرة وفى كلام بعضهم فأدخل جبريل يده في الصخرة فخرقها وشد به البراق
أقول لا منافاة لجواز أن يكون المراد وسع الخرق بأصبعه أو فتحه لعروض انسداده وأن هذا الخرق هو المراد بالحلقة التى فى الباب لأن الصخرة بالباب وقيل لهذا الخرق حلقة لاستدارته
وفى الإمتاع وعادت صخرة بيت المقدس كهيئة العجين فربط دابته فيها والناس يلتمسون ذلك الموضع إلى اليوم هذا كلامه

وجمع بعضهم بأنه صلى الله عليه وسلم ربطه بالحلقة خارج باب المسجد الذى هو مكان الأنبياء عليهم الصلاة والسلام تأدبا فأخذه جبريل فربطه فى زاوية المسجد فى الحجر الذى هو الصخرة التى خرقها بأصبعه وجعله داخلا عن باب المسجد فكأنه يقول له إنك لست ممن يكون مركوبه على الباب بل يكون داخلا
وفى حديث أبى سفيان قبل إسلامه لقيصر أنه قال لقيصر يحط من قدره صلى الله عليه وسلم ألا أخبرك أيها الملك عنه خبرا تعلم منه أنه يكذب قال وما هو قال إنه يزعم أنه خرج من أرضنا أرض الحرم فجاء مسجدكم هذا ورجع إلينا فى ليلة واحدة فقال بطريق أنا أعرف تلك الليلة فقال له قيصر ما علمك بها قال إنى كنت لا أبيت ليلة حتى أغلق أبواب المسجد فلما كانت تلك الليلة أغلقت الأبواب كها غير باب واحد أى وهو الباب الفلانى غلبنى فاستعنت عليه بعمالى ومن يحضرنى فلم نقدر فقالو إن البناء نزل عليه فاتركوه إلى غد حتى يأتى بعض النجارين فيصلحه فتركته مفتوحا فلما أصبحت غدوت فإذا الحجر الذى من زاوية الباب مثقوب أى زيادة على ماكان عليه على ماتقدم وإذا فيه أثر مربط الدابة أى التى هى البراق أى ولم أجد بالباب مايمنعه من الإغلاق فعلمت أنه إنما امتنع لأجل ما كنت أجده فى العلم القديم أن نبيا يصعد من بيت المقدس إلى السماء وعند ذلك قلت لأصحابى ماحبس هذا الباب الليلة إلا هذا الأمر وسيأتى ذلك عند الكلام على كتابه صلى الله عليه لقيصر ولا يخفى أن المراد بالصخرة الحجر الذي بالباب لا الصخرة المعروفة كما هو المتبادر من بعض الروايات وهي فأتى جبريل الصخرة التى فى بيت المقدس فوضع أصبعه فيها فخرقها فشد بها البراق لأن الذى فى بابه يقال إنها فيه ولا يخفى أن عدم انغلاق الباب إنما كان آية وإلا فجبريل عليه الصلاة والسلام لا يمنعه باب مغلق ولا غيره
وفى رواية عن شداد بن أوس أنه قال ثم انطلق بى أى جبريل حتى دخلنا المدينة يعنى مدينة بيت المقدس من بابها اليمانى فأتى قبلة المسجد فربط فيها دابته
قد يقال لا يخالفه لأنه يجوز أن يكون ذلك الباب كان بجانب قبلة المسجد ولعل هذا الباب هو اليمانى الذى فيه صورة الشمس والقمر ففى رواية ودخل المسجد من باب فيه تمثال الشمس والقمر أى مثالهما فيه والله أعلم
وأنكر حذيفة رضى الله تعالى عنه رواية ربط البراق وقال لم يفر منه وقد سخره له

عالم الغيب والشهادة ورد عليه بأن الأخذ بالحزم لا ينافى صحة التوكل فعن وهب ابن منبه رضى الله عنه الإيمان بالقدر لا يمنع الحازم من توقى المهالك قال وهب وجدته فى سبعين من كتب الله عزوجل القديمة اى ومن ثم قال صلى الله عليه وسلم اعقلها وتوكل وقد كان صلى الله عليه وسلم يتزود فى أسفاره ويعد السلاح فى حروبه حتى لقد ظاهر بين درعين فى غزوة أحد قال وفى رواية فلما استوى النبى صلى الله عليه وسلم فى صخرة المسجد قال جبريل يا محمد هل سألت ربك أن يريك الحور العين قال نعم قال جبريل فانطلق إلى أولئك النسوة فسلم عليهن فرددن عليه السلام فقال من أنتن قلن خيرات حسان قوم أبرار نقلوا فلم يدرنوا وأقاموا فلم يظنعوا وخلدوا فلم يموتوا اه
أقول فى كلام بعضهم أنه لم يختلف أحد أنه صلى الله عليه وسلم عرج به من عند القبة التى يقال لها قبة المعراج من عند يمين الصخرة وقد جاء صخرة بيت المقدس من صخور الجنة وفى لفظ سيدة الصخور صخرة بيت المقدس وجاء صخرة بيت المقدس على نخلة والنخلة على نهر من أنهار الجنة وتحت النخلة آسية امرأة فرعون ومريم ابنة عمران ينظمان سموط أهل الجنة إلى يوم القيامة قال الذهبى إسناده مظلم وهو كذب ظاهر
قال الإمام أبو بكر بن العربى فى شرحه لموطا مالك صخرة بيت المقدس من عجائب الله تعالى فإنها صخرة قائمة شعثاء فى وسط المسجد الأقصى قد انقطعت من كل جهة لا يمسكها إلا الذى يمسك السماء أن تقع على الأرض إلا بإذنه فى أعلاها من جهة الجنوب قدم النبى صلى الله عليه وسلم حين ركب البراق وقد مالت من تلك الجهة لهيبته صلى الله عليه وسلم وفى الجهة الأخرى أصابع الملائكة التى أمسكتها لما مالت ومن تحتها المغارة التى انفصلت من كل جهة أى فهى معلقة بين السماء والأرض وامتنعت لهيبتها من أن أدخل تحتها لأنى كنت أخاف أن تسقط على بالذنوب ثم بعد مدة دخلتها فرايت العجب العجاب تمشى فى جوانبها من كل جهة فتراها منفصلة عن الأرض لا يتصل بها من الأرض شىء ولا بعض شىء وبعض الجهات أشد انفصالا من بعض وهذا الذى ذكره ابن العربى أن قدمه صلى الله عليه وسلم أثر فى صخرة بيت المقدس حين ركب البراق وأن الملائكة أمسكتها لما مالت قال به الحافظ ناصر الدين الدمشقى حيث قال فى معراجه المسجع ثم توجها نحو صخرة بيت المقدس وعماها فصعد من جهة الشرق

أعلاها فاضطربت تحت قدم نبينا صلى الله عليه وسلم ولانت فأمسكتها الملائكمة لما تحركت ومالت
وقول ابن العربى حين ركب البراق يقتضى أنه عرج به على البراق وسيأتى الكلام فيه وتقدم أن الجلال السيوطى سئل عن غوص قدمه صلى الله عليه وسلم فى الحجر هل له أصل فى كتب الحديث فأجاب بأنه لم يقف فى ذلك على أصل ولا رأى من خرجه فى شىء من كتب الحديث وتقدم مافيه
وفى العرائس قال أبى بن كعب ما من ماء عذب إلا وينبع من تحت الصخرة ببيت المقدس ثم يتفرق فى الأرض والله سبحانه وتعالى أعلم
قال صلى الله عليه وسلم فنشر لى بضم النون وكسر الشين المعجمة أى أحيي لى بعد الموت رهط من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام لأن نشر الميت إحياؤه والرهط مادون العشرة من الرجال فيهم إبراهيم وموسى وعيسى عليهم الصلاة والسلام أى وحكمة تخصيص هؤلاء بالذكر لا تخفى فصليت بهم وكلمتهم أى فالمراد نشروا عند دخوله صلى الله عليه وسلم المسجد وصلى بهم ركعتين ووصفهم بالنشور واضح فى غير عيسى عليه الصلاة والسلام لأنه لم يمت ووصف الأنبياء عليهم الصلاة والسلام بالإحياء بعد الموت سيأتى فى قصة بدر فى الكلام على أصحاب القليب ما يعلم منه أن المراد بإحياء الأنبياء بعد الموت شدة تعلق أرواحهم بأجسادهم حتى انهم فى البرزخ بسبب ذلك أحياء كحياتهم فى الدنيا وقد ذكرنا هناك الكلام على صلاتهم فى البرزخ وحجهم وغير ذلك وفى رواية ثم صلى صلى الله عليه وسلم هو وجبريل كل واحد ركعتين فلم يلبثا إلا يسيرا حتى اجتمع ناس كثير أى مع أولئك الرهط فلا مخالفة بين الروايتين فعرف النبيين من بين قائم وراكع وساجد ثم أذن مؤذن وأقيمت الصلاة
أقول ذكر ابن حبيب أن آية واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا الآية نزلت ببيت المقدس ليلة الإسراء ويجوز أن يكون قوله واقيمت الصلاة من عطف التفسير فالمراد بالأذان الإقامة وليس المراد بالإقامة الألفاظ المعروفة الآن لما سيذكر فى الكلام على مشروعية الأذان والإقامة بالمدينة وعلى أنه من عطف المغاير ويدل له مافى بعض الروايات فلما استوينا فى المسجد أذن مؤذن ثم أقام الصلاة فليس من لازم ذلك أن يكون كل من التأذين والإقامة باللفظين المعروفين الآن لأنهما كما علمت لم يشرعا إلا فى المدينة أى فى السنة الأولى من الهجرة وقيل فى الثانية كما سيأتى

وحديث لما أسرى بالنبى صلى الله عليه وسلم إلى السماء أوحى الله تعالى إليه بالأذان فنزل به فعلمه بلالا قال الحافظ ابن رجب موضوع وحديث علم رسول الله صلى الله عليه وسلم الأذان ليلة أسرى به فى إسناده متهم وفى الخصائص الكبرى أنه صلى الله عليه وسلم علم الإقامة ليلة الإسراء فقد جاء لما أراد الله عزوجل أن يعلم رسوله الأذان أى الإقامة عرج به إلى أن انتهى إلى الحجاب الذى يلى الرحمن أى عرشه خرج ملك من الحجاب فقال الله أكبر الله أكبر فقيل من وراء الحجاب صدق عبدى أنا أكبر أما أكبر ثم قال الملك أشهد أن لا إله إلا الله فقيل من وراء الحجاب صدق عبدى لا إله إلا أنا فقال الملك أشهد أن محمدا رسول الله فقيل من وراء احجاب صدق عبدى أنا أرسلت محمدا فقال الملك حى على الصلاة حى على الفلاح قد قامت الصاة قد قامت الصلاة الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله فأخذ الملك بيد محمد صلى الله عليه وسلم فقدمه يؤم بأهل السموات قال فى الشفاء والحجاب إنما هو فى حق المخلوق لا فى حق الخالق فهم المحجوبون قال فإن صح القول بان محمدا صلى الله عليه وسلم رأى ربه فيحتمل أنه فى غير هذا الموطن بعد رفعالحجاب عن بصره حتى رآه
وجاء أنه صلى الله عليه وسلم سأل جبريل عن ذلك فقال جبريل إن هذا الملك ما رأيته قبل ساعتي هذه وفي لفظ والذي بعثك بالحق إني لأقرب الخلق مكانا وإن هذا الملك ما رأيته منذ خلقت قبل ساعتى هذه وفيه أن هذا يقتضى أن جبريل عليه السلام كان معه صلى الله عليه وسلم فى هذا المكان وسيأتى أنه تخلف عنه عند سدرة المنتهى فليتأمل والله أعلم
ولما أقيمت الصلاة ببيت المقدس قاموا صفوفا ينتظرون من يؤمهم فأخذ جبريل بيده صلى الله عليه وسلم فقدمه فصلى بهم ركعتين
أى وأما حديث لما أسرى بى أذن جبريل فظنت الملائكة أنه يصلى بهم فقدمنى فصليت بالملائكة قال الذهبى منكر بل موضوع والغرض من تلك الصلاة الإعلام بعلو مقامه صلى الله عليه وسلم وأنه المقدم لا سيما فى الإمامة
وفى رواية ثم أقيمت الصلاة فتدافعوا أى دفعوا حتى قدموا محمد صلى الله عليه وسلم أى ولا مخالفة لأنه يجوز أن يكون جبريل قدمه صلى الله عليه وسلم بعد دفعهم وتقديمهم له صلى الله عليه وسلم وفى رواية فأذن جبريل أى أقام الصلاة ونزلت

الملائكة من السماء وحشر الله له المرسلين أى جميعهم وقد نزلت الملائكة وحشر له الأنبياء أى جميعهم بدليل مافى بعض الروايات بعث له آدم فمن دونه فهو تعميم بعد تخصيص بناء على أن الرسول أخص من النبى لا بمعناه وهذا هو المراد بقوله الخصائص الصغرى ومن خصائصه صلى الله عليه وسلم إحياء الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم وصلاته إماما بهم وبالملائكة لأن الأنبياء أحياء
وفيه إذا كان الأنبياء أحياء فما معنى إحيائهم له ليصلى بهم وقد علمت معنى إحيائهم فلما انصرف صلى الله عليه وسلم قال جبريل يا محمد أتدرى من صلى خلفك قال لا قال كل نبى بعثه الله تعالى أى والنبى غير الرسول بعثه الله تعالى إلى نفسه
أقول ولا يخاللف ما سبق من أنه عرف النبيين منه بين قائم وراكع وساجد لجواز أن يكون المراد عرف معظمهم أو أنه عرفهم بعد هذا القول
وذكر القرطبى فى تفسيره عن ابن عباس رضى الله تعالى عنهما قال لما أسرى برسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بيت المقدس جمع الله له الأنبياء آدم فمن دونه وكانوا سبعة صفوف ثلاثة صفوف من الأنبياء المرسلين وأربعة من سائر الأنبياء وكان خلف ظهره إبراهيم الخليل وعن يمينه إسمعيل وعن يساره إسحاق صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين والله أعلم وفى رواية ثم دخل أى مسجد بيت فصلى مع الملائكة فلما قضيت الصلاة قالوا يا جبريل من هذا الذى معك قال هذا محمد رسول االع صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين والمرسلين قالوا وقد أرسل إليه أي للمعراج بناء على أنه كان في ليلة الإسراء قال نعم قالوا حياه الله من أخ ومن خليفة فنعم الأخ ونعم الخليفة وهذه الرواية قد يقال لا تخالف ماسبق من أنه صلى الله عليه وسلم صلى بالملائكة مع الأنبياء والمرسلين صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين لأنه يجوز أن يكون إنما أفردهم بالذكر لسؤالهم
وفيه أن سؤالهم يدل على أن نزولهم من السماء لبيت المقدس لم يكن لأجل الصلاة معه صلى الله عليه وسلم
قال القاضى عياض والأظهر أن صلاته صلى الله عليه وسلم بهم يعنى بالأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين فى بيت المقدس كانت قبل العروج أى كما يدل على

ذلك سياق القصة وقال الحافظ ابن كثير صلى بهم فى بيت المقدس قبل العروج وبعده فإن فى الحديث مايدل على ذلك ولا مانع منه
قال ومن الناس من يزعم أنه إنما أمهم فى السماء أى لا فى بيت المقدس أى وهذا الزاعم هو حذيفة فإنه أنكر صلاته صلى الله عليه وسلم بالأنبياء عليهم الصلاة والسلام فى بيت المقدس قال بعضهم والذى تظافرت به الروايات صلاته صلى الله عليه وسلم بالأنبياء عليهم الصلاة والسلام ببيت المقدس
والظاهر أنه بعد رجوعه صلى الله عليه وسلم إليه أى فلم يصل فى بيت المقدس إلا مرة واحدة وإنها بعد نزوله صلى الله عليه وسلم لأنه لما مر بهم فى منازلهم جعل يسأل جبريل عنهم واحدا واحدا وهو يخبره بهم أى ولو كان صلى بهم أولا لعرفهم بل تقدم أنه صلى الله عليه وسلم عرف النبيين مابين قائم وراكع وساجد وما بالعهد من قدم وهذا هو اللائق لأنه صلى الله عليه وسلم أولا كان مطلوبا إلى الجناب العلوى أى بناء على أن المعراج كان فى ليلة الإسراء وحيث كان مطلوبا لذلك اللائق أن لا يشتغل بشىء عنه فلما فرغ من ذلك اجتمع هو صلى الله عليه وسلم وإخوته من النبيين ثم أظهر شرفه عليهم فقدمه فى الإمامة هذا كلامه
أقول بحث أن صلاته صلى الله عليه وسلم ببيت المقدس ولم تكن إلا بعد رجوعه صلى الله عليه وسلم من العروج والاستدلال على ذلك بسؤاله صلى الله عليه وسلم عن الأنبياء عليهم الصلاة واللام واحدا واحدا فى السماء وأن ذلك هو اللائق فيه نظر ظاهر لأنه لا بحث مع وجود النقل بخلافه ومجرد الاستحسان العقلى لا يرد النقل فقد تقدم عن الحافظ ابن كثير أنه ثبت فى الحديث مايدل على أنه صلى الله عليه وسلم صلى بهم ببيت المقدس قبل العروج وبعده وكونه سأل عن الأنبياء فى السماء لا ينافى صلاته بهم أولا وأنه عرفهم بناء على تسليم أن معرفته لهم كانت عند صلاته بهم أولا وأنه عرفهم كلهم لا معظمهم على ما قدمناه لأنه يجوز أن يكونوا فى السماء على صور لم يكونوا عليها ببيت المقدس لأن البرزخ عالم مثال كما تقدم
وبهذا يعلم مافى قول بعضهم رؤيته صلى الله عليه وسلم للأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم فى السماء محمولة على رؤية أرواحهم إلا عيسى وإدريس عليهما الصلاة والسلام ورؤيته صلى الله عليه وسلم لهم فى بيت المقدس يحتمل أن المراد أرواحهم ويحتمل

أجسادهم ويدل للثانى وبعث له أدم فمن دونه من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وفى رواية فنشر لى الأنبياء من سمى الله ومن لم يسم فصليت بهم صلى الله عليه وسلم وعليهم والاشتغال عن الجناب العلوى المدعو له بما فيه تأنيس وهو اجتماعه صلى الله عليه وسلم بالأنبياء عليهم الصلاة والسلام وصلاته بهم مناسب لائق بالحال والله أعلم
واختلف فى هذه الصلاة فقيل العشاء أى الركعتان اللتان كان صلى الله عليه وسلم يصليهما بالعشاء بناء على أنه صلى ذلك قبل العروج
وفيه أنه صلى تينك الركعتين اللتين كان يصليهما بالغداة أى وهذا يدل على أن الفجر طلع وهو صلى الله عليه وسلم ببيت المقدس بعد العروج وتقدم وسيأتى أنه صلى الغداة بمكة وعليه تكون معادة بمكة
قال والذى يظهر والله أعلم أنها كانت من النفل المطلق انتهى أى ولا يضر وقوع الجماعة فيها وبقولنا أى الركعتان إلى آخره يسقط ماقيل القول بأنها العشاء أو الصبح ليس بشيء لأن أول صلاة صلاها من الخمس مطلقا الظهر ومن حمل الأولية على مكة أى ويكون صلى الصبح ببيت المقدس فعليه الدليل أى دليل يدل على أن تلك الصلاة إحدى الصلوات الخمس
وفى زين القصص كان زمن ذهابه صلى الله عليه وسلم ومجيئه ثلاث ساعات وقيل أربع ساعات أى بقيت من تلك الليلة لكن فى كلام السبكى أن ذلك كان فى قدر لحظة حيث قال فى تائيته وعدت وكل الأمر فى قدر لحظة أى ولا بدع لأن الله تعالى قد يطيل الزمن القصير كما يطوى الطويل لمن يشاء وقد فسح الله فى الزمن القصير لبعض أولياء أمته ما يستغرق الأزمنة الكثيرة وفى ذلك حكايات شهيرة
قال صلى الله عليه وسلم وأتيت بإنائين أحمر وأبيض فشربت الأبيض فقال لى جبريل شربت اللبن وتركت الخمر لو شربت الخمر لارتدت أمتك أى غوت واتهمكت فى الشرب بدليل الرواية الأخرى وهى رواية البخارى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة أسرى به بإيليا بقدحين من خمر ولبن فنظر إليهما فاخذ اللبن فقال جبريل الحمد لله الذى هداك للفطرة اى الإستقامة لو أخذت الخمرة غوت

أمتك ولم يتبعك منهم إلا القليل أى يكونوا على ما أنت عليه من ترك ذلك فالمراد بالارتداد الرجوع عما هو الصواب وإتيانه بذلك وهو فى المسجد ببيت المقدس وسيأتى ما يدل على أنه أتى له صلى الله عليه وسلم بذلك أيضا بعد خروجه صلى الله عليه وسلم منه قبل العروج
قال صلى الله عليه وسلم واستويت على ظهر البراق فما كان بأسرع من أن أشرفت على مكة ومعى جبريل فصليت به الغداة ثم قال صلى الله عليه وسلم لأم هانىء بعد أن أخبرها بذلك أنا أريد ان أخرج إلى قريش فأخبرهم بما رأيت قالت أم هانىء فعلقت بردائه صلى الله عليه وسلم وقلت أنشدك الله أى بفتح الهمزة أسألك بالله ابن عم أى يا ابن عم أن تحدث أى لا تحدث بهذا قريشا فيكذبك من صدقك وفى رواية إنى أذكرك الله عز وجل أنك تأتى قوما يكذبونك وينكرون مقالتك فأخاف أن يسطوا بك فضرب بيده الشريفة على ردائه فانتزعه من يدى فارتفع على بطنه صلى الله عليه وسلم فنظرت إلى عكنه أى طبقات بطنه من السمن فوق ردائه صلى الله عليه وسلم وكأنه طى القراطيس أى الورق وإذا نور ساطع عند فؤاده كاد يخطف بفتح الطاء وربما كسرت بصرى فخررت ساجدة فلما رفعت رأسى إذ هو قد خرج فقلت لجاريتى نبعة أى وكانت حبشية معدودة فى الصحابة رضى الله عنها اتبعيه وانظرى ماذا يقول فلما رجعت أخبرتنى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم انتهى إلى نفر من قريش فى الحطيم هو مابين باب الكعبة والحجر الأسود وفى كلام بعضهم بين الركن والمقام سمى بذلك لأن الناس يحطم بعضهما بعضا فيه من الازدحام لأنه من مواطن إجابة الدعاء قيل ومن حلف فيه آثما عجلت عقوبته وربما أطلق كما تقدم على الحجر بكسر الحاء وأولئك النفر الذين انتهى صلى الله عليه وسلم إليهم فيهم المطعم بن عدى وأبو جهل بن هشام والوليد ابن المغيرة فقال صلى الله عليه وسلم إنى صليت الليلة العشاء أى أوقعت صلاة فى ذلك الوقت فى هذا المسمجد وصليت به الغداة أى أوقعت صلاة فى ذلك الوقت وإلا فصلاة العشاء لم تكن فرضت وكذا صلاة الغداة التى هى الصبح لم تكن فرضت كما تقدم وأتيت فيما بين ذلك بيت المقدس
أى لا يقال كان المناسب لذلك أن يقول وأتيت فى لحظة أو ساعات وعلى ما تقدم فيما بين ذلك ببيت المقدس ولم يوسع لهم الزمن لأنا نقول وسع لهم الزمن لأن الطباع لا تنفر منه نفرتها من تلك فليتأمل

قال وجاء أنه صلى الله عليه وسلم لما دخل المسجد قطع وعرف أن الناس تكذبه أى وما أحب أن يكتم ما هو دليل على قدرة الله تعالى وما هو دليل على علو مقامه صلى الله عليه وسلم الباعث على اتباعه فقعد صلى الله عليه وسلم حزينا فمر به عدو الله أبو جهل فجاء حتى جلس إليه صلى الله عليه وسلم فقال كالمستهزىء هل كان من شيء قال نعم أسرى بى الليلة قال إلى أين قال إلى بيت المقدس قال ثم أصبحت بين ظهرانينا قال نعم قال فلم ير أنه يكذبه مخافة أن يجحده الحديث إن دعا قومه إليه قال أرأيت إن دعوت قومك أتحدثهم ما حدثتنى قال نعم قال يا معشر بنى كعب بن لؤى فانقضت إليه المجالس وجاءوا حتى جلسوا إليهما فقال حدث قومك بما حدثتنى به فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إنى أسرى بى الليلة قالوا إلى أين قال إلى بيت المقدس الحديث انتهى فنشر لى رهط من الأنبياء منهم إبراهيم وموسى وعيسى عليهم الصلاة والسلام وصليت بهم وكلمتهم فقال أبو جهل كالمستهزىء صفهم لى فقال صلى الله عليه وسلم أما عيسى عليه الصلاة والسلام ففوق الربعة ودون الطويل أى لا طويل ولا قصير عريض الصدر ظاهر الدم أى لونه أحمر وفى رواية يعلوه حمرة كأنما يتحادر من لحيته الجمان وفى رواية كأنه خرج من ديماس أى من حمام وأصله الكن الذى يخرج منه الإنسان وهو عرقان وأصله الظلمة يقال ليل دامس والحمام لفظ عربى وأول واضع له الجن وضعته لسيدنا سليمان على نبينا وعليه الصلاة والسلام وقيل الواضع له بقراط وقيل شخص سابق على بقراط استفاده من رجل كان به تعقيد العصب فوقع في ماء حار في جب فسكن فصار يستعمله حتى برىء
وجاء من طرق عديدة كلها ضعيفة لكن يقوى بعضها بعضا إن سليمان عليه الصلاة والسلام لما دخله ووجد حره وغمه قال أواه من عذاب الله لان دخول الحمام يذكر النار لأن الحمام أشبه شىء بجهنم لان النار أسفله والسواد والظلمة أعلاه وقد قيل خير الحمام ماقدم بناؤه واتسع فناؤه وعذب ماؤه قال بعضهم ويصير قديما بعد سبع سنين قال بعضهم ولم يعرف الحمام فى بلاد الحجاز قبل البعثة وإنما عرفه الصحابة بعد موته صلى الله عليه وسلم بعد أن فتحوا بلا د العجم
وفيه أن فى البخارى عن ابن عباس رضى الله تعالى عنهما لما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أتدرون بيتا يقال له الحمام قالوا يا رسول الله إنه يذهب بالدرن وينفع المريض

قال فاستتروا وفى رواية أنه لما قال صلى الله عليه وسلم اتقوا بيتا يقال له الحمام فقالوا يا رسول الله إنه يذهب بالدرن وينفع المريض الوسخ ويذكر النار قال إن كنتم لا بد فاعلين فمن دخله فليستتر وهو صريح فى أن الصحابة رضى الله تعالى عنهم عرفوه فى زمنه صلى الله عليه وسلم إلا أن يقال جاز أن يكونوا عرفوه من غيرهم بهذا الوصف لهم والمنفى فى كلام هذا البعض معرفتهم له بالدخول فيه ويؤيده قوله صلى الله عليه وسلم بيتا يقال له الحمام وقوله صلى الله عليه وسلم ستفتح عليكم أرض العجم وستجدون فيها بيوتا يقال لها الحمامات
وأما ما جاء عن ابن عباس رضى الله تعالى عنهما أنه صلى الله عليه وسلم دخل حمام الجحفة فلا يرد لأنه على تقدير صحته فالمراد به أنه محل للاغتسال فيه لا بالهيئة المخصوصة وكذا لا يرد مافى معجم الطبرانى الكبير عن أبى رافع أنه قال مر رسول الله صلى الله عليه وسلم بموضع فقال نعم موضع الحمام هذا فبنى فيه حمام لجواز أن يكون بنى ذلك بعد موته صلى الله عليه وسلم فهو من أعلام نبوته قال بعضهم ولعله قال ذلك لقبح الموضع أى فقول بعضهم ويكفى ذلك فى فضيلة الحمام ليس فى محله
وفيه أن هذا البعض لم يعول فى الفضيلة على هذا فقط بل عليه وعلى ما رواه البخارى عن ابن عباس رضى الله تعالى عنهما الذى فيه لأنه يذهب بالدرن وينفع المريض
ولايرد أيضا مافى مسند أحمد عن أم الدرداء رضى الله تعالى عنها أنها خرجت من الحمام فلقيها رسول اله صلى الله عليه وسلم فقال لها من أين يا أم الدرداء قالت من الحمام لأن فى سنده ضعيفا ومتروكا ولأنه يجوز أن يكون المراد به أنه محل الاغتسال لا أنه المبنى على الهيئة المخصوصة كما تقدم وبه يجاب أيضا عما فى مسند الفردوس إن صح عن ابن عمر رضى اله تعالى عنهما أن النبى صلى الله عليه وسلم قال لأبى بكر وعمر رضى الله تعالى عنهما وقد خرجا من الحمام طاب حمامكما
قال ابن القم ولم يدخل المصطفى صلى الله عليه وسلم حماما قط ولعله ما رآه بعينيه هذا كلامه وعن فرقد السنجى أنه ما دخل الحمام نبى قط ويشكل عليه ماتقدم عن سليمان عليه الصلاة والسلام
واعترض بعضهم قول ابن القيم لعله صلى الله عليه وسلم مارأى الحمام بعينه بأنه صلى الله عليه وسلم دخل الشام وبها حمامات كثيرة فيبعد أنه ما رأها نعم لم ينقل أنه صلى الله عليه وسلم دخل شيئا منها

وفيه أنه قد يقال هو صلى الله عليه وسلم لم يدخل بلاد الشام إلا بصرى وجاز أن لا يكون بها حمام حين دخوله صلى الله عليه وسلم إليها
وفى الطبرانى عن ابن عباس رضى الله تعالى عنهما مرفوعا شر البيوت الحمام تعلو فيه الأصوات وتكشف فيه العورات فمن دخله لا يدخله إلا مستترا ورجاله رجال الصحيح إلا شخص منهم فيه مقال وما أحسن قول الإمام الغزالى ورد نعم البيت الحمام يطهر البدن ويذهب الدرن ويذكر النار وبئس البيت الحمام يبدى العورة ويذهب الحياء فهذا تعرض لأنفه وذلك تعرض لفائدته ولا بأس بطلب الفائدة مع التحرز عن الآفة
والحاصل أن الحمام تعتريه الأحكام الخمسة فيكون واجبا وحراما ومندوبا ومكروها ومباحا والاصل فيه عندنا معاشر الشافعية الإباحة للرجال مع ستر العورة مكروه للنساء مع ستر العورة حيث لا عذر وهو محمل ما جاء من كان يؤمن بالله واليوم الآخر من نسائكم فلا يدخل الحمامات ومع عدم ستر العورة حرام وهو محمل ما جاء الحمام حرام على نساء أمتى
وأول من اتخذ الحمام فى القاهرة العزيز ابن المعز العبيدى أحد الفواطم قال بعضهم ليس فى شأن الحمام ما يعول عليه إلا قول المصطفى صلى الله عليه وسلم فى صفة عيسى عليه الصلاة والسلام كأنما خرج من ديماس
وقال غيره أصح حديث فى هذا الباب حديث اتقوا بيتا يقال له الحمام فمن دخله فليستتر وقال ابن عمر فى وصف عيسى عليه الصلاة والسلام إنما هو آدم وحلف بالله إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يقل فى عيسى إنه أحمر وإنما قال آدم وإنما اشتبه على الراوى وأجاب الإمام النووى بأن الراوى لم يرد حقيقة الحمرة بل ما قاربها أى والحمرة المقاربة لها أى للأدمة يقال لها أدمة أى كما يقال لها حمرة فلا منافاة قال صلى الله عليه وسلم جاعد الشعر أى فى شعره تثن وتكسر
أقول ينبغى حمل جعد الذى جاء فى بعض الروايات وإذا هو بعيسى جعد على هذا ثم رأيت النووى قال قال العلماء المراد بالجعد هنا جعوده الجسم وهو اجتماعه واكتنازه وليس المراد جعودة الشعر فليتأمل والله أعلم تعلوه صهبة أى يعلو شعره

شقرة كأنه عروة بن مسعود الثقفى أى رضى الله تعالى عنه فإنه بعد انصرافه صلى الله عليه وسلم من الطائف لحق به قبل أن يدخل المدينة وأسلم ثم جاء إلى قومه ثقيف يدعوهم إلى الإسلام فقتلوه وقال صلى الله عليه وسلم فى حقه إن مثله فى قومه كصاحب يس كما سيأتى ذلك
وأما موسى عليه الصلاة والسلام فضخم آدم أى أسمر ومن ثم كان خروج يده بيضاء مخالفا لونها لسائر لون جسده آية طويل كأنه من رجال شنوءة طائفة من اليمن أى ينسبون إلى شنوءة وهو عبد الله بن كعب من أولاد الأزد لقب بذلك لشنآن كان بينه وبين اهله وقيل لأنه كان فيه شنوءة وهو التباعد من الأدناس وفى رواية كأنه من رجال أزدعمان هو أبو حى من اليمن وعمان هذه بضم العين المهملة وتخفيف الميم بلدة باليمن سميت بذلك لأنه نزلها عمان بن سنان من ولد إبراهيم عليه الصلاة والسلام زأما عمان بفتح العين وتشديد الميم فيلدة بالشام سميت بذلك لأن عمان بن لوط كان سكنها وكما يقال أزدعمان يقال أزد شنوءة ورجال الأزدمعروفون بالطول
قال صلى الله عليه وسلم كثير الشعر غائر العينين متراكم الأسنان مقلص الشفتين خارج اللثة أى وهو اللحم الذى حول الأسنان عابس وأما إبراهيم عليه الصلاة والسلام فوالله إنه لأشبه الناس بى خلقا وخلقا وفى رواية لم أر رجلا أشبه بصاحبكم ولا صاحبكم أشبه به منه يعنى نفسه صلى الله عليه وسلم فضجوا وأعظموا ذلك وصار بعضهم يصفق وبعضهم يضع يده على رأسه تعجبا فقال المطعم بن عدى إن أمرك قبل اليوم كان أمما أى يسيرا غير قولك اليوم وأنا أشهد أنك كاذب نحن نضرب أكباد الإبل إلى بيت المقدس مصعدا شهرا ومنحدرا شهرا أتزعم أنك أتيته فى ليلة واحدة واللات والعزى لا أصدقك وما كان هذا الذى تقول قط وقال أبو بكر رضى الله تعالى عنه يا مطعم بئس ماقلت لابن أخيك جبهته أى استقبلته بالمكروه وكذبته أنا أشهد أنه صادق وفى رواية حين حدثهم بذلك ارتد ناس كانوا أسلموا أى وحينئذ فقول المواهب فصدقه الصديق وكل من آمن بالله فيه نظر إلا أن يراد من ثبت على الإسلام
وفى رواية سعى رجال من المشركين إلى أبى بكر رضى الله تعالى عنه فقالوا هل لك إلى صاحبك يزعم أنه أسرى به الليلة إلى بيت المقدس قال أوقد قال ذلك

قالوا نعم قال لئن قال ذلك لقد صدق قالوا تصدقه أنه ذهب إلى بيت المقدس وجاء قبل أن يصبح قال نعم إنى لاصدقه فيما هو أبعد من ذلك أصدقه فى خبر السماء فى غدوته أى وهى ما بين صلاة الصبح وطلوع الشمس وروحة أى وهى اسم للوقت من الزوال إلى الليل أى وهذا تفسير لهما بحسب الأصل وإلا فالمراد أنه ليخبرنى أن الخبر ليأتيه من السماء إلى الأرض فى ساعة واحدة من ليل أو نهار فأصدقه فهذا أى مجىء الخبر له من السماء بواسطة الملك أبعد مما تعجبون منه أى وحينئذ يجوز أن يكون قول أبى بكر للمطعم ما تقدم كان بعد هذا القول أى قاله بعد أن اجتمع به رسول الله صلى الله عليه وسلم وقود بلغته مقالته فلا مخالفة بين الروايتين وإلى إسرائه صلى الله عليه وسلم من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى وتحديثه قريشا بذلك أشار صاحب الهمزية بقوله ** حظى المسجد الحرام بممشا ** هـولم ينس حظه إيلياء ** ** ثم وافى يحدث الناس شكرا ** إذ أتته من ربه النعماء **
أى جميع المسجد الحرام حصل له الحظ الأوفر بممشاه صلى الله عليه وسلم فيه ففضل سائر البقاع ولم ينس حظه من ممشاه صلى الله عليه وسلم بيت المقدس بل شرفه الله تعالى بمشيه فيه أيضا ففضل على ما عدا المسجدين أى مسجد مكة ومسجد المدينة ثم وافى صلى الله عليه وسلم مكة يحدث الناس لأجل قيامه بالشكر لله تعالى أو حال كونه شاكرا له تعالى وقت أو لأجل أن أتته من ربه النعماء فى تلك الليلة
ثم قال المطعم يا محمد صف لنا بيت المقدس أراد بذلك إظهار كذبه وقيل القائل له ذلك أبو بكر قال له صفه لى فإنى قد جئته أراد بذلك إظهار صدقه صلى الله عليه وسلم لقوله فقال دخلته ليلا وخرجت منه ليلا فأتاه جبريل عليه الصلاة والسلام فصوره فى جناحه أى جاء بصورته ومثاله فى جناحه فجعل صلى الله عليه وسلم يقول باب منه كذا فى موضع كذا وباب منه كذا فى موضع كذا وأبو بكر رضى الله تعالى عنه يقول صدقت أشهد انك رسول الله حتى أتى على أوصافه أى ومعلوم أن من ذهب بيت المقدس من قريش يصدق على ذلك أيضا
وفى رواية لما كذبتنى قريش أى وسألتنى عن اشياء تتعلق ببيت المقدس لم أثبتها أى قالوا له كم للمسجد من باب فكربت كربا شديدا لم أكرب مثله قط قمت فى الحجر

فجلى الله عزوجل لى بيت المقدس أى وجلى بتشديد اللام وربما خففت كشفه لى أى بوجود صورته ومثاله فى جناح جبريل
وفى رواية فجىء بالمسجد أى بصورته وأنا أنظر إليه حتى وضع أى بوضع محله الذى هو جناح جبريل فلا مخالفة بين الروايات وهذا من باب التمثيل ومنه رؤية الجنة والنار فى عرض الحائط لا من باب طى المسافة وزوى الأرض ورفع الحجب المانعة من الاستطراق الذى ادعى الجلال السيوطى أنه أحسن ما يحمل عليه حديث رفع بيت المقدس حتى رآه النبى صلى الله عليه وسلم بمكة حال وصفه إياه لقريش صبيحة الإسراء إذ ذلك لا يجامع مجىء صورته فى جناح جبريل وإنما قلنا إن ذلك من باب التمثيل لأن من المعلوم أن أهل بيت المقدس لم يفقدوه تلك الساعة من بلدهم فرفعه إنما هو برفع محله الذى هو جناح جبريل
ثم رأيت ابن حجر الهيتمى قال الأظهر أنه رفع بنفسه كما جىء بعرش بلقيس إلى سليمان عليه الصلاة والسلام فى اسرع من طرفة عين ولك أن تتوقف فيه فان عرش بلقيس فقد بخلاف بيت المقدس وكان ذلك التجلى عند دار عقيل وتقدم أنها عند الصفا وأنها استمرت فى يد أولاد عقيل إلى أن آلت إلى يوسف أخى الحجاج وأن زبيدة أو الخيزران جعلتها مسجدا لما حجت كما تقدم وتقدم مافيه قال صلى الله عليه وسلم فطفقت أى جعلت أخبرهم عن آياته أى علاماته وأنا أنظر إليه أى وذلك قبل أن تحول الأبنية بين الحجرتلك الدار أى لقوله صلى الله عليه وسلم فقمت فى الحجر وهم يصدقونه صلى الله عليه وسلم على ذلك
ومن ثم قيل إن حكمة تخصيص الإسراء إلى المسجد الأقصى أن قريشا تعرفه فيسألونه عنه فيخبرهم بما يعرفونه مع علمهم أنه صلى الله عليه وسلم لم يدخل بيت المقدس قط فتقوم الحجة عليهم وكذلك وقع
وأما قول المواهب ولهذا لم يسألوه صلى الله عليه وسلم عما رأى أى فى السماء لأنهم لا عهد لهم بذلك يقتضى سياقه أنه أخبرهم بالمعراج عند إخباره لهم بالإسراء وسيأتى ما يخالفه على أنه سيأتى أنه قيل إن المعراج كان بعد الإسراء فى ليلة أخرى وقيل فى حكمة ذلك أيضا أن باب السماء الذى يقال له مصعد الملائكة يقابل بيت المقدس فيحصل العروج مستويا من غير تعويج

قال الحافظ ابن حجر وفيه نظر لورود أن فى كل سماء بيتا معمورا وأن الذى فى السماء الدنيا حيال الكعبة فكان المناسب أن يصعد من مكة ليصل إلى البيت المعمور من غير تعويج هذا كلامه ويقال عليه وإن سلم ذلك لكن لم يكن الباب فى تلك الجهة فإن ثبت أن فى السماء بابا يقابل الكعبة اتجه سؤاله
قالت نبعة جارية أم هانىء فسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول يومئذ يا أبا بكر إن الله تعالى قد سماك الصديق أى ومن ثم كان على رضى الله تعالى عنه يحلف بالله تعالى إن الله تعالى أنزل اسم أبى بكر من السماء الصديق
وأما ما رواه إسحاق بن بشر بسنده إلى أبى ليلى الغفارى قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول سيكون بعدى فتنة فإذا كان ذلك فالزموا على بن أبى طالب فإنه أول من يرانى وأول من يصافحنى يوم القيامة وهو الصديق الأكبر وهو فاروق هذه الأمة يفرق بين الحق والباطل وهو يعسوب المؤمنين والمال يعسوب المنافقين قال فى الاستيعاب إسحاق بن بشر لا يحتج بنقله إذا انفرد لضعفه ونكارة أحاديثه هذا كلامه وفى مسند البزار بسند ضعيف أنه صلى الله عليه وسلم قال لعلى بن أبى طالب أنت الصديق الأكبروأنت الفاروق الذى يفرق بين الحق والباطل
وفى رواية أن كفار قريش لما أخبرهم صلى الله عليه وسلم بالإسراء إلى بيت المقدس ووصفه لهم قالوا له ما آية ذلك يا محمد أى ما العلامة الدالة على هذا الذى أخبرت به فإنا لم نسمع بمثل هذا قط أى هل رأيت فى مسراك وطريقك ما نستدل بوجوده على صدقك أى لأن وصفك لبيت المقدس يحتمل أن تكون حفظته عمن ذهب إليه قال صلى الله عليه وسلم آية ذلك أنى مررت بعير بنى فلان بوادى كذا فأنفرهم أى أنفر عيرهم حس الدابة يعنى البراق فند لهم بعير أى شرد فدللتهم عليه وأنا متوجه إلى الشام ثم أقبلت حتى إذا كنت بمحل كذا مررت بعير بنى فلان فوجدت القوم نياما ولهم إناء فيه ماء قد غطوا عليه بشيء فكشفت غطاءه وشربت مافيه ثم غطيت عليه كما كان أى وفى كلام بعضهم فعثرت الدابة يعنى البراق فقلب بحافره القدح الذى فيه الماء الذى كان يتوضأ به صاحبه فى القافلة وشرب الماء الذى للغير جائز لأنه كان عند العرب كاللبن مما يباح لكل مجتاز من أبناء السبيل على أن من خصائصه صلى الله عليه وسلم أن له أن يأخذ ما يحتاج إليه من مالكه المحتاج إليه ويجب على مالكه حينئذ بذله وأما الجواب عن ذلك

بأنه مال حربى غير صحيح لأن هذا كان قبل مشروعية الجهاد ومع عدم مشروعيته لا يحل مال أهل الحرب كما لا يحل قتالهم لأن الواجب حينئذ مسالمتهم ولاتتم إلا بترك التعرض لأموالهم كنفوسهم قاله ابن حجر فى شرح الهمزية لكن فى قطعة التفسير للجلال المحلى فى تفسير قوله تعالى فرددناه إلى أمه كى تقر عينها أن أمه أرضعته بأجرة وساغ لها أخذها لأنها مال حربى أى من مال فرعون إلا أن يقال ذاك أى أخذ مال الكافر كان جائزا فى شريعتهم قال صلى الله عليه وسلم وآية ذلك أى علامته المصدقة لما أخبر به صلى الله عليه وسلم أن عيرهم الآن تصوب من الثنية يقدمها جمل أورق وهو ما بياضه إلى سواد وهو أطيب الإبل لحما عند العرب وأخسها عملا عندهم أي ليس بمحمود عندهم في عمله وسيره عليه غرارتان إحداهما سوداء والأخرى برقاء أى فيها بياض وسواد كما تقدم فابتدر القوم الثنية فأول مالقيهم الجمل الأورق عليه الغرارتان فسألوهم عن الإناء وعن نفار العير وعن ند البعير وعن الشخص الذى دلهم عليه فصدقوا قوله
أقول قد علم أن العير التى نفرت وند منها البعير ودلهم عليه مر عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ذاهب إلى الشام والعير التى كان بها الإناء الذى شربه صلى الله عليه وسلم مر عليها وهو راجع إلى مكة وهى التى صوبت من الثنية وحينئنذ لا يحسن سؤال أهلها عما وقع لأهل تلك العير تصديقهم له صلى الله عليه وسلم فيما أخبر إلا أن يقال يجوز أن تكون هذه العير التى مر عليها صلى الله عليه وسلم فى العود اجتمعت فى عودها بتلك العير الذاهبة إلى الشام وأخبروهم بما ذكر والله تعالى أعلم
وفى رواية قالوا يا مطعم دعنا نسأله عما هو أغنى لنا عن بيت المقدس أى فقولهم ذلك كان بعد أن أخبرهم بيت المقدس يا محمد أخبرنا عن عيرنا أى عيراتنا الذاهبة والآتية هل لقيت منها شيئا فقال نعم أتيت على عير بنى فلان بالروحاء أى وهو محل قريب من المدينة أى بينه وبين المدينة ليلتان قد أضلوا ناقة لهم فانطلقوا فى طلبها فانتهيت إلى رحالهم ليس بها منهم أحد وإذا قدح ماء فشربت منه فاسألوهم عن ذلك فقالوا هذه واللات والعزى آية أى علامة
أقول وهذه العير هو التى مر صلى الله عليه وسلم عليها فى العود وهى قادمة إلى مكة وفى هذه الرواية زيادة أنهم أضلوا ناقة وتقدم فى تلك الرواية أنه صلى الله عليه

وسلم وجدهم نياما وفى هذه الرواية إنه ليس بها منهم أحد وقد يقال لا مخالفة بين الروايتين لأنه يجوز أن يكون الراوى أسقط منها هذه الزيادة وهى إضلال الناقة وأن قوله صلى الله عليه وسلم ليس بها منهم أحد أى مستيقظ بل بعضهم ذهب فى طلب تلك الناقة وبعضهم كان نائما لكن فى هذه الرواية انه صلى الله عليه وسلم مر عليها وهى بالروحاء وهو لا يناسب قوله فى تلك إنها الآن تصوب من الثنية لأن كونها تأتى من الروحاء إلى مكة فى ليلة واحدة من أبعد البعيد إلا أن يقال إن الروحاء مشتركة بين المحل المعروف المتقدم ذكره ومحل آخر قريب من مكة والله أعلم
ثم قال صلى الله عليه وسلم فانتهيت إلى عير بنى فلان فنفرت منها أى من الدابة التى هى البراق الإبل أى التى هى العير وبرك منها جمل أحمر عليه جوالق مخطط ببياض لا أدرى أكسر البعير أم لا وهذه الرواية يحتمل أنها ثالثة ويمكن أن تكون هى الأولى أسقط من تلك قوله فى هذه وبرك منها جمل إلى آخره كما أسقط من هذه قوله فى تلك فند لهم بعير
وفى رواية ثم انتهيت إلى عير بنى فلان بمكان كذا وكذا فيها جمل عليه غرارتان غرارة سوداء وغرارة بيضاء فلما حاذت العير نفرت وصرع ذلك البعير وانكسر أى وأضلوا بعير لهم قد جمعه فلان أى بدلالتى لهم عليه فسلمت عليهم فقال بعضهم هذا صوت محمد فاسألوهم عن ذلك فعلم أن هذه الرواية والتى قبلها هى الأولى غاية الأمر أن زيد فى هذه قوله فسلمت عليهم فقالوا هذه واللات والعزى آية قال صلى الله عليه وسلم ثم انتهيت إلى عير بنى فلان بالأبواء أى وهو كما تقدم غير مرة أنه محل بين مكة والمدينة يقدمها جمل أورق أى بياضه إلى سواد كما تقدم هاهى تطلع عليكم من الثنية فانطلقوا لينظروا فوجدوا الأمر كما قال صلى الله عليه وسلم فقالوا صدق الوليد فيما قال أى فى قوله إنه ساحر وأنزل الله تعالى وما جعلنا الرؤيا التى أريناك إلا فتنة للناس وهذا يدل على أن المراد رؤيا الإسراء وأنها رؤيا العين وأنه يقال في مصدرها رؤيا كما يقال رؤية بالتاء خلافا لمن أنكر ذلك إذ لو كان رؤيا الإسراء مناما لما أنكر عليه فى ذلك أى وقيل نزلت وقد رأى النبى صلى الله عليه وسلم ولد الحكم بن أبى العاص أبى مروان وهم بنو أمية على منبره كأنهم القردة وقد ورد رأيت بنى مروان يتعاورون منبرى وفى لفظ ينزلون على منبرى نزو القردة زاد وفى رواية فما استجمع

صلى الله عليه وسلم ضاحكا حتى مات وأنزل الله تعالى فى ذلك وما جعلنا الرؤيا التى أريناك إلا فتنة للناس وفى رواية فنزل إنا أعطيناك الكوثر وفى رواية فنزل إنا أنزلناه فى ليلة القدر وما أدراك ما ليلة القدر ليلة القدر خير من ألف شهر قال بعضهم أى خير من ألف شهر يملكها بنو أمية فإن مدة ملك بنى أمية كانت أثنتين وثمانين سنة وهى ألف أشهر وكان جميع من ولى الخلافة منهم أربعة عشر ر جلا أولهم معاوية وآخرهم مروان بن محمد
وقد قيل لبعضهم ما سبب زوال ملك بنى أمية مع كثرة العدد والعدد والأموال والموالى فقال أبعدوا أصدقائهم ثقة بهم وقربوا أعداءهم جهلا منهم فصار الصديق بالإبعاد عدوا ولم يصر العدو صديقا بالتقريب له وحديث رأيت بنى مروان إلى آخره قال الترمذى هو حديث غريب وقال غيره منكر قال صلى الله عليه وسلم ورأيت بنى العباس يتعاورون منبرى فسرنى ذلك وقيل إن هذه الآية أى آية وما جعلنا الرؤيا التى أريناك إلا فتنة للناس إنما نزلت فى رؤيا الحديبية حيث راى النبى صلى الله عليه وسلم أنه وأصحابه يدخلون المسجد محلقين رؤوسهم ومقصرين ولم يوجد ذلك بل صدهم المشركون وقال بعض الصحابة له صلى الله عليه وسلم ألم تقل إنك تدخل مكة آمنا قال بلى أفقلت لكم من عامى هذا قالوا لا قال فهو كما قال جبريل عليه الصلاة والسلام كما سيأتى ذلك فى قصة الحديبية
وقيل إنما نزلت هذه الآية فى رؤيا وقعة بدر حيث أراه جبريل مصارع القوم ببدر فأرى النبى صلى الله عليه وسلم الناس مصارعهم فتسامعت بذلك قريش فخروا منه أى ولا مانع من تعدد نزول هذه الآية لهذه الأمور فقد يتعدد نزول الآية لتعدد أسبابها
قال ابن حجر الهيتمى إن اتحاد النزول لا ينافى تعدد أسبابه أى وذلك ذا تقدمت الأسباب ويروى أنه عين لهم اليوم الذى تقدم فيه العير أى قالوا له متى تجىء قال لهم يأتوكم يوم كذا وكذا يقدمهم جمل أورق عليه مسح آدم وغرارتان فلما كان ذلك اليوم أشرفت قريش ينتظرون ذلك وقد ولى النهار ولم تجىء حتى كادت الشمس أن تغرب أى دنت للغروب فدعا الله تعالى فحبس الشمس عن الغروب حتى قدم العير أى كما وصف صلى الله عليه وسلم

أقول يجوز أن يكون هذا بالنسبة لبعض العيرات التى مر عليها فلا يخالف ما تقدم أنه صلى الله عليه وسلم قال فى بعض العيرات إنها الآن تصوب من الثنية وإلى حبس الشمس عن المغيب أشار الإمام السبكى فى تائيته بقوله ** وشمس الضحى وقت مغيبها ** فما غربت بل وافقتك بوقفة **
وجاء فى بعض الروايات أنها حبست له صلى الله عليه وسلم عن الطلوع ففى رواية أن بعضهم قال له أخبرنا عن عيرنا قال مررت بها بالتنعيم قالوا فما عدتها وأحمالها وعدة من فيها وقال تطلع عند طلوع الشمس فحبس الله تعالى الشمس عن الطلوع حتى قدمت العير
فلما خرجوا لينظروا فإذا قائل يقول هذه الشمس قد طلعت وقال آخر وهذه العير قد أقبلت فيها فلان وفلان كما أخبر محمد صلى الله عليه وسلم وعلى تقدير صحة هذه الروايات يجاب عنها بمئل ما تقدم والله أعلم وحبس الشمس وقوفها عن السير أى عن الحركة بالكلية وقيل بطء حركتها وقيل ردها إلى ورائها قالوا ولم تحبس له صلى الله عليه وسلم إلا ذلك اليوم وما قيل إنها حبست له صلى الله عليه وسلم يوم الخندق عن الغروب أيضا حتى صلى العصر معارض بأنه صلى الله عليه وسلم صلى العصر بعد غروب الشمس وقال شغلونا عن الصلاة الوسطى كما سيأتى ثم رأيت فى كلام بعضهم ما يؤخذ منه الجواب وهو أن وقعة الخندق كانت أياما فحبست الشمس فى بعض تلك الأيام إلى الإحمرار والاصفرار وصلى حينئذ وفى بعضها لم تحبس بل صلى بعد الغروب قال ذلك البعض ويؤيده أن راوى التأخير إلى الغروب غير راوى التأخير إلى الحمرة والصفرة
وجاء فى رواية ضعيفة أن الشمس حبست عن الغروب لداود عليه الصلاة السلام وذكرى البغوى أنها حبست كذلك لسليمان عليه الصلاة والسلام
أى فعن على بن أبى طالب رضى الله تعالى عنه أن الله أمر الملائكة الموكلين بالشمس حتى ردوها على سليمان حتى صلى العصر فى وقتها وهذا رد لها لا حبس لها عن غروبها الذى الكلام فيه والذى فى كلام بعضهم إنما ضرب سيدنا سليمان سوق خيله واعناقها حيث عرضها عليه عن صلاة العصر حتى كادت الشمس أن تغرب ولم يتصدق بها مبادرة

لتعظيم أمر الله تعالى بالصلاة فى وقتها لأن التصديق يحتاج إلى صرف زمن في دفعها وأخذها وحبست كذلك ليوشع ابن أخت موسى عليه الصلاة والسلام وهو ابن نون بن يوسف الصديق عليه الصلاة والسلام أى وهو الذى قام بالأمر بعد موسى لأن موسى عليه الصلاة والسلام لما وعده الله تعالى أن يورثه وقومه بنى إسرائيل الأرض المقدسة التى هى أرض الشام وكان سكنها الكنعانيون الجبارون وأمر بمقاتلة أولئك الجبارين وهم العماليق سار بمن معه وهم ستمائة ألف مقاتل حتى نزل قريبا من مدينتهم أريحا فبعث إليهم اثنى عشر رجلا من كل سبط واحدا ليأتوه بخبر القوم فدخلوا المدينة فرأوا أمرا هائلا من عظم أجسادهم فقد ذكر بعضهم أنه رأى فى فجاج أى نقرة عين رجل منهم ضبعة رابضة أى جالسة هى وأولادها حولها والفجاج فى الأصل الطريق الواسع واستظل سبعون رجلا من قوم موسى فى قحف رجل منهم أى فى عظم أم رأسه وفى العرائس وكان لا يحمل عنقود عنبهم الا خمسة أنفس منهم ويدخل فى قشرة الرمانة إذا نزع حبها خمسة أنفس أو أربعة وإن رجلا من العماليق أخذ الاثنى عشر ووضعهم فى كمه مع فاكهة كانت فيه وجاء بهم إلى ملكهم فسألهم فقالوا نحن عيون موسى فقال ارجعوا وأخبروه وفى العرائس أنه عوج بن عنق إحدى بنات آدم عليه السلام من صلبه ويقال إنها أول بغى فى الأرض
وفى العرائس أنه لما لقيهم كان على رأسه حزمة حطب وأخذ الاثنى عشر فى حجره وانطلق بهم لامرأته وقال انظرى إلى هؤلاء القوم الذين يزعمون أنهم يريدون قتالنا وطرحهم بين يديها وقال لها ألا أطحنهم برجلى فقالت امرأته لا ولكن خل عنهم حتى يخبروا قومهم بما رأوا ففعل ذلك فلما رجعوا أخبروا موسى عليه الصلاة والسلام فقال اكتموا خوفا من بنى إسرائيل أن يفشلوا ويرتدوا عن موسى فلم يفعلوا وأخبر كل واحد سبطه بشدة ما رآه من أمرهم الهائل ففشلوا وجنبوا عن القتال إلا رجلان لم يخبرا سبطيهما وهما يوشع بن نون من سبط يوسف وكالب بن يوقنا من سبط بنيامين وقالوا لموسى اذهب أنت وربك فقاتلا إنا ههنا قاعدون فدعا عليهم وقال رب إنى لا املك إلا نفسى وأخى أى فإنه لم يبق معه موافق يثق به غير أخيه هرون وكالب ويوشع وهما المذكوران بقوله تعالى قال رجلان من الذين يخافون أنعم الله عليهما ادخلوا عليهم الباب فإذا دخلتموه فإنكم غالبون لأن الله منجز وعده وإنا قد

خبرناهم فوجدنا أجسامهم عظيمة وقلوبهم ضعيفة فلا تخشوهم { وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين } وحينئذ يكون مراد موسى بقوله وأخى من واخاه ووافقه لا خصوص هرون ثم دعا بقوله فافرق بيننا وبين القوم الفاسقين اى باعد بيننا وبينهم فضرب عليه التيه فتاهوا أى تحيروا فى ستة فراسخ من الأرض يمشون النهار كله ثم يمسون حيث أصبحوا ويصبحون حيث أمسوا وأنزل الله تعالى عليهم المن والسلوى لأنهم شغلوا عن المعاش وأبقيت عليهم ثيابهم لا تخلق ولا تتسخ وتطول مع الصغير إذا طال وظلل عليهم الغمام من الشمس ولما رأى موسى عليهم الصلاة والسلام ما بهم من التعب ندم على دعائه عليهم
وفى حياة الحيوان لما عبد بنو إسرائيل العجل أربعين يوما عوقبوا بالتيه أربعين سنة لكل يوم سنة فأوحى الله تعالى له فلا تأس أى لا تحزن على القوم الفاسقين أى الذين فسقوا أى خرجوا عن أمرك
قال في أنس الجليل وفى زمن الاسلام منزل حكام الشرطة فإنها الآن قرية من قرى بيت المقدس ثم مات وهرون بالتيه مات هرون أولا ثم موسى بعد سنتين وفى ذلك رد على من قال إن قبر هرون أخى موسى بأحدكما سيأتى وفيه رد أيضا على من يقول موسى مات قبل هرون وأنه دفنه وقيل إن هرون رأى سريرا فى بعض الكهوف فقام عليه فمات وإن بنى إسرائيل قالوا قتل موسى هرون حسدا له على محبة بنى إسرائيل له فقال لهم موسى ويحكم كان أخى ووزيرى أفترنى أقتله فلما أكثروا عليه قام فصلى ركعتين ثم دعا فنزل السرير الذى قام عليه فمات حتى نظروا إليه بين السماء والأرض فصدقوه وعلى الأول أن موسى انطلق ببنى إسرائيل إلى قبره ودعا الله أن ينجيه فأحياه الله تعالى وأخبرهم أنه مات ولم يقتله موسى وعند ذلك قام بالأمر يوشع بن نون المذكور أى فإن موسى لما احتضر أخبرهم بأن يوشع بعده نبى وإن الله أمره بقتال الجبارين فسار بهم يوشع وقاتل الجبارين وكان يوم الجمعة ولما كاد أن يفتحها كادت الشمس أن تغرب فقال للشمس أيتها الشمس إنك مأمورة وأنا مأمور بحرمتى عليك إلا ركدت أى مكثت ساعة من النهار
وفى رواية قال اللهم احبسها على فحبسها الله تعالى حتى افتتح المدينة أى قال

ذلك خوفا من دخول السبت المحرم عليهم فيه المقاتلة وقد عبر الإمام السبكى عن حبسها ليوشع نردها فى قوله ** وردت عليك الشمس بعد مغيبها كما أنها قدما ليوشع ردت **
ولولا قوله بعد مغيبها لما أشكل وأمكن أن يراد بالرد وقوفها وعدم غروبها ومن ثم ذكر ابن كثير فى تاريخه أن فى حديث رواه الإمام أحمد وهو على شرط البخارى إن الشمس لم تحبس لبشر إلا ليوشع عليه السلام ليالى سار إلى بيت المقدس وفيه دلالة على أن الذى فتح بيت المقدس هو يوشع بن نون لا موسى وأن حبس الشمس كان في فتح بيت المقدس لا في فتح أريحا هذا كلامه وهو خلاف السياق
وفى العرائس أن موسى عليه الصلاة والسلام لم يمت فى التيه بل سار ببنى إسرائيل إلى أريحا وعلى مقدمته يوشع فدخل يوشع وقتل الجبارين ثم دخلها موسى عليه الصلاة والسلام ببنى إسرائيل فأقام فيها ما شاء الله ثم قبض ولا يعلم موضع قبره من الخلق أحد قال وهذا أولى الأقاويل بالصدق وأقربها إلى الحق وذكر بعد ذلك أن موسى لما حضرته الوفاة قال يا رب أدننى من الأرض المقدسة برمية حجر فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لو أنى عنده لأريتكم قبره إلى جانب الطريق عند الكثيب الأحمر
قال ابن كثير قوله صلى الله عليه وسلم لم تحبس لبشر يدل على أن هذا من خصائص يوشع عليه الصلاة والسلام فيدل على ضعف الحديث الذى رويناه أن الشمس رجعت أى بعد مغيبها فى خيبركما سنذكره هنا حتى صلى علي بن أبى طالب العصر بعد ما فاتته بسبب نوم النبى صلى الله عليه وسلم على ركبته وهو حديث منكر ليس فى شئ من الصحاح ولا الحسان وهو مما تتوفر الدواعى على نقله وتفردت بنقله امرأة من أهل البيت مجهولة لا يعرف حالها هذا كلامه وسيأتى قريبا ما فيه على أن قوله صلى الله عليه وسلم لم تحبس لبشر أى غيره صلى الله عليه وسلم وقد علمت أن الحبس لها يكون منعا لها عن مغيبها والرد لها يكون بعد مغيبها فليتأمل
وفى كلام سبط ابن الجوزى إن قيل حبسها ورجوعها مشكل لأنها لو تخلفت أو ردت لاختلت الأفلاك ولفسد النظام قلنا حبسها وردها من باب المعجزات ولا مجال للقياس فى خرق العادات
وذكر أنه وقع لبعض الوعاظ ببغداد إذ قعد يعظ بعد العصر صم أخذ فى ذكر فضائل

آل البيت فجاءت سحابة غطت الشمس فظن وظن الناس الحاضرون عنده أن الشمس غابت فأرادوا الانصراف فأشار إليهم أن لا يتحركوا ثم أدار وجهه إلى ناحية الغرب وقال ** لا تغربى يا شمس حتى ينتهى مدحى لآل المصطفى ولنجله ** **
إن كان للمولى وقوفك فليكن هذا الوقوف لولده ولنسله **
فطلعت الشمس فلا يحصى ما رمى عليه من الحلى والثياب هذا كلامه
ولما افتتحوا المدينة التى هى أريحا أصابوا بها أموالا عظيمة وكانوا أى الأمم السابقة إذا أصابوا الغنائم قربوها فتجئ النار تأكلها أى إذا لم يكن فيها غلول كما تقدم فمجئ النار وأكلها دليل على قبولها ولم تحل إلا لنبينا صلى الله عليه وسلم كما سيأتى فلما أصابوا تلك الغنائم قربوها فلم تجئ إليها النار فقالوا له يا نبى الله ما لها لا تأكل قرباننا قال فيكم الغلول فدعا رأس كل سبط وصافحه فلصق كف واحد منهم فى كف يوشع عليه السلام فقال الغلول فى سبطك فقال كيف أعلم ذلك قال تصافح واحدا بعد واحد فلصقت كفه بكف واحد منهم فسئل فقال نعم رأيت رأس بقرة من ذهب عيناها من ياقوت وأسنانها من لؤلؤ فأعجبتنى فغللتها فجاء بها ووضعها فى الغنيمة فجاءت النار فأكلتها
وذكر البغوى أن الشمس حبست عن الطلوع لموسى عليه الصلاة والسلام كما حبست كذلك لنبينا صلى الله عليه وسلم كما تقدم وكذا القمر حبس لموسى عليه الصلاة والسلام عن الطلوع له فعن عروة بن الزبير رضى الله تعالى عنه قال إن الله تعالى حين أمر موسى عليه الصلاة والسلام بالمسير ببنى إسرائيل إلى بيت المقدس أمره أن يحمل معه عظام يوسف عليه الصلاة والسلام وأن لا يخلفها بأرض مصر وأن يسير بها حتى يضعها بالأرض المقدسة أى وفاء بما أوصى به يوسف عليه الصلاة والسلام
فقد ذكر أن يوسف عليه الصلاة والسلام لما أدركته الوفاة أوصى أن يحمل إلى مقابر آبائه فمنع أهل مصر أولياءه من ذلك فسأل موسى عليه الصلاة والسلام عمن يعرف موضع قبر يوسف فما وجد أحدا يعرفه إلا عجوزا من بنى إسرائيل فقالت له يا نبى الله أنا أعرف مكانه وأدلك عليه إن أنت أخرجتنى معك ولم تخلفنى بأرض مصر قال أفعل وفى لفظ إنها قالت أكون معك فى الجنة فكأنه ثقل عليه ذلك فقيل له أعطها طلبتها فأعطاها

وقد كان موسى عليه الصلاة والسلام وعدبنى إسرائيل أن يسير بهم إذا طلع القمر فدعا ربه أن يؤخر طلوعه حتى يفرغ من أمر يوسف عليه الصلاة والسلام ففعل فخرجت به العجوز حتى أرته أيلة فى ناحية من النيل وفى لفظ فى مستنقعة ماء أى وتلك المستنقعة فى ناحية من النيل فقالت لهم أنضبوا عنها الماء أى ارفعوه عنها ففعلوا قالت احفروا فحفروا وأخرجوه وفى لفظ أنها انتهت به إلى عمود على شاطئ النيل أى فى ناحية منه فلا يخالفه ما سبق فى أصله سكة من حديد فيها سلسلة أى ويجوز أن يكون حفرهم الواقع فى تلك الرواية كان على إظهار تلك السكة فلا مخالفة ووجدوه فى صندوق من حديد وسط النيل فى الماء فاستخرجه موسى عليه الصلاة والسلام وهو فى صندوق من مرمر أى داخل ذلك الصندوق الذى من الحديد فاحتمله
وفى أنس الجليل أن موسى عليه الصلاة والسلام جاءه شيخ له ثلثمائة سنة فقال له يا نبى الله ما يعرف قبر يوسف إلا والدتى فقال له موسى قم معى إلى والدتك فقام الرجل ودخل منزله وأتى بقفة فيها والدته فقال لها موسى ألك علم بقبر يوسف فقالت نعم ولا أدلك على قبره إلا إن دعوت الله تعالى أن يرد على شبابى إلى سبع عشرة سنة ويزيد فى عمرى مثل ما مضى فدعا موسى لها وقال لها كم عمرك قالت له تسعمائة سنة فعاشت ألفا وثمانمائة سنة فأرته قبر يوسف وكان فى وسط نيل مصر ليمر النيل عليه فيصل إلى جميع مصر فيكونون شركاء فى بركته
وأما عود الشمس بعد غروبها فقد وقع له صلى الله عليه وسلم فى خيبر فعن أسماء بنت عميس أنها قالت كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يوحى إليه ورأسه فى حجر على ولم يسر عن النبى صلى الله عليه وسلم حتى غربت الشمس وعلى لم يصل العصر أى فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم أصليت العصر فقال لا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم اللهم إنه كان فى طاعتك وطاعة رسولك فاردد عليه الشمس
قالت أسماء فرأيتها طلعت بعد ما غربت
قال بعضهم لا ينبغى لمن سبيله العلم أن يتخلف عن حفظ هذا الحديث لأنه من أجل أعلام النبوة وهو حديث متصل وقد ذكر فى الإمتاع أنه جاء عن أسماء من خمسة طرق وذكرها وبه يرد ما تقدم عن ابن كثير بأنه تفردت بنقله امرأة من أهل البيت مجهولة لا يعرف حالها وبه يرد على ابن الجوزى حيث قال فيه إنه حديث موضوع بلا شك

لكن فى الامتاع ذكر فى خامس الطرق أن عليا اشتغل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فى قسمة الغنائم يوم خيبر حتى غابت الشمس فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم يا على صليت العصر قال لا يا رسول الله فتوضأ رسول الله صلى الله عليه وسلم وجلس فى المسجد فتكلم بكلمتين أو ثلاثة كأنها من كلام الحبش فارتجعت الشمس كهيئتها فى العصر فقام على فتوضأوصلى العصر ثم تكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم بمثل ما تكلم به قبل ذلك فرجعت إلى مغربها فسمعت لها صريرا كالمنشار فى الخشب وذلك مخالف لسائر الطرق إلا أن هذه الطريق فيها حذف والأصل اشتغل مع النبى صلى الله عليه وسلم فى قسمة غنائم خيبر ثم وضع رأسه فى حجر على فما استيقظ حتى غابت الشمس فلا مخالفة
قال وجاء أنه صلى الله عليه وسلم قبل وصوله إلى بيت المقدس ساروا حتى بلغوا أرضا ذات نخل فقال له جبريل انزل فصل هنا ففعل ثم ركب فقال أتدرى أين صليت قال لا قال صليت بطيبة وإليها المهاجرة وسيأتى ما فيه فى الكلام على الهجرة فانطلق البراق يهوى يضع حافره حيث أدرك طرفه حتى إذا بلغ أرضا فقال له جبريل انزل فصل ههنا ففعل ثم ركب فقال له جبريل أتدرى أين صليت قال لا قال صليت بمدين أى وهى قرية تلقاء غزة عند شجرة موسى سميت باسم مدين بن إباهيم لما نزلها ثم ركب فانطلق البراق يهوى به ثم قال انزل فصل ففعل ثم ركب فقال له أتدرى أين صليت قال لا قال صليت ببيت لحم أى وهى قرية تلقاء بيت المقدس حيث ولد عيسى عليه الصلاة والسلام أى وفى الهدى وقيل إنه نزل ببيت لحم وصلى فيه ولا يصح عنه ذلك البتة وبينا هو يسير على البراق إذ رأى عفريتا من الجن يطلبه بشعلة من نار كلما التفت رآه فقال له جبريل ألا أعلمك كلمات تقولهن إذا قلتهن طفئت شعلته وخر لفيه فقال صلى الله عليه وسلم بلى فقال جبريل قل أعوذ بوجه الله الكريم وبكلمات الله التامات التى لا يجاوزهن بر ولا فاجر ومن شر ما ينزل من السماء ومن شر ما يعرج فيها ومن شر ماذرأ فى الأرض ومن شر ما يخرج منها ومن فتن الليل والنهار ومن طوارق الليل والنهار إلا طارقا يطرق بخير يا رحمن أي فقال ذلك فانكب لفيه وطفئت شعلته ورأى حال المجاهدين في سبيل الله أى كشف له عن حالهم فى دار الجزاء بضرب مثاله فرأى قوما يزرعون فى يوم أى فى وقت ويحصدونه فى يوم

أى فى ذلك الوقت كما يرشد إليه الحال كلما حصدوا عاد كما كان فقال يا جبريل ما هذا قال هؤلاء المجاهدون فى سبيل الله تضاعف لهم الحسنة بسبعمائة ضعف وما انفقوا من خير فهو يخلفه هذا الثانى هو المناسب لحالهم دون الأول فالأولى الاقتصار عليه إلا أن يدعى أنه صلى الله عليه وسلم شاهد الحصاد والعود العدد المذكور الذى هو سبعمائة مرة على أن المضاعفة المذكورة لا تختص بالمجاهدين فقد جاء كل عمل ابن آدم يضاعف الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلا أن يقال المراد تكرر الجزاء العدد المذكور للمجاهدين أمر مؤكد لا يكاد يتخلف وفى غيرهم بخلافه
ووجد صلى الله عليه وسلم ريح ماشطة بنت فرعون ووجد داعى اليهود وداعى النصارى فأما الأول فقد رأى عن يمينه داعيا يقول يا محمد انظرنى أسالك فلم يجبه فقال ما هذا يا جبريل فقال داعى اليهود أما إنك لو أجبته لتهودت أمتك أى لتمسكوا بالتوراة والمراد غالب الأمة وأما الثانى فقد رأى عن يساره داعيا يقول يا محمد انظرنى أسألك فلم يجبه فقال ما هذا يا جبريل قال هذا داعى النصارى أما إنك لو أجبته لتنصرت أمتك أى لتمسكت بالإنجيل وحكمة كون داعى اليهود على اليمين وداعى النصارى على اليسار لاتخفى
ورأى صلى الله عليه وسلم حال الدنيا أى كشف له عن حالتها بضرب مثال فرأى امرأة حاسرة عن ذراعيها كأن ذلك شأن المقتص لغيره وعليها من كل زينة خلقها الله تعالى أى ومعلوم أن النوع الواحد من الزينة يجذب القلوب إليه فكيف بوجود سائر أنواع الزينة فقالت يا محمد انظرنى أسألك فلم يلتفت إليها فقال من هذه يا جبريل قال تلك الدنيا أما إنك لو أجبتها لاختارت أمتك الدنيا على الآخرة ورأى عجوزا على جانب الطريق فقالت يا محمد انظرنى أسالك فلم يلتفت إليها فقال من هذه يا جبريل فقال إنه لم يبق من عمر الدنيا إلا ما بقى من عمر تلك العجوز أى فزينتها لا ينبغى الالتفات إليها لأنها على عجوز شوهاء لم يبق من عمرها إلا القليل ولينظر لم لم يقل تلك الدنيا ولم يبق من عمرها إلى آخره
وفى كلام بعضهم الدنيا قد يقال لها شابة وعجوز بمعنى يتعلق بذاتها وبمعنى يتعلق بغيرها الأول وهو حقيقة أنها من أول وجود هذا النوع الإنسانى إلى أيام إبراهيم صلوات الله وسلامه عليه سبعة بعدها تسمى الدنيا شابة وفيما بعد ذلك إلى بعثة نبينا صلى الله عليه وسلم كهلة ومن بعد ذلك إلى يوم القيامة تسمى عجوزا

واعترض بأن الأئمة صرحوا بأن الشباب ومقابله إنما يكون فى الحيوان ويجاب بأن الغرض من ذلك التمثيل
وكشف له صلى الله عليه وسلم عن حال من يقبل الأمانة مع عجزه عن حفظها بضرب مثال فأتى على رجل قد جمع حزمة حطب عظيمة لا يستطيع حملها وهو يزيد عليها فقال ما هذا يا جبريل قال هذا الرجل من أمتك تكون عنده أمانات الناس لا يقدر على أدائها ويريد أن يتحمل عليها
وكشف له صلى الله عليه وسلم عن حال من يترك الصلاة المفروضة فى دار الجزاء فأتى على قوم ترضح رءوسهم كلما رضخت عادت كما كانت ولا يفتر عنهم من ذلك شئ فقال يا جبريل ما هؤلاء قال هؤلاء الذين تتثاقل رءوسهم عن الصلاة المكتوبة أى المفروضة عليهم
وكشف له صلى الله عليه وسلم عن حال من يترك الزكاة الواجبة عليه ثم أتى على قوم على أقبالهم رقاع وعلى أدبارهم يسرحون كما تسرح الإبل والغنم ويأكلون الضريع وهو اليابس من الشوك والزقوم ثمر شجر مر له زفرة قيل إنه لايعرف بشجر الدنيا وإنما هو لشجرة من النار وهى المذكورة فى قوله تعالى { إنها شجرة تخرج في أصل الجحيم } أى منبتها فى أصل الجحيم وتقدم الكلام عليها عند الكلام على المستهزئين ويأكلون رضف جهنم أى حجاراتها المحماة لآن الرضف بالضاد المعجمة الحجارة المحماة التى يكوى بها فقال من هؤلاء يا جبريل قال هؤلاء الذين لا يؤدون صدقات أموالهم المفروضة عليهم
وكشف له صلى الله عليه وسلم عن حال الزناة بضرب مثال ثم أتى على قوم بين أيديهم لحم نضيج فى قدور ولحم نئ أيضا فى قدور خبيث فجعلوا يأكلون من ذلك النئ الخبيث ويدعون النضيج الطيب فقال ما هذا يا جبريل قال هذا الرجل من أمتك تكون عنده المرأة الحلال الطيب فيأتى امرأة خبيثة فيبيت عندها حتى يصبح والمرأة تقوم من عنده زوجها حلالا طيبا فتأتى رجلا خبيثا فتبيت عنده حتى تصبح
وكشف له صلى الله عليه وسلم عن حال من يقطع الطريق بضرب مثال ثم أتى على خشبة لا يمر بها ثوب ولا شئ إلا خرقته فقال ما هذه يا جبريل قال هذا مثل أقوام من أمتك يقعدون على الطريق فيقطعونه وتلا ولا تقعدوا بكل صراط توعدون


وكشف له صلى الله عليه وسلم عن حال من يأكل الربا أى حالته التي يكون عليها فى دار الجزاء فرأى رجلا يسبح فى نهر من دم يلقم الحجارة فقال له من هذا قال آكل الربا وقد شبهه الله تعالى فى القرآن بقوله { الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس } أى إذا بعث الناس يوم القيامة خرجوا مسرعين من قبورهم إلا أكلة الربا فإنهم لا يقومون من قبورهم إلا مثل قيام الذى يصرعه الشيطان فكلما قاموا سقطوا على وجوههم وجنوبهم وظهورهم كما أن المصروع حاله ذلك أى فهذه حالته فى الذهاب إلى المحشر زيادة على حالته المتقدمة التى تكون فى دارالجزاء
وكشف له صلى الله عليه وسلم عن حال من يعظ ولا يتعظ ثم أتى على قوم تقرض ألسنتهم وشفاههم بمقاريض من حديد كلما قرضت عادت لا يفتر عنهم من ذلك شيء فقال من هؤلاء يا جبريل فقال هؤلاء خطباء الفتنة خطباء أمتك يقولون مالا يفعلون
وكشف له صلى الله عليه وسلم عن حال المغتابين للناس فمر على قوم لهم أظفار من نجاس يخدشون وجوههم وصدورهم فقال من هؤلاء يا جبريل فقال هؤلاء الذين يأكلون لحوم لحوم الناس ويقعون فى أعراضهم وكشف له صلى الله عليه وسلم عن حال من يتكلم بالفحش بضرب مثال فأتى على حجر صغير يخرج منه ثور عظيم فجعل الثور يريد أن يرجع من حيث يخرج فلا يستطيع فقال ما هذا الرجل يا جبريل فقال هذا الرجل من أمتك يتكلم الكلمة العظيمة ثم يندم عليها فلا يستطيع أن يردها
وكشف له صلى الله عليه وسلم عن حال من أحوال الجنة فأتى على واد فوجد ريحا طيبة باردة وريح المسك وسمع صوتا فقال يا جبريل ما هذا قال هذا صوت الجنة تقول يا رب ائتنى بما وعدتنى أى لأنه يجوز أن يكون محل الجنة من السماء السابعة مقابلا لذلك الوادى
وكشف له صلى الله عليه وسلم عن حال من أحوال النار فأتى على واد فسمع صوتا منكرا ووجد ريحا خبيثة فقال ما هذا يا جبريل قال هذا صوت جهنم تقول يا رب ائتنى بما وعدتنى أى وليست جهنم بذلك الوادى كما سيأتى أن الوادى التى هى به هو الذى ببيت المقدس ولعل هذا الوادى مقابل لذلك الوادى وينبغى أن لا يكون هذا هو المراد بما فى الخصائص الصغرى للسيوطى


وخص صلى الله عليه وسلم باطلاعه على الجنة والنار بل المراد بذلك رؤية ذلك فى المعراج وعند وصوله صلى الله عليه وسلم إلى الوادى الذى ببيت المقدس بالنسبة للنار ورأى صلى الله عليه وسلم الدجال شبيها بعبد العزى بن قطن أى وهو ممن هلك فى الجاهلية أى قبل البعثة
ومر صلى الله عليه وسلم على شخص متنحيا على الطريق يقول هلم يا محمد قال جبريل سر يا محمد قال من هذا قال هذا عدو الله إبليس أراد أن تميل إليه اه
وفى رواية لما وصلت بيت المقدس وصلت فيه ركعتين أى إماما بالأنبياء والملائكة أخذنى العطش أشد ما أخذنى فأتيت بإناءين فى إحداهما لبن وفى الأخرى عسل فهدانى الله تعالى فأخذت اللبن فشربت وبين يدى شيخ متكئ على منبر له فقال أى مخاطبا لجبريل أخذ صاحبك الفطرة إنه لمهدى فلما خرجت منه جائنى جبريل عليه الصلاة والسلام بإناء من خمر وإناء من لبن فاخترت اللبن فقال جبريل اخترت الفطرة أى الاستقامة التى سببها الإسلام ومنه كل مولود يولد على الفطرة أى على الإسلام
وفى رواية أخرى فأتى بآنية ثلاثة مغطاة أفواهها فأتى بإناء منها فيه ماء فشرب منه قليلا وفى رواية أنه لم يشرب منه شيئا وأنه قيل له لو شربت الماء أى جميعه أو بعضه لغرقت أمتك أى وفى رواية أنه سمع قائلا يقول إن أخذ الماء غرق وغرقت أمته ثم رفع إليه إناء آخر فيه لبن فشرب منه حتى روى
أى وفى روايه سمع قائلا يقول إن أخذ اللبن هدى وهديت أمته ثم رفع إليه إناء فيه خمر فقيل له اشرب فقال لا أريده فقد رويت فقال له جبريل إنها ستحرم على أمتك أى بعد إباحتها لهم
وفى رواية أنه قيل له لو شربت الخمر لغويت أمتك ولم تتبعك أى لايكون على طريقتك منهم إلا قليل أى وفى رواية أنه سمع قائلا يقول إن أخذ الخمر غوى وغويت أمته
أقوم وهذه الرواية محتملة لأن تكون وهو فى بيت المقدس ولأن تكون وهو خارج عنه ومن هذا كله تعلم أنه تكرر عليه عرض اللبن والخمر داخل بيت المقدس

وخارجه ولا مانع من تكرر عرض آنيتى الخمر واللبن قبل خروجه من بيت المقدس وبعد خروجه منه قبل العروج
ولا تعارض بين الإخبار بأن إحداهما كان فيه عسل مع اللبن وبين الإخبار بأن إحداهما كان فيه خمر مع اللبن ولا بين الإخبار بإناءين والإخبار بأوانى ثلاثة لأنه يجوز أن يكون بعض الرواة اقتصر على إناءين ولا بين كون الإناء الثالث كان فيه عسل أو ماء لأنه يجوز أن يكون إحدى الأوانى الثلاثة كان فيها عسل ثم جعل فيها الماء بدل العسل أو مزج العسل به وغلب الماء على العسل أو تكون الأوانى أربعة وبعض الرواة اقتصر
وقد قال ابن كثير مجموع الأوانى أربعة فيها أربعة أشياء من الأنهار الأربعة التى تخرج من أصل سدرة المنتهى ولكن لم يسقط اللبن وفى رواية بخلاف غيره فإنه تارة ذكر معه الخمر فقط وتارة ذكر معه العسل فقط وتارة ذكر معه الماء والخمر
وعلى الاحتمال الأول يسأل عن سر عدم ذكر جبريل عليه الصلاة والسلام حكمة عدم الشرب من العسل والله أعلم
قال ومر على موسى عليه الصلاة والسلام وهو يصلى فى قبره عند الكثيب الأحمر وهو يقول برفع صوته أكرمته فضلته اه
وفى رواية سمعت صوتا وتذمرا هو بالذال المعجمة الحدة فسلم عليه فرد عليه السلام فقال يا جبريل من هذا قال هذا موسى بن عمران قال ومن يعاتب قال يعاتب ربه فيك قال أو يرفع صوته على ربه والعتاب مخاطبة فيها إدلال وهذا يدل على أن الصوت الذى سمعه كان مشتملا على عتاب وتذمر مع رفعه وفى رواية على من كان تذمره أى حدته قال على ربه قلت أعلى ربه قال جبريل إن الله عز وجل قد عرف له حدته وهذا كما علمت كان كالذى بعده قبل وصوله إلى مسجد بيت المقدس والله أعلم
وجاء وليلة أسرى بى مر بى جبريل على قبر أبى إبراهيم فقال انزل فصل ركعتين قال ومر على شجرة تحتها شيخ وعياله فقال ومن هذا فقال هذا أبوك إبراهيم عليه الصلاة والسلام فسلم عليه فرد عليه السلام فقال من هذا الذى معك يا جبريل فقال هذا ابنك أحمد قال مرحبا بالنبى العربى الأمى ودعا له بالبركة أى فموسى

عرفه فلم يسأل عنه وإبراهيم لم يعرفه فسأل عنه لكن فى السيرة الهاشمية أن موسى سأل عنه أيضا فقال من هذا يا جبريل فقال هذا أحمد فقال مرحبا بالنبى العربى الذى نصح أمته ودعا له بالبركة وقال اسأل لأمتك اليسير والظاهر أن قبر إبراهيم صلى الله عليه وسلم كان تحت تلك الشجرة أو قريبا منها فلا مخالفة بين الروايتين
وسار صلى الله عليه وسلم حتى أتى الوادى الذى فى بيت المقدس فإذا جهنم تنكشف عن مثل الزرابى أى وهى النمارق أى الوسائد فقيل يا رسول الله كيف وجدتها قال مثل الحممة أى الفحمة اه
قال صلى الله عليه وسلم ثم عرج بنا إلى السماء أى من الصخرة كما تقدم أى على المعراج بكسر الميم وفتحها الذى تعرج أرواح بنى آدم فيه وهو كما فى بعض الروايات سلم له مرقاة من فضة ومرقاة من ذهب أى عشر مراقى وهو المراد بقول بعضهم وكانت المعاريج ليلة الإسراء عشرة سبع إلى السماوات والثامن إلى سدرة المنتهى والتاسع إلى المستوى والعاشر إلى العرش والرفرف أى فأطلق على كل مرقاة معراجا وهذا المعراج لم ير الخلائق أحسن منه أما رأيت الميت حين يشق بصره طامحا إلى السماء أى بعد خروج روحه فإن ذلك عجبه بالمعراج الذى نصب لروحه لتعرج عليه وذلك شامل للمؤمن والكافر إلا أن المؤمن يفتح لروحه إلى السماء دون الكافر فترد بعد عروجها تحسيرا وندامة وتبكيتا له وذلك المعراج أتى به من جنة الفردوس وإنه منضد بالؤلؤ أى جعل فيه اللؤلؤ بعضه على بعض عن يمينه ملائكة وعن يساره ملائكة فصعد هو وجبريل عليهما الصلاة والسلام قال الحافظ ابن كثير ولم يكن صعوده على البراق كما توهمه بعض الناس أي ومنهم صاحب الهمزية كما يأتي عنه حتى انتهى إلى باب من أبواب سماء الدنيا أى ويقال له باب الحفظة عليه ملك يقال له إسمعيل أى وهذا يسكن الهواء لم يصعد إلى السماء قط ولم يهبط إلى الأرض قط إلا مع ملك الموت لما نزل لقبض روحه الشريفة وتحت يده اثنا عشر ألف ملك
أى وفى رواية أن تحت يده سبعين ألف ملك تحت يد كل ملك سبعون ألف ملك فاستفتح جبريل فقيل من أنت وفى رواية فضرب بابا من أبوبها فناداه أهل سماء الدنيا أى حفظتها من هذا قال جبريل فقيل ومن معك أى فإنهم رأوهما ولم يعرفوهما ولعل جبريل لم يكن على الصورة التى يعرفونه بها قال محمد وفى رواية قال معك

أحد يجوز أن يكون هذا القائل لم يرهما ويكون الرائى له معظم الحفظة قال نعم معى محمد قيل وقد بعث إليه أى للإسراء والعروج أى لأنه كان عندهم علم بأنه سيعرج به إلى السموات بعد الإسراء به إلى بيت المقدس وإلا فبعثه صلى الله عليه وسلم ورسالته إلى الخلق يبعد أن تخفى على أولئك الملائكة إلى هذه المدة وأيضا لو كان هذا مرادهم لقالوا أو قد بعث ولم يقولوا إليه
فإن قيل قد جاء فى حديث أنس إن ملائكة سماء الدنيا قالت لجبريل أو قد بعث قلنا تقدم أن حديث أنس كان قبل أن يوحى إليه وأنه كان مناما لا يقظة قال السهيلى ولم نجد فى رواية من الروايات أن الملائكة قالوا وقد بعث إلا فى هذا الحديث
وفى رواية بدل بعث إليه أرسل إليه قال قد بعث إليه ففتح لنا قال صلى الله عليه وسلم فإذا أنا بآدم فرحب بى ودعا لى بخير
واختلف فى لفظ آدم فقيل أعجمى ومن ثم منع الصرف وقيل عربى لأنه مشتق من الأدمة التى هى السمرة والمراد بها هنا لون بين البياض والحمرة حتى لا ينافى كونه أحسن الناس أو هو مشتق من أديم الأرض أى وجهها لأنه مخلوق منه وعلى أنه عربى يكون منع صرفه للعلمية ووزن الفعل
وفي رواية تعرض عليه أرواح بنيه فيسر بمؤمنها أي عند رؤيته ويعبس بوجهه عند رؤية كافرها
قال وفى رواية فإذا فيها آدم كيوم خلقه الله تعالى على صورته أى على غاية من الحسن والجمال فإذا هو تعرض عليه أرواح ذريته المؤمنين فيقول روح طيبة ونفس طيبة خرجت من جسد طيب اجعلوها فى عليين وتعرض عليه أرواح ذريته الكفار فيقول روح خبيثة ونفس خبيثة خرجت من جسد خبيث اجعلوها فى سجين
أقول وهذا وإن اقتضى كون أرواح العصاة من المؤمنين فى عليين كأرواح الطائفين منهم لكن لا يقتضى تساويهما فى الدرجة كما لا يخفى
وفى رواية تعرض عليه أعمال ذريته وهو إما على حذف المضاف أى صحف أعمالهم التى وقعت منهم وهى التى فى صحف الحفظة أو التى ستقع منهم وهى ما فى صحف الملائكة غير الحفظة أو تعرض عليه نفس أعمال تجسمت لما سيأتى أن المعانى تجسم ففى كل من الروايتين اقتصار والله أعلم


وفى رواية سندها ضعف كما قاله الحافظ ابن حجر وعن يمينه أسودة وباب يخرج منه ريح طيبة وعن شماله أسودة وباب يخرج منه ريح خبيثة فإذا نظر عن يمينه أى إلى تلك الأسودة ضحك واستبشر وإذا نظر عن شماله أى إلى تلك الأسودة حزن وبكى فسلم عليه صلى الله عليه وسلم فقال مرحبا بالابن الصالح والنبى الصالح فقال النبى صلى الله عليه وسلم من هذا فقال هذا أبوك آدم أى وزاد فى الجواب قوله وهذه الأسودة نسم أى أرواح بنيه فأهل اليمين أهل الجنة وأهل الشمال أهل النار فإذا نظر عن يمينه ضحك واستبشر وإذا نظر عن شماله حزن وبكى وزاد فى الجواب أيضا قوله وهذا الباب الذى عن يمينه باب الجنة إذا نظر من سيدخله من ذريته ضحك واستبشر والباب الذي عن شماله باب جهنم إذا نظر من سيدخله من ذريته حزن وبكى اه أى إذا نظر إلى أرواح من سيدخلهما وفيه أن الجنة فوق السماء السابعة والنار فى الأرض السابعة وهى محيطة بالدنيا فكيف يكون بابهما فى السماء الدنيا وأن أرواح الكفار لا تفتح لها أبواب السماء كما تقدم
وأجيب عن الثانى بأن عرضها أى أرواح ذريته الكفار عليه نظرة إليها وهى دون السماء لأنها شفافة أو من ذلك الباب أى وكونها عن يساره الذى أخبر به صلى الله عليه وسلم أى فى جهة يساره
ويجاب عن الأول بأن الباب الذى على يمينه يجوز أن يكون محاذيا لموضع الجنة من السماء السابعة ولهذا قيل له باب الجنة وكذا يقال فى باب جهنم لأن الإضافة تأتى لأدنى ملابسة وبما أجبنا به عن كون أرواح ذريته الكفار عن جهة يساره يعلم أنه لا حاجة فى الجواب عن ذلك إلى قول الحافظ ابن حجر ويحتمل أن يقال إن النسم المرئية هى الأرواح التى لم تدخل الأجساد بعد أى الآن ومستقرها عن يمين آدم وشماله وقد أعلم بما سيصيرون إليه بناء على أن الأرواح مخلوقة قبل أجسادها على أنه لا يناسب قوله روح طيبة ونفس طيبة خرجت من جسد طيب إلى آخره
ولا حاجة لما نقل عن القرطبى فى الجواب عن ذلك من أن الكفار التى لا يفتح لها أبواب السماء المشركون دون الكفار من أهل الكتاب فيجوز أن تكون تلك الأسودة أرواح كفار أهل الكتاب إذ هو يقتضى أن المراد بأرواح بنيه فى الرويتين السابقتين الأرواح التى خرجت من أجسادها

قال صلى الله عليه وسلم ورأيت رجالا لهم مشافر كمشافرالإبل أى كشفاه الإبل أى وفى أيديهم قطع من نار كالأفهار أى الحجارة التى كل واحد منها ملء الكف يقذفونها فى أفواههم تخرج من أدبارهم قلت من هؤلاء يا جبريل قال هؤلاء أكلة أموال اليتامى ظلما وهؤلاء لم تتقدم رؤيته صلى الله عليه وسلم لهم فى الارض أى ولعل المراد بالرجال الأشخاص أو خصوا بذلك لأنهم أولياء الأيتام غالبا قال صلى الله عليه وسلم ثم رأيت رجالا لهم بطون لم أر مثلها قط وفى رواية أمثال البيوت زاد فى رواية فيها حيات ترى من خارج البطون بسبيل أى طريق آل فرعون يمرون عليهم كالإبل المهيومة حين يعرضون على النار ولا يقدرون على أن يتحولوا من مكانهم ذلك أى فتطؤهم آل فرعون الموصوفون بما ذكر المقتضى لشدة وطئهم لهم والمهيومة التى أصابها الهيام وهو داء ياخذ الإبل فتهيم فى الأرض ولا ترعى وفى كلام السهيلى الإبل المهيومة العطاش والهيام شدة العطش أى وفى رواية كلما نهض أحدهم خر أى سقط قال قلت من هؤلاء يا جبريل قال هؤلاء أكلة الربا وتقدمت رؤيته صلى الله عليه وسلم لهم فى الأرض لا بهذا الوصف بل إن الواحد منهم يسبح فى نهر من دم يلقم الحجارة أى ولا مانع من اجتماع الوصفين لهم أى فيخرجون من ذلك النهر ويلقون فى طريق من ذكر وهكذا عذابهم دائما
قال صلى الله عليه وسلم ثم رأيت رجالا بين أيديهم لحم سمين طيب إلى جنبه لحم خبيث منتن يأكلون من الغث أى الخبيث المنتن ويتركون السمين الطيب قال قلت من هؤلاء يا جبريل قال هؤلاء الذين يتركون ما أحل الله لهم من النساء ويذهبون إلى ما حرم الله عليهم منهن أى وتقدمت رؤيته صلى الله عليه وسلم لهم أي الرجال والنساء في الأرض بنحو هذا الوصف
وفي رواية رأى أخونة عليها لحم طيب ليس عليها أحد وأخرى عليها لحم منتن عليها ناس يأكلون قال جبريل من هؤلاء قال هؤلاء الذين يتركون الحلال ويأكلون الحرام أي من الأموال أعم مما قبله أي وهؤلاء لم تتقدم رؤيته صلى الله عليه وسلم لهم فى الأرض
قال صلى الله عليه وسلم ثم رأيت نساء متعلقات بثديهن فقلت من هؤلاء يا جبريل قال هؤلاء اللاتى أدخلن على الرجال ما ليس من أولادهم أى بسبب زناهن أى وهؤلاء لم يتقدم رؤيته صلى الله عليه وسلم لهن فى الأرض والذى تقدم رؤيته لهن الزانيات لا بهذا القيد وهو إدخالهن على أزواجهن ما ليس من أولادهم على أنه يجوز أن يكون المراد مطلق الزانيات لأن الزنا سبب فى حصول ما ذكر غالبا ولا مانع من اجتماع الوصفين لهن
قال ثم مضى هنيهة فإذا هو بأقوام يقطع اللحم من جنوبهم فيلقمونه فيقال له أى لكل واحد منهم كل كما كنت تأكل لحم أخيك قال يا جبريل من هؤلاء قال هؤلاء الهمازون من أمتك اللمازون أى المغتابون للناس النمامون لهم اه أى وتقدمت رؤيته صلى الله عليه وسلم للمغتابين فى الأرض بغير هذا الوصف أى وروى أنه صلى الله عليه وسلم رأى فى هذه السماء النيل والفرات يطردان أن يجريان وعنصرهما أى أصلهما وهو يخالف ما يأتى أنه صلى الله عليه وسلم رأى في أصل سدرة المنتهى أربعة أنهار نهران باطنان ونهران ظاهران وأن الظاهرين النيل والفرات
وأجيب بأنه يجوز أن يكون منبعهما من تحت سدرة المنتهى ومقرهما وهو المراد بعنصرهما الذى هو أصلهما فى السماء الدنيا أى بعد مرورهما فى الجنة ومن سماء الدنيا ينزلان إلى الأرض فقد جاء فى تفسير قوله تعالى { وأنزلنا من السماء ماء بقدر فأسكناه في الأرض } أنهما النيل الفرات أنزلا من الجنة من أسفل درجة منها على جناح جبريل عليه الصلاة والسلام فأودعهما بطون الجبال ثم إن الله سبحانه وتعالى سير فعهما ويذهب بهما عند رفع القرآن وذهاب الإيمان وذلك قوله تعالى وإنا على ذهاب به لقادرون وذكره السهيلى وفى زيادة الجامع الصغير أن النيل ليخرج من الجنة ولو التمستم فيه حين يسبح لوجدتم فيه من ورقها
قال صلى الله عليه وسلم ثم عرج بنا إلى السماء الثانية فاستفتح جبريل عليه الصلاة والسلام فقيل من أنت قال جبريل قيل ومن معك قال محمد قيل قد بعث إليه قال نعم قد بعث إليه ففتح لنا فإذا أنا بابنى الخالة عيسى ابن مريم ويحيى ابن زكريا صلوات الله وسلامه على نبينا وعليهما أى شبيه أحدهما بصاحبه ثيابهما وشعرهما ومعهما نفر من قومهما فرحبا بى ودعوا لى بخير وفى بعض الروايات التى حكم عليها بالشذوذ أنهما فى السماء الثالثة وقد ذكرها الجلال السيوطى فى أوائل الجامع الصغير وذكر بعضهم أنها رواية الشيخين عن أنس والشذوذ لا ينافى الصحة المطلقة =
 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

طبقات خليفة خليفة بن خياط أبو عمر شباب/الليثي العصفري/ت. الوفاة : 240 .

 طبقات خليفة  خليفة بن خياط أبو عمر شباب/الليثي العصفري/ت. الوفاة : 240 .  الطبقات قال حدثنا خليفة بن خياط شباب أبو عمرو الشيباني الذهلي...