مجلد 1. و 2. من كتاب : تاريخ اليعقوبي
بسم الله الرحمن الرحيم
آدم عليه السلام
بسم الله الرحمن الرحيم
آدم عليه السلام
على آدم، فلم يطاوعه شيء مما خلق الله جل وعز إلا الجنة، فلما رأى آدم ما في الجنة من النعيم قال: لو كان سبيل إلى الخلود؟ فطمع فيه إبليس لما سمع ذلك منه، فبكى ونظر إليه آدم وحواء يبكي، فقالا له: ما يبكيك؟ قال: لأنكما تفارقان هذا، وما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة، إلا أن تكونا ملكين، أو تكونا من الخالدين، وقاسمهما إني لكما لمن الناصحين. وكان لباس آدم وحواء ثياباً من نور، فلما ذاقا من الشجرة، بدت لهما سوآتهما، فزعم أهل الكتاب أن مكث آدم في الأرض، قبل أن يدخل الجنة، كان ثلاث ساعات، ومكث هو و حواء في النعيم والكرامة، قبل أن يأكلا من الشجرة فتبدو لهما سوآتهما، ثلاث ساعات، فلما بدت لآدم سوأته أخذ ورقة من الشجرة، فوضعها على نفسه، ثم صاح: ها أنا يا رب عريان قد أكلت من الشجرة التي نهيتني عنها، فقال الله: ارجع إلى الأرض التي منها خلقت، فإني مسخر لك ولولدك طير السماء، ونون البحار.
وأخرج الله آدم وحواء مما كانا فيه، فيما يقول أهل الكتاب، في تسع ساعات من يوم الجمعة، وهبطا إلى الأرض، وهما حزينان باكيان، وكان هبوطهما على أدنى جبل من جبال الأرض إلى الجنة، وكان ببلاد الهند، وقال قوم: على أبي قبيس، جبل بمكة، ونزل آدم في مغارة في ذلك الجبل سماها مغارة الكنز، ودعا الله أن يقدسها.
وروى بعضهم أن آدم لما هبط كثر بكاؤه، ودام حزنه على مفارقة الجنة، ثم ألهمه الله سبحانه أن قال: لا إله إلا أنت، سبحانك، وبحمدك، عملت سوءاً وظلمت نفسي، فاغفر لي إنك أنت الغفور الرحيم! فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه واجتباه، وأنزل له من الجنة، التي كان فيها، الحجر الأسود، وأمره أن يصيره إلى مكة، فيبني له بيتاً، فصار إلى مكة وبنى البيت، وطاف به، ثم أمره الله أن يضحي له، فيدعوه ويقدسه، فخرج معه جبريل حتى وقف بعرفات، فقال له جبريل: هذا الموضع أمرك ربك أن تقف له به. ثم مضى به إلى مكة، فاعترض له إبليس، فقال: ارمه! فرماه بالحصى، ثم صار إلى الأبطح، فتلقته الملائكة، فقالت له: بر حجك يا آدم! لقد حججنا هذا البيت قبلك ألفي عام.
وأنزل الله، عز وجل، الحنطة على آدم، وأمره أن يأكل من كده، فحرث وزرع، ثم حصد، ثم داس، ثم طحن، ثم عجن، ثم خبز، فلما فرغ عرق جبينه، ثم أكل، فلما امتلأ ثقل ما في بطنه، فنزل إليه جبريل، ففجه، فلما خرج ما في بطنه وجد رائحة تكره، فقال: ما هذا؟ قال له جبريل: رائحة الحنطة.
ووقع آدم على حواء، فحملت، وولدت غلاماً وجارية، فسمي الغلام قابيل، والجارية لوبذا، ثم حملت فولدت غلاماً وجارية، فسمي الغلام هابيل والجارية إقليما. فلما كبر ولده وبلغوا النكاح، قال آدم لحواء: مري قابيل، فليتزوج إقليما التي ولدت مع هابيل، ومري هابيل فليتزوج لوبذا التي ولدت مع قابيل، فحسده قابيل أن يتزوج بأخته التي ولدت معه.
وقد روى بعضهم أن الله عز وجل أنزل لهابيل حوراء من الجنة، فزوجه بها، وأخرج لقابيل جنية، فزوجه بها، فحسد قابيل أخاه على الحوراء، فقال لهما آدم: قربا قرباناً! فقرب هابيل من تين زرعه، وقرب قابيل أفضل كبش في غنمه لله، فقبل الله قربان هابيل، ولم يقبل قربان قابيل، فازداد نفاسة وحسداً، وزين له الشيطان قتل أخيه، فشدخه بالحجارة، حتى قتله، فسخط الله على قابيل ولعنه، وأنزله من الجبل المقدس إلى أرض يقال لها نود.
ومكث آدم وحواء ينوحان على هابيل دهراً طويلاً، حتى يقال إنه خرج من دموعهما كالنهر. ووقع آدم على حواء، فحملت، فولدت غلاماً، بعد أن أتى له مائة وثلاثون سنة، فسماه شيئاً، فكان أشبه ولد آدم بآدم، ثم زوج آدم شيئاً، فولد له غلام بعد أن أتت عليه مائة وخمس وستون سنة، فسماه أنوش ثم ولد لأنوش غلام، فسماه قينان، ثم ولد لقينان غلام، فسماه مهلائيل، فهؤلاء ولدوا في حياة آدم وعلى عهده.
ولما حضرت آدم الوفاة جاءه شيث ابنه وولده وولد ولده، فصلى عليهم ودعا لهم بالبركة، وجعل وصيته إلى شيث وأمره أن يحفظ جسده ويجعله، إذا مات، في مغارة الكنز، وأن يوصي بنيه وبني بنيه، ويوصي بعضهم بعضا عند وفاتهم، إذا كان هبوطهم من جبلهم، أن يأخذوا جسده حشمة، فيجعلوه وسط الأرض، وأمر شيثاً ابنه أن يقوم بعده في ولدهم، فيأمرهم بتقوى الله وحسن عبادته، وينهاهم أن يخالطوا قابيل اللعين وولده، ثم صلى على بنيه أولئك وأولادهم ونسائهم، ثم مات لست خلون من نيسان، يوم الجمعة، في الساعة التي خلق فيها، وكانت حياته تسعمائة سنة وثلاثين سنة اتفاقاً.
شيث بن آدموقام بعد موت آدم ابنه شيث، وكان يأمر قومه بتقوى الله، سبحانه، والعمل الصالح، وكانوا يسبحون الله ويقدسونه، وأبناؤهم ونساؤهم ليس بينهم عداوة، ولا تحاسد، ولا تباغض، ولا تهمة، ولا كذب، ولا خلف، وكان أحدهم إذا أراد أن يحلف قال: لا ودم هابيل.
فلما حضرت وفاة شيث أتاه بنوه وبنو بنيه، وهم يومئذ أنوش، وقينان، ومهلائيل، ويرد، وأخنوخ، ونساؤهم وأبناؤهم، فصلى عليهم، ودعا لهم بالبركة، وتقدم إليهم، وحلفهم بدم هابيل ألا يهبط أحد منهم من هذا الجبل المقدس، ولا يتركوا أحداً من أولادهم يهبط منه، ولا يختلطوا بأولاد قابيل الملعون وأوصى إلى أنوش ابنه، وأمره أن يحتفظ بجسد آدم، وأن يتقي الله، و يأمر قومه بتقوى الله وحسن العبادة، ثم توفي يوم الثلاثاء لسبع وعشرين ليلة خلت من آب على ثلاث ساعات من النهار، وكانت حياته تسعمائة واثنتي عشرة سنة.
أنوش بن شيثوقام أنوش بن شيث، بعد أبيه، بحفظ وصية أبيه وجده، وأحسن عبادة الله، وأمر قومه بحسن العبادة، وفي أيامه قتل قابيل الملعون، رماه لمك الأعمى بحجر، فشدخ رأسه، فمات. وكان قد ولد لأنوش قينان بعد أن أتت له تسعون سنة. و لما حضرت أنوش الوفاة اجتمع إليه بنوه وبنو بنيه: قينان، ومهلائيل، ويرد، وأخنوخ، ومتوشلح، ونساؤهم وأبناؤهم، فصلى عليهم، ودعا لهم بالبركة، ونهاهم أن يهبطوا من جبلهم المقدس، أو يدعوا أحداً من بنيهم أن يختلطوا بولد قابيل اللعين، وأوصى قينان بجسد آدم، وأمرهم أن يصلوا عنده ويقدسوا الله كثيراً، وتوفي لثلاث خلون من تشرين الأول، حين غابت الشمس، وكانت حياته تسعمائة وخمساً وستين سنة.
قينان بن أنوشوقام قينان بن أنوش، وكان رجلاً لطيفاً، تقياً، مقدساً، فقام في قومه بطاعة الله وحسن عبادته، واتباع وصية آدم وشيث، وكان قد ولد له مهلائيل بعد أن أتت عليه سبعون سنة. فلما دنا موته اجتمع إليه بنوه وبنو بنيه مهلائيل، ويرد، ومتوشلح، ولمك، ونساؤهم وأبناؤهم، فصلى عليهم، ودعا لهم بالبركة، فأقسم عليهم بدم هابيل أن لا يهبط أحد منهم من جبلهم المقدس إلى ولد الملعون قابيل، وجعل وصيته إلى مهلائيل، وأمره أن يحتفظ بجسد آدم. ومات قينان وكانت حياته تسعمائة سنة وعشرين سنة.
مهلائيل بن قينانثم قام بعد قينان مهلائيل بن قينان، فقام في قومه بطاعة الله تعالى، واتباع وصية أبيه، وكان قد ولد له يرد، بعد أن أتت عليه خمس وستون سنة.
فلما دنا موت مهلائيل أوصى إلى ابنه يرد وأوصاه بجسد آدم، ثم توفي مهلائيل لليلتين خلتا من نيسان، يوم الأحد، على ثلاث ساعات من النهار، وكانت حياته ثمانمائة سنة وخمساً وتسعين سنة.
يرد بن مهلائيلثم قام بعد مهلائيل يرد، وكان رجلاً مؤمناً، كامل العمل لله، سبحانه، والعبادة له، كثير الصلاة بالليل والنهار، فزاد الله في حياته، وكان قد ولد له أخنوخ، بعد أن أتت عليه اثنتان وستون سنة، وفي الأربعين ليرد تم الألف الأول.
ولما مضى من حياة يرد خمسمائة سنة نقض بنو شيث العهود والمواثيق التي كانت بينهم، فجعلوا ينزلون إلى الأرض التي فيها بنو قابيل، وكان أول نزولهم أن الشيطان اتخذ شيطانين من الإنس اسم أحدهما يوبل، والآخر توبلقين، فعلمهما أصناف الغناء والزمر، فصنع يوبل المزامير والطنابير والبرابط والصور. وصنع توبلقين الطبول والدفوف والصنوج، ولم يكن لبني قابيل عمل يشغلهم، ولا ذكر لهم إلا أمام الشيطان، وكانوا يركبون المحارم والمأثم، ويجتمعون على الفسق، وكان ذوو السن من رجالهم ونسائهم أشد في ذلك من شبانهم. فكانوا يجتمعون، فيزمرون ويضربون بالطبول والدفوف والبرابط والصنوج. ويصيحون، ويضحكون، حتى سمع أهل الجبل من بني شيث أصواتهم، فاجتمع منهم مائة رجل على أن يهبطوا إلى بني قابيل، فينظروا ما تلك الأصوات، فلما بلغ ذلك يرد أتاهم، فناشدهم الله، وذكرهم وصية آبائهم، وحلف عليهم بدم هابيل، وقام فيهم أخنوخ بن يرد، فقال اعلموا أنه من عصى منكم أبانا يرد، ونقض عهود آبائنا، وهبط من جبلنا لم ندعه يصعد أبدا، فأبوا إلا أن يهبطوا، فلما هبطوا اختلطوا ببنات قابيل، بعد أن ركبوا الفواحش.
فلما دنا موت يرد اجتمع إليه بنوه وبنو بنيه أخنوخ، ومتوشلح، ولمك، ونوح، فصلى عليهم، ودعا لهم بالبركة، ونهاهم أن يهبطوا من الجبل المقدس، وقال: إنكم لا محالة تهبطون إلى الأرض السفلى، فأيكم كان آخر هبوطاً فليهبط بجسد أبينا آدم، ثم ليجعله وسط الأرض، كما أوصانا، وأمر أخنوخ ابنه ألا يزال يصلي في مغارة الكنز، ثم توفي يوم الجمعة لليلة خلت من آذار، حين غابت الشمس، وكانت حياته تسعمائة سنة واثنتين وستين سنة.
أخنوخ بن يردثم قام بعد يرد أخنوخ بن يرد، فقام بعبادة الله، سبحانه ولما أتت له خمس وستون سنة ولد له متوشلح، وأخذ بنو شيث ونساؤهم وأبناؤهم في الهبوط، فعظم ذلك على أخنوخ فدعا ولده متوشلح ولمكاً ونوحاً، فقال لهم: إني أعلم أن الله معذب هذه الأمة عذاباً عظيماً ليس فيه رحمة.
وكان أخنوخ أول من خط بالقلم، وهو إدريس النبي، فأوصى ولده أن يخلصوا عبادة الله، ويستعملوا الصدق واليقين، ثم رفعه الله بعد أن أتت له ثلاثمائة سنة.
متوشلح بن أخنوخثم قام متوشلح بن أخنوخ بعبادة الله تعالى وطاعته وكان لما أتت عليه مائة وسبع وثمانون سنة، ولد له لمك فأوحى الله إلى نوح في عصره وأعلمه أنه باعث الطوفان على الناس وأمره أن يعمل السفينة من الخشب ولما كملت لنوح ثلاثمائة سنة وأربع وأربعون سنة تم الألف الثاني.
وتوفي متوشلح في إحدى وعشرين من أيلول يوم الخميس وكانت حياته تسعمائة وستين سنة.
لمك بن متوشلحفقام لمك بعد أبيه بعبادة الله وطاعته، وكان قد ولد له بعد أن أتت عليه مائة واثنتان وثمانون سنة وكثرت الجبابرة في عصره وذلك أنه كان لما وقع بنو شيث في بنات قابيل ولدت منهم الجبابرة.
ثم دنا موت لمك، فدعا نوحاً وساماً وحاماً ويافثاً ونساءهم ولم يكن بقي من أولاد شيث في الجبل أحد غيرهم إلا هبطوا إلى بني قابيل، فكانوا ثمانية أنفس ولم يكن لهم أولاد قبل الطوفان، فصلى عليهم ودعا لهم بالبركة، ثم بكى. وقال لهم: إنه لم يبق من جنسنا أحد إلا هؤلاء الثمانية الأنفس وأسأل الله الذي خلق آدم وحواء وحدهما ثم كثر ولدهما، أن ينجيكم من هذا الرجز الذي أعد للأمة السوء ويكثر ولدكم حتى يملأوا الأرض ويعطيكم بركة أبينا آدم، ويجعل في ولدكم الملك وأنا متوفى ولن يفلت من أهل الرجز غيرك يا نوح، فإذا أنا مت فاحملني واجعلني في مغارة الكنز، فإذا أراد الله أن تركب السفينة فاحمل جسد أبينا آدم فاهبط به معك ثم اجعله وسط البيت الأعلى من السفينة ثم كن أنت وبنوك في طرف السفينة الشرقي، ولتكن امرأتك وكنائنك في طرف السفينة الغربي وليكن جسد آدم بينكم، فلا تجوزوا إلى نسائكم ولا تجز نساؤكم إليكم ولا تأكلوا ولا تشربوا معهن، ولا تقربوهن حتى تخرجوا من السفينة، فإذا ذهب الطوفان وخرجتم من السفينة إلى الأرض، فصل أنت عند جسد آدم، ثم أوص ساماً أكبر بنيك، فليذهب بجسد آدم حتى يجعله في وسط الأرض، وليجعل معه رجلاً من أولاده يقوم عليه، وليكن حبراً لله حياته لا ينكح امرأة، ولا يبني بيتاً، ولا يهريق دماً، ولا يقرب قرباناً من الدواب، ولا الطير، فإن الله مرسل معه ملكاً من الملائكة يدله على وسط الأرض ويؤنسه.
وتوفي لمك لسبع عشرة ليلة خلت من آذار يوم الأحد، على تسع ساعات من النهار، وكانت حياته سبعمائة وسبعاً وسبعين سنة.
نوح عليه السلاموأوحى الله عز وجل إلى نوح في أيام جده أخنوخ، وهو إدريس النبي، وقبل أن يرفع الله إدريس، وأمره أن ينذر قومه، وينهاهم عن المعاصي التي كانوا يركبونها ويحذرهم العذاب، فأقام على عبادة الله تعالى والدعاء لقومه، وحبس نفسه على عبادة الله تعالى والدعاء لقومه، لا ينكح النساء خمسمائة عام، ثم أوحى الله إليه أن ينكح هيكل بنت ناموسا بن أخنوخ، وأعلمه أنه باعث الطوفان على الأرض وأمره أن يعمل السفينة التي نجاه الله وأهله فيها، وأن يجعلها ثلاثة بيوت سفلاً ووسطاً وعلواً، وأمره أن يجعل طولها ثلاثمائة ذراع بذراع نوح وعرضها خمسين ذراعاً وسمكها ثلاثين ذراعاً ويصير حواليها رفوف الخشب ويكون البيت الأسفل للدواب والوحش والسباع ويكون الأوسط للطير ويكون الأعلى لنوح وأهل بيته ويجعل في الأعلى صهاريج الماء وموضعاً للطعام فولد له بعد أن أتت عليه خمسمائة سنة.
ولما فرغ نوح من عمل السفينة وكان ولد قابيل، ومن اختلط بهم من ولد شيث، إذا رأوه يعمل الفلك سخروا منه، فلما فرغ دعاهم إلى الركوب فيها، وأعلمهم أن الله باعث الطوفان على الأرض كلها حتى يطهرها من أهل المعاصي، فلم يجبه أحد منهم فصعد هو وولده إلى مغارة الكنز فاحتملوا جسد آدم، فوضعوه في وسط البيت الأعلى من السفينة يوم الجمعة لسبع عشرة ليلة خلت من آذار، وأدخل الطير البيت الأوسط، وأدخل الدواب والسباع البيت الأسفل وأطبقها حين غابت الشمس.
وأرسل الله الماء من السماء، و فجر عيون الأرض، فالتقى الماء على أمر قد قدر وأخذ الأرض كلها والجبال وأظلمت الدنيا وذهب ضوء الشمس والقمر حتى كان الليل والنهار سواء وكان الطالع في ذلك الوقت الذي أرسل الله تعالى فيه الماء فيما يقول أصحاب الحساب: السرطان والشمس والقمر وزحل وعطارد والرأس، مجتمعة في آخر دقيقة من الحوت، فاتصل الماء من السماء والأرض أربعين يوماً حتى علا فوق كل جبل خمس عشرة ذراعاً ثم وقف بعد أن لم تبق بقعة من الأرض إلا غمرها الماء وعلاها.
ودارت السفينة الأرض كلها حتى صارت إلى مكة، فطافت حول البيت أسبوعاً ثم انكشف الماء بعد خمسة أشهر فكان ابتداؤه لسبع عشرة ليلة خلت من أيار إلى ثلاث عشرة ليلة خلت من تشرين الأول.
وروى بعضهم أن نوحاً ركب السفينة أول يوم من رجب، واستوت على الجودي في المحرم فصار أول الشهور يعده وأهل الكتاب يخالفون في هذا.
ولما استوت على الجودي وهو جبل بناحية الموصل أمر الله تعالى ماء السماء فرجع من حيث جاء وأمر الأرض فبلعت ماءها فأقام نوح بعد وقوف السفينة أربعة أشهر ثم بعث الغراب ليعرف خبر الماء فوجد الجيف طافية على الماء.
فوقع عليها ولم يرجع، ثم أرسل الحمامة فجاءت بورقة زيتون، فعلم أن الماء قد ذهب فخرج لسبع وعشرين من أيار، فكان بين دخوله السفينة وخروجه سنة كاملة وعشرة أيام، فلما صار إلى الأرض هو وأهله بنوا مدينة، فسموها ثمانين.
ولما خرج نوح من السفينة ورأى عظام الناس تلوح غمه ذلك وأحزنه وأوحى الله إليه: أني لن أرسل الطوفان على الأرض بعدها أبداً. ولما خرج نوح من السفينة أقفلها بقفل ودفع المفتاح إلى سام ابنه ثم زرع نوح وغرس كرماً وعمر الأرض.
وأن نوحاً يوماً لنائم إذ انكشف ثوبه، فرأى حام ابنه سوأته فضحك، وخبر أخويه ساماً و يافثاً فأخذا ثوباً حتى أتياه به، ووجوههما مصروفة عنه، فألقيا الثوب عليه، فلما انتبه نوح من نومه، وعلم الخبر دعا على كنعان بن حام، ولم يدع على حام، فمن ولده القبط والحبشة والهند.
وكان كنعان أول من رجع من ولد نوح إلى عمل بني قابيل، فعمل الملاهي والغناء والمزامير والطبول والبرابط والصنوج، وأطاع الشيطان في اللعب والباطل.
وقسم نوح الأرض بين ولده، فجعل لسام وسط الأرض، والحرم وما حوله واليمن وحضرموت إلى عمان إلى البحرين إلى عالج ويبرين، ووبار والدو والدهناء وجعل لحام أرض المغرب والسواحل فولد كوش ابن حام وكنعان بن حام النوبة والزنج والحبشة. ونزل يافث بن نوح ما بين المشرق والمغرب، فولد له جومر وتوبل وماش وماشج ومأجوج فولد جومر الصقالبة، وولد توبل برجان وولد ماش الترك والخزر وولد ماشج الأشبان وولد مأجوج يأجوج ومأجوج وهم في شرقي الأرض من جهة الترك وكانت منازل الصقالبة، وبرجان أرض الروم قبل أن يكون الروم فهؤلاء ولد يافث.
وعاش نوح، بعد خروجه من السفينة ثلاثمائة وستين سنة، ولما حضرت وفاة نوح اجتمع إليه بنوه الثلاثة سام و حام ويافث وبنوهم فأوصاهم وأمرهم بعبادة الله تعالى وأمر ساماً أن يدخل السفينة إذا مات ولا يشعر به أحد فيستخرج جسد آدم ويذهب معه بملكيزدق بن لمك بن سام فإن الله اختاره ليكون مع جسد آدم في وسط الأرض في المكان المقدس وقال له: يا سام إنك إذا خرجت أنت وملكيزدق بعث الله معكما ملكاً من الملائكة يدلكما على الطريق ويريكما وسط الأرض فلا تعلمن أحداً ما تصنع فإن هذا الأمر وصية آدم التي أوصى بها بنيه وأوصى بها بعضهم بعضاً حتى انتهى ذلك إليك فإذا بلغتما المكان الذي يريكما الملك فضع فيه جسد آدم ثم مر ملكيزدق ألا يفارقه ولا يكون له عمل إلا عبادة الله سبحانه وتعالى وأمره أن لا ينكح امرأة ولا يبني بنياناً ولا يهريق دماً ولا يلبس ثوباً إلا من جلود الوحش ولا يقص شعراً ولا ظفراً و ليجلس وحده وليكثر حمد الله ثم مات في أيار يوم الأربعاء وكانت حياته تسعمائة سنة وخمسين كما حكى الله تعالى ألف سنة إلا خمسين عاماً.
سام بن نوحوقام سام بن نوح، بعد أبيه، بعبادة الله تعالى وطاعته، وكان قد ولد له ارفخشد، بعد أن أتت عليه مائة سنة وسنتان، ثم انطلق، وفتح السفينة، فأخذ جسد آدم، فهبط به سراً من أخويه وأهله، ودعا أخويه يافثاً وحاماً، فقال لهما: إن أبي أوصى إلي وأمرني أن آتي البحر، فأنظر في الأرض ثم ارجع، فلا تتحركوا حتى آتيكم، واستوصوا بامرأتي وبني خيراً، فقال له أخواه: اذهب في حفظ الله، فإنك قد علمت أن الأرض خربة ونخاف عليك السباع. قال سام: إن الله تعالى يبعث ملكاً من الملائكة، فلا أخاف، إن شاء الله تعالى، شيئاً. ودعا سام ابنه لمكاً فقال له ولامرأته: يا وزدق! أرسلا معي ابنكما ملكيزدق يؤنسني في الطريق. فقالا له: اذهب راشداً! فقال سام لأخويه وأهله وولده: قد علمتم أن أبانا نوحاً قد أوصى إلي، وأمرني أن أختم السفينة، فلا أدخلها أنا، ولا أحد من الناس، فلا يقربن السفينة منكم أحد.
ثم إن ساماً خرج ومعه ابنه، فعرض لهما الملك، فلم يزل معهما حتى صار بهما إلى الموضع الذي أمروا أن يضعوا جسد آدم فيه، فيقال إنه بمسجد منى عند المنارة، ويقول أهل الكتاب: بالشأم في الأرض المقدسة، فانفتحت الأرضون، فوضعوا الجسد فيها، ثم انطبقت عليه. وقال سام لملكيزدق ابن لمك بن سام: اجلس ها هنا، وأحسن عبادة الله، فإن الله يرسل إليك في كل يوم ملكاً من الملائكة يؤنسك، ثم سلم عليه، وانصرف، فأتى أهله، فسأله ابنه لمك عن ملكيزدق. فقال: إنه قد مات في الطريق، فدفنته، فحزن عليه أبوه وأمه.
ثم حضرت ساماً الوفاة فأوصى إلى ابنه أرفخشد. ومات سام يوم الخميس لسبع خلون من أيلول. وكانت حياته ستمائة سنة.
أرفخشد بن سامثم قام أرفخشد بن سام بعبادة الله تعالى وطاعته، وكان قد ولد له شالح بعد أن أتت عليه مائة وخمس وثمانون، سنة وقد تفرق ولد نوح في البلاد، وكثرت الجبابرة والعتاة منهم، و أفسد ولد كنعان بن حام، وأظهروا المعاصي.
ولما حضرت أرفخشد الوفاة جمع إليه ولده وأهله وأوصاهم بعبادة الله تعالى ومجانبة المعاصي، وقال لشالح ابنه: أقبل وصيتي، وقم في أهلك بعدي عاملاً بطاعة الله تعالى. ومات يوم الأحد لسبع بقين من نيسان وكانت حياته أربعمائة وخمساً وستين سنة.
شالح بن أرفخشدثم قام شالح بن أرفخشد في قومه يأمرهم بطاعة الله تعالى، وينهاهم عن معاصيه، ويحذرهم ما نال أهل المعاصي من الرجز والعذاب. وكان قد ولد له عابر بعد أن أتت عليه مائة وثلاثون سنة، ثم حضرته الوفاة، فأوصى إلى ابنه عابر بن شالح، وأمره أن يتجنب فعل بني قابيل اللعين، ومات يوم الإثنين لثلاث عشرة ليلة خلت من آذار، وكانت حياته أربعمائة وثلاثين سنة.
عابر بن شالحثم قام عابر بن شالح يدعو قومه إلى طاعة الله تعالى، ويحذر بني سام بن نوح أن يختلطوا بولد كنعان بن حام، المغير دين آبائه، والمرتكب للمعاصي.
وكان قد ولد له فالغ، بعد أن أتت عليه مائة وأربع وثلاثون سنة، ثم حضرته الوفاة، فأوصى إلى ابنه فالغ، فقال له: يا بني! إن ولد قابيل اللعين، لما أكثروا العمل بمعاصي الله، سبحانه وتعالى، ودخل معهم ولد شيث بعث الله عليهم الرجز، فلا تدخل أنت ولا أهلك في ملة بني كنعان. ومات عابر يوم الخميس لثلاث وعشرين من تشرين الأول، وكانت حياته ثلاثمائة وأربعين سنة، وقيل مائة وأربعاً وستين سنة.
فالغ بن عابرثم قام بعد عابر فالغ ابنه يدعو الناس إلى طاعة الله تعالى، فكان في زمانه اجتماع ولد نوح ببابل، وذلك أن ماش بن إرم بن سام بن نوح صار إلى أرض بابل، فولد نمرود الجبار، ونبيط، وهو أبو النبط، وهو أول من استنبط الأنهار، وغرس الأشجار، وعمر الأرض، وكان لسانهم جميعا السرياني، وهو لسان آدم، فلما اجتمعوا ببابل قال بعضهم لبعض: لنبنين بنياناً أسفله الأرض وأعلاه السماء! فلما أخذوا في البنيان قالوا: نتخذه حصناً يحرزنا من الطوفان، فهدم الله حصنهم، وفرق الله ألسنهم على اثنين وسبعين لساناً، و تفرقوا على اثنتين وسبعين فرقة من موضعهم ذلك، فكان في ولد سام تسعة عشر لساناً، وفي ولد حام ستة عشر لساناً، وفي ولد يافث سبعة وثلاثون لساناً، فلما رأوا ما هم فيه اجتمعوا إلى فالغ بن عابر فقال لهم: إنه لا يسعكم أرض واحدة مع افتراق ألسنتكم فقالوا: أقسموا الأرض بيننا، فقسم لهم فصار لولد يافث بن نوح الصين والهند والسند والترك والخزر والتبت والبلغر والديلم وما والى أرض خراسان، وكان ملك بني يافث في ذلك الزمان جم شاذ.
وصار لولد حام أرض المغرب وما وراء الفرات إلى مسقط الشمس.
وصار لولد سام الحجاز واليمن وباقي الأرض.
وكان قد ولد له أرغو بعد أن أتت عليه ثلاثون سنة، وحضرت فالغ الوفاة، فأوصى إلى ابنه أرغو، ومات فالغ يوم الجمعة لاثنتي عشرة ليلة خلت من أيلول، وكانت حياته مائتي سنة و تسعاً وثلاثين سنة.
أرغو بن فالغثم قام أرغو بن فالغ بعد أبيه، وقد تفرقت الألسن على اثنتين وسبعين فرقة، لبني سام تسع عشرة فرقة، ولولد حام ست عشرة فرقة، ولولد يافث سبع وثلاثون، وكان في زمانه نمرود الجبار، وكان مسكنه ببابل، وكان الذي ابتدأ بناء الصرح، وأول من عمل التاج، وملك سبعاً وستين سنة.
وكان قد ولد لأرغو ساروغ، بعد أن أتت عليه اثنتان وثلاثون سنة، ولما أتت لأرغو أربع وسبعون سنة من عمره كمل الألف الثالث.
وحضرت أرغو الوفاة، فأوصى ابنه ساروغ، وتوفي أرغو يوم الأربعاء لأربع عشرة ليلة خلت من نيسان، وكانت حياته مائتي سنة.
ساروغ بن أرغو
وقام ساروغ بن أرغو في ولد سام، بعد موت أبيه، وقد كثرت الجبابرة، وعتت في الأرض. وكان في زمن ساروغ أول ما عبدت الأصنام. وكان أول شأن الأصنام أن الناس كان إذا مات لأحدهم الميت الذي يعز عليهم من أب أو أخ أو ولد صنع صنماً على صورته، وسماه باسمه، فلما أدرك الخلف الذي بعدهم ظنوا، وحدثهم الشيطان، أنه إنما صنعت هذه لتعبد، فعبدوها، ثم فرق الله دينهم، فمنهم من عبد الأصنام، ومنهم من عبد الشمس، ومنهم من عبد القمر، ومنهم من عبد الطير، ومنهم من عبد الحجارة، ومنهم من عبد الشجر، ومنهم من عبد الماء، ومنهم من عبد الريح ، وفتنهم الشيطان وأضلهم وأطغاهم.
وكان قد ولد له ناحور، بعد أن أتت عليه مائة وثلاثون سنة. ولما حضرت ساروغ الوفاة أوصى ابنه ناحور، وأمره بعبادة الله تعالى، ومات ساروغ لثلاث بقين من آب يوم الأحد، وكانت حياته مائتين وثلاثين سنة.
ناحور بن ساروغوكان ناحور مكان أبيه، فكثرت عبادة الأصنام في زمانه، فأمر الله سبحانه الأرض، فزلزلت عليهم زلزلة شديدة حتى سقطت تلك الأصنام، فلم يكترثوا بذلك، وأعادوا أصناماً مكانها.
وفي زمانه ظهر السحر، والكهانة، والطيرة، وذبح الناس أولادهم للشياطين، وجعلت المكاييل والموازين.
وكانت حياة ناحور مائة وثمانياً وأربعين سنة، وكانت جبابرة ذلك العصر عاد بن عوص بن إرم بن سام بن نوح، وكانوا قد انتشروا في البلاد، وكانت منازلهم بين أعالي حضرموت إلى أودية نجران، فلما عاثوا وعتوا بعث الله تبارك وتعالى هود بن عبد الله بن رباح بن الخلود بن عاد بن عوص بن إرم بن سام بن نوح، فدعاهم إلى عبادة الله تعالى، والعمل بطاعته، واجتناب المحارم، فكذبوه، فقطع الله عنهم المطر ثلاث سنين، فوجهوا وفدا لهم إلى البيت الحرام يستسقي لهم، فأقاموا يطوفون بالبيت ويسعون أربعين صباحاً.
ثم رفعت لهم سحابتان: إحداهما بيضاء فيها غيث ورحمة، والأخرى سوداء فيها عذاب ونقمة، وسمعوا صوتاً يناديهم: اختاروا أيتهما شئتم! فقالوا: اخترنا السوداء! فمرت، وهي على رؤوسهم، فلما قربت من البلاد قال لهم هود: إن هذه السحابة فيها عذاب قد أظلكم! فقالوا: بل هو عارض ممطرنا، فأقبلت ريح سوداء لا تمر بشيء إلا أحرقته، فما نجا منهم إلا هود، ويقال إنه نجا لقمان بن عاد، وعاش حتى عمر عمر سبعة نسور.
ولما مضت عاد صار في ديارهم بنو ثمود بن جازر بن ثمود بن إرم بن سام بن نوح، وكانت ملوكهم تنزل الحجر، فلما عتوا بعث الله إليهم صالح بن تالح بن صادوق بن هود نبياً، فسألوه أن يأتيهم باية، فأخرج الله لهم ناقة من الأرض معها فصيلها، فقال لهم صالح: إن لهذه الناقة يوماً ترد فيه الماء، ولكم يوماً، فاحذروا أن تصدوها عن الماء! فكذبوه، فقام رجل منهم يقال له قدار، فعقرها وضرب عرقوبها بالسيف، فارتفع فصيلها على نشز من الأرض، ثم رغا، فبعث الله عليهم العذاب، فما فلت منهم إلا امرأة يقال لها الذريعة، وضرب العرب بقدار المثل.
تارخ بن ناحوروكان تارخ بن ناحور، هو أبو إبراهيم خليل الله، في عصر نمرود الجبار، وكان نمرود أول من عبد النار و سجد لها، وذلك أنه خرجت نار من الأرض، فأتاها، فسجد لها، وكلمه منها شيطان، فبنى عليها بنية، وجعل لها سدنة.
وفي ذلك العصر تعاطى الناس علم النجوم، وحسبوا الكسوف للشمس والقمر والكواكب السائرة والراتبة، وتكلموا في الفلك والبروج.
وكان الذي علم نمرود ذلك رجلاً يقال له تبطق، وكان تارخ، وهو آزر أبو إبراهيم، مع نمرود الجبار، فحسب المنجمون لنمرود، فقالوا له: إنه يولد في مملكته مولود يعيب دينه، ويزري عليه، ويهدم أصنامه، ويفرق جمعه، فجعل لا يولد في مملكته مولود إلا شق بطنه، حتى ولد إبراهيم، فستره أبواه، وأخفيا أمره، وصيراه في مغارة حيث لا يعلم به أحد، وكان مولده بكوثا ربا، وكان مولد إبراهيم بعد أن أتت لتارخ مائة وسبعون سنة، وعاش تارخ أبوه مائتي سنة وخمس سنين.
إبراهيم عليه السلام
ونشأ إبراهيم في زمان نمرود الجبار، فلما خرج من المغارة التي كان فيها قلب طرفه في السماء، فنظر إلى الزهرة، فرأى كوكباً مضيئاً، فقال: هذا ربي، فإن له علواً وارتفاعاً، ثم غاب الكوكب، فقال: إن ربي لا يغيب، ثم رأى القمر لما طلع، فقال: هذا ربي، فلم يلبث أن غاب القمر، فقال: لئن لم يهدني ربي لأكونن من القوم الضالين، فلما جاء النهار طلعت الشمس، فقال: هذا ربي، هذا أنور وأضوأ، فلما غابت الشمس قال: غابت، وربي لا يغيب، كما قص الله خبره وأمره، فلما كملت سنة جعل يعجب إذ رأى قومه يعبدون الأصنام، ويقول: أتعبدون ما تنحتون؟ فيقولون: أبوك علمنا هذا. فيقول: إن أبي لمن الضالين! فظهر قوله في قومه، وتحدث الناس به، وأرسله الله نبياً، وبعث إليه جبريل، فعلمه دينه، فجعل يقول لقومه: إني بريء مما تشركون.
وبلغ خبره نمرود فأرسل إليه فيها، ثم جعل إبراهيم يكسر أصنامهم، فيقول: ادفعي عن نفسك، فألهب نمرود ناراً ووضعه في منجنيق ورمى به فيها، فأوحى الله إليها: أن كوني برداً وسلاماً على إبراهيم، فجلس وسط النار ما تضره، فقال نمرود: من اتخذ إلها، فليتخذه مثل إله إبراهيم، فامن معه لوط، وكان لوط ابن أخيه خاران بن تارخ.
وأمر الله، عز وجل إبراهيم أن يخرج من بلاد نمرود إلى الشام الأرض المقدسة، فخرج إبراهيم وامرأته سارة بنت خاران بن ناحور عمه، ولوط بن خاران، مهاجرين حيث أمرهم الله، فنزلوا أرض فلسطين، وكثر ماله ومال لوط، فقال إبراهيم للوط: إن الله قد كثر لنا مالنا وماشيتنا، فانتقل منا حتى تنزل مدينتي سدوم وعمورة، بالقرب من الموضع الذي كان فيه إبراهيم، فلما صار لوط إلى مدينة سدوم وعمورة ونزلها أتاه ملك تلك الناحية، فقاتله، وأخذ ماله، فمضى إبراهيم حتى استنقذ ماله.
ووسع الله، عز وجل، على إبراهيم في كثرة المال، فقال: رب ما أصنع بالمال، ولا ولد لي؟ فأوحى الله، عز وجل، إليه: إني مكثر ولدك، حتى يكونوا عدد النجوم.
وكان لسارة جارية يقال لها هاجر، فوهبتها لإبراهيم، فوقع عليها، فحملت، وولدت إسماعيل، وإبراهيم يومئذ ابن ست وثمانين سنة، وقال الله: إني مكثر ولدك وجاعل فيهم الملك الباقي مدى الدهر، حتى لا يدري أحد ما عددهم.
فلما ولدت هاجر غارت سارة، وقالت: أخرجها عني وولدها، فأخرجها، ومعها إسماعيل، حتى صار بهما إلى مكة، فأنزلهما عند البيت الحرام، وفارقهما، فقالت له هاجر: على من تدعنا؟ قال: على رب هذه البنية فقال: اللهم إني أسكنت ابني، بواد غير ذي زرع، عند بيتك المحرم.
ونفد الماء الذي كان مع هاجر، فاشتد بإسماعيل العطش فخرجت هاجر تطلب الماء، ثم صعدت إلى الصفا، فرأت بقربه طائراً واقفاً فرجعت فإذا بالطائر قد فحص برجله الأرض، فخرج الماء، فجمعته لئلا يذهب، فهي بئر زمزم.
وعمل قوم لوط المعاصي، وكانوا يأتون الذكران من العالمين، وذلك أن إبليس، لعنه الله تعالى، تراءى لهم في صورة غلام أمرد، ثم أمرهم أن ينكحوه، فاشتهوا ذلك حتى تركوا نكاح النساء، وأقبلوا على نكاح الذكران، فنهاهم لوط، فلم ينتهوا، و جاروا في الأحكام حتى ضرب بهم في الجور المثل، وقالوا: أجور من حكم سدوم! وكان الرجل منهم، إذا نال أحداً بمكروه، فضربه، أو سحه، قال له: أعطني أجراً على فعلي بك. وكان لهم حاكمان يقال لهما شقرى وشقرونى يحكمان بالجور والظلم والعدوان.
ولما كثر عمل قوم لوط وجورهم بعث الله، عز وجل، ملائكة لهلاكهم، فنزلوا بإبراهيم، وكان يضيف الأضياف، ويعمل القرى، فلما نزلوا به قرب إليهم عجلاً مشوياً، فلما رآهم لا يأكلون نكرهم، فعرفوه بأنفسهم، وقالوا: أنا رسل ربك لهلاك أهل هذه القرية، يعنون سدوم القرية التي كان فيها قوم لوط ، فقال لهم إبراهيم: إن فيها لوطاً، قالوا: نحن أعلم بمن فيها، لننجينه وأهله، إلا امرأته.
وكانت سارة امرأة إبراهيم واقفة، فعجبت من قولهم، فبشروها بإسحاق فقالت: أألد وأنا عجوز، وهذا بعلي شيخ كبير؟ وكان إبراهيم ابن مائة سنة، وهي بنت تسعين، فلما أتوا إلى لوط، ورأتهم امرأته دخنت لقومها، فجاءوا إلى لوط، فقالوا ادفع إلينا أضيافك! فقال: لا تفضحون في ضيفي: فلما أكثروا صدهم جبريل، فأعماهم، فقالوا له: أنا مهلكوهم، قال: فمتى؟ قالوا: الصبح. قال: تؤخرونهم إلى الصبح؟ قال له جبريل: أليس الصبح بقريب؟ فلما كان السحر قال له جبريل: اخرج، ثم قلبها عليهم، ويقال نزلت عليهم نار، فلم ينج منهم أحد، وكانت امرأة لوط فيهم فمسخت ملحاً، فما بقي منهم مخبر.
ووهب الله لإبراهيم إسحاق بن سارة، فعجب الناس من ذلك، وقالوا: شيخ ابن مائة سنة، وعجوز بنت تسعين سنة! فخرج إسحاق أشبه شيء بإبراهيم.
وكان إبراهيم يزور إسماعيل وأمه في كل وقت. وبلغ إسماعيل حتى صار رجلاً، ثم تزوج امرأة من جرهم، فزارة إبراهيم مرة، فلم يلقه، وكانت أمه قد ماتت، فكلم امرأته فلم يرض عقلها، وسألها عن إسماعيل، فقالت: في الرعي! فقال: إذا جاء فقولي له غير عتبة بابك! فلما انصرف إسماعيل من رعية قالت له امرأته: قد جاء هنا شيخ يسأل عنك: فقال إسماعيل: فما قال لك؟ قالت: قال لي. قولي له غير عتبة بابك. قال: أنت خلية! فطلقها، و تزوج الحيفاء بنت مضاض الجرهمية، فعاد إليهم إبراهيم من الحول، فوقف ببيت إسماعيل، فلم يجده، ووجد امرأته، فقال: كيف حالكم؟ قالت بخير! قال: هكذا فليكن! أين زوجك؟ قالت: ليس بحاضر، انزل! قال: لا يمكنني. قالت: فأعطني رأسك أقبله! ففعل ذلك، وقال: إذا جاء زوجك فأقرئيه السلام، وقولي له: تمسك بعتبة بابك. فلما انصرف جاء إسماعيل، فأخبرته امرأته بخبر إبراهيم، فوقع على موضع قدمه يقبلها.
ثم إن الله تعالى أمر إبراهيم أن يبني الكعبة، ويرفع قواعدها، ويؤذن في الناس بالحج، ويريهم، مناسكهم، فبنى إبراهيم وإسماعيل القواعد حتى انتهى إلى موضع الحجر، فنادى إبراهيم أبو قبيس: أن لك عندي وديعة! فأعطاه الحجر، فوضعه، وأذن إبراهيم في الناس بالحج، فلما كان يوم التروية قال له جبريل: ترو من الماء، فسميت التروية، ثم أتى منى، فقال له: بت بها، ثم أتى عرفات، فبنى بها مسجداً بحجارة بيض، ثم صلى به الظهر والعصر ثم عمد به إلى عرفات، فقال له: هذه عرفات فاعرفها، فسميت عرفات.
ثم أفاض به من عرفات، فلما حاذى المأزمين قال له: ازدلف، فسميت المزدلفة، وقال له: اجمع الصلاتين، فسميت جمع، وصار إلى المشعر، فنام عليه، فأمره الله أن يذبح ابنه، فالرواية تختلف في إسماعيل وإسحاق، فيقول قوم: إنه إسماعيل لأنه الذي وضع داره وبيته وإسحاق بالشام، ويقول قوم: إنه إسحاق لأنه أخرجه وأخرج أمه معه، وكان يومئذ غلاماً، وإسماعيل رجل قد ولد له.
وقد كثرت الروايات في هذا وهذا، واختلف الناس فيهما، فلما أصبح إبراهيم صار إلى منى وقال للغلام: زورني بالبيت، وقال لابنه: إن الله أمرني أن أذبحك! فقال: يا أبت افعل ما تؤمر! فأخذ السكين، وأضجعه على جمرة العقبة، وطرح تحته قرطان حمار، ثم وضع الشفرة على حلقه، وحول وجهه عنه، فقلب جبريل الشفرة، فنظر إبراهيم، فإذا الشفرة مقلوبة، ففعل ذلك ثلاث مرات، ثم نودي: يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا.
وأخذ جبريل الغلام، وانحط الكبش من قلة ثبير، فوضعه، تحته فذبحه فأهل الكتاب يقولون: إنه كان إسحاق، وإنه فعل به هذا في برية الأموريين بالشام، فلما فرغ إبراهيم من حجه وأراد أن يرتحل أوصى إلى ابنه إسماعيل أن يقيم عند البيت الحرام، وأن يقيم للناس حجهم ومناسكهم، وقال له: إن الله مكثر عدده. ومثمر نسله. وجاعل في ولده البركة والخير.
وتوفيت سارة عند مصيرهم إلى الشأم، فتزوج إبراهيم قطورة، فولدت له أولاداً كثيراً، و هم: زمرن، ويقشن، ومدن، ومدين، ويشباق، وشوح، وتوفي إبراهيم، وكانت وفاته يوم الثلاثاء لعشر خلون من آب، وكانت حياته مائة وخمساً وتسعين سنة.
إسحاق بن إبراهيمولما توفي إبراهيم بالشام قام إسحاق بعده وتزوج رفقا بنت بتوئيل، فحملت فثقل حملها، فأوحى الله، عز وجل، إلى إسحاق: أني مخرج من بطنها شعبين وأمتين، فاجعل الأصغر أعظم من الأكبر! فولدت رفقا عيصو ويعقوب توأمين، وخرج عيصو أولاً، وخرج يعقوب بعده، وعقبه مع عقب عيصو، فسمي يعقوب.
وكان إسحاق يوم ولد له ابن ستين سنة، وكان إسحاق يحب عيصو، ورفقا تحب يعقوب، وسكن إسحاق وادي جارر، وكان قد ذهب بصره، فقال لابنه عيصو: خذ سيفك وقوسك، واخرج، فصد لي صيداً حتى آكل وأبارك عليك قبل أن أموت، فسمعت رفقا أمه ذلك، فقالت ليعقوب: اصنع لأبيك طعاماً! اذهب إلى الغنم، فخذ جديين، فاصنع طعاماً، وقربه لأبيك، حتى تقع عليك البركة. فقال: أخاف أن يلعنني. فقالت: إن لعنك كانت لعنتك علي، فمضى يعقوب، وأخذ جديين، فذبحهما، وطبخهما، وقربهما إليه.
وكان عيصو مشعر الذراع، فأخذ يعقوب جلد الجديين، فوضعهما على ساعديه، فلما قرب الطعام من أبيه قال: النغمة نغمة يعقوب، والمسحة مسحة عيصو. ثم بارك عليه، ودعا له، وقال له: كن رأسا على إخوتك.
وجاء عيصو بصيده، فقال له إسحاق: من قدم إلى الطعام فباركته ومباركاً يكون؟ قال: خدعني أخي يعقوب! قال له إسحاق: قد جعلته رأسا عليك، وعلى إخوته. ثم دعا له، وقال: على سميه الأرض تنزل.
وأمر إسحاق يعقوب أن يصير إلى حران، فيكون عند لابان بن بتوئيل بن ناحور، أخي إبراهيم، وخاف إسحاق عيصو عليه، وأمره أن لا يتزوج من نساء الكنعانيين، فصار إلى حران إلى خاله لابان، فكانت حياة إسحاق مائة وخمساً وثمانين سنة.
يعقوب بن إسحاقثم إن إسحاق قال ليعقوب: إن الله قد جعلك نبياً، وجعل ولدك أنبياء، وجعل فيك الخير والبركة، وأمره أن يسير إلى الفدان، وهو موضع بالشام، فسار إلى الفدان فلما دخلها رأى امرأة معها غنم على البئر تريد أن تسقي غنمها، وعلى رأس البئر حجر لا يرفعه إلا عدة رجال، فسألها: من هي؟ فقالت: أنا بنت لابان، وكان لابان خال يعقوب، فزحزح يعقوب الحجر، وسقى لها، و سار إلى خاله، فزوجه إياها، فقال يعقوب: إن التي كانت مسماة لي راحيل أختها. فقال: هذه أكبر، وأنا أزوجك أيضاً راحيل، فتزوجهما جميعاً.
ودخل بليا أولاً، فأولدها روبيل، وشمعون، ولاوي، ويهوذا، ويشاجر، وزفولون، وجارية يقال لها ديناً، ثم زوجه خاله بابنته الأخرى، وهي راحيل، فأبطأ عليها الولد، حتى عظم ذلك عليها، ثم وهب الله، سبحانه وتعالى، يوسف، وبنيامين.
ووقع يعقوب بزلفا جارية كانت لليا، فولدت منه كاذ، وآشر، ونفتالي.
ووقع بوليدة راحيل، فولدت دان، وقال قوم إن يعقوب تزوج راحيل قبل ليا، وقال أهل الكتاب تزوجهما جميعاً في وقت واحد، فماتت راحيل، وبقيت ليا.
وكان يوسف أحب ولد يعقوب إلى يعقوب لأنه كان أجملهم وجهاً، وكانت أمه أحب نسائه إليه، فحسده إخوته ذلك، فأخرجوه معهم، وكان من خبرهم ما قصة الله، عز وجل، في كتابه العزيز، حتى بيع، واستعبد، وغاب عن أبيه أربعين سنة، ثم رده الله، سبحانه، عليه، وجمعهم ويوسف بمصر على ما قد قصة الله في كتابه.
وولد ليوسف بمصر عدة أولاد، فأقام يعقوب بمصر سبع عشرة سنة، ولما حضرته الوفاة أوصى يوسف ولده ألا يدفنه بمصر. وتوفي وله مائة وأربعون سنة.
ولد يعقوبوكان ليعقوب من الولد اثنا عشر ذكراً: روبيل، وشمعون، ولاوي، ويهوذا، ويشاجر، وزفولون، ويوسف، وبنيامين، وكاذ، وآشر، ودان، ونفتالي، فهؤلاء بنو يعقوب، وهم بنو إسرائيل، وهم الأسباط.
وكان لروبيل من الولد: خنوخ، وفلو، وحصران، وكرمي.
وكان لشمعون من الولد: نموئيل، ويامين، وشاوول وكان للاوي من الولد: جرشون، وقهث، ومراري.
وكان ليهوذا من الولد: عار، وأونان ، وشيلا، وفارص، وزارح.
وكان ليشاجر من الولد: تولع، وفوا، ويوب، وشمرون.
وكان لآشر من الولد: يمنا، وأشوا، وأشوى، وبريعا، وسارح.
وكان لزفولون من الولد: سارد، وإيلون، ويحلائيل.
وولد ليوسف بأرض مصر: إفرائيم، ومنشى.
وكان لبنيامين: بالع، وبخر، وأشبال، ونعمان، وأوخي، ومفيم، وحفيم، وأرد.
وكان لكاذ من الولد: صفيان، وشوني، وأصبون، وعاري، وأرودي، وارايلي.
وكان لنفتالي من الولد: يحصيل، وغوني، ويبصر، وشاليم.
فهؤلاء أولاد يعقوب وولد ولده، الذين اجتمعوا بمصر عند يوسف، مع ولدي يوسف اللذين ولدا بمصر، وأعطاهم أرضا، وقال: ازرعوا، فما خرج فلفرعون الخمس.
ولما حضرت يعقوب الوفاة جمع ولده وولد ولده، فبارك عليهم، ودعا لهم، وقال لكل واحد منهم قولا، وأعطى ليوسف سيفه وقوسه.
وقرب إليه يوسف ابنيه منشى وإفرائيم، فصير منشى عن يمينه وإفرائيم عن شماله، لأن منشى كان أكبر، فقلب يده اليمنى على إفرائيم ، وأوصى يوسف أن يحمله ويدفنه إلى جنب قبر إبراهيم وإسحاق.
ولما توفي يعقوب قاموا يبكون عليه سبعين يوماً، ثم حمله يوسف، وأخرج معه غلماناً من أهل مصر، وصار به إلى أرض فلسطين، فدفنه إلى جنب قبر إبراهيم وإسحاق.
ولما فرغوا من دفن يعقوب قال لإخوته: ارجعوا معي إلى أرض مصر! فخافوه، فقالوا له: قد أوصاك أبوك يعقوب أن تغفر خطيئتنا. قال: لا تخشوني! فإني أخشى الله. فاطمأنت قلوبهم، فرجعوا إلى أرض مصر، فأقاموا بها.
وعاش يوسف بمصر دهراً، ثم حضرته الوفاة، فجمع بني إسرائيل، وقال: إنكم تخرجون بعد حين من أرض مصر، إذا بعث الله رجلاً يقال له موسى بن عمران من ولد لاوي بن يعقوب، وسيذكركم الله، ويرفعكم، فأخرجوا بدني من هذه الأرض، حتى تدفنوني عند قبور آبائي.
ومات يوسف وله مائة وعشر سنين، فصير في تابوت حجارة، وصير في النيل.
وكان في ذلك العصر أيوب النبي ابن أموص بن زارح بن رعوئيل بن عيصو ابن إسحاق بن إبراهيم، وكان كثير المال، فابتلاه الله تعالى بخطيئة أخطأها، فشكر الله وصبر، ثم رفع الله عنه البلاء، ورد إليه ماله وأضعف له.
موسى بن عمرانوولد موسى بن عمران بن قهث بن لاوي بن يعقوب بمصر في زمان فرعون الجبار، وهو الوليد بن مصعب، ويقال: كان اسمه ظلمي، وبنو إسرائيل يومئذ بمصر قد أقاموا من زمان يوسف في الرق والعبودية.
وكان سحرة فرعون وكهنته قد قالوا له: يولد في هذا الوقت مولود من بني إسرائيل يفسد عليك ملكك، ويكون به هلاكك. وكان فرعون قد ملك مصر دهراً طويلاً ممتعاً بالسلامة، حتى قال: أنا ربكم الأعلى، فأمر فرعون، فوضع على كل امرأة حامل من بني إسرائيل حرساً، فكانت لا تلد منهن امرأة غلاما إلا قتل ولدها، فلما جاء أم موسى المخاض قالت لها القابلة: إني أكتم عليك! فلما ولدت قالت للحرس: إنما خرج منها دم. وأوحى الله إلى أم موسى أن اعملي تابوتاً، ثم ضعيه فيه، وأخرجيه ليلاً، فاطرحيه في نيل مصر! ففعلت ذلك، وضربته الريح، فطرحته إلى الساحل، فرأته امرأة فرعون، فدنت منه حتى أخذته، فلما فتحت التابوت ورأت موسى وقع عليه منها محبة، فقالت: لفرعون نتخذه ولداً، وطلبت له من ترضعه، فلم يأخذ من المرضعات، حتى جاءت أمه، فأخذ منها، وشب أحسن شباب، وبلغ في أسرع وقت ما لا يبلغ الصبيان.
وكان يوسف قد قال لبني إسرائيل: إنكم لن تزالوا في العذاب حتى يأتي غلام جعد، من ولد لاوي بن يعقوب، يقال له موسى بن عمران. فلما طال الأمر على بني إسرائيل ضجوا و أتوا شيخاً منهم، فقال لهم: كأنكم به! فبيناهم، ذلك إذ وقف عليهم موسى، فلما رآه الشيخ عرفه بالصفة، فقال له: ما اسمك؟ فقال: موسى قال ابن من؟ قال: ابن عمران. فقام هو والقوم و قبلوا يديه ورجليه، واتخذهم شيعة.
ودخل يوماً مدينة من مدائن مصر، فإذا رجل من شيعته ينازع رجلاً من آل فرعون، فوكزه موسى، فقتله، ونذر به فرعون وآل فرعون وأرادوا قتله، فلما علم ذلك خرج وحيداً على وجهه، حتى صار إلى مدين، وأجر نفسه من شعيب النبي ابن نويب بن عيا ابن مدين بن إبراهيم على أن ينكحه إحدى ابنتيه.
فلما قضى موسى الأجل سار بامرأته يريد بيت المقدس، على ما قص الله، عز وجل، من خبره في كتابه العزيز، فبينا موسى يسير في طريقه إذ رأى ناراً، فقصد نحوها، وخلف أهله، فلما دنا منها إذا شجرة تضطرم من أسفلها إلى أعلاها ناراً، فلما دنا منها تأخرت نفسه، ووجل واشتد رعبه، فناداه الله جل وعلا: يا موسى أقبل لا تخف! إنك من الآمنين. فسكن عنه رعبه، وأمره الله أن يلقي عصاه، فألقاها، فإذا هي حية كالجذع، فأمره الله أن يأخذها، فصارت عصا.
وبعثه الله تعالى إلى فرعون، وأمره أن يأتيه، ويدعوه إلى عبادة الله، فعظم ذلك في قلب موسى، فقال الله: إني آمرك إلى عبد من عبيدي بطر نعمتي وأمن مكري، وزعم أنه لا يعرفني، وإني أقسم بعزتي لو لا العدل والحجة التي وضعتها بيني وبين خلقي لبطشت به بطشة جبار تغضب لغضبه السموات والأرض.
فقال: اللهم اشدد عضدي بأخي هارون، وإني قتلت منهم نفسا، فأخاف أن يقتلون! فقال له الله: قد فعلت ذلك، فاذهب أنت وأخوك بآياتي، فأخرجا بني إسرائيل! هذا أوان إخراجي إياهم من الرق والعبودية. فرد موسى امرأته إلى أبيها، وصار إلى فرعون هو وأخوه هارون، وأعلمه ما بعثه الله به، وخبر بني إسرائيل، فعظم سرورهم، وعلموا أن يوسف صدقهم. ثم ساروا إلى باب فرعون، وعليه مدرعة صوف، وفي وسطه حبل ليف، وفي يده عصا، فمنع من الدخول، فضرب الباب بالعصا، فانفتحت الأبواب، ثم دخل، فقال لفرعون: أنا رسول رب العالمين، بعثني إليك لتؤمن به، وتبعث معي بني إسرائيل. فأعظم فرعون ذلك، فقال له: إيت بآية نعلم بها صدقك! فألقى عصاه، فإذا هي ثعبان عظيم قد فتح فاه، وأهوى نحو فرعون، فسأل موسى أن ينحيه عنه، ثم أدخل يده في جيبه وأخرجها بيضاء من غير سوء برص.
وكان فرعون أراد أن يصدقه، فقال له هامان: أما في عبيدك، أيها الملك، من يعمل مثل هذا؟ فأحضر السحرة من جميع البلاد، وخبروا بخبر موسى، فأقاموا حيناً يعملون من جلود البقر حبالاً مجوفة وعصياً مجوفة، ويزوقونها، ويصيرون فيها الزيبق، ثم أحموا المواضع التي أرادوا أن يلقوا فيها الحبال والعصى، ثم جلس فرعون، وأحضره، فألقى السحرة حبالهم وعصيهم، فلما حمي الزيبق تحرك، ومشت الحبال والعصى، فألقى موسى عصاه، فأكلت ذلك كله، حتى لم يبق منه شيء، ونكص السحرة، فقتل فرعون من قتل منهم.
وبعث الله موسى بآيات إلى فرعون: العصا، ثم اليد التي خرجت من جيبه بيضاء، ثم الجراد، ثم القمل، ثم الضفادع، ثم الدم وموت الأبكار، فلما اتصل بهم هذا قال له فرعون: إن كشفت عنا الرجز آمنا وأخرجنا معك بني إسرائيل. فكشف الله عنهم، ولم يؤمنوا.
وأمر الله موسى أن يخرج بني إسرائيل، فلما أرادوا الخروج طلب جسد يوسف بن يعقوب ليحمله معه، كما أوصى يوسف بني إسرائيل، فأتته شارح بنت آشر بن يعقوب، فقالت: تضمن لي البقاء حتى أدلك عليه؟ حتى ضمن ذلك لها فصارت به إلى موضع من النيل، فقالت له: هو ها هنا! فأخذ موسى أربع صفائح ذهب، فصور في واحدة صورة نسر، وأخرى صورة سبع، وأخرى صورة إنسان، وأخرى صورة ثور، وكتب في كل صفيحة اسم الله الأعظم، وألقاها في الماء، فطفا تابوت الحجارة الذي كان فيه جسد يوسف، وبقيت في يد موسى صفيحة واحدة فيها صورة ثور، فوهبها لشارح بنت آشر، و حمل التابوت.
وقفل موسى ببني إسرائيل، وهم ستمائة ألف إنسان بالغ، واتبعه فرعون وجنوده، فغرقهم الله جميعاً، وكانوا ألف ألف فارس، وقيل هبط جبريل، وفرعون وأصحابه يحاولون الدخول أثرهم، وإذ قد نزل جبريل بعد أن لم يجزع من خيل فرعون فرس واحد، وكان تحت جبريل مهره، وكان تحت فرعون فرس طويل الذنب، فدخل جبريل البحر، فنظر فرس فرعون إلى مهرة جبريل، فاقتحم أثرها البحر، وتبعه أصحابه فغرقوا كلهم، أعني فرعون وجميع أصحابه، وانطبق البحر عليهم، وصار موسى إلى التيه.
وجعل بنو إسرائيل يستعجلونه ليدخل إلى الأرض المقدسة، فأوحى الله إلى موسى أنها محرمة عليهم أربعين سنة، فأقاموا في التيه، واشتد بهم العطش، فأوحى الله إلى موسى أن يضرب بعصاه الحجر، فقام موسى مغضبا، فضرب الحجر، فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا لكل سبط عين يشربون منها، فأوحى الله إلى موسى أنك ضربت الحجر قبل أن تقدسني، ولم تذكر اسمي، وأنت أيضاً فلا تخرج من التيه، وأمره أن يبني فيه قبة الزمان، ويجعل فيها الهيكل، ويجعل في الهيكل تابوت السكينة، ويكون هارون كاهن ذلك الهيكل الذي لا يدخله غيره، فجمع غزول نساء بني إسرائيل، فنسجت، وجمع الحلي، وعمل سرادقا طوله مائة ذراع في صدره الهيكل وفي صدر الهيكل تابوت السكينة.
وكان عمله ذلك في السنة الثانية من خروجه من مصر، وجعل فيه مائدة من ذهب، وجعل للقبة أجراس ذهب، وكلل القبة بالجوهر، وجعل فيها مجمرة ذهب للدخنة، وجعل فيها منارة ذهب مكللة بالجوهر، فكان هارون وحده يدخل القبة ويقدس الله، وموسى على الستر، وسائر بني إسرائيل في السرادق. وكانت غمامة تجلل القبة، ولا تبرحها، وأمرهم الله أن يقربوا قربانهم، وقال لموسى: قل لبني إسرائيل يقربون قربانا سليماً من العيوب من البقر والغنم، ويجعلون شحم القربان، على المذبح، وينضحون الدم أيضاً عليه، وما كان من القربان فهو حل لبني هارون خاصة، حرام على غيرهم، ومن أذنب منهم ذنباً، فليقرب قرباناً لله عند المذبح على قدر ما يجد بقراً، أو غنماً، أو شفنينين، أو فرخي حمام.
فأوحى الله عز وجل إلى موسى أن يكتب العشر الآيات في لوحي زمرد، فكتبها على ما أمره الله، وهذه العشر الآيات: قال الله: إني أنا الرب الذي أخرجتك من أرض بيت الرق والعبودية، و لا يكون لك إله آخر دوني، ولا تتخذ تمثالاً، ولا صنماً مشبها بي من فوق السماء، ولا تحت الأرض، ولا تسجد لها، ولا تعبدها من أجل أنا الرب الملك القاهر قاضي ديون الآباء عن الأبناء، نقمي على الثلاث والرباع لمبغضي، وأصنع نعمي لمحبي وحافظ وصيتي إلى ألوف الآلاف من المحبين لي، الحافظين لوصيتي.
لا تحلف باسم الرب كاذبا لأن الله لا يزكي من حلف باسمه كاذباً. واذكر يوم السبت لتطهره، اعمل ستة أيام، واسع في أعمالك كلها، واليوم السابع سبت الرب إلهك لا تعمل فيه شيئاً من الأعمال أنت وابنك وابنتك وعبدك و أمتك ونعمك وبهائمك والساكن في قراك، لأنه في ستة أيام خلق الله السماء و الأرض والنجوم وجميع ما فرع في السماء، فلهذا بارك الله اليوم السابع وطهره.
وأكرم أباك وأمك لتطول أيامك في الأرض التي أعطاكها الرب إلهك. ولا تقتل.
ولا تزن.
ولا تسرق.
ولا تشهد على صاحبك شهادة كاذبة.
ولا تشته بيت صاحبك ولا زوجة صاحبك، ولا عبده، ولا أمته، ولا ثوره، ولا حماره، ولا شيئاً من مال صاحبك.
وصعد موسى طور سيناء فأقام أربعين يوماً، فكتب التوراة، فاستبطأه بنو إسرائيل. فقالوا لهارون: إن موسى قد ذهب، ولا نظنه يرجع، ثم عمدوا إلى حلي نسائهم، فعملوا منها عجلا مجوفا، وكانت الريح تدخله فتخور فيه، فقال الله لموسى: إن بني إسرائيل قد اتخذوا عجلاً وعبدوه من دوني: فدعني أهلكهم. فدعا لهم موسى، وقال يا رب! احفظ فيهم إبراهيم وإسحاق ويعقوب، ولا تشمت بهم أهل مصر.
وهبط موسى من الجبل بعد أربعين يوماً، فلما رأى العجل ورآهم عكوفاً عليه، اشتد غضبه، فألقى الألواح، فكسرها، وأخذ برأس أخيه هارون، فنظر إلى العجل يخور، فكسره وسحقه، حتى صيره كالتراب، وذرأه في الماء، وقال لبني لاوي: جردوا سيوفكم واقتلوا من قدرتم عليه ممن عبد العجل! فجرد بنو لاوي سيوفهم، وقتلوا في ساعة واحدة خلقاً عظيماً، وقال الله لهم: أبيدوا من اتخذ إلها غيري. وأمر الله موسى أن يعد بني إسرائيل، ويجعل على كل سبط رجلاً خيراً، فاضلاً، وكان عددهم ممن بلغ العشرين سنة، فما فوقها إلى الستين، ممن يحمل السلاح: ستمائة ألف وثلاثة آلاف وخمسمائة وخمسين رجلاً، وكان عدة إياهم بعد خروجهم من مصر بسنتين، فكان رئيس بني يهوذا نحشون بن عمينذاب، وعدد من معه من سبطه أربعة وسبعون ألفاً وستمائة رجل.
ورئيس بني يشاجر نثنيل بن صوعر، وعدد من معه أربعة وخمسون ألفاً وأربعمائة رجل.
ورئيس سبط زبلون الياب بن حيلون، وعدد من معه سبعة وخمسون ألفاً وأربعمائة رجل. ورئيس سبط بني روبيل اليصور بن شذياور، وعدد من معه سبعة وأربعون ألفاً وخمسمائة رجل.
ورأس بني شمعون شلوميال بن صوري شذاي، وعدد من معه تسعة وخمسون ألف رجل وثلاثمائة رجل.
ورأس بني كاذ اليسف بن دعوال، وعدد من معه خمسة وأربعون ألفاً وستمائة وخمسون رجلاً.
ورأس بني إفرائيم اليشمع بن عميهوذ، وعدد من معه أربعون ألفاً وخمسمائة رجل. ورأس بني منشا جمليال بن فداصور، وعدد من معه اثنان وثلاثون ألفاً ومائتا رجل. ورأس بني بنيامين أبيذان بن جذعوني، وعدد من معه خمسة وستون ألفاً وأربعمائة رجل. ورأس بني دان أخيعازر بن عميشذاي، وعدد من معه اثنان وثلاثون ألفاً وسبعمائة رجل.
ورأس بني آشر فجعيال بن عنحرن، وعدد من معه أحد وأربعون ألفاً وخمسمائة ورجل. ورأس سبط نفتالي أخيرع بن عينان، وعدد من معه ثلاثة وخمسون ألفاً وأربعمائة رجل. وكان بنو لاوي خدام قبة الزمان وحرسها، فلم يدخلوا معهم، وكانوا مخصوصين بالكرامة والقدس، وخدمة قبة الزمان والتطهير، فهذا عدد بني إسرائيل واسم رئيس كل سبط منهم، وما كان معه من سبط على ما في السفر الرابع من التوراة.
وأمر الله، سبحانه، موسى أن يقول لرؤساء أسباط بني إسرائيل أن يقرب كل عظيم منهم قرباناً فكان قربان، كل رجل منهم صحفة فضة من مائة وثلاثين مثقالاً، ومصفاة فضة من سبعين مثقالاً، وملء الصحفة سميذ ملتوت بدهن، ومدهن ذهب من عشرة مثاقيل مملوءاً طيباً، وثوراً، وكبشاً، وحملاً حولياً، وحولية من المعزى، وكان الذبح الكامل ثورين وخمسة أكبش وخمسة جداء وخمسة حملان حولية.
وأمر الله، عز وجل، موسى أن يقول لبني إسرائيل أن يذبحوا بقرة صفراء مسلمة لا عيب فيها، ثم يأخذ دمها فيرشه على حبال قبة الزمان، ثم يحرقها وجلدها، ثم ليأت رجل آخر، فليجمع الرماد، وليصيره في موضع، فإذا أراد أحد أن يطهر، فليجعل في الماء من ذلك الرماد، فيكون طهوراً.
وأقام موسى وبنو إسرائيل في التيه دهراً، وكان طعامهم المن، وكان المن مثل حب الكسبرة يطحنونه بالأرحاء ويجعلونه أرغفة، فيكون طعامهم طيباً أطيب من كل شيء، وكان ينزل عليهم بالليل، ويجمعونه بالنهار، فضجوا وبكوا، وجعلوا يقولون: من يطعمنا لحماً؟ أما تذكرون ما كنا نأكل بمصر من النون، والقثاء، والبطيخ، والكراث، والبصل، والفوم؟ فاشتد غم موسى لذلك، وجعلوا يقولون: أطعمنا لحماً! فقال موسى: اللهم إني لا أقوى على بني إسرائيل! فأوحى الله إليه أني مطعمكم لحما، فبعث لهم السلوى، وأعلمهم الله أنه يخرجهم إلى الشام، فبعث موسى إلى الشام بيوشع ابن نون وغيره إلى أرض بني كنعان ليأتوه بخبرها، فقالت بنو إسرائيل: لا طاقة لنا بحرب الجبابرة.
وأذن الله لموسى أن ينتقم من أهل مدين، فوجه باثني عشر ألف رجل من بني إسرائيل، فقتلوا جميع أهل مدين، وقتلوا ملوكهم، وكانوا خمسة ملوك، أوى، ورقم، وصور، وحور، وربع، وقتل بلعام بن باعور في الحرب، وكان نبياً، فأشار على ملك مدين أن يوجه بالنساء على عسكر بني إسرائيل، حتى يفسدوهم، فغضب موسى من ذلك، فأمر الله موسى أن يقسم تلك الغنائم بين بني إسرائيل، ويأخذ منهم من كل خمسين واحدا، فيجعله لله يدفعه إلى ولد هارون، ثم أمره الله أن يوجه بني إسرائيل إلى الشام يقاتلون من بها، فوجه جيشاً عظيماً، فجعلوا يسيرون قليلاً قليلاً، وينزلون، ويقولون: إنا نخاف الجبارين فأقاموا بجبل ساعير، فقال الله تعالى لموسى: إن بني إسرائيل عصوا أمري، فليشتروا الطعام بالثمن، وليخضعوا الآن لمن كان يخضع لهم.
وكان ذلك بعد أن قتل موسى سيحون ملك الأموري واستباح أرضه.
ولما كان في سنة الأربعين من مقامهم في التيه، وهي برية سينا، أوحى الله إلى موسى: إني قابض هارون إلي، فاصعد به الجبل لتأتي ملائكتي فتقبض روحه! فأخذ موسى بيد هارون أخيه، فلما صعد به الجبل لم يكن معه إلا اليعازر بن هارون، فلما صار على الجبل إذ سرير عليه ثياب، فقال له موسى: البس يا أخي هذه الثياب المطهرة، التي أعدها الله لك، لتلقاه فيها، فلبسها هارون، ثم تمدد على السرير فمات، وصلى عليه موسى. فلما لم ير بنو إسرائيل هارون. ضجوا، وقالوا: أين هارون؟ قال لهم موسى: قبضه الله إليه، فاضطربوا.
وكان هارون محبباً فيهم، لين الجانب لهم، فرفعه الله لهم على السرير، حتى رأوا وجهه، فعلموا أنه قد مات، وكانت سنو هارون يومئذ مائة وثلاثاً وعشرين سنة، وكان له من الولد أربعة: نادب، وأليهو، واليعازر، وإيتمر، وتوفي في حياته نادب، وأليهو، وبقي اليعازر، وإيتمر.
وصار اليعازر مكان هارون يقدس في قبة الزمان. ودعا موسى يوشع بن نون. وقال له: بين يدي بني إسرائيل سر، وشد قلبك فإنك تدخل ببني إسرائيل إلى أرض بني كنعان التي ورثهم الله، وهذه التوراة ادفعها إلى كهنة بني لاوي، الذين كانوا يقومون بتابوت السكينة، ووقروا مقام الله.
واحفظوا وصاياه، التي بينها لكم في التوراة، وأوصاهم أن يتبعوا ما فيها، وبرك عليهم. وكان مما أوصى الله عز وجل به لبني إسرائيل على لسان موسى أن قال لهم: اذكروا اليوم الذي قمتم فيه قدام الله إذ قال الله لي: اجمع هذا الشعب قدامي، فأسمعهم كلامي ليخشوني أيام حياتهم، فقمتم في أسفل الجبل، والجبل يتوقد ناراً إلى قلب السماء، وكلمني الله من جوف النار، فسمعتم الصوت، ولم تروا الشبه، وأوصاكم الله أن تتعلموا العشر الآيات. وأوصاني أن أعلمكم السنن والقضاء، فتعملوا بذلك في الأرض التي تصيرون إليها، فاحتفظوا بأنفسكم ولا تصنعوا أصناما مما يشبه ذكرا، ولا أنثى، ولا شيئاً مما يدب على الأرض، ولا مما يكون في البحر، ولا ترفعوا رؤوسكم إلى السماء فتعبدوا النجوم! إن الله قد أقسم لا أدخل الأرض الصالحة، فأنا ميت بهذه الأرض، ولست أعبر الأردن، ولكنكم ستعبرون وتصيرون إلى الأرض الصالحة، التي جعلها الله لكم ميراثاً، فلا تضلوا ميثاق الله ربكم الذي واثقكم به، فتصنعوا الأصنام، ولا تعملوا أعمال السوء قدام إلهكم لو قد صرتم إلى الأرض الصالحة، فتوشكوا، إن عصيتم أن تهلكوا، وتفرقوا بين الشعوب، وإن عبدتم ما تعمله أيدي البشر من خشب وحجارة لا يبصرون، وتدعون، فلا يسمع لكم دعاء، إن الله الرحيم بكم يسمع أصواتكم، وإن من سمع من الله مثل الذي سمعتم، ورأى مثل الذي رأيتم، لا ينبغي أن يعصي الله، لقد رأيتم ما صنع الله بأهل مصر، وأنتم تنظرون، فإن الله هو الرب الذي ليس غيره، الذي بصركم ناره، وأسمعكم صوته، وأحب آباءكم فاجتبى خلوفهم، وأهلك لكم قوماً كانوا أعظم وأشد منكم، وإن الله سيدخلكم الأرض الصالحة، ويجعلها ميراثاً لكم، فاحفظوا سننه التي أوصاكم بها وأمركم بها ليحسن إليكم وإلى خلفكم من بعدكم، ويكثر أيامكم في الأرض، اقبلوا وصية الله التي أمركم بها لا تزيغوا عنها يميناً ولا شمالاً، واسلكوا كل طريق أوصاكم بها ربكم ليحسن إليكم. أحبوا الله من كل قلوبكم ومن همكم ومالكم، وقصوهن على أولادكم، وأتموها، واتلوها في بيوتكم، اجعلوها علامة بين أعينكم، واكتبوها في منازلكم، إن الله سيعطيكم قرى عظاماً لم تبنوها، وبيوتاً مملوءة من الخير لم تملأوها، وآباراً مطوية لم تحفروها، وكروماً، وزيتوناً لم تغرسوها، فلا تنسوا الله، واخشوه، واعبدوه، واحلفوا باسمه، ولا تتبعوا إلهاً آخر.
احذروا غضب الله الذي يبيدكم عن وجه الأرض، ولا تخونوا الله، واقبلوا أمره، واعملوا خيراً وصدقاً.
اذكروا إذ كنتم عبيدا لفرعون، فأخرجكم الله بيد شديدة، وآيات معجزات عظام ساقت فرعون وأصحابه إلى الهلكة، وأنتم تنظرون.
إن الله يقول لكم سأعطيكم البلاد الصالحة وأقدركم على الأمم التي بين أيديكم، وأظفركم بالجبارين، والجرشيين، والأموريين، والكنعانيين، والفرازيين، والحوبيين، والنابلسيين، هؤلاء السبع الأمم الذين هم أكثر منكم وأشد، فإذا ظفركم الله بهم، فاضربوهم، وارجموهم، ولا ترحموهم، ولا تعطوهم ميثاقاً، ولا تنكحوهم بناتكم لكيلا يكونوا لكم عثرة، فيزيغون أولادكم عني، فيعبدون إلها غيري، فيشتد عليكم غضبي، فأبيدكم عاجلاً، ولكن اكسروا أصنامهم، واعقروا مذابحهم، واهدموا أنساكهم، وأوقدوها! إنكم إن سمعتم وصيتي، وعملتم بقضاياي، فسأحفظ لكم نعمكم والميثاق الذي واثقت آباءكم، وأكثركم، وأثمر زرعكم وماشيتكم.
اجعلوا لله نصيباً في أموالكم، فواسوا منه اليتيم، والأرملة، والمسكين، والضعيف، والساكن معكم الذي لا زرع له.
إذا قضيتم بين اثنين، فاعدلوا، ولا تأخذوا الرشا، فإن الرشوة تعمي عيون الحكام، ولا تغرسوا شجرة عند مذبح، ولا تذبحوا قربانا فيه عيب من ثور ولا كبش، واقتلوا من يعمل الأصنام التي تعبد من دون الله، وإذا بلغكم أن أحداً يسجد للشمس والقمر والنجوم، أو شيء من الأنوار، فافحصوا عنه، فإذا علمتم صحته، فارجموه بالحجارة حتى يموت. ولا تقبلوا في الأحكام الموجبة للقتل شهادة واحد، ولكن شهادة شاهدين، أو ثلاثة، وإذا شهد الشهود على من يجب عليه القتل، فليبد الشهود فليبسطوا أيديهم إلى الذي يقتل، فإذا أشكل عليكم الحكم، فارجعوا إلى الأحبار والكهان.
ومن قتل رجلا خطأ، ولم يرده، فليفر من ولي الدم حتى لا يدركه. ولا تسفكوا دم بريء، أيما رجل قتل رجلاً بريئاً تعمداً، فليقتل، ولا تقتلوا أحداً حتى تقوم عليه شهادة عند الحبر، والقاضي، فإن وقف القاضي على أن أحدا شهد بزور فعل بالشاهد ما أراد أن يفعله بالمشهود عليه، والنفس بالنفس، والعين بالعين، واليد باليد، والرجل بالرجل.
وإذا أردتم قتال قوم فأتيتم قريتهم، فأدعوهم إلى السلم، فإن أجابوكم، فاجعلوا عليهم ضريبة، فإن لم يسلموا قتلتم كل من يحمل السلاح، و لا تفسدوا شجرها.
وقال الله عز وجل لموسى: إذا خرجت لقتال عدوك، فأمكنك الله منهم، فرأيت في السبي امرأة، وأحببت أن تتخذها لنفسك، فأدخلها إلى بيتك، واكشف عن رأسها، وقص أظفارها، وانزع عنها ثيابها التي سبيت فيها، وأقعدها في بيتك ثلاثة أشهر تبكي على أبيها وأمها، ثم استحلها، فإن كرهتها بعد أن تمسها، فأخرجها، ولا تبعها، ولا تأخذ لها ثمنا بعد أن وقعت عليها.
وأيما ابن عصى أباه، ولم يطعه، ولم يقبل أمره، فليخرجه أبوه إلى شيوخ سبعة، فيرجموه حتى يذهب الشر والفظيعة منكم، ويحذر أمثاله من بني إسرائيل.
وإذا وجد أحد منكم ضالة قد ضلت من صاحبها من نعجة، أو ثور، أو حمار، فليردها على صاحبها، فإن لم يجده، فليحبسها في بيته حتى يحضر صاحبها.
ولا تلبسوا ثوباً منسوجاً بقطن وصوف جميعاً، واصنعوا خيوطاً في أطراف أكسيتكم.
وأيما رجل قذف امرأته ورماها بفجور، فلم يصح عليها، فليغرم مائة درهم، وتكون امرأته آخر الدهر، وإن كان ما قذفها به حقاً، فلترجم، وأيما رجل وجد يزني بامرأة لها زوج فليقتلا كلاهما.
وأيما رجل غلب امرأة على نفسها، فليقتل الرجل، وأي رجل وقع على جارية تكون في حجر أبيها، فافتضها، وأحبها، فليعط أباها خمسين مثقالاً فضة، ولتكن امرأته آخر الدهر، ولا يخل سبيلها.
ولا يحل لرجل أن يمس امرأة قد مسها أبوه، ولا ينظر إلى عورتها، ولا يدخل الرجل الجنب مسجداً من مساجد الله ولا تأكلوا ربا لفضة، ولا ذهب، وإذا نذرتم نذراً، فلا تؤخروا قضاءه، وأوفوا بالعهد، إذا عاهدتم، ولا تنقضوا العهد، فإن الله يحب من وفى بعهده.
اعتزلوا من كان به برص، وتباعدوا منه، ولا تحبسوا أجر الأجير، ولا تأخذوا أبا بذنب ابنه، ولا ابنا بذنب أبيه، وأدوا زكاة أموالكم وثمراتكم إلى الحبر قرباناً، وأعطوا الفقراء، والأرامل، واليتامى، والمساكين، وبني السبيل.
وإذا دخلتم الأرض الصالحة، فاعملوا مذبحاً للقدس من حجارة مستوية، فليقل أحبار بني إسرائيل: ملعون من يضل الأعمى عن الطريق.
ملعون من يحيف في القضاء على المساكين، واليتيم، والأرملة.
ملعون من يضاجع امرأة أبيه.
ملعون من يضاجع دابة.
ملعون من يضاجع أخته وأمه.
ملعون من يضاجع أم امرأته.
ملعون من يأكل لحم أخيه سراً.
ملعون من يأخذ رشوة في قتل نفس زكية ظلماً.
ملعون كل من لم يعمل بوصية الله.
ثم قال لهم موسى: قد بلغتكم وصايا الله، وعرفتكم أمره، فاتبعوا ذلك، واعملوا به، فقد أتت لي مائة وعشرون سنة، وقد حانت وفاتي، وهذا يوشع ابن نون القيم فيكم بعدي، فاسمعوا له وأطيعوا أمره، فإنه يقضي بينكم بالحق، وملعون من خالفه وعصاه.
وكانت بين وفاة هارون إلى أن حضرت موسى الوفاة سبعة أشهر، ثم صعد موسى إلى جبل نابون، فنظر إلى الشام، وقال الله له: هذه الأرض التي ضمنت لإبراهيم وإسحاق ويعقوب أن أعطيها خلفهم، و قد أريتكها بعينك، ولكنك لن تدخلها! فمات موسى في ذلك الموضع، فقبره يوشع بن نون، ولم يدر أين قبره.
أنبياء بني إسرائيل وملوكهم بعد موسىوكان موسى لما حضرته وفاته أمره الله، عز وجل، أن يدخل يوشع بن نون، وكان يوشع بن نون من شعب يوسف بن يعقوب، إلى قبة الزمان، فيقدس عليه، ويضع يده على جسده لتتحول فيه بركته، ويوصيه أن يقوم بعده في بني إسرائيل، ففعل موسى ذلك، فلما مات موسى قام يوشع بعده في بني إسرائيل، ثم خرج من التيه بعد وفاة موسى بيوم، وقال بعض أهل الكتاب: ثلاثين يوماً، وصار إلى الشام، و فيها الجبابرة، ولد عمليق بن لاود بن سام بن نوح، وكان أول من ملك منهم السميدع بن هوبر، فصار من أرض تهامة إلى الشام يريد غزو بني إسرائيل، فوجه إليه يوشع بن نون من قتله، ثم قام بعده من بني أبيه جماعة، فقتلهم يوشع.
وسار يوشع حتى انتهى إلى البلقاء، فلقي رجلا يقال له بالق، وبه سميت البلقاء، فجعلوا يخرجون يقاتلونه، فلا يقتل منهم رجلا واحدا، فسأل عن ذلك: فقيل له: إن في مدينته امرأة منجمة تستقبل الشمس بفرجها: ثم تحسب، فإذا فرغت عرضت عليها الحيل، فلا يخرج يومئذ من حضر أجله، فصلى يوشع ركعتين، ثم دعا أن يؤخر الله الشمس ساعة، فأخرت له ساعة، فاختلط عليها حسابها، فقالت لبالق: انظر ما كانوا يسألونك، فأعطهم، فإن حسابي قد اختلط على! قال: تصفحي آلتك، واخرجي منها، فإنه لا يكون صلح إلا بقتال! فتصفحت الحيل على غير علم منها لاختلاط الأمر عليها، فقتلوا قتلة لم يقتلها قوم، فسألوا يوشع الصلح، فأبى عليهم، حتى يدفعوا إليه المرأة، فقال بالق: لا أدفعها! فقالت: ادفعني إليه! فدفعها إليه، وصالح، فقالت له: هل تجد فيما أنزل على صاحبك قتل النساء؟ قال لا! قالت: فإني قد دخلت في دينك. قال: فاسكني في مدينة أخرى فأنزلها مدينة أخرى.
ولما افتتح يوشع بن نون البلقاء أكثر بنو إسرائيل الزنا، وشرب الخمور، ووقعوا على النساء، وكثرت فيهم الفاحشة، فعظم ذلك على يوشع بن نون وخوفهم الله، وحذرهم سطوته، فلم يحذروا، فأوحى الله، عز وجل، إلى يوشع بن نون: إن شئت سلطت عليهم عدوهم، وإن شئت أهلكتهم بالسنين، وإن شئت بموت حثيث عجلان. فقال: هم بنو إسرائيل، ولا أحب أن تسلط عليهم عدوهم، ولا يهلكوا بالسنين، ولكن بموت حثيث. فوقع فيهم الطاعون فمات في وقت واحد سبعون ألفاً.
وكانت أيام يوشع في بني إسرائيل، بعد موسى بن عمران، سبعاً وعشرين سنة.
ثم كان على بني إسرائيل بعد يوشع بن نون دوشان الكفري، فلبث فيهم ثماني سنين، ثم كان بعد دوشان عثنايل بن قنز، أخي كالب، من سبط يهوذا ابن يعقوب، أربعين سنة، وقد كان كثر ظلم بني إسرائيل وعتوهم، فسلط الله عليهم كوشان جبار مؤاب، فلما ملك عثنايل قتل كوش، وملك أربعين سنة.
ثم ارتدت بنو إسرائيل إلى الكفر، فسلط الله عليهم عقلون ملك مؤاب، خمس عشرة سنة، ثم تابوا، فبعث الله لهم رجلا يقال له أهود بن جيرا، من سبط إفرائيم، فقتل عقلون ملك مؤاب، وكان يقاتل بشماله ويمينه، فسموه ذا اليمينين، وهو أول من طبع السيوف ذوات الحدين، وكانت قبله ذوات أقفية، وفي زمانه بنيت البنية بالشام، وفي خمس وعشرين سنة من ملك أهود تم الألف الرابع.
ثم ارتدت بنو إسرائيل بعد أهود، فسلط الله عليهم يابين ملك كنعان، عشرين سنة، وكان سمحر بن عانات قد ملك على بني إسرائيل قبل، فقتل من أهل فلسطين ستمائة رجل، ثم إن الله رحمهم، فبعث إليهم رجلاً يقال له بارق بن أبينعم، من سبط نفتالي، فملكهم أربعين سنة.
ثم ارتدت بنو إسرائيل إلى الكفر، فسلط الله عليهم أهل مدين سبع سنين، ثم إن الله تعالى رحمهم، فبعث إليهم رجلا يقال له جدعان بن يواس، من سبط منشى، وكان صالحاً، وهو الذي بيت أهل مدين، فقتل منهم مائتي ألف وخمسة وثمانين ألفاً، وملكهم أربعين سنة، ثم ملك بعده ابنه ابيملك بن جدعون، وكان ابن سوء، وهو الذي قتل سبعين أخا كانوا له، فقتلته امرأة، ورمته بحجر من فوق باب المدينة، فشدخته، وكان ملكه ثلاث سنين.
ثم ملك تالع بن فواي، من سبط يشاجر، فأقام ثلاثاً وعشرين سنة، ثم ملك جلعاد من سبط منشى، وكان له ثلاثون ابناً يركبون معه على ثلاثين مهراً، وكان ملكه اثنتين وعشرين سنة، ثم ارتدت بنو إسرائيل إلى الكفر، فسلط الله عليهم بني عمون، سبع عشرة سنة، وفي زمانه بنيت مدينة صور بالشام، وسامهم سوء العذاب.
ثم إن الله تعالى رحمهم، فبعث لهم رجلاً من أهل جلعاد اسمه يفتح، فقتل من بني إسرائيل من آل إفرائيم اثنين وأربعين ألفاً، وكان من سبط منشى، وكان ملكه ست سنين، ثم كان عليهم أبيصان الذي يدعى نخشون، سبع سنين، ثم كان عليهم إيلان، من سبط زبولون، عشرين سنة، ثم كان عليهم عكران ثماني سنين، ثم كان عليهم الانكساس، فسامهم سوء العذاب، وسلط عليهم أشد التسليط، أربعين سنة، ثم كان عليهم شمسون عشرين سنة، ثم لبثوا ليس عليهم أحد اثنتي عشرة سنة، ثم كان عليهم عالي الأحباري أربعين سنة.
ثم كان عليهم شمويل النبي، وهو الذي ذكره الله تعالى إذ قالوا لنبي لهم: ابعث لنا ملكاً نقاتل في سبيل الله، فلما قالوا لشمويل النبي: سل الله أن يبعث لنا ملكاً حتى يقاتل عدوه، وقال: إنه لا وفاء لكم، ولا صدق نية، وقالوا: بلى! قال: فإن الله قد بعث لكم طالوت ملكاً، واسمه شاول، قالوا: والله ما هو من سبط الملك والنبوة، ما هو من ولد لاوي، ولا يهوذا، وإنما هو من سبط بنيامين. قال شمويل: فليس لكم أن تختاروا على الله، فدعا شمويل شاول، وهو طالوت، فقال له: إن الرب أمرني أن أبعثك ملكاً على بني إسرائيل، والله يأمرك أن تنتقم من عمليق، فأهلك عمليق وكل ما له، ولا تبق له شيئاً من رجل، ولا امرأة، ولا صبي رضيع، ولا عجل، ولا شاة، ولا بعير، ولا حمار.
وأوصى الجماعة كلها بهذا، وكان عددهم أربعمائة ألف مقاتل، فأقبل شاول إلى عمليق، فقتل أصحاب عمليق، وأسر أغاغ ملك العمالقة، فأخذه حيا، فاستبقاه، وامتنعوا من إتلاف شيء من البقر، والغنم، وأبقوا لأنفسهم، فأوحى الله تعالى إلى شمويل: أن شاول عصاني، ولم يهلك عمليق، وكل ما حواه ملكه. فقال شمويل لشاول: إن الله قد غضب من فعلك! فدعا شاول باغاغ، فقال: ما أمر الموت؟ قال: الذبح! فذبحه، ثم قال شاول لشمويل: امض معي لنسجد بين يدي الله تعالى، فامتنع، فأمسك رداء شمويل فخرقه، فقال شمويل: كذا ينخرق ملكك.
وارتفعت النصرة عن شاول، ودخلته ريح سوء، وكان يضطرب، ويتغير لونه، فقال له أصحابه: لو أتيت بإنسان حسن الصوت، من الشعارير، يقرأ عليك، إذا دخلتك هذه الريح السوء! فأرسل إلى إيشا: ابعث إلى داود ابنك، فبعث به إليه، فكان إذا خنق شاول أخذ داود قيثارة بيده، وتكلم عليها، فيذهب عنه الريح السوء. ثم اجتمع الحنفاء الذين كانوا في وقت شاول، فقاتلهم، وهم عبدة النجوم، وخرج إليهم شاول في جموعه، فخرج منهم رجل طوله خمس أذرع يقال له غلياث، وهو جالوت، فقال: يبرز لي منكم رجل واحد، فقال داود لشاول: أنا أبرز إليه! فقال لداود: انطلق، والرب يكون معك! فأخذ عصا وخمسة أحجار، وخرج إلى غلياث، فلما رآه احتقره، فقال له: إلى كلب خرجت بعصا وحجر؟ فقال له: إلى أشد من الكلب، ثم أخذ حجراً من مخلاته ورماه به حتى غاب الحجر في جبهة جالوت، وسقط، فسعى إليه داود، فأخذ سيفه، وحز رأسه، وأخذ راجعاً، فانهزم عسكر غلياث، واشتد سرور بني يهوذا، فاغتم شاول وحسد داود، فطرده عنه، وصيره رئيسا على ألف، ونفاه بمكان بني يهوذا، وتزوج ميخل بنت شاول.
وكان شاول يريد قتل داود، فكان يوجهه يقاتل الحنفاء عبدة النجوم، فيفتح الله عليه، فهم أن يقتله بغير حيلة، فهرب داود، فجاء إلى شمويل النبي، فخبره بخبر شاول، ولم يزل شاول يحاول قتل داود حتى هرب، فمر باخيش ملك جات، فلما رآه عرفه، فتحيل عليه داود حتى أطلقه، فصار إلى سارع، فنزلها. ولما علم شاول أنه قد فاته قتل الكهنة الذين كانوا يقدسون، وقال: قد علمتم به ولم تخبروني، ثم خرج شاول في طلب داود، حتى أدركه، فدخل داود مغارة، فلما صار شاول عند المغارة نزل لحاجته، فدخل المغارة، وهو لا يعلم أن داود فيها، فقام داود، فتوارى، فقال له أصحابه: يا داود أقتله! فقد أمكنك الله منه. قال: ما كنت لأفعل.
وتوفي شمويل النبي، فاجتمعت بنو إسرائيل، وأعظموا ذلك، وناحوا عليه ثلاثين يوماً. وخرج شاول يقاتل الحنفاء، والتحم القتال بينهم، فهزموا بني إسرائيل، وقتل منهم خلق عظيم، وكان داود بن إيشا يقاتل العماليق مع قومه من ولد يهوذا، فلما انهزم عن شاول جميع بني إسرائيل، قام هو وولده يحارب، ثم قال لصاحبه الذي يحمل سلاحه: خذ سيفك فاقتلني به لئلا يقتلني هؤلاء القلف، و يلعبوا بي، فلم يفعل، فأخذ شاول سيفه، فأقامه، ثم ألقى نفسه عليه، فمات، وقتل أولاده الثلاثة، وكان ملك شاول أربعين سنة.
داود
ولما مات شاول، وهو طالوت، انصرف داود من قتال عمليق إلى سقلاغ، فأقام بها يومين، ثم أتاه الخبر بموت شاول، فحزن لذلك، وأظهر جزعاً، وملك داود على بني يهوذا، وكان لداود عدة نسوة قد ولدن منه أولاداً، فكان أكبر أولاده: أمنون، وأمه شيتموم، والثاني دالويا بن إربيخايل، والثالث أباشلوم بن موخا، والرابع أرنيا بن دحات، والخامس سفاطيا بن ابيطال، والسادس ناتان بن اغلا، فهؤلاء الستة من ست نسوة، و لم تلد ميخل بنت شاول، فهربت من داود إلى أصحاب شاول.
واجتمعت بنو إسرائيل من الأسباط على تمليك داود، فملكوه بعد سبع سنين ملكها على بني يهوذا خاصة، إلى أن ملكته جميع أسباط بني إسرائيل. ونزل داود مدينة صيون، وهي بيت المقدس، وبنى بها منزلاً، وتزوج النساء، فولد له بعد أن ملك: سمون، وسوباب، ونوتان، وسلامان، ويابار، واليشوس، ونافاق، ويافيا، واليشماس، والسنايا، واليفلات، فكثر أولاد داود، وعز ملكه، وأعظمته بنو إسرائيل.
وسمع الحنفاء أن داود قد ملك على بني إسرائيل، واجتمعوا لقتاله، فقاتلهم داود، فقتل فيهم قتلا كثيراً، حتى أبادهم، فلما فرغ من قتالهم حمل تابوت السكينة على عجل، حتى أدخله مدينة بيت المقدس، وصنع طعاماً لبني إسرائيل، لرجالهم ونسائهم.
وكان في ذلك العصر ناتان النبي، فأوحى الله إلى ناتان: قل لعبدي داود: ابن لي بيتاً، فقد ملكتك على بني إسرائيل، بعد أن كنت في صيرة الغنم، و قتلت أعداءك، فقال ناتان النبي لداود، فعظم في قلب داود، ويقال: إن ناتان كان ابن داود.
وقاتل داود الحنفاء فهزمهم، وقاتل أهل مؤاب وهزمهم، وقاتل اددازار ملك سوبا فهزمه، وأخذ له ألف مركب وسبعة آلاف من الخيل.
واجتمع أهل الشام ودمشق مع اددازار ليقاتلوا داود، فقتل منهم اثنين وعشرين ألفا، واستحوذ على الأرض، فكان أهل الشأم جميعاً عبيداً له، ثم اجتمعوا جميعاً على محاربة داود، فوجه إليهم يؤاب ابن أخته، وابيشا أخاه، ثم خرج داود حتى عبر نهر الأردن، فقتل من القوم أربعين ألفاً، وقتل أشان رأس القوم ثم وجه يؤاب ابن أخته لقتال بني عمون إلى أسافل الشأم، ورجع إلى بيت المقدس، فقام يمشي على سطح له إذ نظر إلى برسبا بنت إليات، امرأة أوريا بن حنان الشطي، فسأل عنها، فأخبر بحالها، وأنها امرأة أوريا بن حنان، فوقعت في قلبه، فأرسل إلى أوريا بن حنان، فأقدمه عليه، ثم كتب إلى يؤاب ابن أخته أن قدم أوريا أمام الخيل يحارب، فقدمه يؤاب، فقاتل، فقتل.
وأرسل داود إلى امرأته، فتزوجها وأحبلها، فأرسل الله إليه الملكين، على ما قص في كتابه جل وعز، وأرسل إليه ناتان النبي فقال له، يا داود، ألم يأمرك الله أن تعدل في القضاء، وتحكم بالحق، ولا تتبع الهوى؟ قال: بلى! قال: فهذان رجلان يسكنان مدينة واحدة أحدهما غني والآخر فقير، وكان للغني مواش وبقر كثيرة، ولم يكن للفقير شيء إلا رخلة واحدة صغيرة رباها، فشبت معه ومع أولاده، فكانت تأكل من طعامه، وتشرب من كأسه، وتنام في حجره. ونزل بالغني ضيف، فلم يأخذ من بقره وغنمه شيئاً، وأخذ رخلة الفقير، فهيأها لضيفه، فغضب داود، وقال: أهل أن يموت، ويغرم بتلك الرخلة سبعة أضعاف. فقال ناتان النبي لداود: أنت الرجل الذي فعلت هذا! إن الرب إلهك يقول لك: أنا الذي جعلتك ملكاً على بني إسرائيل، بعد أن كنت راعي غنم، وأنقذتك من يدي شاول، وأعطيتك بيت إسرائيل، وبيت يهوذا، ففعلت هذا، فلأنتقمن منك بشر ولدك، ولأسلطنه عليك وعلى نسائك! فعظم ذلك على داود، فقال له ناتان: إن الله قد تجاوز عن سبيلك، فلن تموت، ولكنه ينتقم منك بشر بنيك، وأعلمه الله أن ولده الذي ولدته المرأة يموت، فجزع داود، واشتد جزعه، واشتكى الصبي، فلما اشتدت علته صام وقام ليصلي ويبكي، ويتمرغ بالشعر على الأرض، فلما توفي الصبي أعظم خول داود أن يخبروه بذلك، حتى سمع بوشوشتهم، فعلم، فغسل وجهه، ولبس ثيابه، وجلس في مجلسه، ودعا بطعامه، وقال: إنما كنت أحزن قبل أن يهلك: فأما الساعة، فإن حزني لا يرده إلي بل أنا أذهب إليه. ثم واقع برسبا، فحملت غلاماً، فسماه سليمان.
ثم إن أبيشالوم بن داود قتل أخاه أمنون، وذلك أنه اتهمه بأخت له من أمه، فقتله، وخرج على داود، وكان أبيشالوم عظيم الجسم، كثير الشعر، فبعث إليه داود من رده حتى رجع، ثم خرج عليه ثانية، فهرب منه داود ماشياً على رجليه، حتى صعد عقبة طور سينا، وبلغ منه الجوع حتى لحقه رجل معه خبز وزيت، فأكل منه، ودخل أبيشالوم مدينة أبيه، وصار إلى داره وأخذ سراري أبيه، فوطئهن، وقال: ملكني الله على بني إسرائيل، وخرج ومعه اثنا عشر ألفاً، فطلب داود ليقتله، فهرب داود حتى جاز نهر الأردن، فلما جاز اجتمع إليه جماعة من أصحابه ولفيف من القرى، فوجه يؤاب ولده ليحارب أبيشالوم، وقال له: خذه لي حياً صحيحاً! فخرجوا، وحاربوه، وكان أبيشالوم على بغل، فدخل تحت شجرة بطم، فتعلق بها، فاندقت عنقه، ورماه يؤاب بثلاثة أسهم، وطرحه في جب، فلما أتى داود الخبر جزع عليه جزعاً شديداً، ورجع داود إلى موضعه.
وخرج على داود بعد ذلك أزلا، ومعه جبابرة، فحاربهم، فقتلهم، فلما قتلهم، وأنقذه الله منهم، قام يقدس الله ويسبحه، فقال في تقديسه: إياك يا رب أعبد، ولك أخلص محبتي، فإنك قوتي وعدتي، وملجأي و مخلصي، بعد أن أحاطت بي سكرات الموت، وقربت مني، واحتوت على أحداث الهلكة، فدعوتك في ضيقي واستعنت بك يا إلهي، فسمعت صوتي فاستنقذتني من الذين اعتوروني واضطهدوني، وكنت ناصري، فأخرجتني من الضيق إلى الفرج، فما أعدلك يا رب، وأنصرك للمتوكلين عليك، لأنه لا رب غيرك، فألهمني القوة، وبصرني طريق الرشد، وثبت قدمي بين يديك، وشدد ساعدي، ولا تقدر على أعدائي، وهب لي طاعة بني إسرائيل، وصيرهم خولاً خاضعين، وألهمني شكرك.
وكان داود إذا سبح الله بهذا الكلام رفع صوتاً حسناً لم يسمع مثله، وكان إذا قرأ الزبور قال: طوبى لرجل في سبيل الأثمة لم يسلك، وفي مجالس المستهزئين لم يجلس، ولكن هواه سنة الله، وبسننه تعلم الليل والنهار، يكون كشجرة غرست على شط الماء، تؤتي أكلها كل حين، ولا يتناثر ورقها، وليس كذلك المنافقون في القضاء، ولا الخاطئون في مجمع الأبرار، من أجل أن الله يعلم سبيل الأبرار وسبيل الأئمة يبطل.
ثم يقول: سبح لله من في السماء، وليسبحه من في العلى، ولتسبحه ملائكته كلها، ولتسبحه جنوده كلها، ولتسبح له الشمس والقمر، ولتسبح له الكواكب والنور، وليسبح لاسم ربنا الماء الذي فوق السماء، وذلك بأنه قال لكل شيء: كن فكان، وهو خلق كل شيء وبرأه، وجعلهن دائمات الأبد، وقدر كل شيء منهن تقديراً، وجعل لهن حداً ومنتهى لا يجاوزنه، فليسبح الله من في الأرض، والنار، والبرد، والثلج، والجليد، فإنه خلق الريح العاصف بكلمته.
سبحوا الله تسبيحاً حديثاً في مسجد الصديقين، وليفرح إسرائيل بخالقه، وأن بني صيون يكبرون ربكم، ويسبحون اسمه بالدف، والطبل، والكبر، يكبرونه من أجل أن يسر الله بشريعته، ويعطي المساكين النصر، ليشيد الصديقون بالكرامة، ويسبحون على أسرتهم، ويكبرون الله على حناجرهم، وسيف ذو شفيرتين بأيديهم، لينتصروا على الشعوب ويتعظ الأمم فيوثقوا ملوكهم في القيود، وذوي الكرامة بسلاسل من حديد، ليفعل بهم القضاء الذي كتب، والحمد لله لكل الصديقين.
سبحوه في مقدسة، سبحوه في سماء عزته، سبحوه بحوله وقوته، سبحوه بعظمته، سبحوه بصوت العزف، سبحوه بالقيتار والكبر، سبحوه بالبرابط والزمر، سبحوه بالأوتار والكبر الطويل الخليلات، سبحوه في صلاصل السمع، سبحوه بالأصوات العلى والنداء، سبحوا ربنا تسبيحاً خالصاً، كل نفس بنفس. ثم يقول داود في آخر الزبور: إني كنت آخر إخوتي وعبد بيت أبي، وكنت راعي غنم أبي، ويدي تعمل الكبر، وأصابعي تقص المزامير، فمن ذا الذي حدث ربي عني؟ هو ربي، وهو الذي سمع مني وأرسل إلى ملائكته فأنزعني من غنم إخوتي، هم أكبر مني وأحسن، فلم يرضهم ربي، فبعثني للقاء جنود جالوت، فلما رأيته يعبد أصنامه أعطاني النصر عليه، فأخذت سيفه، فقطعت رأسه.
ثم إن بني إسرائيل وقعوا في داود، فاشتد غضب الله عليهم، فأمر الله داود أن يحصي عدد بني إسرائيل، فأحصاهم، فوجدهم ثماني مائة ألف رجل بطل، وعدد بني يهوذا خمسمائة ألف رجل، فبعث الله حيرام النبي إلى داود، وقال له: قل لداود اختر واحدة من ثلاث: إما أن يكون جوع سبع سنين، وإما أن تدفع إلى أعدائك فيعزونك ثلاثة أشهر، ويطرحونك من سلطانك، وإما أن يكون موت شديد ثلاثة أيام؟ فضاق داود لذلك، وقال: ربنا أولى بنا من خلقه! فسلط الله عليهم الموت، فمات في ساعة واحدة سبعون ألف رجل، فقال داود: يا رب! إني أنا أسأت، فما ذنب هؤلاء الذين يشبهون البهائم؟ فأوحى الله إليه: أن ابن لي هيكلاً في بيدر اليبوساني، فصعد داود الجبل، حتى اشترى البيدر بخمسين أستاراً، وابتنى هناك مذبحا، فكف الموت عن بني إسرائيل.
وكان داود قد أسن وضعف بدنه، وكان له ابن يقال له أدونياس، فاستمال يؤاب صاحب حروب داود وقوماً من قواد داود، وقال لهم: قد كبر الملك داود، وأنا أولى أن أقوم مقامه، فلما بلغ داود ذلك أرسل إلى سادوق الكاهن وناتان النبي، وقال لهم: أجمعوا أهل المملكة، واحملوا سليمان ابني على بغلتي، وأجلسوه على منبري، فقد جعله الله رأساً على بني إسرائيل، والله يعظم ملكه، ويرفع شأنه! فمضوا مع سليمان حتى علا منبر داود، واجتمع عليه أهل المملكة، فقال داود: هكذا أعلمني الله أن يملك سليمان ابني، وعيناي تنظران إليه، وكان سليمان يومئذ ابن اثنتي عشرة سنة.
ثم اشتدت على داود علته، فأوصى سليمان، وقال: أنا ماض في سبيل كل أهل الأرض، لا ثمان، فاعمل بوصايا الرب إلهك، واحفظ مواثيقه وعهوده ووصاياه التي في التوراة المنزلة على موسى بن عمران، ومات داود وله مائة وعشرون سنة، وكان ملكه أربعين سنة.
سليمان بن داودولما قبض الله، عز وجل، داود قام مكانه سليمان نبياً، وملكاً، فسخر الله له الجن والإنس، والرياح والسحاب، والطير والسباع، وآتاه ملكاً عظيماً، كما قص في كتابه العزيز.
ومال يؤاب صاحب حروب داود، وقوم من أصحابه، مع أخوه سليمان، ليفسدوا على سليمان ملكه، فقتلهم سليمان من عند آخرهم، وقتل أدونياس أخاه، فصلح الملك لسليمان، وثبت سلطانه، وتزوج بنت فرعون ملك مصر، ودخل بها في بيت داود.
وجمع سليمان بني إسرائيل ليقرب قربانا، فقرب ألف ذبيحة، فرأى سليمان في ليلة كان الرب يقول له: سل ما أحببت لأعطيك! فقال سليمان: أنت يا رب أنعمت على داود النعمة العظيمة. وصيرت عبدك سليمان ملكا بعده، فأعطني قلباً حكيماً لأحكم بين عبادك بالعدل، وأفهم الخير والشر. فقال الله: لأنك طلبت هذا الأمر، ولم تطلب مالاً، ولم تطلب أنفس أعدائك، ولم تطلب طول العمر لكنك طلبت حكمه تفهم بها الحكم والقضاء. فقد استجبت لك، وأعطيتك قلباً فهيماً، بصيراً إلى الأمر الذي لم يكن لأحد قبلك، ولا يكون بعدك مثلك، وأعطيتك ما لم تطلب من الأموال، والعتاق، والكرامة، وأنت إن سلكت في طريقي، وحفظت شرائعي ووصاياي، كما حفظ داود أبوك، أطيل عمرك، وأعظم أمرك. فكان سليمان يجلس للقضاء، ويحكم بين بني إسرائيل، فيعجبون لحكمه، وعدل قضائه، وقوله، وحسن لفظه، وكان لسليمان قواد، ووزراء، وكتاب، ووكلاء، فكان وزيره زابود بن ناتان، وعلى حروبه بنايا بن بويادع، وخازنه أبيشار، وعلى الخراج أدونيرام بن عبدا، و كان له اثنا عشر وكيلاً على نفقاته يقوم كل وكيل بنفقة شهر، وكانت نفقاته على أسباط بني إسرائيل، وكانت وظيفته كل يوم ثلاثين كراً من الدقيق السميذ، وستين كراً من دقيق الخشكار، وعشرة ثيران معلوفة، وعشرين ثورا، ومائة كبش، وكان له أربعون ألف أرى معلق عليها دوابه، وكان معجبا بالخيل، وقد قص الله من خبره فيها ما قص.
وابتدأ سليمان في بناء بيت المقدس، وقال: إن الله أمر أبي داود أن يبني بيتاً، وإن داود شغل بالحروب، فأوحى الله إليه أن ابنك سليمان يبني البيت باسمي، فأرسل سليمان في حمل خشب الصنوبر وخشب السرو، ثم بنى بيت المقدس بالحجارة، فأحكمه، ولبسه الخشب من داخل، وجعل الخشب منقوشاً، وجعل له هيكلاً مذهباً، وفيه آلة الذهب، ثم أصعد تابوت السكينة، فجعله في الهيكل، وكان في التابوت اللوحان اللذان وضعهما موسى.
ولما وضع سليمان تابوت السكينة قام بين يدي الهيكل، وقد اجتمعت جموع بني إسرائيل، فسبح الله وقدسه، وأثنى عليه بآلائه إذ ملكه على بني إسرائيل، وأجرى بناء بيت المقدس على يده، وكان يجتمع إليه بنو إسرائيل، ويقول: تبارك وتعالى الرب الذي وهب الراحة لإسرائيل، وتمت كلماته الصالحة، فلم يسقط شيء منها مما قاله لعبده موسى، ونسأل الله ربنا أن يكون معنا كما كان مع آبائنا، ولا يرفضنا، ولا يخذلنا، بل يقبل بقلوبنا إليه لنسلك الطريق التي يرضاها، ونحفظ سننه، وعهوده، ووصاياه، وأحكامه التي أمر آباءنا بها، ويجعل قولنا قريباً منه، ورضيا عنده، وقلوبنا سالمة له، حافظة لأمره.
ولما فرغ سليمان من بناء بيت المقدس عمل عيداً، وقرب فيه الذبائح فأقام أربعة عشر يوما يفعل ذلك، وقد جمع إليه بني إسرائيل، فإذا فرغ من إطعامهم قام، فقدس الله، وسبحه، فلما فرغ أوحى الله إليه: أني قد سمعت صلاتك، ورأيت قربانك، فإن دمت على طاعتي وصلت لك ملكك ولولدك بعدك، فقدست هذا البيت آخر الدهر، وإن حدتم عن أمري، أو نقض أحد منكم عهودي سلبته ملكه، وخربت هذا البيت إلى آخر الأبد.
وقدمت بلقيس ملكة سبإ على سليمان، وكان من أمرها ما قد قصة الله في كتابه العزيز، ولما قدمت عليه جاءته بجمال موقرة ذهبا وعنبرا، وقالت له، لقد بلغني من أمرك ما لم أصدق به حتى رأيته، ثم انصرفت إلى بلدها.
وكان سليمان معجباً بالنساء، فتزوج، فيما يقال، سبعمائة امرأة، فيهن بنت فرعون ملك مصر، وعدة من نساء بني عمون، وعدة من نساء أهل مؤاب جبابرة الشام، ومن أدوم، ومن الجثانيين، وهم الصيدانيون، ومن الشعوب التي قد كان الله نهى عن مخالطتهم، وكان له سبعمائة، واتخذت امرأة من نساء سليمان تمثالاً على صورة أبيها، فلما رأى ذلك غيرها من نسائه فعلن كفعلها، فعاتب الله سليمان، وقال له: تعبد الأصنام في بيتك، ولا تغضبك، لأسلبنك ملكك، ولأنزعن العز من يدك، ولأفرقن الأسباط من ولدك، ولكني أحفظ أباك داود فيك، فلا أسلبك الملك بقية عمرك، ولا أسلب جميع الأسباط، ولكني أدع في يدك سبطين لئلا يذهب ذكرك.
وإن سليمان لجالس على كرسيه المعمول من الذهب، المكلل بالجوهر، إذ انتزع خاتمه من يده، فأخذه شيطان، من الشياطين فوضعه في يده، ونحي سليمان عن كرسيه، وجلس عليه الشيطان، ونزع ثياب سليمان ولبسها، فمر سليمان على وجهه وعليه جبة صوف، وفي يده قصبة، فكان يستطعم، ويقول: أنا ملك بني إسرائيل، سلبني الله ملكي، فيسخر منه من يسمعه، وينكرون قوله، فكان يقف على الصيادين الذين على البحر، فيطلب منهم ما يطعمونه.
وأنكر آصف صاحب سليمان وغيره أمر ذلك الشيطان، ولم يروه يذكر الله، فهرب الشيطان، وطرح الخاتم في البحر، وأقام سليمان مسلوب الملك أربعين يوماً، فإنه بعد أن كملت له الأربعون يمشي على شط البحر حائراً، إذ قال له بعض الصيادين، تعال يا مجنون، فخذ هذا الحوت، فأعطاه حوتا قد تغيرت رائحته، فصار به إلى البحر، فغسله، و شق بطنه، وإذا في داخله حوت آخر، فشق بطن الحوت الآخر، فإذا خاتمه في جوفه، فلبسه، وحمد الله، ورد الله عليه ملكه.
وأقام ملكاً على بني إسرائيل، وعلى ما وصف الله، جل وعز، من ملكه، وتسخيره له الطير والجن و الإنس يعملون له أعاجيب الصنعة، ويشيدون له البنيان، ويطيعونه في كل أمره، أربعين سنة، ثم توفي، ودفن إلى جانب قبر داود، وكان لسليمان يوم ملك اثنتا عشرة سنة، فمات وله اثنتان وخمسون سنة.
رحبعم بن سليمان والملوك بعدهولما مات سليمان بن داود ملك رحبعم بن سليمان، فاجتمع إليه أسباط بني إسرائيل، و قالوا له: إن أباك قد كان غلظ علينا، واستعبدنا استعباداً شديداً، فخفف أنت الآن عنا! فقال لهم رحبعم: انصرفوا عني اليوم وجيئوني بعد ثلاثة أيام، فانصرفوا عنه، فاستشار المشيخة من أصحاب أبيه، فقال: ما ترون؟ قالوا: نرى أن تحسن إجابة بني إسرائيل، وتلين لهم القول، حتى تملكهم بعد اليوم، فترك قول مشيخة بني إسرائيل، واستشار أحداثاً نشئوا معه، فقالوا له: نرى أن تغلظ القول لهم ليستقيم لك أمرهم، كما استقام لأبيك.
فلما كان اليوم الثالث اجتمعوا إليه ليسألوه عما ذكروا له، فقال لهم: إن خنصري أثقل من إبهام أبي. فلما قال لهم هذا انصرفوا عنه، وتفرقوا في قراهم، فلم يبق معه من أسباط بني إسرائيل إلا سبط يهوذا وسبط بنيامين.
وملكت الأسباط العشرة عليهم يوربعم بن ناباط، وكان قد هرب من سليمان إلى مصر، فلما اختلفت بنو إسرائيل على رحبعم بن سليمان قدم، وجمع رحبعم ابن سليمان من سبط يهوذا، وسبط بنيامين، ألف رجل يطلب محاربة يوربعم ابن ناباط ومن معه.
وأوحى الله إلى سمعيا النبي أن قل لرحبعم ومن معه: لا تحاربوا بني إسرائيل! فسمعوا قوله، وانصرفوا، وكان ملك رحبعم سبع عشرة سنة.
وملك يوربعم بن ناباط على العشرة الأسباط من جبل فاران، فقالت بنو إسرائيل: إنا نريد أن نقرب قرابيننا إلى الله، فكره يوربعم أن يصعدوا إلى بيت المقدس، فيستميلهم آل يهوذا، فيدخلوا في ملكهم، فقال ليست بكم حاجة إلى الصعود، وأنا أعمل لكم مذبحاً، فعمل لهم مذبحاً، وصير فيه عجلاً من ذهب، وقال: هذه آلهتكم التي أصعدتكم من أرض مصر، واتخذ للعجل أحباراً، وعمل عيداً، وقرب الذبائح للعجل، فأتاه نبي بني إسرائيل، فوعظه، فمد يده إليه فيبست، فقال له: ادع الله أن يرد يدي! فدعا له النبي، فرجعت يد يوربعم، وأقام يوربعم على طريقة لم يرجع عنها، وأهلك الله يوربعم، وكل من كان معه، وقتله ودمر عليه، وكان ملكه عشرين سنة.
ثم ملك إبيام بن رحبعم، فسلك سبيل أبيه، وأظهر الفواحش، وارتكب القبيح، فبتر الله عمره، وكان ملكه ثلاث سنين، ثم ملك اسا، فأظهر العمل بطاعة الله تعالى، ومنع الزنا، وعاقب عليه وعلى الريب، وأخرج من كان يعبد الأصنام من مملكته، حتى طرد أمه لما بلغه أنها تعبد الأصنام.
وفي زمانه صار زارح ملك الحبشة، وأقبل ملك الهند إلى بيت المقدس، فبعث الله عذاباً، فأهلك زارح وملك الهند، وكان ملك اسا أربعين سنة، ويقال إن بني إسرائيل أوقدوا من خشب أسلحة أصحاب الهند، لما قتلهم اسا، سبع سنين.
ثم ملك بعده ابنه يهوشافط، فسلك سبيل أبيه، وكان ناسكاً صديقاً، فملك العشرة الأسباط، وكان مرضياً في جميع بني إسرائيل، وكان ملكه خمساً وعشرين سنة.
ثم ملك بعده يورام ابنه، فكفر، ورجع قومه إلى عبادة الأصنام، وتزوج امرأة أطغته وأضلته، وكان ملكه أربعين سنة، ثم ملك أحزيا، بعد أبيه، فسلك سبيله، وكان العشرة الأسباط قد اعتزلت، وملكت منهم ملكاً يقال له يهو، فحارب أحزيا، حتى قتل من قومه مقتلة عظيمة، ثم سلط الله عليهم ملك سورية، ففعل بهم مثل ذلك، وكان ملك أحزيا سنة واحدة.
ثم ملكت عتلايا بنت عمري، فقتلت ولد داود، حتى لم يبق من نسل داود أحد إلا غلام يقال له يواش، وأخذته امرأة من بني عمه، يقال لها يوشبع عمته وكان يرضع.
وأفسدت عتلايا، وأظهرت الفواحش، وأفسدت البلاد، واجتمعت بنو إسرائيل إلى يويدع الأحباري، فاشتكوا إليه الذي تفعل بهم، فاجتمعوا، فقتلوها، وكان ملكها سبع سنين.
وملك بعد عتلايا الغلام الذي كان بقي من بني داود، وهو يواش، وكان يوم ملك له سبع سنين، فصلحت أمور بني إسرائيل، وظهر فيهم العدل، وارتفعت الفواحش، وتركوا عبادة الأصنام، ثم ظلم في آخر عمره، واستعمل القتل، حتى قتل أولاد الأحبار، وقتل ولد يويدع الأحباري الذي ملكه، ثم مات وكان ملكه أربعين سنة، وهدم من سور بيت المقدس أربعين ذراعاً، وانتهب كل ما كان فيه.
ثم ملك بعده أمصيا، وكان يشبه مذهب يواش في أول أمره، ثم ظلم وجار، وكان ملكه سبعاً وعشرين سنة.
ثم ملك عزيا بن أمصيا، وكان في زمانه أشعيا النبي، فأحسن عبادة الله، والعمل بطاعته، غير أنه أخذ المجمر ودخل الهيكل، ولم يكن ذلك يصلح لأحد إلا للأحبار، فعاقبه الله فبرص، وعاقب أشعيا النبي لأنه لم ينهه عن ذلك، فنزع الله منه النبوة، حتى مات عزيا، وكان ملكه اثنتين وخمسين سنة.
ثم ملك يوتام لما برص أبوه، وكان ملكه ست عشرة سنة.
ثم ملك احاز ابنه، فكفر، فعبد الأصنام فسلط الله عليه تغلتفلسر ملك بابل، فسباه، واستعبده، وضرب عليه الجزية، وأخرب مدينة العشرة الأسباط بفلسطين، وهي سبسطية، وسبى أهلها، فدخل بهم إلى أرض بابل، ثم أرسل إلى المدينة قوماً من قبله، فعمروها وبنوها، فهم الذين يدعون السامرة بفلسطين والأردن، فلما سكنوها سلط الله عليهم الأسد، ثم بعث إليهم رجلاً من أحبار بني إسرائيل، من ولد هارون، يعلمهم دين بني إسرائيل، فلما دخلوا في دينهم تركهم الأسد، وصاروا سامرة فقالوا: لا نؤمن بنبي إلا بموسى، ولا نعرف إلا ما في التوراة، وجحدوا نبوة داود، وأنكروا البعث والنشور، وامتنعوا من مجالسة الناس والاختلاط بهم، ومن تناول شيء منهم، ومن حمل الموتى، ومن حمل ميتاً اعتزل سبعة أيام، يعتزل في الصحراء لا يختلط بهم، ثم يغتسل، وكذلك من تناول شيئاً لا يحل له، ولا يؤوون الحائض منازلهم، وجعلوا رئيسهم من ولد هارون يسمونه الرئيس، ويتوارثون على التوراة، فليس هم في بقعة من بقاع الأرض إلا بجند فلسطين، وكان ملك احاز ست عشرة سنة.
ثم ملك بعد احاز حزقيل ابنه، فأحسن عبادة الله تعالى، وكسر الأصنام، وهدم بيوتها، وكان في زمانه سنحاريب بن سراطم ملك بابل، فسار إلى بيت المقدس، فسبى بقية الأسباط، فرشاه حزقيل بثلاثمائة قنطار فضة، وثلاثين قنطار ذهب، على أن ينصرف، فأخذها، ثم غدر، فلما فعل ذلك دعا الله أشعيا النبي وحزقيل على سنحاريب، فأجاب الله دعاءهما، فسلط الله على أصحاب سنحاريب القتل، فقتل منهم في ساعة واحدة مائة ألف وخمسة وثمانين ألفاً، فرجع سنحاريب مهزوماً، حتى صار إلى بابل، وقتله ولده شر قتله. وأمر الله سبحانه أشعيا النبي أن يعلم حزقيل أنه ميت، فليوص، فلما أعلمه الله ذلك دعا الله أن يزيد في حياته، حتى يهب له ولدا يملك بعده، فزاد الله في حياته خمس عشرة سنة، حتى ولد له ولد.
وفي أيام حزقيل رجعت الشمس نحو مطلعها خمس درجات، وكان ملك حزقيل سبعاً وعشرين سنة.
ثم ملك بعد حزقيل منشا بن حزقيل، فكفرت بنو إسرائيل في أيامه، وكفر، وعبد الأصنام، و كان شر ملك في بني إسرائيل، وبنى للأصنام مسجداً، واتخذ صنماً له أربعة أوجه، فنهاه أشعيا، فأمر به فنشر بالمنشار من رأسه إلى رجليه، فسلط الله على منشا قسطنطين ملك الروم، فحاربه، وأسره، فأقام في الأسر، زماناً ثم تاب إلى ربه، فرده الله إلى ملكه، فكسر الصنم، وهدم بيوت الأصنام، وكان ملكه خمساً وخمسين سنة، وأيام أسره عشرين سنة.
ثم ملك أمون بن منشا، فأعاد الأصنام حتى كثرت، وكان ملكه ست عشرة سنة.
ثم ملك بعده يوشيا ابنه، فأحسن عبادة الله، وكسر الأصنام، وهدم بيوتها، وقتل سدنتها، وأحرقهم، وكان في العدل وحسن عبادة الله تعالى وجميل مذهبه يشبه داود وسليمان، وكان ملكه ثلاثين سنة.
ثم ملك يهواخز ابنه ثلاثة أشهر، ثم أسره فرعون الأعرج ملك مصر، ووضع على بلاده الخراج، وصير عليها ملكاً من قبله، وأخذ يهواخز، فذهب به إلى مصر فمات هناك.
ثم ملك بعده يويقيم أخوه، وهو أبو دانيال النبي، وفي عصره سار بخت نصر ملك بابل إلى بيت المقدس، فقتل في بني إسرائيل، وسباهم، وحملهم إلى أرض بابل، ثم صار إلى أرض مصر، فقتل فرعون الأعرج ملكها. وأخذ بخت نصر التوراة، وما كان في الهيكل من كتب الأنبياء، فصيرها في بئر وطرح عليها النار، وكبسها، وكان في ذلك العصر إرميا النبي، فلما علم بقدوم بخت نصر، أخذ تابوت السكينة، فخبأه في مغارة حيث لم يعلم به أحد، ولم ينج من بخت نصر إلا إرميا.
وكان عدة من حمل بخت نصر إلى أرض بابل ثمانية عشر ألفاً، فيهم ألف نبي، وملكهم يحنيا بن يهوياقيم، فمنهم اليهود الذين بالعراق، ويقال إن إرميا النبي قال: اللهم! إني لأعلم من عدلك ما لا يعلمه غيري، فعلام سلطت بخت نصر على بني إسرائيل؟ فأوحى الله إليه: أني إنما أنتقم من عبادي، إذا عصوني، بشرار خلقي.
ولم يزل بنو إسرائيل في الأسر تحت يد بخت نصر حتى تزوج امرأة منهم يقال لها ملحات أخت زربابل، بنت سلتائيل، فسألته أن يرد قومها إلى بلدهم، فلما رجع بنو إسرائيل إلى بلدهم ملكوا عليهم زربابل بن سلتائيل، فبنى مدينة بيت المقدس، وبني الهيكل، وأقام على بنائه ستاً وأربعين سنة، وفي زمانه مسخ الله بخت نصر بهيمة أنثى، فلم يزل ينتقل في أجناس البهائم سبع سنين، ثم يقال إنه تاب إلى الله، عز وجل، فأحياه بشراً، ثم مات.
وكان زربابل الذي أخرج التوراة وكتب الأنبياء من البئر التي دفنها فيها بخت نصر، فوجدها بحالها لم تحترق، فأعاد نسخ التوراة و كتب الأنبياء وسننهم وشرائعهم، وكان أول من رسم هذه الكتب.
وكانت شريعة بني إسرائيل توحيد الله، والإقرار بنبوة موسى وهارون ابني عمران بن قاهث بن لاوي بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم خليل الله، وكان صيامهم في كل سنة ستة أيام أولها في رأس السنة، وهم يعدون رأس السنة أول يوم من تشرين، فإذا مضى من تشرين عشرة أيام صاموا يوما واحدا، وهو اليوم الذي نزلت فيه الألواح الثانية على موسى بن عمران. ويصومون لعشر خلون من كانون الآخر يوماً واحداً، وهو يوم نجى الله بني إسرائيل من هامان.
ويصومون لسبعة عشر يوماً من تموز يوماً واحداً، وهو اليوم الذي نزل فيه موسى من الطور. ويصومون لتسعة أيام من آب يوماً واحداً، وهو اليوم الذي كان فيه خراب بيت المقدس.
ويصومون لثلاثة أيام من تشرين، وهو الذي قتل فيه قدريا بن أخيقام.
ولهم أربعة أعياد في السنة: عيد الفطير، وهو اليوم الذي خرج فيه موسى ببني إسرائيل من مصر، فحملوا عجينهم، ولم يختمر، فأكلوه فطيراً، وهو لخمسة عشر يوماً من نيسان، وأيامه سبعة أيام، ثم عيد لستة عشر يوماً يمضي من حزيران، وهو يوم أنزلت التوراة على موسى، فذلك يوم عيد عندهم معظم، ثم عيد أول يوم من تشرين، وهو رأس السنة عندهم، ثم عيد في خمسة عشر يوماً من تشرين، وهو عيد المظلة، ومعناها أن الله، عز وجل، أمر موسى أن يأمر بني إسرائيل أن يبنوا عريشا بالسعف والجريد، فهم يقيمون ثمانية أيام يتخذون في كنائسهم ظلالات من السعف والجريد.
و صلواتهم ثلاث صلوات: صلاة بالغداة، وصلاة عند غروب الشمس، وصلاة بعد الغروب، فإذا وقف أحدهم للصلاة جمع عقبيه، وجعل يده اليمنى على كتفه اليسرى، ويده اليسرى على كتفه اليمنى، وهو مطرق، يركع خمس ركعات لا يسجد فيهن، ثم يسجد في الآخرة سجدة واحدة، ويسبح بمزامير داود في أول الصلوات، ويقرأ في صلاة المغيب من التوراة، ومعتمدهم في سننهم وشرائعهم على كتب علمائهم، و هي الكتب التي يقال لها بالعبرانية، وهي اللغة التي صارت لهم لما عبروا البحر.
وسنتهم في مناكحهم ألا يتزوجوا إلا بولي وشاهدين، وأقل مهورهم للبكر مائتا درهم، وللثيب مائة درهم بهذا الوزن لا يكون أقل منه، والطلاق مباح متى كرهوا، ولا يكون إلا بشهود. وسنتهم في ذبائحهم ألا يأكلوا ما ذبحه غيرهم، وأن يكون الذي يتولى الذبائح عالماً بالشرائع، ثم يأتي بالسكين كلما أراد أن يذبح بها، إلى الكاهن، فإذا رضي حدها أطلق له الذبح بها، و إلا أمره أن يحدها، أو يأتي بغيرها، فإذا ذبح لم يقربها من حائط تضطرب عليه، فإذا فرغ منها نظر إلى الحلقوم، فإن وجده لم يرغ الغلصمة، ووجد الذبح مستوياً لم يؤكل حتى ينظر إلى الرئة، فإن وجد بها عيبا، أو علة، أو شقا، أو بثرة، أو ورماً، لم تؤكل الذبيحة، فإن سلمت الرئة نظر إلى الدماغ، فإن وجد فيه علة لم تؤكل، وإن سلم الدماغ نظر إلى القلب، فإن وجد فيه علة لم يأكله، وإن سلم ما في البطون والثرب من الشحم، فلا يأكله، ولا العروق، وأكل ما سوى ذلك.
وتاريخهم على حسابهم، من خراب بيت المقدس، فعلى هذا يحسبون، ولا بد لهم في كل يوم أن يذكروا اليوم الذي خرب فيه بيت المقدس، وكم له إلى يومه ذلك.
المسيح عيسى بن مريم وكانت حنة امرأة عمران قد نذرت إن وهب الله لها ولداً أن تجعله، لله فلما ولدت مريم دفعتها إلى زكرياء بن برخيا بن بشوا بن نحرائيل بن سهلون بن أرسوا بن شويل بن بعود بن
موسى بن عمران، وكان كاهن المذبح، فلم يزل، كذلك حتى إذا كملت سبع عشرة سنة بعث الله إليها الملك ليهب لها ولدا زكيا، فكان من خبرها ما قد قصة الله، عز وجل، حتى اشتملت على الحمل، فلما كملت أيامها طرقها المخاض، على ما قال الله، عز وجل، ووصف من حالها وحاله، وكلامه من تحتها، وكلامه في المهد.
وكان مولده بقرية يقال لها بيت لحم من قرى فلسطين، وكان ذلك يوم الثلاثاء لأربعة وعشرين يوما خلت من كانون الأول.
قال ما شاء الله المنجم: كان الطالع للسنة التي ولد فيها المسيح في الميزان ثماني عشرة درجة، والمشتري في السنبلة إحدى وثلاثين دقيقة راجعاً، وزحل في الجدي ست عشرة درجة و ثمانياً وعشرين دقيقة، والشمس في الحمل دقيقة، والزهرة في الثور أربع عشرة درجة، والمريخ في الجوزاء إحدى وعشرين درجة وأربعا وأربعين دقيقة، و عطارد في الحمل أربع درجات وسبع عشرة دقيقة.
وأما أصحاب الإنجيل فلا يقولون إنه تكلم في المهد، ويقولون: إن مريم كانت مسماة برجل يقال له يوسف من ولد داود، وإنها حملت فلما قرب وضع حملها سار بها إلى بيت لحم، فلما ولدت ردها إلى ناصرة من جبل الجليل، فلما كان في اليوم الثامن ختنه على سنة موسى بن عمران، وقد وصف الحواريون أخبار المسيح، وذكروا حاله، فأثبتنا مقالة واحد واحد منهم، وما وصفوه به، وكان الحواريون اثني عشر من أسباط يعقوب وهم: شمعون بن كنعان من سبط، ويعقوب بن زبدي، ويحيى بن حابر بن فالي من سبط زبلون، وفيلفوس من سبط اشر، ومتى من سبط أشجر بن يعقوب، وسمعي من سبط هرام بن يعقوب، ويهودا من سبط يهوذا بن يعقوب، ويعقوب من سبط يوسف بن يعقوب، ومنسي من سبط روبيل بن يعقوب، وكان دون هؤلاء سبعون رجلاً، وكان الأربعة الذين كتبوا الإنجيل: متى ومرقس ولوقا ويوحنا، اثنان من هؤلاء الاثني عشر، واثنان من غيرهم.
فأما متى فإنه قال في الإنجيل في نسب المسيح إيسوع بن داود بن إبراهيم إلى أسفل، حتى انتهى إلى يوسف بن يعقوب بن ماثن بعد اثنين وأربعين أبا، ثم قال: وكان يوسف بعل مريم، وإن المسيح ولد في بيت لحم من قرى فلسطين، وملك فلسطين يومئذ هيرودس، وإن قوماً من المجوس ساروا إلى بيت لحم، وعلى رؤوسهم نجم يهتدون به، حتى رأوه، فسجدوا له، وإن هيرودس ملك فلسطين أراد أن يقتل المسيح، وإن يوسف أخرجه وأخرج أمه إلى أرض مصر، فلما مات هيرودس رده، فأنزله ناصرة جبل الجليل، وإنه لما كمل المسيح وبلغ تسعاً وعشرين سنة صار إلى يحيى بن زكرياء ليصطنعه، فقال له يحيى بن زكرياء: أنا أحوج إليك منك إلي! فقال له المسيح: اترك هذا القول، فإن هكذا ينبغي أن يتم البر، فتركه يحيى، وإن إيسوع خرج بتأييد روح الله إلى البرية فصام أربعين يوماً، فاقترب إليه الشيطان، فقال: إن كنت الآن ابن الله فمر هذه الحجارة أن تصير خبزا! فقال إيسوع: إنه ليس بالخبز وحده يحيا البشر، ولكن بكلمة الله، فحمله، فصيره على جناح الهيكل، ثم قال له الشيطان: فألق نفسك إلى الأرض، فإنك إن كنت ابن الله تكنفتك ملائكته. فقال المسيح: إنه مكتوب لا تجرب الله بك، ثم قال للشيطان: اذهب فأنا لله أسجد وإياه أعبد. فتركه الشيطان وذهب، ثم إن ملائكة الله، جل وعز، اقتربت منه، فجعلوا يخدمونه، ثم إن تلامذته اقتربوا إليه، فجعل يكلمهم بأمثال ووحي، و بغير أمثال. وكان أول ما تكلم به من الإنجيل، على ما في إنجيل متى: طوبى للمساكين القانعة قلوبهم بما عند ربهم، بحق أن لهم ملكوت السماء، طوبى للجياع العطاش في طاعة الله، طوبى للصادقين في قولهم، التاركين للكذب، الذين هم ملح الأرض ونور العالم. لا تقتلوا، وتسخطوا أحدا، وارضوا من سخط عليكم، وصالحوا خصمكم، ولا تزنوا، ولا تنظروا إلى غير نسائكم، فإن كانت عينكم اليمنى تدعوكم إلى الخيانة، فاقلعوها حتى تنجوا بأبدانكم، ولا تطلقوا نساءكم من غير زنية، ولا تحلفوا بالله صادقين ولا كاذبين، ولا بسمائه، ولا بأرضه، ولا تقاوموا الشر، ولكن من لطمك على عارضك الأيمن، فأقبل إليه بعارضك الأيسر، ومن أراد أن ينزع قميصك، فأعطه أيضا رداءك، ومن سخرك ميلا، فانطلق معه ميلين، ومن سألك فأعطه، ومن استقرضك فأقرضه ولا تحرمه.
قد سمعتم أنه قد قيل: أحبب قريبك وأبغض عدوك! أما أنا فإني أقول لكم: أحبوا أعداءكم وصلوا من قطعكم، وافعلوا الخير إلى من بغضكم. إن كنتم تحبون الذين يحبونكم فأي أجر لكم؟ لا تظهروا صدقاتكم بين أيدي البشر، لا تعلم شمائلكم بما عملت أيمانكم، لا تراؤوا الناس بصلاتكم، وإذا صليتم فادخلوا بيوتكم، وأغلقوا أبوابكم، ولا يسمعكم أحد، وإذا صليتم فقولوا: أبانا الذي في السموات يقدس اسمك، ويأتي ملكوتك، تكون مشيئتك كما في السماء وعلى الأرض، خبزنا كفافنا أعطنا اليوم، واترك لنا الذي علينا كمثل ما نترك نحن لغرمائنا، ولا تدخلنا في تجربة يا رب! ولكن نجنا من الشرير. ولا تظهروا صيامكم للبشر، إذا صمتم لله ربكم، و لا تغيروا وجوهكم ليراكم الناس، فإن ربكم يعلم بحالكم.
لا تدخروا الذخائر حيث السوس والأرضة الأكلة يفسدن، وحيث اللصوص يحفرون، ولكي تكون ذخائركم عند ربكم الذي في السماء حيث لا سوس يعدو، ولا لص يسرق.
ولا تهتموا بمعاشكم، ولا ما تأكلون، ولا ما تشربون، ولا ما تلبسون، وانظروا إلى طير السماء لا يزرعن، و لا يحصدن، ولا يجمعن في البيوت، فإن الله يرزقهن، وأنتم أكرم على الله من الطير.
لا تهتموا لأولادكم، فإنهم مثلكم كما خلقتم خلقوا، وكما رزقتم رزقوا.
ولا تقل لأخيك أخرج القذى من عينك، وفي عينك أنت جذع، لا تنظروا في عيوب الناس وتدعوا عيوبكم، لا تعطوا القدس ولا اللؤلؤ للخنازير، فتدوسه بأرجلها! سلوا ربكم يعطكم وابتغوا إليه، فإنكم تجدونه رحيماً بكم، واقرعوا بابه يفتح لكم، أما الباب فإنه معرض، والطريق بين، وهو يبلغ الناس التلف، وما أصغر الباب، وأضيق الطريق التي تبلغ الناس النجاة.
تحفظوا من أهل الكذب الذين يشبهون الذئاب الضارية، كما لا تستطيعون وتقطفون العنبة من الشوك، ولا التين من الحنظل، هكذا لا تجدون شجرة سوء تخرج نباتاً صالحاً، ولا شجرة صالحة تخرج ثمرة سوء.
كل من يسمع كلامي ثم يفهمه، فإنه يشبه رجلاً حليماً بنى بيته في مكان صلب شديد، فجاء المطر ودرت الأنهار، وارتفعت الرياح فسقط البيت.
وفي ذلك الزمان كان الملك هيرودس قد أخذ يوحنا فسجنه، وذلك أنه كان يأتي امرأة أخيه فيلفوس، فنهاه يوحنا أن يأتي ذلك، وكان يريد أن يقتله، ويتقي لأنهم كانوا يعظمون يوحنا، فقالت له امرأة أخيه: اقتل يوحنا! فوجه إلى السجن، فقطع رأس يوحنا ووضعه على طبق، واقترب تلاميذه، وأخذوا جثته فقبروها، وجاءوا المسيح فأخبروه، فخرج إلى أرض قفر، وجعل يأمر أصحابه: لا تخبروا أحداً.
إنجيل مرقس: فأما مرقس فإنه قال في أول إنجيله: إيسوع المسيح ابن الله، كما هو مكتوب في أشعيا النبي: أني مرسل ملاكي قدام وجهك لأصلح سبيلك، وإن يحيى بن زكرياء كان يعمد المعمودية للتوبة، وكان لباسه وبر الإبل، وكان يشد حقوته بغرفة من جلود، وإن المسيح جاءه من ناصرة الجليل يعمده في الأردن، فلما عمده خرجت روح القدس على الماء كالحمامة، وصوت من السماء ينادي، أنت ابني خليلي الذي بك سررت.
وانصرف إلى جبل الجليل، فإذا قوم يصطادون السمك، فيهم شمعون وأندراوس، فقال لهما: ألحقاني أجعلكما تصطادان البشر! فمضيا معه، فدخل قرية فأبرأ مرضاها وبرصها، وفتح أعين عميان بها، فاجتمع إليه قوم وجعل يكلمهم بأمثال ووحي، ويقول: بحق أقول لكم، لا تذهب القبيلة حتى يذهب السماء والأرض، وكلامي لا يذهب.
إنجيل لوقا فأما لوقا: فإنه يقول في أول الإنجيل: من أجل أن كثيراً من الناس أحبوا أن يكتبوا القصص والأمور التي عرفناها رأيته يحق على أن أكتب شيئاً علمته بحقه.
أنه كان في أيام هيرودس الملك كاهن يسمى زكرياء من خدام آل أبيا وامرأته من بنات هارون تسمى اليسبع، وكانا جميعاً بارين قدام الله، عاملين بوصاياه، غير مقصرين في طاعته، ولم يكن لهما ولد، وكانت اليسبع عاقراً، وزكرياء عاقراً قد كبرت سنهما، فبينا زكرياء يكهن الدخنة، فدخل الهيكل، وجماعة خارج الهيكل، فتراءى لزكرياء ملك الرب قائماً عن يمين
المذبح، فارتعد زكرياء حين أبصره، وحلت عليه الخشية، فقال له الملك: لا ترهبن يا زكرياء! فإن الله قد سمع صلواتك، وأجاب دعاءك، فيهب لك ابنا تسميه يحيى، ويكون لك فيه الخير والفرح، ويكون عظيماً عند الله، ولا يشرب خمراً، ولا سكراً، ويمتلىء من روح القدس، إذ هو في بطن أمه، ويقبل إلى الله بكثير من آل إسرائيل، ويحل عليه الروح الذي حل على الياء النبي ليقبل بقلوب الآباء على أبنائهم، ويكونوا لله شعباً كاملاً.
فقال زكرياء للملك: كيف لي أن أعلم هذا، وأنا شيخ، وامرأتي كبيرة السن؟ فقال له الملك: إني أنا جبريل القائم بين يدي الله، عز وجل، أرسلني لأبشرك بهذا، فمن الآن، فكن صامتاً لا تتكلم حتى اليوم الذي يكون فيه هذا لأنك لم تصدق، ولم تؤمن بقولي الذي يتم في حينه.
وكان الشعب قياماً ينتظرون زكرياء، ويتعجبون من لبثه في الهيكل، فلما أن خرج لم يقدر أن يكلمهم، فعرفوا، وأيقنوا أنه قد رأى رؤيا في الهيكل، فكان يومىء إليهم إيماء، ولا يتكلم. فلما تمت أيام خدمته انصرف إلى بيته، وحبلت اليسبع امرأته، وأقامت تخفي نفسها أشهراً خمسة، وتقول: هذا الذي صنع إلى الرب في أيام نظره إلي ليمحو عني عاري في البشر.
ولما كان في الشهر السادس من حمل امرأة زكرياء أرسل الله جبريل الملك إلى جبل الجليل إلى مدينة تدعى ناصرة، إلى فتاة عذراء مملكة برجل يسمى يوسف من آل داود، اسمها مريم، فدخل إليها الملك، وقال لها: السلام عليك أيتها المملوءة من النعمة، أيتها المباركة في النساء! فلما رأته فزعت من كلامه، وجعلت تفكر، وتقول: ما هذا السلام؟ فقال لها الملك: لا ترهبي يا مريم! قد لاقيت ووافيت عند الله نعمة، بحق أنك تقبلين حبلى، وتلدين ابنا، وسميه إيسوع، ويكون عظيما، وابن الأعلى يدعي، ويعطيه الرب إلهه كرسي داود أبيه، ويملك على آل يعقوب إلى الدهر، و لا يكون لملكه فناء، ولا انقطاع. فقالت مريم للملك: كيف يكون هذا، ولم يمسسني رجل؟ قال لها الملك: روح القدس يحل عليك، وهذا الذي يولد منك قدوس، وابن الله يدعى، وهذه اليسبع نسيبتك، فهي أيضاً حبلى بابن، على كبرها، وهذا الشهر هو السادس لتلك التي تدعى عاقراً، لأنه لا يعجز الله شيء! فقالت مريم: إني أمة الله، فليكن لي كما قلت.
ودخلت مريم إلى بيت زكرياء، وسألت عن سلامة اليسبع، فلما سمعت امرأة زكرياء كلام مريم ارتكض الجنين في بطنها، وامتلأت من روح القدس، قالت لمريم: مباركة أنت في النساء؟ بحق أنه لما وقع صوت سلامك في مسمعي، بفرح عظيم ارتكض الجنين في بطني.
وولدت اليسبع امرأة زكرياء ابناً، وختنوه يوم الثامن، وسموه يوحنا، ومن ساعته انفتح فوه، و تكلم وبرك الله تعالى، وامتلأ زكرياء من روح القدس، وقال: تبارك الرب إله إسرائيل، الذي أبلى شعبة، وأطلقهم بالخلاص، وأقام لنا قرن الخلاص من آل داود، كالذي تكلم على السنة أنبيائه الطاهرين.
ولما كملت لمريم أيامها صعد بها يوسف إلى جبل الجليل، فولدت ابنها البكر، فلفته في الخرق، وأضجعته في الأرى من أجل أنه لم يكن لها مكان حيث كانا نازلين فأتاهم ملك الرب، ومجد الله أشرق عليهم، فخافوه خوفا شديدا، وقال لهم ملك الرب: لا تخافوا، ولا تحزنوا! بحق إني أبشركم بفرح عظيم يعم العالم.
ثم نسب المسيح من يوسف إلى آدم، وإنه لما تمت له ثمانية أيام أتوا به ليختنوه، كسنة موسى، وسموه إيسوع، وختنوه، وأتوا به إلى الهيكل، وأتوا بذبيحة زوج يمام وفرخي حمام ليقرب عنه، وكان هناك رجل يقال له شمعان من الأنبياء، فلما دنوا من المذبح ليقربوا عنه احتمله شمعان، وقال: قد أبصرت عيناي حنانك، يا رب، فمن الآن فتوفني. وكان أهله يصعدونه في كل سنة إلى أورشليم في عيد الفصح، وكان يخدم العظماء، ويعجبون به لما يرون من حكمته. وإن المسيح لما كملت له ثلاثون سنة دخل إلى الهيكل يوم السبت، وقام ليقرأ كعادته، وأعطى سفر أشعيا النبي، ففتح السفر، فوجد فيه مكتوبا: روح الرب علي من أجل ذلك اصطفاني، ومسحني لأبشر المساكين، وأرسلني لأشفى المنكسرة قلوبهم، ولأبشر المسبيين بالخلاص، والعميان بالبصر، وإن أجبر المنكسر، وأبشر المسيء بالعفو والمغفرة، وإن أبشر بالسنة المتقبلة للرب، وطوى السفر ودفعه إلى الخادم، وتنحى، فجلس، فعجب الناس لفعله، وقالوا: أليس هذا ابن يوسف؟
إنجيل يوحنا: وأما يوحنا السليح، فإنه يقول في أول إنجيله في نسبة المسيح: قبل كل شيء كانت الكلمة، وتلك الكلمة عند الله، والله كان هو الكلمة، هذه كانت قبل كل شيء وكان بها، كانت الحياة، والحياة هو نور البشر، وذلك الضياء في الظلام، والظلام لم يدركه.
كان إنسان، كان أرسله الله، اسمه يوحنا، أتى للشهادة ليشهد على النور ليهتدي الناس، ويؤمنوا على يده، ولم يكن هو النور، فإن نور الحق لم يزل يضيء ويبين في العالم، والعالم كان في يده، والعالم لم يعرفه، إلى خاصته أتى وخاصته لم تقبله، فأما الذين قبلوه، وآمنوا به، فأعطاهم الله سلطاناً ليكونوا يدعون أبناء الله، أولئك الذين يؤمنون باسمه الذي لا من الدم، ولا هو من هوى اللحم، ولا من شهوة المرء ولد، ولكن من الله ولد، والكلمة صارت لحماً وحلت فينا، ورأينا مجدها مجداً كالوحيد الذي من الأب المملوء من النعمة والقسط.
ويوحنا شهد عليه ونادى وقال: هذا قلت إنه يأتي من بعدي: وقد كان قبلي من أجل أنه أقدم مني، ومن تمامه كلما نلنا نعمة فاضلة بدل النعمة الأولى، لأن التوراة على يد موسى أنزلت، فأما الحق والنعمة فبايسوع المسيح الكلمة التي لم تزل في حضن أبيها.
فهذا قول الأربعة التلاميذ، أصحاب الإنجيل، في نسبة المسيح، ثم وصفوا بعد ذلك ما كان من أخباره، وأنه أبرأ المرضى والبرص، وأقام المقعد، وفتح عيون العميان، وإنه كان له صاحب يقال له العازر في قرية تدعى بيت عنيا، في ناحية بيت المقدس، وإنه مات، فصير في مغارة، فأقام أربعة أيام، ثم جاء المسيح إلى تلك القرية، فخرجت أختان للعازر، فقالتا له: يا سيدنا إن خليلك العازر قد مات، فحزن المسيح عليه، و قال: أين قبره؟ فأتوا به إلى المغارة وعليها حجر، فقال: نحوا الحجر! فقالوا: قد نتن منذ أربعة أيام! فدنا من المغارة، فقال: رب لك الحمد! إني أعلم أنك تعطي كل شيء، ولكني أقول من أجل الجماعة الواقفة ليؤمنوا ويصدقوا إنك أنت أرسلتني، ثم قال للعازر: قم! فقام يجر خماراً عليه، ويداه و رجلاه مشدودة، وقد كان معهم قوم من اليهود، فأمنوا به وأقبلوا ينظرون إلى العازر ويتعجبون منه.
فاجتمع عظماء اليهود وأحبارهم، فقالوا: إنا نخاف أن يفسد علينا ديننا ويتبعه الناس، فقال لهم قيافاً، رئيس الكهنة: لأن يموت رجل واحد خير من أن يذهب الشعب بأسره! فأجمعوا على قتله.
ودخل المسيح إلى أورشليم على حمار، وتلقاه أصحابه بقلوب النخل، وكان يهوذا بن شمعان من أصحاب المسيح، فقال المسيح لأصحابه: إن بعضكم يسلمني ممن يأكل ويشرب معي، يعني يهوذا بن شمعان، ثم جعل يوصي أصحابه، ويقول لهم: قد بلغت الساعة التي يتحول ابن البشر إلى أبيه، وأنا أذهب إلى حيث لا يمكنكم أن تجيئوا معي، فاحفظوا وصيتي، فسيأتيكم الفارقليط يكون معكم نبياً، فإذا أتاكم الفارقليط بروح الحق والصدق، فهو الذي يشهد علي، وإنما كلمتكم بهذا كيما تذكروه إذا أتى حينه، فإني قد قلته لكم، فأما أنا فإني ذاهب إلى من أرسلني، فإذا ما أتى روح الحق يهديكم إلى الحق كله، وينبئكم بالأمور البعيدة، ويمدحني، وعن قليل لا تروني، ثم رفع المسيح عينه إلى السماء، وقال: حضرت الساعة! إني قد مجدتك في الأرض، والعمل الذي أمرتني أن أعمله فقد تممته، ثم قال: اللهم إن كان لا بد لي من شرب هذه الكأس، فهونها علي، وليس كما أريد يكون، ولكن ما تريد يا رب.
ثم مضى المسيح مع تلاميذه إلى المكان الذي يجتمع هو وأصحابه فيه، وكان يهوذا أحد الحواريين يعرف ذلك الموضع، فلما رأى الشرط يطلبون المسيح ساقهم والذين معهم من رسل الكهنة، حتى وقف بهم على الموضع، فخرج إليهم المسيح، فقال لهم: من تريدون؟ فقالوا: إيسوع الناصري! فقال لهم إيسوع: أنا هو! فرجعوا، ثم عادوا، فقال لهم المسيح: أنا إيسوع الناصري فإن كنتم تريدوني، فانطلقوا بي لتتم الكلمة.
وكان مع شمعان الصفا سيف فاخترطه، ثم ضرب عبد سيد الكهنة، فقطع يده اليمنى، فقال المسيح: يك شمعان! رد السيف إلى غمده، فإني لا أمتنع من شرب الكأس التي أعطاني ربي. فأخذ الشرط المسيح، وأوثقوه، وجاءوا به إلى قيافا رئيس اليهود، الذي كان أشار بقتله.
وكان شمعان الصفا يمشي خلفه، فدخل مع الأعوان، فقيل له: أنت من تلاميذ هذا الناصري؟ قال: لا! ولما أدخل المسيح على رئيس اليهود جعل يكلمه، والمسيح يجيبه بما لا يفهمه، فضربه بعض الشرط على فكيه، ثم أخرجوا المسيح من عند قيافا إلى فرطورين، فقال له: أنت ملك اليهود؟ فقال له المسيح: أمن نفسك قلت هذا أم أخبرك آخرون عني؟ وجعل يكلمه، ويقول: إن ملكي ليس من هذا العالم.
ثم إن الشرط أخذوا إكليلاً من أرجوان، فوضعوه على رأسه، وجعلوا يضربونه، ثم أخرجوه وعليه ذلك الإكليل، فقال له رؤساء الكهنة: أصلبه! فقال لهم فيلاطوس: خذوه أنتم فاصلبوه، فأما أنا، فلم أجد عليه علة! فقالوا: قد وجب عليه الصلب والقتل من أجل أنه قال: إنه ابن الله، ثم أخرجه، فقال لهم: خذوه أنتم فاصلبوه! فأخذوا المسيح، وأخرجوه، وحملوه الخشبة التي صلبوه عليها.
هذا في إنجيل يوحنا، فأما متى ومرقس ولوقا فيقولون: وضعوا الخشبة التي صلب عليها المسيح على عنق رجل قرنانى، وصاروا به إلى موضع يدعى الجمجمة، ويسمى بالعبرانية ايماخاله، وهو الموضع الذي صلب فيه، وصلب معه اثنان آخران: واحد من هذا الجانب، والآخر من هذا الجانب، وكتب فيلاطوس في لوح: هذا إيسوع الناصري، ملك اليهود، فقال له رؤساء الكهنة: اكتب الذي قال إنه ملك اليهود! فقال لهم: ما كتبت، وقد كتبت.
ثم إن الشرط اقتسموا ثياب المسيح، وكانت أمه مريم، ومريم بنت قلوفا، ومريم المجدلانية قياما ينظرن إليه، فكلم أمه من فوق الخشبة.
وجعل أولئك الشرط يأخذون إسفنجة فيها خل يقربونها إلى أنفه، فيتكرهها، ثم أسلم روحه، فجاءوا إلى ذينك المصلوبين معه، وكسروا سوقهما، وأخذ واحد من الشرط حربة، فطعنه في جنبه، فخرج دم وماء، ثم كلم فيه أحد التلاميذ لفيلاطوس، حتى أنزله، وأخذ حنوطاً من مر وصبر، ولفه في ثياب كتان وطيب، فكان في ذلك الموضع جنان، وفيه قبر جديد، فوضعوا المسيح فيه، وكان ذلك يوم الجمعة.
فلما كان يوم الأحد، فيما يقول النصارى، بكرت مريم المجدلانية إلى القبر، فلم تجده، فجاءت شمعان الصفا وأصحابه، فأخبرتهم أنه ليس في القبر، فمضوا فلم يجدوه، وجاءت مريم ثانية إلى القبر، فرأت في القبر رجلين عليهما ثياب بياض، فقالا لها: لا تبكي! ثم التفتت خلفها، فرأت المسيح، وكلمها وقال لها: لا تدنين إلي لأني لم أصعد إلى أبي، ولكن انطلقي إلى إخوتي وقولي لهم إني أصعد إلى أبي وأبيكم وإلهي وإلهكم، وإنه لما كان عشية الأحد جاءهم وقال لهم: السلام معكم! كما أرسلني أبي كذلك أرسلكم، وإن غفرتم ذنوب أحد، فهي مغفورة، فقالوا: هذا الذي يكلمنا روح وخيال، قال لهم: انظروا إلى آثار المسامير بإصبعي وإلى جانبي الأيمن، ثم قال لهم: طوبى للذين لم يروني وصدقوا بي.
وجاءوه بقطعة سمك، فأكل، وقال لهم: إن أنتم صدقتم بي، وفعلتم فعلي، يحق ألا تضعوا أيديكم على مريض إلا برىء، ولا يضره الموت، ثم ارتفع عنهم، وكان له ثلاث وثلاثون سنة.
هذا ما يقول أصحاب الإنجيل وهم يختلفون في كل المعاني، قال الله، عز وجل، ما قتلوه، وما صلبوه، ولكن شبه لهم، وإن الذين اختلفوا فيه لفي شك منه ما لهم به من علم إلا إتباع الظن، وما قتلوه يقينا بل رفعه الله إليه.
ولما رفع عيسى المسيح اجتمع الحواريون إلى أورشليم، في جبل طور الزيتون، وصاروا إلى عليه كان فيها بطرس، ويعقوب، ويوحنا، وأندراوس، وفيلبس، وتوما، وبرتلموس، ومتاوس، ويعقوب فقام شمعان على الحجر، فقال: يا معشر الإخوة! قد كان ينبغي أن يتم الكتاب الذي سبق فيه روح القدس، وأرادوا أن يجعلوا رجلاً يتم به الاثنا عشر، فقدموا متى وبرسبا، وقالوا: اللهم أظهر لنا من نختاره! فوقع على متى، فأصابتهم ريح شديدة، امتلأت الغرفة التي كانوا فيها، ورأوا مثل لسان النار، فتكلموا بالسن شتى، ثم قالوا لبطرس: ما ذا تصنع؟ فقال لهم بطرس: قوموا واعمدوا كل إنسان منكم باسم المسيح، وتنحوا عن هذه القبيلة المعوجة.
وأقام بطرس ويوحنا كلما دخلا الكنيسة ذكرا أمر المسيح، ووصفا فعله، ودعوا الناس إلى عبادته، فأنكر ذلك عليهم اليهود، وأخذوهم، فحبسوهم، ثم أطلقوهم، وقالوا: نختار سبعة رجال يقدسون الله، ويذكرون حكمته ومسيحه، فاختاروا إصطفانس، وفيلبس، وأبرحورس، ونيقانور، وطيمون، وبرمنا، ونيقولاوس الأنطاكي، وأقاموهم، فصلوا عليهم، وقدسوهم، فجعلوا يصفون أمر المسيح، ويدعون الناس إلى دينهم.
وكان بولس أشد الناس عليهم، وأعظمهم إيذاء لهم، وكان يقتل من يقدر عليه منهم، ويطلبهم في كل موضع، فخرج يريد دمشق ليجمع قوماً كانوا بها، فسمع صوتاً يناديه: يا بولس، كم تضطهدني! ففزع حتى لم يبصر، ثم جاءه حنانيا، فقدس عليه حتى انصرف، وبرأت عينه، فصار يقوم في الكنائس، فيذكر المسيح، ويقدسه، فأرادت اليهود قتله، فهرب منهم، وصار مع التلامذة يدعو الناس، ويتكلم بمثل ما يتكلمون به، ويظهر الزهد في الدنيا، والتقليل منها، حتى قدمه الحواريون جميعا على أنفسهم، وصيروه رأسهم.
وكان يقوم فيتكلم، ويذكر أمر بني إسرائيل والأنبياء، ويذكر حال المسيح، ويقول: ميلوا بنا إلى الأمم، كما قال الله للمسيح: إني وضعتك نوراً للأمم، فتصير إخلاصاً إلى أقطار الأرض، فتكلم كل رجل منهم برأيه، وقالوا: ينبغي أن يحتفظ بناموس، وأن يرسل إلى كل بلد من يدعو إلى هذا الدين، وينهاهم عن الذبائح للأوثان، وعن الزنا، وعن أكل الدم.
وخرج بولس ومعه رجلان إلى أنطاكية ليقيموا دين المعمودية، ثم رجع بولس، وأخذ، فحمل إلى ملك رومية فقام فتكلم، وذكر حال المسيح، فتحالف قوم على قتله لإفساده دينهم، وذكره المسيح وتقديسه عليه.
ملوك السريانيينوكان أول الملوك بعد الطوفان بأرض بابل ملوك السريانيين، فأول من ملك منهم، وعقد التاج على رأسه: شوسان، وكان ملكه ست عشرة سنة، ثم ملك بعده بوير ابنه عشرين سنة، ثم ملك اسماشير بن ألول سبع سنين، ثم ملك بعده عمرقيم ابنه عشر سنين، ثم ملك أهريمون ابنه عشر سنين، ثم ملك سمادان ابنه عشر سنين، ثم ملك سبير ابنه ثماني سنين، ثم ملك هريمون ثماني عشرة سنة، وملك ابنه هوريا اثنتين وعشرين سنة، ثم ملك أرود وحلحابيس كلاهما اثنتي عشرة سنة.
ملوك الموصل ونينوىوكان أول من ملك منهم بالوس اثنتين وثلاثين سنة، وملك نينوس بن بالوس اثنتين وخمسين سنة، وبنى مدينة نينوى، ثم ملكت امرأة يقال لها شميرم أربعين سنة، ثم ملك لاوسنسر خمساً وأربعين سنة، ثم ملك خمسة عشر ملكاً لا تاريخ لهم، ولا قصص.
ملوك بابلفكان أول ملوك بابل، بعد السريانيين، نمرود الجبار، فملك تسعاً وستين سنة، وملك كودس ثلاثاً وأربعين سنة، وملك أرقو عشر سنين، وملك بولس اثنتين وستين سنة، ثم ملك سميرم اثنتين وأربعين سنة، وملك قوسميس تسعاً وستين سنة، وملك أنيوس ثلاثين سنة، وملك ليلاوس اثنتي عشرة سنة، وملك اطلوس اثنتين وثلاثين سنة، و ملك سفردس ثلاثين سنة، ثم ملك حازم بودس ثلاثين سنة، ثم ملك سعالوس ثلاثين سنة، وملك سبطاس أربعين سنة، وملك اسنطرس أربعين سنة، وملك دمنوطوس خمساً وأربعين سنة، وملك العروس ثلاثين سنة، وملك المقرندوس اثنتين وخمسين سنة، وملك قاربوس ثلاثين سنة، وملك باباوس خمساً وأربعين سنة، وملك شرسبا أدوموس أربعين سنة، وملك دارافوس ثمانياً وثلاثين سنة، وملك لاوبس خمساً وأربعين سنة، وملك فطريس، ثلاثين سنة، وملك فرطاوس عشرين سنة، وملك افرطا ستين سنة، وملك قولا خمساً وثلاثين سنة، وملك بعنطس خمساً وثلاثين سنة، وملك اسبعلو سرفتم أربع عشرة سنة، وملك اسرعون سبع سنين، وملك قيم حدوم ثلاث سنين، وملك فردوح سبعاً وأربعين سنة، وملك سنحاريب إحدى و ثلاثين سنة، وملك معرساً ثلاثاً وثلاثين سنة، وملك بخت نصر خمساً وأربعين سنة، وملك فرمورج سنة واحدة، وملك سط سفر ستين سنة، وملك ماسوسا ثماني سنين، وملك معوسا سبعة أشهر، وملك داريوش إحدى وثلاثين سنة، وملك كسر حوش عشرين سنة، وملك فرطنان سبعة أشهر، وملك منحسمت إحدى وأربعين سنة، وملك سعلس سبعة أشهر، وملك داريوش، وهو الذي قتله الإسكندر، تسع عشرة سنة، وملك أرطحشاست سبعاً وعشرين سنة.
هؤلاء الملوك ملوك الدنيا، وهم الذين شيدوا البنيان، واتخذوا المدن، وعملوا الحصون، وشرفوا القصور، وحفروا الأنهار، وغرسوا الأشجار، واستنبطوا المياه، وأثاروا الأرضين، واستخرجوا المعادن، وضربوا الدنانير، وصاغوا وكللوا التيجان، وطبعوا السيوف، واتخذوا السلاح، وعملوا آلات الحديد، وصنعوا النحاس والرصاص، واتخذوا المكاييل والموازين، واختطوا البلدان، وقلموا الأقاليم، وأسروا الأعداء، واستعبدوا الأسراء، واتخذوا السجون، ووصفوا الأزمنة، وسموا الشهور، وتكلموا في الأفلاك والبروج والكواكب، وحسبوا، وقضوا بما يدل عليه الاجتماع والافتراق، والتثليث والتربيع، والمجاسدات.
ملوك الهندقال أهل العلم: إن أول ملوك الهند الذي اجتمعت عليه كلمتهم: برهمن الملك الذي في زمانه كان البدء الأول، وهو أول من تكلم في النجوم، وأخذ عنه علمها، والكتاب الأول، الذي تسميه الهند: السند هند، وتفسيره دهر الدهور، ومنه اختصر الأرجبهر والمجسطي، ثم اختصروا من الأرجبهر الأركند، ومن المجسطي كتاب بطليموس، ثم عملوا من ذلك المختصرات والزيجات وما أشبهها من الحساب، ووضع التسعة الأحرف الهندية التي يخرج منها جميع الحساب والتي لا تدرك معرفتها، وهي 1 2 3 4 5 6 7 8 9، فالأول منها واحد، وهو عشرة ومائة، وهو ألف، وهو مائة ألف ، وهو ألف ألف، وهو عشرة آلاف ألف، وهو مائة ألف ألف، وعلى هذا الحساب أبدا فصاعدا، والثاني، وهو اثنان، وهو عشرون، وهو مائتان، وهو ألفان، وهو عشرون ألفاً، وهو مائتا ألف، وهو ألفا ألف، وعلى هذا الحساب يجري التسعة الأحرف، فصاعدا، غير أن بيت الواحد معروف من العشرة، وكذلك بيت العشرة معروف من المائة، وكذلك كل بيت، وإذا خلا بيت منها يجعل فيه صفر، ويكون الصفر داره صغيرة.
وجعلوا الدنيا سبعة أقاليم: فالإقليم الأول الهند، وحده مما يلي المشرق: البحر، وناحية الصين إلى الديبل مما يلي أرض العراق، إلى خليج البحر مما يلي أرض الهند، إلى أرض الحجاز.
والإقليم الثاني: الحجاز، حده: هذا الخليج إلى عدن إلى أرض الحبشة مما يلي أرض مصر، إلى الثعلبية مما يلي أرض العراق.
والإقليم الثالث: مصر، حده: مما يلي أرض الحبشة إلى أرض الحجاز، إلى البحر الأخضر مما يلي الجنوب، إلى المغرب، إلى الخليج الذي يلي الروم، إلى نصيبين مما يلي أرض العراق.
والإقليم الرابع: وهو العراق، حده مما يلي الهند: الديبل، ومما يلي الحجاز: الثعلبية، ومما يلي أرض مصر والروم: نصيبين، ومما يلي أرض خراسان: نهر بلخ.
والإقليم الخامس: الروم، حده مما يلي أرض مصر: الخليج، ومما يلي المغرب: البحر، ومما يلي الترك: يأجوج ومأجوج، ومما يلي أرض العراق: نصيبين.
والإقليم السادس: يأجوج ومأجوج، حده مما يلي أرض المغرب: الترك، ومما يلي الخزر: البحر، ومفاوز بينه وبين بحور الشمال، ومما يلي المشرق: أرض نصيبين، ومما يلي خراسان: نهر بلخ.
والإقليم السابع: الصين، حده مما يلي المغرب: يأجوج ومأجوج، ومما يلي المشرق: البحر، ومما يلي الهند: أرض قشمير، ومما يلي خراسان: نهر بلخ، وقالوا كل إقليم من هذه الأقاليم يسع مائة فرسخ في مثلها.
وذكروا أن قطر الأرض ألفان ومائة فرسخ، ومدها ستة آلاف وثلاثمائة فرسخ، وانهم قدروا هذا الفرسخ على ستة عشر ألف ذراع. وذكروا أن الذراع الذي يحيط بأسفل دائرة النجوم، وهو فلك القمر، مائة ألف فرسخ وخمسة وعشرون ألفا وستمائة وأربعة وستون فرسخاً، وأن قطرة من حد رأس الحمل إلى حد رأس الميزان أربعون ألف فرسخ، بتقدير هذه الفراسخ التي قدروا بها الأرض فساعات طول النهار في الإقليم الأول: ثلاث عشرة ساعة، وفي الثاني: ثلاث عشرة ساعة ونصف، وفي الثالث: أربع عشرة ساعة، وفي الرابع: أربع عشرة ساعة ونصف، وفي الخامس: خمس عشرة ساعة، وفي السادس: خمس عشرة ساعة ونصف، وفي السابع: ست عشرة ساعة.
و كل مدينة كانت في مقادير طول نهارها في هذا القدر، فهي متوسطة الإقليم الذي هي فيه، وما كان فيما بين هذه الأقدار، فهي من الإقليم الذي هي إليه أقرب في مقدار الساعات، فصار وسط الإقليم الأول، على مسيرة نحو من ثلاثين ليلة من خط الاستواء، بأرض اليمن مدينة سبإ وما والاها إلى المشرق والمغرب، وذلك، فيما دون عدن، أبين بقدر عشرة أيام، ووسط الإقليم الثاني مكة وما والاها من المشرق إلى المغرب، ووسط الإقليم الثالث الإسكندرية وما والاها من ناحية الكوفة والبصرة من المشرق والمغرب، ووسط الإقليم الرابع أصفهان وما والاها مما هو في مثل عرضها من المشرق إلى المغرب، ووسط الإقليم الخامس في أداني أرض مرو وما والاها مما هو في مثل عرضها من المشرق إلى المغرب، ووسط الإقليم السادس برذعة وما والاها مما هو في مثل عرضها ما بين المشرق إلى المغرب، ووسط الإقليم السابع بجبال الترك وما والاها مما هو في مثل عرضها مما بين المشرق والمغرب.
وقالت الهند إن الله، عز وجل، خلق الكواكب في أول دقيقة من الحمل، وهو أول يوم من الدنيا، ثم سيرها من ذلك الموضع في أسرع من طرفة العين، فجعل لكل كوكب منها سيراً معلوماً حتى يوافي جميعها، في عدة أيام السند هند، إلى ذلك الموضع الذي خلقت فيه كما كانت كهيئتها الأولى، ثم يقضي الله، تبارك وتعالى، ما أحب، فقالوا: إن جميع أيام الدنيا من السند هند، منذ أول ما دارت الكواكب إلى أن تجتمع جميعاً في دقيقة الحمل، كما كانت يوم خلقت: ألف ألف ألف ألف، وخمسمائة ألف ألف ألف، وسبعة وسبعون ألف ألف ألف، وسبعمائة ألف ألف، وستة عشر ألف ألف، وأربعمائة ألف، وخمسون ألف يوم، يكون ذلك شهوراً ستين ألف ألف ألف، وثماني مائة ألف ألف، وأربعين ألف ألف شهر، ويكون من السنين أربعة آلاف ألف ألف، وثلاثمائة ألف ألف، وعشرين ألف ألف سنة كاملة بسني الشمس على مدارها، والسنة ثلاثمائة وخمسة وستون يوماً وربع يوم و خمس ساعات، وجزء من أربعمائة جزء من ساعة.
ثم اضطرب أمر الملك بالهند، فأقام زماناً طويلاً وهو ممالك مفترقة في البلاد، لكل طائفة مملكة، حتى غزتهم الملوك فخافوا أن يدخل عليهم الوهن، وكانوا أهل حكمة ومعرفة وعقول، مجاوزين بها مقدار غيرهم من الأمم فأجمعوا على تمليك رجل واحد، فملكوا زارح، وكان عظيم الشأن، جليل القدر، فعظم ملكه، و جل سلطانه، حتى سار إلى أرض بابل، ثم تجاوزها إلى ملوك بني إسرائيل، وهو الذي غزا بني إسرائيل، بعد أن مات سليمان ابن داود بعشرين سنة، وملك إسرائيل يومئذ رحبعم بن سليمان، فضجت بنو إسرائيل إلى الله تعالى، فسلط الله على زارح وجيشه الموت، فانصرف إلى بلاده.
ومن ملوكهم فور، وهو الذي غزا بلاده الإسكندر لما قتل ملك الفرس، وغلب على أرض العراق وما والاها مما كان في مملكة داريوش، وذلك أنه كتب إليه يأمره بالدخول في طاعته، وكتب إليه فور أنه يزحف إليه بالجيوش، بدر الإسكندر، فصار إلى بلاده، وخرج إليه فور، فحاربه، وأخرج فور الفيلة وكان العلو على الإسكندر، فكانت لا يقف لها شيء، فعمل الإسكندر تماثيل من نحاس، ثم حشاها بالنفط والكبريت، وأشعل النار في داخلها، ثم صيرها على عجل، وألبسها السلاح، ثم قدمها أمام الصفوف، فلما تلاقوا دفعتها الرجال إلى الفيلة، فلما قربت حملت عليها الفيلة بخراطيمها، فكانت تلف الخراطيم على ذلك النحاس وهو يلهب فتشتوي، وتنصرف منهزمة، فتفل كراديس الهند، وتهلكهم، ثم دعا الإسكندر فور ملك الهند إلى أن يبارزه، فبرز له، فقتله الإسكندر مبارزة بعدله، واستباح عسكره.
ومن ملوكهم كيهن، وكان رجلا حكيما، ذكيا، أديبا، فملكه الإسكندر بعد فور على جميع أرض الهند، وكان كيهن قد استعمل الفكر، فكان أول من قال بالتوهم، وإن الطبيعة تنصرف إلى ما تتوهمه، فما توهمت أنه ينفعها نفعها وإن كان ضاراً، وكان كيهن يأكل البيش، وهو السم القاتل، ثم يتوهم أن على قلبه أحمال ثلج، فلا يضره ذلك البيش، حتى احترقت رطوبته، وكان من أصح خلق الله ذهنا، وأحفظه وأذكاه.
ومن ملوكهم دبشليم، وهو الذي وضع في عصره كتاب كليلة ودمنة، وكان الذي وضعه بيدبا حكيم من حكمائهم، وجعله أمثالاً يعتبر بها، ويتفهمها ذوو العقول، ويتأدبون بها، فكان أول باب منها باب السلطان الذي سعى إليه البغاة بخاصته وأصحابه المقدمين عنده، وكيف ينبغي أن يستعمل الأناة والتثبيت، ولا يعجل بقول السعاية، وهو باب الأسد والثور.
الباب الثاني باب الفحص عن الأمور، وكيف تكون العواقب فيها، وما يؤدى إليه البغي و التهور والكيد من سوء العاقبة، وهو باب الفحص عن خبر دمنة.
الباب الثالث باب الأعداء والتحرز منهم والحيلة لهم، والكلام الذي يكسب العداوة، وما يجب من مداراة الأعداء، وانتهاز الفرصة فيهم عند إمكان الأمر، والتضرع لهم حتى يمكن الانتقام منهم، وهو باب البوم والغربان.
الباب الرابع باب المشاورة للعلماء والاستعانة بأهل الحزم والأمانة، وإفشاء الأمور إلى أهل العقل، وهو باب بلاذ.
الباب الخامس باب المعروف وإلى من ينبغي أن يصطنع وكيف يفسده سوء الشكر إذا وضع غير موضعه، وحمله من لا يستحقه، وكيف يعرف موضعه عند أهله الذين يشكرونه، وهو باب السلحفاة والببر والقرد والنجار.
الباب السادس باب الظفر بالأمر، وإضاعته بعد إمكانه، والعجز عن حفظه بعد القدرة عليه، وهو باب القرد والغيلم.
الباب السابع باب المداراة ومصانعة أهل الشأن، واحتراز مودتهم، واستماله أهل الانحراف حتى يتخلص من السوء، وهو باب السنور والجرذ.
الباب الثامن باب معرفة السلطان بأعوانه وأقربائه وأهل دخلته، واستصلاحه من نالته جفوته منهم، واجتلاب ردئه، والاستعانة على أموره بأهل العفاف والمودة، وتفقد أحوال أعوانه وحاشيته، ومكافأة المحسن، ومعاقبة المسيء على الإساءة، وهو باب الأسد وابن آوى.
الباب التاسع باب الإخوان والمتصادقين على صحة موداتهم، ومقدار الإخوان، وعظم النفع بهم، ومعاونتهم على أمور الشدة والرخاء، وهو باب الحمامة المطوقة.
الباب العاشر باب طلب نفع الناس بضر النفس، والتفكر في العاقبة، وهو باب اللبؤة والأسوار. وقال بعض علماء الهند إن أهل بلاد الهند تواتر عليهم الموت، حتى ذهب علماؤهم، وضعف الملك، وإنه لما ملك هشران طلب من يحيى له شرائع دين آبائه، فأتاه قفلان، وكان داهية، فقال له: إن الناس جزء من الحيوان، وإن الحيوان جزء من النامي، وإن النامي من الطبائع الأربع التي هي: النار والهواء والأرض والماء، وإن النامي ينقسم على ثلاثة أقسام: أحدها النبات، وله النمو فقط، والثاني ما يكون في البحر من الأصداف وما أشبهها، وله نمو وحس، والثالث الحيوان البري، وله نمو وحس وحركة، وإن الحيوان أقل وأحقر من أن يدبرهم الخالق، وإنما يدبرهم ويصرفهم الفلك.
فقال له الملك: أرني صورة ما تقول وبرهانه! فوضع النرد، وقال: اتفق الناس على أن دور الزمان سنة، ومعناها اثنا عشر شهراً، ومعناها البروج الاثنا عشر، وعلى أن أيام الشهر ثلاثون يوماً، ومعناها لكل برج ثلاثون درجة، وعلى أن الأيام سبعة، ومعناها الكواكب السبعة السيارة، ثم جعل تشبيها لذلك، فوضع عرصة شبيهة بالسنة، وصير فيها أربعة وعشرين بيتاً عدد ساعات الليل والنهار، في كل ناحية اثنا عشر بيتاً تشبيها بشهور السنة والبروج، وصير لها ثلاثين كلباً تشبيها بأيام الشهر ودرج البروج، وصير الفصين تشبيها بالليل والنهار، وفي كل فص ست جهات لأنه عدد تام له نصف وثلث وسدس، في كل فص، إذا سقط من أعلاه وأسفله، سبع نقط: تحت الست واحدة، وتحت الخمس اثنتان، وتحت الأربع ثلاث، تشبيهاً بعدد الأيام والكواكب السبعة السيارة، وهي: الشمس، والقمر، وزحل، والمشتري، والمريخ، وعطارد، والزهرة، ثم جعلها محنة بين رجلين، وأعطى كل واحد فصاً، وقال: من أعطيته هذه السبع النقط من أعلاها أكثر من صاحبه بدا، فاجتمع له الفصان، فضرب، وما ظهر من الفصين تقلب الكلاب عليه، وجعل ذلك تمثيلاً للحظ الذي يناله العاجز بما جرى له الفلك، والحرمان الذي يبتلي به الحازم، على حسب ما يجري له الفلك، فلما ظهر ذلك قبله الملك، وفشا في أهل المملكة، وصار أهل الهند تجري أمورها بما تدبره الكواكب السبعة السيارة.
وملك بلهيت وقد غلب على أهل المملكة هذا الدين، وكان له عقل ومعرفة، فلما رأى ما عليه أهل مملكته ساءه ذلك، وبلغ منه، ثم سأل: هل بقي رجل على دين البرهمية؟ فدل على رجل له عقل ودين، فأرسل إليه، فلما أتاه أكرمه، ورفع درجته، ثم ذكر له ما قد فشا في أهل مملكته، فقال: أيها الملك! أنا أقيم برهاناً اضطر به، ويعرف به فضل الحازم، وموضع تقصير العاجز، واجعلها صورة بين اثنين ليبين فضل الحازم على العاجز، والمجتهد على المقصر، والمحتاط على المضيع، والعالم على الجاهل، فوضع الشطرنج، وتفسيرها بالفارسية هشت رنج، وهشت ثمانية، ورنج صفح، وصيرها ثمانية في ثمانية، فصارت أربعة وستين بيتاً، وصيرها اثنين وثلاثين كلباً، مقسومة بين لونين، كل لون ستة عشر كلباً، وقسم الستة عشر على ست صور فالشاة صورة، والفرز صورة والفيلان صورة، والرخان صورة، والفرسان صورة، والبيادق صورة، فاشتق ذلك من زوج الزوج، وهو أحسن ما يكون من الحساب لأن الأربعة والستين، إذا قسمتها، كان لها نصف، وهو اثنان وثلاثون، وهي عدة جميع الكلاب، وإذا نصفت الاثنين والثلاثين كان لها نصف، وهو ستة عشر، وهو ما لكل واحد من الكلاب، وإذا نصفت الستة عشر كان لها نصف، وهو ثمانية، وهي عدة بيادق كل واحد، فإذا نصفت الثمانية كان لها نصف، وهو أربعة، وهو الرخان والفرسان من كل واحد فإذا نصفت الأربعة كان لها نصف، وهو اثنان، فقد انقسمت أزواجاً ولم يبق في القسم بعد الأزواج إلا الواحد الذي يقسمها كلها آحاداً، وهو ليس بعدد، ولا معدود، ولا زوج، ولا فرد، لأن أول أعداد الفرد ثلاثة.
ثم قال الحكيم: ليس شيء أجل من الحرب، لأنه يبين فيها فضل التدبير، وفضل الرأي، وفضل الحزم، وفضل الاحتياط، وفضل التعبية، وفضل المكيدة، وفضل الاحتراس، وفضل النجدة، وفضل البأس، وفضل القوة، وفضل الجلد، وفضل الشجاعة، فمن عدم منه شيء من هذا عرف موضع تقصيره لأن خطأها لا يستقال، والعجز فيها متلف للمهج، والجهل مبيح للحمى، وترك الحزم ذهاب الملك، وضعف الرأي جلب للعطب، والتقصير سبب الهزيمة، وقلة العلم بالتعبية داعية الانكشاف، وقلة المعرفة بالمكيدة تهور إلى الهلكة، وترك الاحتراس نهزه للعدو، وجعلها على مثال الحرب، فإن أصاب ظفر وإن أخطأ هلك.
فلما رأى الملك صحة البرهان، وتبين فضل حكمة الحكيم، وعلم أن قد أصاب وأحسن التمثيل، وأبان عما قد عمي عنه، جمع أهل مملكته، فعرفهم ما كشف الله عنهم من الغم، وأمرهم أن يقيموها ويتأملوها، وقال لهم، قد علمنا أن ليس في العالم حي ناطق، مفكر، ضاحك عاقل إلا الإنسان، فالإنسان عليه مدار جميع ما في العالم، لأن الفلك بجميع ما فيه خلقه الخالق للإنسان ليعرف به ما يحتاج إليه من زمانه وأوقاته، وكذلك ذلل له جميع ما في الأرض، وكل ما خلق الله مما في قعر البحر، وجو السماء ورؤوس الجبال فلما ملك الإنسان جميع ما خلق قسم ذلك الإنسان ثلاثة أقسام فأكل ثلاثاً، وسخر ثلاثاً، وقتل ثلاثاً: فأكل الطير والسمك وما شاء من النعم والإبل، وسخر البقر والحمير والدواب، وقتل السباع والحيات والهوام، ثم جعل فيه آلات يعلم بها، ويعقل بها، ويدرك بها، ويفهم، ففضل الناس بعضهم بعضا بالعلم والعقل والفهم.
وقد زعم علماء من علماء الهند أنه لما ملكت حوسر بنت بلهيت خرج عليها خارجي، وكانت جارية عاقلة، فوجهت ابناً لها، وكان لها أربعة أولاد، فقتل ذلك الخارجي ابنها، فعظم ذلك أهل مملكتها، وأشفقوا من أخبارها، فاجتمعوا على حكيم من حكمائهم يقال له قفلان، وكان ذا حكمة وفطنة ورأي، فذكروا ذلك له، فقال: أنظروني ثلاثاً! ففعلوا ذلك، وخلاً مفكراً، ثم قال لتلميذ له، أحضرني نجاراً وخشباً من لونين مختلفين، أبيض وأسود، فأحضره نجاراً فارها، وخشباً من لونين مختلفين، أبيض وأسود، فصور صورة الشطرنج، وأمر النجار، فنجرها، ثم قال له: أحضرني جلداً مدبوغاً! فأمره أن يخط فيه أربعة وستين بيتاً، ففعل ذلك، فنصب ناحية، ثم تجاولا حتى فهماها وأحكماها، ثم قال لتلميذه: هذه حرب بلا ذهاب أنفس.
ثم حضره أهل المملكة، فأخرجها لهم، فلما رأوها علموا أنها حكمة لا يهتدي لها أحد، وجعل يجاول تلميذه، فيقع شاة مات، وشاة غلب، فأخبرت الملكة بخبر قفلان، فأحضرته، وأمرته أن يريها حكمته، فأحضر تلميذه، ومعه الشطرنج، فنصبها بينه وبينه، فلعبا فغلب أحدهما صاحبه، فقال، شاه مات! فانتبهت، وعلمت ما أراداه، وقالت لقفلان: أقتل ابني؟ قال: أنت قلت! فقالت لحاجبها: أدخل الناس، يعزوني فلما فرغت أحضرت قفلان وقالت له: سل حاجتك! فقال: أسأل أن أعطى قمحاً بعدد بيوت الشطرنج، أعطى في البيت الأول حبة وفي الثاني اثنتين، ثم يضعف ذلك لي في البيت الثالث على الثاني، ثم على هذا الحساب إلى آخرها.
قالت: وما مقدار هذا؟ ثم أمرت بالحنطة أن تحضر، فلم يقم لذلك شيء حتى أنفدت قموح البلد، ثم قوم القمح بالمال حتى فنى المال، فلما كثر ذلك قال: لا حاجة لي به! إن قليل الدنيا يكفيني. ثم سألته عن عدد الحب الذي سال، فقال لها: يكون ذلك عدداً، وهذا ما في الشطرنج من العدد: السطر الأول مائتان وخمسة وخمسون.
الثاني اثنان وثلاثون ألفاً وسبعمائة وثمانية وستون.
الثالث ثمانية آلاف ألف وثلاثمائة وثمانية وثمانون ألفا وستمائة وثمانية.
الرابع ألفاً ألف ألف، ومائة وسبعة وأربعون ألف ألف، وأربعمائة وثلاثة وثمانون ألفاً، وستمائة وثمانية وأربعون.
الخامس خمسمائة وتسعة وأربعون ألف ألف ألف، وسبعمائة وخمسة وخمسون ألف ألف، وثماني مائة ألف، وثلاثة عشر ألفاً، وثماني مائة وثمانية وثمانون.
السادس مائة وأربعون ألف ألف ألف، و سبعمائة وسبعة وثلاثون ألف ألف ألف، وأربعمائة وثمانية وثمانون ألف ألف، وثلاثمائة وخمسة وخمسون ألفاً، وثلاثمائة وثمانية وعشرون. السابع ستة وثلاثون ألف ألف ألف ألف ألف، وثمانية وعشرون ألف ألف ألف ألف، وسبعمائة وسبعة وتسعون ألف ألف ألف، وثمانية عشر ألف ألف، وتسعمائة وثلاثة وستون ألفاً، وتسعمائة وثمانية وستون.
الثامن تسعة آلاف ألف ألف ألف ألف ألف، ومائتان وثلاثة وعشرون ألف ألف ألف ألف ألف، وثلاثمائة واثنان و سبعون ألف ألف ألف ألف، وستة وثلاثون ألف ألف ألف، وثماني مائة وأربعة و خمسون ألف ألف، وسبعمائة وخمسة وسبعون ألفاً، وثماني مائة وثمانية، يكون جميع ذلك في الشطرنج الثمانية ثمانية عشر ألف ألف ألف ألف ألف ألف، وأربعمائة وستة وأربعين ألف ألف ألف ألف ألف، وسبعمائة وأربعة وأربعين ألف ألف ألف ألف، وثلاثة وسبعين ألف ألف ألف، وسبعمائة وتسعة آلاف ألف وخمسمائة وواحداً وخمسين ألفاً وستمائة وخمسة عشر. ومنهم كوش الملك الذي كان في زمان سندباذ الحكيم، وكوش هذا وضع كتاب مكر النساء. والهند أصحاب حكمة ونظر، وهم يفوقون الناس في كل حكمة، فقولهم في النجوم أصح الأقاويل، وكتابهم فيه كتاب السند هند الذي منه اشتق كل علم من العلوم مما تكلم فيه اليونانيون والفرس وغيرهم، وقولهم في الطب المقدم، ولهم فيه الكتاب الذي يسمى سسرد فيه علامات الأدواء، ومعرفة علاجها وأدويتها، وكتاب شرك، وكتاب ندان في علامات أربعمائة وأربعة أدواء ومعرفتها بغير علاج، وكتاب سند هشان، وتفسيره صورة النجح، وكتاب فيما اختلفت فيه الهند والروم من الحار والبارد و قوي الأدوية وتفصيل السنة، وكتاب أسماء العقاقير كل عقار بأسماء عشرة، ولهم غير ذلك من الكتب في الطب، ولهم في المنطق والفلسفة كتب كثيرة في أصول العلم منها: كتاب طوفا في علم حدود المنطق، وكتاب ما تفاوت فيه فلاسفة الهند والروم، ولهم كتب كثيرة يطول ذكرها ويبعد عرضها.
ودين أهل الهند البرهمية، وفيهم عبدة الأصنام، ولهم ممالك مختلفة وملوك متفرقة لسعة البلد في طوله وعرضه، فأول ملوكهم مما يتاخم البلاد التي هي اليوم في دار الإسلام: دانق، وهو ملك عظيم القدر، واسع المملكة، كثير العدة، ثم من بعده رهمي، وهو أعظم قدراً وأعز بلاداً، وهو على بحر من البحور، وفي بلده الذهب وما أشبهه، ثم مملكة بلهري، ثم الكمكم ومن عندهم يأتي الساج، ولهم اتساع في البلاد، ثم مملكة الطافن، وهم قوم بيض الوجوه، ثم مملكة
كنباية، ومملكة الطرسول، ومملكة الموسة، ومملكة المايد، وهذه الممالك تتاخم الصين، وهم يحاربون الصين، ثم مملكة سرنديب، ثم مملكة قمار، وهي مملكة جليلة القدر، عظيمة الأمر، يتقدم لملكهم الملوك، ثم مملكة الديبل، ثم الفاريط، ثم مملكة الصيلمان، ولهم بعض ممالك يليها النساء.
اليونانيونوكان لليونانيين حكماء متفلسفون، وفلاسفة متكورون، ومنهم من تكلم في الطب، ومنهم من تكلم في حقائق الأمور، ومنهم من تكلم في الحساب والأعداد، ومنهم من تكلم في الأفلاك و النجوم، ومنهم من تكلم في الحساب والقسمة، ومنهم من قال في الهندسة والفلاحة، ومنهم من قال في الصنعة والإكسيرات، ومنهم من قال في الفراسة، ومنهم من قال في الطلسمات والآلات فيقال إن أول حكيم وضع كتاباً، ودون علماً، أبقراط مقليدس بن أبقراط، فبفلسفته يتفلسف الحكماء في الطب، وإليه يرجعون في المعرفة، وله من الكتب: كتاب الفصول، وكتاب البلدان والمياه و الأهوية، وكتاب ماء الشعير، وكتاب تقدمة المعرفة، وكتاب الجنين، وكتاب الأركان، وكتاب الغذاء، وكتاب الأسابيع، وكتاب أوجاع النساء، وكتاب أبيذيميا، فهذه مشهورات من كتبه، وله بعد ذلك كتب كثيرة، فالكتب التي لا بد للمتطببين من معرفتها من كتب أبقراط أربعة، وهي: كتاب الفصول، و كتاب تقدمة المعرفة، وكتاب الأهوية والأزمنة، وكتاب ماء الشعير.
فأما كتاب الفصول، فإنه قال في كل وجه من العلم قولا جامعا، في سبعة وخمسين باباً، وهي التي تسمى التعليمات: فالتعليم الأول في الصنعة وصنفها قال أبقراط: العمر قصير، والصناعة طويلة، والزمان حديد، والتجربة خطرة، والقضاء عسر.
التعليم الثاني في أصناف الطعام للمرضى وتقديره قال أبقراط: الأطعمة اللطيفة دقيقة جداً ليست في الأمراض المزمنة، ولا في الحادة، والأطعمة أيضاً التي على أقصى حد اللطافة ردية مثلما أن الماء الذي على الحد الأقصى ردي.
التعليم الثالث في اهتياج الحمى قال أبقراط: ينبغي أن يتحفظ في الطعام، وإن الزيادة منه مضرة، وكل ما يعرض من الأمراض في الحين بعد الحين، فينبغي التحفظ عند اهتياجها. التعليم الرابع في علامات الأمراض قال أبقراط: الدليل على حال الأمراض ما يظهر من لفظ الجسد فيها: مثل من به ذات الجنب، إن ظهر منه نفث عاجل من أول المرض قصر مرضه، وإن ظهر ذلك متأخراً طال مرضه، وفي مثل البول والبراز والعرق، إذا ظهر على الوجه الذي يجري عليه القضاء بالفرج، أو على خلاف ذلك على قصر الأمراض وطولها.
التعليم الخامس قال أبقراط: كلما نشت، يعني ذوات الأرواح، فهو كثير الحرارة الغريزية، ولذلك يحتاج إلى كثرة الطعام وإلا بلي جسده.
التعليم السادس فيما ينبغي أن يطعم للمحمومين من الطعام، قال أبقراط: التدبيرات الرطبة بجميع المحمومين أمثل، ولا سيما للصبيان ولغيرهم من الذين اعتادوا ذلك التدبير، لبعض مرة، ولبعض اثنتين وأكثر وأقل، ومرة بعد مرة، وأعطوا الساعة والعادة والبلاد والسن حقها.
التعليم السابع في معرفة الموقت قال أبقراط فيما يتفرج وما قد تفرج: ينبغي أن لا يحرك، ولا يحدث به حدث لا بأدوية، ولا بغيرها، مما يهيج ذلك.
التعليم الثامن في النوم قال أبقراط: في أي مرض كان إن جاءه النوم بوجع، فذلك يموت، وإن نفع النوم، فليس بميت، وإن رد النوم ذهاب العقل، فذلك صالح.
التعليم التاسع في سقي الدواء قال أبقراط: ينبغي لمن أراد تنقية الأجساد أن ينقيها قبل ذلك أي إذابة ما فيها من الكيميوس الغليظ.
التعليم العاشر في البراز قال أبقراط: إن وقع في الجسد وجع، أو خرجت في الجسد خراجات، فعند ذلك ينبغي أن ينظر في البراز، فإن كانت مرة صفراء فالجسد كله مريض، وإن كان شبيها ببراز الأصحاء فالطعام الحشد.
التعليم الحادي عشر قال أبقراط في الأمراض الحادة لأنها ربما أسرعت إلى الدماغ، أو إلى القلب، أو الكبد، فتهلك، وربما أسرع انحطاطها فتبرأ. التعليم الثاني عشر في القضاء في الفرج قال أبقراط: الأمراض الحادة يقضي عليها بالفرج في أربعة عشر يوماً.
التعليم الثالث عشر قال أبقراط: عند ابتداء الأمراض إن رأيت أن تحرك شيئاً، فحرك، و
إن صعدت العلة، فلزوم الكف أفضل، أي إن رأيت موضعا للعلاج، فقبل أن تصعد العلة. التعليم الرابع عشر في معرفة صالح الأمراض وطالحها قال أبقراط: في كل مرض صحة عقل المريض حسن، وقبوله ما يقضي خير، وخلاف ذلك شر أي ما يجد العليل في الدماغ والمعدة. التعليم الخامس عشر في المخنوقين قال أبقراط: الذين يخنقون ويخلون قبل أن يموتوا إن ظهر في أفواههم زبد لم يسلموا.
التعليم السادس عشر في إضمار الجسد والعناء قال أبقراط: في كل تحريك الجسد، إذا بدا بتعب، ثم ودعته مكانك لم يضر التعب.
التعليم السابع عشر في انقلاب الساعات قال أبقراط: انقلاب الساعات عن عظم البرد والحر وغير ذلك مما يجري مجراه أي انقلاب ساعات الزمان من أجزاء السنة.
التعليم الثامن عشر في العرق قال أبقراط: إذا كان الزمان شبيها بالصيف يعني الربيع فعند ذلك ينبغي أن يتوقع كثرة العرق مع كل حمى تعرض. التعليم التاسع عشر في الساعات قال أبقراط: إن كان الشتاء يابساً بلا رطوبة، وكانت رياحاً شمالاً، كان الصيف، يعني الربيع، ممطوراً، وكانت رياحة يمانية، فلا بد أن يكون في القيظ حميات حادة، ووجع العين واختلاف من الأعفاج، وعامة ذلك في النساء والذين في طبيعتهم رطوبة.
التعليم العشرون في تدبير السنين قال أبقراط: السنة اليابسة أوبأ من الممطورة الرطبة، عامتها حميات طويلة، وسيلان البطون، وخروج متماشية، وجنون، وفالج، وذبحه، وأما أمراض السنة اليابسة، فقرح في الرئة، ووجع العيون والمفاصل، وتقطير البول، واختلاف من خراج الأعفاج.
التعليم الواحد والعشرون في أمراض الساعات والأسنان قال أبقراط: في الساعات على ما يكون من الأمراض في الصيف وأول القيظ: الغلمان والذين يتلونهم في السن أصحاء، وحسن حالهم أفضل من غيرهم، وفي القيظ، وبعض الربيع: الشيوخ أحسن حالاً، وفي سائر الربيع والشتاء: أهل النصفة في السن أفضل حالاً.
التعليم الثاني والعشرون في الأمراض التي تصيب الإنسان فيبدأ بالولدان قال أبقراط: الأمراض التي تصيب الولدان الصغار قرح وسعال، وسهر وفزع، وورم في السرر، ورطوبات الأذنين. التعليم الثالث والعشرون قال أبقراط: والأمراض التي تصيب الصبيان، إذا كبروا: وجع اللوزتين، وبهر، و حصاة، ودود عراض، ودود طوال، ودود مثل دود الخل، وثاليل، وغلظ في أبشارهم، وخنازير وخراجات أخر، والذين أكبر منهم ممن قد راهق الاحتلام: يصيبهم أمر آخر، ويقضي عليهم بالفرج إلى أربعين يوماً، بعضها إلى سبعة أشهر، ومنها إلى سبعين يوماً، ومنها إذا راهقوا الاحتلام.
وكل أمراض لا تنجلي عن الصبيان إلى الاحتلام، وعن الجواري إلى أن يطمثن، فتلك أمراض تثوي زماناً طويلاً.
التعليم الرابع والعشرون في معرفة ما تداوي به النساء الحوامل، قال أبقراط: النساء الحوامل يداوين لأربعة أشهر فما دون ذلك من صغر الولد، وأما ما زاد من كبره، فينبغي أن يحذر علاجهن.
التعليم الخامس والعشرون قال أبقراط: ينبغي أن يداوي ما فوق في الصيف و ما أسفل في الشتاء، يعني ما كان فوق الرأس والمعدة، وما كان أسفل من المرة الصفراء، وما أسفل من الخام وما أشبهه.
التعليم السادس والعشرون في ذي المشي قال أبقراط: عند شرب الأدوية والخربق ينبغي أن يرطب أجساد الذين لا تخف التنقية عليهم من فوق قبل الدواء بكثرة الطعام.
التعليم السابع والعشرون في الاختلافات طوعاً قال أبقراط: إذا جاء الاختلاف طوعاً كأنه دم أسود مع حمى، أو غير حمى، فذلك اختلاف سوء، وإن كان اختلاف كثير الألوان منتقل من ألوان صالحة إلى ألوان ردية، فذلك اختلاف سوء أيضاً، وإن جاء الأول بدواء، فهو أمثل، والكثير الألوان فلا بأس به.
التعليم الثامن والعشرون في الفراغ من حيث كان قال أبقراط: كل محموم يعرض له اختلاف لأن كثرة إفراغ الدم ترخي الكبد ثم تسقم النضج.
التعليم التاسع والعشرون في العرق قال أبقراط: العرق في المحمومين خير إن جاء في اليوم
الثالث، أو الخامس أو السابع عشر، أو الواحد والعشرين، أو الواحد والثلاثين، أو الرابع والثلاثين، لأن هذا يفرج عن المريض، فأما الذي يكون في غير هذه الأيام، فذلك عرق مؤذن بوجع وطول مرض ونكسه. التعليم الثلاثون في الحميات اللازمة قال أبقراط: الحميات اللازمة التي لا تقلع بل تشتد في اليوم الثالث، فتلك أقرب إلى الهلاك، والتي تقلع إلى أي وجه كان من الأقلاع، فتلك أبعد إلى الهلاك.
التعليم الحادي والثلاثون في علامات الموت قال أبقراط: الحميات اللازمة التي لا تقلع، إن كان ظاهر الجسد باردا وداخله يحترق، وكان بصاحبه عطش، فتلك علامات موت.
التعليم الثاني والثلاثون في الانقباض والكزاز قال أبقراط: من أصابه انقباض، أو كزاز، فتبعت ذلك الحمى انحل مرضه. التعليم الثالث والثلاثون قال أبقراط: من كانت به حمى، فأصابه حر شديد في جوفه ووجع في قلبه فذلك شر. التعليم الرابع والثلاثون قال أبقراط: من كانت به حمى، فورمت شراسيفه، وأشرفت وظهرت به قرقرة في جوفه، فأصابه مع ذلك وجع صلبه، فلم يتفرج بأرواح تخرج منه، أو ببول كثير، أو يتفرج باختلاف هلك.
التعليم الخامس والثلاثون في شرب الخربق قال أبقراط: من أصابه انقباض من كثرة الاختلاف على شرب الخربق فذلك ميت.
التعليم السادس والثلاثون في القروح في الرئة، والضمر في الرئة، يكون ذلك في ثمانية عشر إلى خمسة وثلاثين.
التعليم السابع والثلاثون في الماء الحار والبارد قال أبقراط: الماء الحار، إذا أدمنت عليه يرخي اللحم، ويذهب بشدة العصب، ويخدر العضل، ويهيج الرعاف، ويضعف النفس، وإن دام ذلك مات، والبارد يأتي بكزاز وتسود، ويأتي بنافض وحمى.
التعليم الثامن والثلاثون في معرفة المياه قال أبقراط: الماء الحار ينضج المدة، وليس في كل جرح، ولنضج المدة علامات كثيرة، وهي لين الجلد، وضم الورم، وإذا كان الماء الحار يفعل ذلك يذهب الوجع، ويسكن النافض والانقباض والكزاز، ويحل وجع الرأس.
التعليم التاسع والثلاثون في أمور النساء قال أبقراط: البخور بالطيب جلاب لطمث النساء، نافع لذلك، ولأشياء كثيرة غير ذلك، إلا أنه يهيج وجعا في الرأس وصداعاً.
التعليم الأربعون قال أبقراط: أيما امرأة ليست بحبلى، ولا مرضعة، وتجد في ثدييها لبناً، فذلك دليل على أن دم طمثها قد انقطع.
التعليم الحادي والأربعون قال أبقراط: إن الأولاد الذكور أكثر ما يكونون في يمين الأرحام، والإناث في يسراها.
التعليم الثاني والأربعون قال أبقراط: النساء الحبالى اللاتي تصيبهن الحمى، فتصلب عليهن فأولئك من غير علة معروفة تبين، فإن ذلك دال على هلاك، ويسقطن، فيهلكن.
التعليم الثالث والأربعون قال أبقراط: أعط اللبن لمن يشتكي رأسه ولمن به عطش، وأيضاً لمن به اختلاف من مرة صفراء وحمى حادة، ولمن اختلف دما كثيراً، وهو موافق أن يعطي لمن به ضمر وقرح في رئته، إذا لم يكن محموما جداً، ويعطي لمن كانت حماه لينة، فاترة، مزمنة، من غير أن يكون به شيء من العلامات التي ذكرنا ويكون جسده ناحلاً جداً.
التعليم الرابع والأربعون في إزلاق الأمعاء قال أبقراط: من أصابه زلق الأمعاء وطال به، ثم تبع ذلك، جشاء حامض لم يكن به قبل ذلك فذلك علامة خير، وهو مرض يكون له ثلاثة أسباب: من قبل ضعف المعدة، أو من قبل بلغم بل المعدة، أو من قبل قرح يكون في المعدة. التعليم الخامس والأربعون قال أبقراط: من أصابه وجع في رأسه وضربان شديد، فذلك إن سال من أنفه، أو من أذنيه، أو من فمه قيح، أو ماء، حل وجعه.
التعليم السادس والأربعون قال أبقراط: من أصابه انقطاع في مثانة، أو دماغ، أو قلب، أو صفاق، أو شيء من الأمعاء الدقاق، أو في معدة، أو في كبد، فذلك كله مميت.
التعليم السابع والأربعون قال أبقراط: من أصابه فزع، أو خبث نفس زماناً كثيراً دائماً، فذلك يصير إلى المرة السوداء.
التعليم الثامن والأربعون قال أبقراط: شرب الخمر صرفا، والكماد الحار، وقطع العروق، وشرب الدواء يحل وجع العينين.
التعليم التاسع والأربعون قال أبقراط: ترك كل خراج سرطاني لا يعالج أفضل، فإن أصحابه إن عولجوا هلكوا سريعاً، فإن لم يعالجوا بقوا زماناً.
التعليم الخمسون قال أبقراط: الخراج الذي ينتأ سنة، وأكثر من ذلك، فلا بد من أن يقلع منه عظام، ويبقى آثارها كالجرب.
التعليم الحادي والخمسون قال أبقراط: ذهاب العقل الذي يأتي الضحك معه يؤثر به، وذهاب العقل مع الحزن والعبوس لا يؤثر به.
التعليم الثاني والخمسون قال أبقراط: في الأمراض الحادة، إذا بردت الأطراف، فذلك شر. التعليم الثالث والخمسون قال أبقراط: من خرج في كبده خراج، ثم تبعه فواق، فذلك شر.
التعليم الرابع والخمسون قال أبقراط: من كانت به حمى، وكان ببوله ثفل غليظ شبيه بدشيش الطحين، فذلك دليل على أن مرضه يطول. التعليم الخامس والخمسون قال أبقراط: من قاء دماً من غير أن تصيبه غلبة، فهو يتخلص، فإن أخذته غلبة حمى، فهو خبيث، وينبغي أن يعالج بكل دبوغ، أي من الأدوية الدابغة. التعليم السادس و الخمسون قال أبقراط: من كان يتقيأ القيح، فكوى، وخرج القيح أبيض نقياً سلم صاحبه، وإن خرج منتناً وسخاً هلك صاحبه، وإن كان بكبده خراج قد قيح، وكوى، وخرج القيح نقياً أبيض سلم لأن القيح في صفاق الكبد، وإن خرج القيح شبه ماء الزيتون هلك صاحبه.
التعليم السابع والخمسون قال أبقراط: العطاس يكون من قبل الرأس، إذا سخن الدماغ، أو برد، أو ترطب ما بين الدماغ وصفاقه، وامتلأ فيفرغ ذلك الهواء، ويكون له نغنغة لأن مخرجه من ضيق، فهذه أبواب كتاب الفصول. و أما كتابه في تقدمة المعرفة فهو ثلاثة فصول وعشرون تعليماً: الأول يخبر أبقراط كيف ينبغي للطبيب أن ينتحل تقدمه المعرفة ، فإنه الذي يخبر المرضى بما بهم، وما أصابهم قبل ذلك، وما هو آت مما يصيبهم، وما أغفل المرضى ذكره، وإن قوتها وأسبابها، وإن كانت من اختلاط الجسد، أو غيره، ونحو هذا.
التعليم الثاني يخبر فيه كيف ينبغي للطبيب أن يحسن النظر في الأمراض الحادة، وكيف ينظر في وجوه المرضى إن كانت تشبه وجوه الأصحاء، وعلامات الوجوه الدالة على الموت ونحو هذا. التعليم الثالث يقول فيه: إن كان للمرضى ثلاثة أيام، وأربعة والوجوه على حال وجوه الأصحاء، وغير ذلك ينبغي أن يحسن الفكر في الآيات والعلامات على ما تقدم ذكره، وفي علامات العينين وأشفارهما، والأنف، وانضجاع المريض، وكيف ينبغي أن يعمل وما المهلك من علاماته.
التعليم الرابع يصف رجلي المريض وأحوالهما، وانضجاعه، وحك الأسنان بعضها ببعض مع الحمى، والدلائل في ذلك، وإن كان بالمريض خراج أصابه في مرضه، أو قبل مرضه، وما يدل عليه، ويصف اليدين واضطرابهما، وما تدلان في ذلك.
التعليم الخامس يذكر النفس الكثير السريع، وما يدل عليه، ويذكر أفضل العرق في الأمراض الحادة، والعرق الفاضل، والعرق البارد، والعرق المتخبث، ويذكر أن العرق يكون إما من ضعف الأجساد، وإما من دوام خراج. التعليم السادس يذكر صحة الشراسيف، وإذا لم تكن صحيحة، وضربان عروقها، وما يدل في ذلك، والأورام التي بجنب الشراسيف، ويخبر عن الأورام وما يصيبها. التعليم السابع يذكر فيه الخراجات، وإذا أزمنت كيف ينبغي أن ينظر فيها وينعت مقاديرها وما يخرج منها، وكيف ينبغي أن يخرج.
التعليم الثامن يذكر فيه الحبن الذي يكون مع الأمراض الحادة، والذي يكون من البزاق، والذي من الكبد، وما يصيب أصحاب الحبن من الأعراض اللاحقة بهم من أجله، وعلامات تدل على الموت من اسوداد الأصابع والأرجل ونحو هذا. التعليم التاسع يذكر فيه تقابض الخصيتين و الذكر، ويذكر السبات والنوم وكيف ينبغي أن يكون، والبراز وكيف ينبغي أن يكون.
التعليم العاشر يذكر فيه البراز كيف يجب خروجه وأسبابه، وكيف ينبغي أن يكون البطن في كل مرض، وألوان البراز الدالة على الموت وغير ذلك، ويصف الرياح والقراقر ونحو ذلك. التعليم الحادي عشر يخبر عن البول الصحيح ثم عن البول إذا تغير وأصناف أثفال الأبوال من جهة المثانة.
التعليم الثاني عشر يذكر فيه القيء وأسبابه، والنخمة، وكيف تنفث، ومما تختلط، و لونها، ويذكر العطاس في جميع الأمراض التي تلي الرئة، وما الميمت في ذلك، وما المؤذن بانحلال المرض.
التعليم الثالث عشر يصف فيه النخامة في أمراض الرئة ولونها وألوان النخامات، ويذكر فيه البول والبراز والعرق وما يدل كل واحد من هذا عليه. التعليم الرابع عشر يذكر الخراجات المقيحة وأوقاتها التي تنفجر فيها، ويصف كل ما يخرج منها، وكونها في كل إنسان.
التعليم الخامس عشر يذكر الخراجات الثابتة فيما يلي الآذان وما يحدث ذلك في الذين بهم أمراض الرئة، وكيف الدلائل على ذلك، والخراجات التي في سوق الذين بهم أمراض وما يلحقهم في ذلك.
التعليم السادس عشر يذكر الأوجاع الردية الذاهبة بالعقل، ويذكر الحميات وأسبابها في أيامها.
التعليم السابع عشر يذكر تقدمة المعرفة في الأمراض الحادة العسرة المزمنة، و يذكر حميات الربع، وما يلحق أصحابها من أجلها، والأيام التي تكون فيها، ويذكر أوجاعاً تكون في الصدغين والجبهة، ووجع الآذان وما يلحق المرضى.
التعليم الثامن عشر يذكر أوجاع الحلق المخنقة، والحمرة في الرقبة والصدر، والثقب، وما يلحق المريض من علامات الهلاك في ذلك، ويذكر أسباب الغرغرة وخراجات تكون ووجع مؤلم في المفاصل، وذكر الخراجات الثابتة في الشباب، وشيئا من أسباب الحمى.
التعليم التاسع عشر يذكر فيه الحمى ووجع الفؤاد والأيام التي تطول فيها الحمى مع أوجاع تكون في الحمى.
التعليم العشرون يخبر كيف ينبغي لمن أراد أن يحكم تقدمه المعرفة أن يعرف ما ينجلب من الأمراض التي لا تزال مؤلمة، وكيف يعلم، وخبر الأركان والعلامات وأجزاء السنة وأسباب البلدان، فهذه تعليمات كتاب تقدمة المعرفة لابقراط. فأما كتابه في الأهوية والأزمنة والمياه والأمصار، فإنه يخبر بما يعتري أهلها من الأمراض الخاصة والعامة، والمؤتلفة والمختلفة، بحدود ثابتة ومعالم بينة: فالباب الأول يقول: إنه ينبغي لمن أراد طلب الطب طلباً صادقاً أن يفحص أولاً عن أزمنة السنة، وما يحدث فيها، لأن بعضها لا يشبه بعضاً بل بعضها مخالف لبعض، وقد تختلف أيضا في انقلابها بذاتها.
الباب الثاني يقول: إن السنين اللاتي تحفظ أزمنتها على اعتدالها ومراجعها، فإن الأمراض التي تحدث فيها تكون شبيها وعلى استوائها، غير مخالفة ولا مشبهة، أما الأزمنة الكثيرة الانتقال، فإن الأمراض تعرض غير مستوية، ولا متواتية، وانحلالها عسر شاق.
الباب الثالث يقول: إن الرياح الحارة والباردة العامة فيها تغير الأبدان.
الباب الرابع يقول: ينبغي للطبيب أن يفكر في قوى المياه لأنها متخالفة في المذاقة والوزن، وكذلك تختلف في القوة اختلافا شديداً.
الباب الخامس يقول في المياه: كيف هي؟ أ راكدة أو لينة، أو خاشنة سائلة أم نواحي مشرفة صخرية أم صالحة رطبة النضج.
الباب السادس يقول: إنه ينبغي للطبيب أن يفكر في الأرضين إن كانت جرداء، عديمة الماء، أو شعراء، كثيرة الماء، أو عامرة، أو غامرة، أو مشرفة باردة.
الباب السابع قال: ينبغي أن يذكر غذاء الناس في أي شيء لذاتهم أفي كثرة الشرب والأكل وحب الدعة أم حب العمل والأكل؟ وأن يفحص عن كل واحد من هذه الأشياء في كل بلد. الباب الثامن قال: إن مضى شيء من الزمان والسنة، فإن الطبيب سيخبر بكل مرض عام يعرض لكل واحد من أهلها من قبل تغير أغذيتهم.
الباب التاسع قال: إذا لم تكن الأمراض من فساد الهواء فإنه لا ينزل بأهل المدينة عامة، ولكنه يكون متفرقاً، فإذا فكر الطبيب في هذا النوع وفي هذه الأشياء، فعلم علماً شافياً كيف تكون الأزمنة، كان حرياً أن يكون علمه صوابا، فإن علم النجوم ليس بجزء صغير من علم الطب. وأما كتابه في الأهوية والبلدان، فإنه وصف البلدان ومياهها وخواصها: فالقول الأول في المدن، وهي أربع مدائن: فالأولى على سمت الاستواء، والثانية على سمت الفرقدين، والثالثة بإزاء المشرق، والرابعة بإزاء المغرب.
فالأولى قال: كل مدينة موضوعة بإزاء الرياح الحارة هي التي وسط شرق الشمس الشتوي وغربة، فإنها تهب إليها هبوباً دائماً، وتكون في كن من إزاء الفرقدين، ومياه هذه المدينة كثيرة حارة تسخن في القيظ وتبرد في الشتاء، ورؤوس سكان هذه المدينة رطبة بلغمية، وبطونهم
كثيرة الاختلاف دائمة، و نساء هؤلاء الناس مرضى، ذوات أسقام أبداً بكثرة طمثهن، ولا يسقطن، وليس ذلك من طبيعتهن، ولكن من قبل أمراضهن، فإن حبلن أسقطن أكثر ذلك، وأما الصبيان فيصيبهم الكزاز، والربو، والسقم، ورجالهم يعرض لهم البطن، واختلاف الدم، والسقم الذي يدعى ابيالوس، وحمى طويلة شتوية وليليه، وبواسير في المقاعد، وتعرض لهم الحمى المتلهبة، والأمراض الحادة، والرمد الطويل، فإذا أتت لهم خمسون سنة عرضت لهم النزلات من الدماغ، فهيج بهم الفالج العارض في جميع البلدان.
والمدينة التي ناحية الشمال قال: إن كل مدينة موضوعة بإزاء ناحية الرياح الباردة مما يلي ناحية المغرب والمشرق والقطبين، فإن هذه الرياح رياحها البلادية، وتكون مستورة من الرياح الحارة، ومياهها يابسة بطيئة النضح حلوة أكثر ما تكون، وسكان هذه المدينة أكثرهم أشداء أقوياء، سوقهم إلى الدقة اضطراراً، وبطونهم خاشنة، ورؤوسهم صلبة يابسة شديدة، وينالهم الفتق، وأسقامهم ذات الجنب، والعلل الحادة، وكثرة القيح، وعروقهم تنقطع، ويأكلون كثيراً، ولا يعرض الرمد سريعاً، فإذا مرضوا تصدعت أعينهم، ويصيبهم إذا بلغوا ثلاثين سنة رعاف كثير، ولا تعرض لهم الأسقام الكاهنية، فإن عرضت كانت شديدة وتطول أعمارهم، وأخلاقهم وحشية غير ساكنة ولا هادنة، ونساؤهم يكن عواقر لبرد الماء ويبسه، وذلك أن الطمث ربما لم يكن على ما ينبغي، فإذا حبلن اشتد عليهن الولاد، ولا يسقطن، ويقل غذاء أولادهن لبرد الألبان، ويعرض لهن الكزاز، ووجع الرئة، ويعرض للصبيان الماء الأصفر في الأنثيين، فإذا كبروا ذهب، ويبطىء احتلامهم.
والمدينة الموضوعة سمت الرياح التي من المطلع القيظي والشتوي قال أبقراط: كل مدينة موضوعة ناحية شرق الشمس تكون أصح من المدينة الموضوعة ناحية الفرقدين ومن الموضوعة ناحية الرياح الحارة، والحرارة والبرودة فيها أقل وأيسر، وأمراض أهلها قليلة، والمياه الكائنة سمت طلوع الشمس نيرة مضيئة، صافية، طيبة المشم، لينة، لأن الهواء لا يكون فيها غليظا، فالشمس تحول بينه وبين أن يغلظ، وصورة سكان هذه المدينة حسنة الألوان، نيرة ضوية، وأصوات رجالهم صافية حديدة، يغضبون سريعاً، ونباتها وأعشابها أقوى وأصح، وهي في ذاتها وهيئتها تشبه فصل الربيع في قلة الحر والبرد، وأسقامها قليلة ضعيفة، ونساؤها يعلقن كثيراً، ويلدن بغير مشقة.
والمدينة الرابعة سمت المغرب هي في كن من الرياح الشرقية، وتهب إليها الرياح الحارة والباردة من ناحية الفرقدين، فتكون كثيرة الأمراض، ومياهها غير نقية، ولا صافية، وأن علتها الهواء الكائن عند الأسحار، وذلك أن أسحار هذه المدينة تطول جداً، والشمس لا تشرق فيها أول ما تشرق، حتى ترتفع وتعلو، وتهب فيها رياح باردة في القيظ، ويكون رجالها مصفارين، مرضى تضيرهم الأمراض كلها، وأصواتهم بح ونهارهم ردي في أيام الخريف لكثرة تغيره، فهذا الباب الأول في المدن الأربع.
والقول الثاني في المياه، وهي أربعة أصناف: أولها المياه الراكدة، مثل البطائح التي لا تجري، والثاني العيون النابعة، والثالث المياه التي تكون من الأمطار، والرابع المياه التي تكون من الثلوج.
قال أبقراط: المياه الظاهرة المستوية على وجه الأرض، التي لا تجري، والأمطار تمطر عليها، وتقوم معها ولا تنزع، والشمس دائمة الإشراق عليها، والاحتراق بها، فتكون ردية لا لون لها، تولد المرة، وتكون في الشتاء باردة جامدة، كدرة بلغمية، تورث من يشرب منها البحوحة والطحال وتكون بطونهم خاشنة، وتهزل التراقي والوجوه وتنقحها، ويكثر أهلها الطعم، ويدفع ظمأهم وعطشهم، ويلزمهم المرض في الشتاء والصيف، ويعرض لهم الماء الأصفر، ويعرض لهم في القيظ اختلاف الأغراس، وحمى ربع طويلة مزمنة.
وشباب هؤلاء القوم تعرض لهم أوجاع الرئة وأسقام تخثر عقولهم، وأما الشيوخ، فإنه تعرض لهم حمى اللهبية يدل على تحرقهم يبس بطونهم، وأما نساؤهم، فيعرض لهن أنواع الورم من قبل بلغم أبيض، فلا يحبلن إلا بعد عسر، ولا يلدن إلا بمشقة، ويكون أولادهن عظاماً، وكلما عزلوا هزلوا ودقوا، ويعرض للصبيان أدرة، وللرجال سقم وقروح في سوقهم، ولا تكون الأعمار فيها طويلة، ويدخل عليهم الكبر سريعاً في ضمن الأزمان، وربما أصاب النساء ما يتوهمن أنه حبل ثم يبطل.
ومياه العيون النابعة من بعض الصخور ردية لأنها خاشنة، والعيون النابعة من أرض حارة، ومن أرض معادن الحديد والنحاس والفضة والذهب والكبريت والشب والزفت والنطرون، فإن هذه كلها إنما تكون من شدة الحرارة، فلا تكون من هذه الأرضين مياه نافعة مصلحة بل تكون عامتها خاشنة، يعرض منها ومن شربها عسر البول، وشدة الاختلاف.
والمياه التي تنصب عن مواضع مشرفة، ومن تلال ترابية، أفضل المياه وأصحها، وهي حلوة لا تحتاج لكثرة مزاج الشراب، وتكون في الشتاء حارة، وفي الصيف باردة، فهذه حالة المياه النابعة من العيون الغائرة.
وخير هذه المياه السائلة من أفق الشمس، ولا سيما الشرق الصيفي، لأنها بيضاء براقة، طيبة الريح، وكل ما كان من المياه مالحاً، بطيء النضح، خاشناً، فإن الذين يشربون منه بلا حاجة إليه ليس بنافع لهم، وإن بعض الطبائع والأسقام ربما انتفعت به، وكلما كان طعم المياه إلى الملوحة، فكلها ردية مفسدة، وكل عين تكون سمت شرق الشمس، فماؤها خير المياه.
ثم بعدها العيون التي بين أفق الشمس القيظي والغرب القيظي، وأفضلها المائلة إلى الشرق ثم التي بين مغرب الشمس الشتوي والقيظي، وأرداها العيون التي في ناحية الجنوب، فأما العيون التي تنزل أفق الشرق الشتوي والغرب الشتوي، فما كان منها ناحية الجنوب، فهي ردية جداً، وما كان منها ناحية الشمال، فهو خير، فمن كان خاشن البطن، فإن المياه الخفيفة الصافية له نافعة، ولمن كان بطنه ليناً لدنا بلغمياً ضاره، فإن المياه المالحة تسهل البطن، فقد أخطأ ومياه الأمطار خفيفة عذبة، والشمس تخطف من الماء رقيقة وخفيفة، وتصعد الماء من الأنهار والبحور والمواضع الرطبة، ولذلك صارت مياه الأمطار تعفن وتنشر رائحة ردية لأنها اجتمعت من رياح شتى، فصارت أسرع عفناً وتغيراً، فإن الرطوبة التي تنشفها الشمس متفرقة لا تزال معلقة في الهواء، فإذا اجتمعت كلها، والتفت بالرياح المتضادة اللاقية بعضها بعضاً، أنصبت حينئذ، ولا سيما إذا كانت المقايسة كما ينبغي، وأكثر ما يكون هذا إذا استحكم اجتماع السحاب، واستقبلته ريح أخرى، فمزقته، وإذا تزاحمت سحابة أخرى على السحابة الأولى، وقطعتها، انحدرت حينئذ الرطوبة من ثقلها، وتمزقها الرياح، فتكون الأمطار السابغة، فهذه المياه، أفضل المياه إلا أنه ينبغي أن تكون رائحتها ردية، ويعرض لمن شرب منها البحة والسعال، وثقل الصوت، وإذا طبخت لم يغن عنها الطبخ شيئاً.
وأما المياه التي تكون من الثلوج والجليد، فكلها ردية لأنها، إذا جمدت مرة، لم ترجع إلى طبيعتها الأولى لأن ما كان من الماء خفيفا، عذباً، صافياً، نقياً، أفلت من الجمود، وطار، وما كان من الماء كدراً بقي على حاله، ويعرف ذلك بأنه لو صير في إناء في أيام الشتاء، وكيل بكيل معلوم، ووضع تحت السماء جمد، فإن وضع في الشمس حتى ينحل ثم كيل ذلك الماء، وجد وقد نقص نقصاناً بيناً، فذلك العلامة أن لطيف الماء يتنفس، ولا يقع عليه الجمود، ولا يتنفس، ولا يبرح وماء الثلوج أردأ المياه، وإذا شرب الناس المياه المختلفة عرض لهم الأسر والحصاة في المثانة، ووجع الخاصرة، ووجع الوركين، وفي الأنثيين أدرة، ولا سيما إذا شربوا من مياه أنهار تنصب من أنهار واسعة، أو من بحيرة ينصب فيها من سيول شتى مختلفة، لأن منها العذب، والمالح، والشبي، ومنها ماء السيل من مواضع حارة، فإذا شربت عرضت الأسقام، واللبن الردي يولد الحجارة في مثانات المرضعين، والنساء لا تصيبهن الحصاة لأن مبالهن واسع.
والقول الثالث في الأزمنة، إذا كانت سقيمة، أو سليمة قال أبقراط: إنه إن كان طلوع الكواكب وغيرها على ما ينبغي، وكانت مياه كثيرة في الخريف، وفي الشتاء يسيرة، ولا يكون الصحو كثيراً، ولا البرد فوق المقدار، فكانت مياهها معتدلة في الربيع وفي القيظ، كانت سليمة صحيحة، ويصح الهواء.
وإذا كان الشتاء يابساً شمالياً، والربيع كثير الأمطار جنوبياً، عرض للناس في الصيف الحمى و
الرمد، واختلاف الأغراس لكل ذي طبيعة رطبة، وإذا كان في وقت طلوع الكوكب الذي يدعى الكلب، وهو الشعري، مطر كثير، وشتاء، وهبت الرياح على أنواثها، كفت الأسقام، ورجى أن يكون الخريف صحيحاً، فإن لم يكن ذلك كان الموت في الصبيان وفي النساء، وقل في المشيخة، فمن نجا عرضت له الحمى الربع، وربما آل إلى جمع الماء الأصفر.
وإذا كان الشتاء جنوبياً كثير الأمطار، والربيع يابساً شمالياً، فإن النساء الحوامل يسقطن في فصل الربيع فإن ولدن كان أولادهن مسقومين، إما يموتون من ساعتهم، وإما يعيشون مهازيل، وأما سائر الناس، فمنهم من يعرض له الاختلاف ورمد يابس، ومنهم من يعرض له النزلات من رأسه إلى رئته، فأما المبلغمون والنساء فيعرض لهم اختلاف الأغراس، وأما أصحاب المرة الصفراء فتعرض لهم النوازل لسخافة جلودهم، وذبولة عصبهم، وربما ماتوا فجأة، وربما يبس جانبهم الأيمن.
وما كان من الأمصار يقابل شرق الشمس، ورياحة سليمة، ومياهه غائرة، فقل ما يضيره تغير الهواء، وكل مدينة يشرب أهلها ماء ساخناً، بطاحياً، وليست موضوعة سمت الشرق، وليست رياحها سليمة، ضير بأهلها تغير الهواء، وإن كان الصيف يابساً عاماً ذهبت الأمراض سريعاً، وإن كان كثير الأمطار طالت الأمراض وإن عرض لأحد من الناس قرحة في هذه الأسقام، أو البطن، أو الماء الأصفر، هلك.
وإذا كان الصيف كثير الأمطار، وكان جنوبياً، والخريف، كمثل ما كان الشتاء، يابساً سقيماً، فتعرض للمبلغمين والشيوخ أبناء أربعين سنة حمى تسمى القوسوس، وأما أصحاب المرة الصفراء، فيعرض لهم ذات الجنب، ووجع الرئة.
وإذا كان الصيف يابساً جنوبياً، وكان الخريف كثير الأمطار شمالياً، عرض للناس وجع الرأس، وسعال، وبحوحة، وزكام، وعرض لبعضهم السل.
وإذا كان الصيف يابساً شمالياً ولم يمطر عند طلوع الشعري نفع أصحاب البلغم والرطوبات، وأضر بأصحاب المرة الصفراء، وربما نقلهم إلى المرة السوداء، والتغير الكثير يكون في تصرف الشمس، والتصرف الصيفي أكثر تغيراً من الشتوي، والخريفي أكثر تغيراً من الربيعي، وكل بلد يكثر تغير زمانه لا يكون مستوياً، ويكون فيه جبال طوال، سامية شامخة، وكل بلد يقل تغير زمانه فهو مستو.
ثم يذكر أبقراط اختلاف صور الناس في أحوالهم واعتدال خلقهم، والسبب الذي أشبه بعضهم بعضاً، وإن ذلك باتفاق الزمان والمطالع، ويذكر حال الرجال والنساء في كثرة الأولاد و قلتهم، وما يوجب النسل ويقطعه، ويقولون: إن سكان البلاد الشاهقة، المستوية، الكثيرة المياه، تكون صورهم حسنة وأجسامهم جسيمة، وتكون غرائزهم إلى اللين والتؤدة، وليسوا بأهل بأس وشجاعة، ومن سكن أرضاً رقيقة قليلة المياه، جرداء، وكان مزاج هوائها غير معتدل، كانت صورهم خاشنة، وألوانهم إلى الصفرة، أو إلى السواد، وأخلاقهم ردية، وغضبهم شديد، و طباعهم مخالفة بعضها بعضاً، لأن باختلاف الأزمان يكون اختلاف الطبائع، ثم بعد الأزمان والبلاد الغذاء بالمياه لأن غذاء الإنسان، من بعد البلاد بالمياه.
ثم يتكلم أبقراط بعد ذلك في الرياح وهبوبها، والتي تهب من موضع إلى موضع، و قسمها أربعة أقسام، ويقول: إن الريح من تخلل الهواء، وإنما نشوءها من اصطكاك أجرام الهواء، فهذه أغراض كتاب أبقراط في الأهوية والأزمنة، الذي فسره جالينوس، وشرح ما ذهب إليه أبقراط في فصل فصل ومعنى معنى.
فهذه كتب أبقراط التي عليها يعتمد وإليها يرجع، وهذه أغراضها، وقد فسرها جالينوس وشرح كل ما فصله له، وذهب إليه، وأبان عن قوله، وترجم معانيه وأوضحها.
فأما كتاب ماء الشعير، فإنه يذكر فيه الأمراض الحادة التي تسمى: وجع الجنب والرئة، والبرسام، والحمى المحرقة، وأخبر كيف يشرب ماء الشعير، والأيام التي يكون شربه فيها، وكيف يدبر، ومتى الأوقات التي ينبغي أن يشرب فيها، والأوقات التي يمنع منها، وما يكون الطعام عليه، وذكر صنوفاً من العلل الحادة والأمراض المحرقة، وقال في كل صنف منها. وأما كتابه الذي يسميه كتاب الأركان فإن معنى الأركان، أي الطبائع الأربع: الحرارة و الرطوبة، والبرودة واليبوسة، وأركان البدن وهي العصب والعروق، والعظام، والجلد، والدم، فهذه أركان بها قوام العالم.
قال أبقراط: إن الأجسام لو كانت شيئاً واحداً لم تصل الأوجاع إليها أبداً، ولكنها من أشياء مختلفة وطبائع متباعدة، مضر بعضها ببعض، وطبيعة الإنسان وسائر الحيوان، إذا صارت على هذه الصفة، فمن الضرورة ألا يكون الإنسان شيئاً واحداً بعينه، وكذلك سائر الطبائع، إنما قوامها بالرطوبة واليبس، والحر و البرد، ويتكلم في هذا بكلام واضح.
وكان لأبقراط تلاميذ ترجموا كتبه، وبعضهم عمل كتبا ونسبها إليه إقرارا له بالعلم والفضل، فمنهم دياسقوريدس صاحب كتاب الأشجار والعقاقير، فإنه وضع كتاباً في منافع الأشجار، وصور كل شجرة بصورتها، وذكر ما تنفع له تلك الشجرة، ومنهم أرسجانس صاحب الكناش الذي فيه صفة البدن.
فكان أحكم حكيم بعده، وأهم عالم بالطب، وأفهمه، لما فسر من كتاب أبقراط، هو جالينوس، على تباعد ما بينهما من السنين، فإن بينهما زماناً طويلاً، غير أنه كالذي تلا أبقراط في الحكمة، ولحق به في العلم، وفسر كتبه، وعمل كتباً كثيرة من كتب الطب التي عليها المعول، وإليها يرجع، وكان رجلاً فيلسوفاً، منطقياً، حكيماً.
فأول كتب جالينوس: كتاب في فرق الطب المخالفة بعضها بعضاً في الجنس، وهي فرقة الرأي والفكر والقياس، والفرقة الثانية فرقة التجارب، والثالثة فرقة الحيل.
وكتاب في الطعام.
وكتاب في نبض العروق.
وكتاب في تشريح العصب.
وكتاب في تشريح العروق والأوراد.
ومقالتان في علل النفس.
وأربع مقالات في الصوت.
وكتاب في منافع الأعضاء سبع عشرة مقالة.
وكتاب في تشريح الرحم.
وكتاب في علامات العين.
وكتاب في طب أصحاب التجارب.
وثلاث مقالات في ركة الرئة والصدر.
وكتاب التشريح الكبير في خمس عشرة مقالة فالمقالة: الأولى في العضل والرطوبات التي في اليدين.
والثانية في العضل الذي في الرجلين. والثالثة في العصب والعروق والأوراد التي في اليدين والرجلين.
والرابعة في العضل الذي يحرك الخدين والشفتين، والعضل الذي يحرك اللحي الأسفل إلى ناحية الرأس، وإلى ناحية الرقبة، وإلى ناحية الكتفين.
والمقالة الخامسة في عضل الصدر، والعضل الذي على المتنين، وعضل عظم الصلب. والمقالة السادسة في آلات الغذاء، وهي الأمعاء، والبطن، والكبد، والطحال، والكلي، والمثانة، والمرارة، وما أشبه ذلك. والمقالة السابعة في تشريح الفؤاد.
المقالة الثامنة في أجزاء الصدر.
المقالة التاسعة في تشريح الفؤاد.
المقالة العاشرة في تشريح العينين واللسان والمريء وما يتصل به.
المقالة الحادية عشرة في الحنجرة والعظم الذي يتصل بها، والعصب الذي تحتها.
المقالة الثانية عشرة في تشريح آلات التوليد يعني آلات المنى، والرحم، والمذاكير.
المقالة الثالثة عشرة في تشريح العروق النابضة، وهي الشريانان والعروق التي لا تنبض.
المقالة الرابعة عشرة في العصب المنبت من الدماغ.
المقالة الخامسة عشرة في العصب المنبت في الصلب.
وله كتاب التشريح غير هذا في عدة مقالات قد ذكر فيها الجلد، والشعر، و الأظفار، واللحم، والشحم، ولحم الوجه، والأغشية التي تغشى بعض الأعضاء مثل غشاء القلب، والمعدة، و الكلي، والكبد، والصفاقات، والعضلة الفاصلة بين الصدر والبطن، والمجاري، والعروق النابضة، وفصد العروق، ومن أين تبتدىء العروق، ومجاري البول فيما بين الكليتين، والمثانة إلى الذكر، ومجراه من المثانة إلى السرة في الطفل، وأوعية المرة الصفراء والمسام، والمنخرين والمجاري الخارجة من الأذنين، وقصبة الرئة، وما ينبت فيها وينبت في الرئة و الأوعية التي في الثديين، التي فيها اللبن، وباقي الأشياء المفرعة التي في البدن، التي تحويها الأوعية من أي شيء من الرطوبات، والأشياء المفرغة في أي شيء من الأوعية، وما في الرأس من الشؤون والالتحام، وغير ذلك والشؤون التي في الوجه واللحي الأسفل، وما فيه من النقب والالتحام، والأسنان، والعظم الذي على رأس قصبة الرئة، وما يتصل به من جنبتي الموضع، والعظم العريض الذي في البطن، والورك، والأضلاع، والكتفين، والمنكبين، وعظم
الترقوتين، والعضد، وعظم الساق، وعظام الكف والأصابع، وعظم الفخذ، والقصر، والذي على الركبة، وعظم الساق، وعظام القدم، واشتراك قحف الرأس بالأغشية التي على الدماغ، والعصب الذي ينبت في الوجه كله، والعضل الذي في الصدغين، والعضل الذي به يكون المضغ، والعضل الذي يحرك الخدين والشفتين واللسان، وما يحركه من العضل، والعضل الذي يحرك العينين، ويذكر الفم والشفتين، واللسان، واللثة، واللهاة، وطبق الحلقوم، والنغانغ، والأنف، والمنخرين، والأذنين، والرقبة، والعضل الذي فيها، والعضلة التي على الأصابع، والعضلة التي تحت الترقوة، وطبيعة الرقبة، وعضل الحجاب والساعد، ويقول في التشريح قولا هذا غرضه فيه.
ومقالتان في علل النفس.
وكتاب القوى الطبيعية في الأفعال النفسانية.
ومقالة في البول من الدم.
ومقالة في الأدوية المسهلة.
وكتاب يسميه آراء أبقراط وأفلاطون في قوى النفس الناطقة وهي التخيل، والفكر، والحفظ، ويقول: إن الدماغ مبتدأ العصب، والقلب مبتدأ العروق النابضة، والكبد مبتدأ العروق التي لا تنبض، والقوى التي يقوم بها البدن في عشر مقالات، ومنافع الأعضاء في سبع عشرة مقالة.
كتاب العناصر يخبر فيه أن الحار والبارد، والرطب واليابس، عناصر عامية لجميع الأجسام التي تقبل الكون، والفساد، والعناصر: الأرض والنار و الهواء والماء، وعناصر بدن الإنسان: دم وبلغم، والمرتان الصفراء والسوداء، والعنصر هو أقصى جزء في الشيء الذي هو له عنصر.
وكتاب الأمزجة، وهو ثلاث مقالات في تصنيف أمزجة أبدان الناس، وتركيب البدن الفاضل، وخصب البدن، والمزاج الردي الذي ليس يستوي، وقوى الأدوية المركبة والأدوية التي يسهل وجودها.
وكتاب حفظ الأصحاء.
وكتاب في الأطعمة.
وكتاب في الكيموس الجيد والردي.
وكتاب في التدبير الملطف.
ومقالة في تصنيف الأمراض.
ومقالة في علل الأمراض.
ومقالة في تصنيف الأمراض.
ومقالة في الغلظ الخارج من الطبيعة.
ومقالة في الامتلاء.
ومقالتان في تصنيف الحميات والأمراض الباطنة.
وكتاب في إزمان الأمراض.
وكتاب في عسر النفس.
وكتاب في البحرانات.
وكتاب في نبض العروق ومعرفة كل واحد من أجناس النبض.
والأسباب الفاعلة لأصناف النبض. وتقدمه معرفة في ست عشرة مقالة.
وكتاب حيلة البرء، وهو كتاب بين فيه طريق شفاء جميع الأمراض، واتبع ذلك في هذا الفن. ومقالة في العلل الواصلة، وهي العلل القريبة التي تصل ما بين العلة البعيدة والمريض.
ومقالة في البول من الدم في البدن.
وكتاب في فرقة أصحاب الحيل.
ومقالة في السل.
ومقالة في علاج صبي يرضع.
ومقالة في تدبير أبقراط للأمراض الحادة.
ومقالة في فصد العروق، وفسر كتب أبقراط، في فصل فصل، وقول قول، وبين الحال الحال فيه.
والذي تلا أبقراط من رؤساء الحكماء سقراط، رأس الحكماء، وأول من لفظ بحكمته ما حفظ عنه وسمع منه.
وحكي أن طيماوس قال له: أيها المعلم! لم لا تدون لنا حكمتك في المصاحف؟ قال له: يا طيماوس، ما أوثقك بجلود البهائم الميتة، وأشد تهمتك للجواهر الحية الخالدة، وكيف وجود العلم من معدن الجهل، والسبب منه من عنصر العقل؟ فقال له إيعطبطش تلميذه: لو أمليت على كتاباً يخلد عنك؟ فقال: الحكمة لا تحتاج إلى جلود الضأن.
وقال بعض تلامذته: لو زودتنا كتاباً من حكمتك تسبر به عقولنا؟ قال له سقراط: لا ترغبن في تدوين حكمه في جلود الشاء، حتى يكون ذلك أبلغ عندك من علمك ولسانك.
فلما حضرته الوفاة سأله تلاميذه أن يزودهم حكمة يرجعون إليها، فتكلم في أخلاق النفس، ثم تكلم في الفلك، وقال إنه كري، وكان قد سقي سماً فمات.
وبعده فيثاغورس، وهو أول من نطق في الأعداد والحساب والهندسة، ووضع الألحان، وعمل العود، وكان في زمن ملك يقال له أغسطس، فهرب منه، فتبعه، وركب فيثاغورس البحر حتى صار إلى هيكل في جزيرة، فأحرقه الملك عليه بالنار.
وكان لفيثاغورس تلميذ يقال له أرشميدس، فعمل المرايا المحرقة، فأحرقت مراكب العدو في البحر.
ومنهم بلينوس النجار الذي يقال له اليتيم، وهو صاحب الطلسمات، وهو الذي جعل لكل شيء طلسماً.
ومنهم أوجانس صاحب الهندسة والقسمة، وأنواع الفلسفة، وكان يقال له ديوجانس الكلب، وقيل له: لأي شيء سميت الكلب؟ قال: لأني أهر على الأشرار، وأبصبص للأخيار، وآوي الأسواق. ومنهم افليمون صاحب مخانيقاً، وهي الحركات التي تكون بالماء مثل الصورة تعمل، فيحركها الماء من غير أن يحرك شيء منها، ويخرجها من موضع، ويحطها في موضع، والآلات التي تحرك بالماء من غير أن تحرك، فتخرج فيبتلعها، وتخرج أيضاً، وترتحل محققة، وله أشكال في ذلك تعمل فتصح.
ومنهم افليمون صاحب الفراسة، وكتاب بين فيه ما تدل عليه الفراسة في الخلقة والأصوات، والشمائل، وبرهن ذلك.
ومنهم ديمقراطيس، وهو الذي يزعم أن العالم مركب من هباء، وله كتاب في طبائع الحيوان، وما يوافق منها طبائع الإنسان.
ومنهم أفلاطون، وكان تلميذاً لسقراط، وهو الذي تكلم في النفس وصفاتها مثل ما تكلم به أبقراط في الجسد وصفاته فقال: إن للنفس ثلاث قوى: إحداها في الدماغ، وبه يكون الفكر و الروية، والثاني في القلب، وبه يكون الغضب والشجاعة، والثالث في الكبد، وبه تكون الشهوة والمحبة، ثم اطرد الكلام في الروح النفسانية حتى وصف الأعضاء كلها، ثم ذكر ما يصلح النفس وما يفسدها، فقال: إن كل عيب مضاد خلاص النفس، فلا ينبغي أن نعد الحياة صالحة فقط، ولكن موتاً صالحاً، وينبغي أن نعد الحياة والموت صالحين.
ومنهم إقليدس صاحب كتاب إقليدس في الحساب، وتفسير إقليدس: المفتاح، على ما قال بطليموس، إنه تقدمه لمعرفة الحساب، ومفتاح علم كتاب المجسطي في النجوم، ومعرفة الأوتار التي تقع على قسي قطع الدوائر التي هي أفلاك الكواكب، التي يسميها المنجمون الكردجات، لتعديل مسير الكواكب في الطول والعرض، وسرعتها، وإبطائها، واستقامتها، ورجوعها، و تشريقها، وتغريبها، ومساقط شعاعها، وعلم ساعات الليل والنهار، ومطالع البروج، واختلاف ذلك في أقاليم الأرض، وحساب القران والاستقبال، وكسوف الشمس والقمر، واختلاف النظر من آفاق الأرض في جميع نواحي السماء.
وكتاب إقليدس ثلاث عشرة مقالة، ولها من الأشكال في هذه الثلاث عشرة مقالة أربعمائة واثنان وخمسون شكلاً بالبرهان والشرح الذي، إذا فهمه من يطلب علم الحساب، سهل عليه كل باب من الحساب، وانفتح له. فيبتدىء بذكر الأسباب التي منها يزلف العلم، وبمعرفتها يحاط بالمعلوم، وهي: الخبر، والمثال، والخلف، والترتيب، والفصل، والبرهان، والتمام، فأما الخبر، فهو خبر المقدم على الجملة، قبل التفسير، وأما المثال، فهو صورة الأشكال المخبر عنها، المدلول بصفتها على معنى الخبر، وأما الخلف، فهو خلاف المثال، وصرف الخبر إلى ما لا يمكن، وأما الترتيب، فهو تأليف العمل المتفق على مراتبه في العلم، وأما الفصل، فهو الفصل بين الخبر الممكن وغير الممكن، وأما البرهان، فهو الحجة على تحقيق الخبر، وأما التمام، فهو تمام العلم بالمعلوم. والمقالة الأولى في النقطة التي لا جزء لها، والخط الذي هو طول بلا عرض، وهو سبعة وأربعون شكلاً.
المقالة الثانية في كل سطح متوازي الأضلاع، قائم الزوايا، يحيط به الخطان المحيطان بالزاوية القائمة، وهي أربعة وأربعون شكلاً.
المقالة الثالثة في الدوائر المتساوية التي أقطارها متساوية، والخطوط التي تخرج من مراكزها إلى الخطوط المحيطة بها، والخط المماس الدائرة الذي يجوزها، ولا يقطعها، وهي خمسة وثلاثون شكلاً.
المقالة الرابعة إذا كان شكل في شكل، وكانت زوايا الشكل الداخل تماس أضلاع الشكل الخارج وهي ستة عشر شكلاً.
المقالة الخامسة في الجزء الذي هو مقدار الأكبر من المقدار الأصغر من الأعظم، إذا كان يعده، وهي خمسة وعشرون شكلاً.
المقالة السادسة في السطوح المتساوية التي زوايا كل سطح منها مساوية لزوايا السطح الآخر، والأضلاع التي تكون تحيط بالزوايا المتساوية متناسبة، والسطوح المتكافية الأضلاع التي تكون أضلاعها متناسبة، وهي اثنان وثلاثون شكلاً.
المقالة السابعة في الواحد والعدد الزوج الذي ينقسم بقسمين متساويين.
والعدد الفرد الذي لا ينقسم بقسمين متساويين، ويزيد على الزوج بواحد.
والعدد الذي يسمى زوج الزوج، وهو الذي كل زوج يعده بعدة مرات عددها زوج.
والعدد الذي يسمى زوج الفرد، وهو الذي كل زوج يعده بعدة مرات عددها فرد.
والعدد الذي يسمى فرد الفرد، وهو الذي كل فرد يعده بعدة مرات عددها فرد.
والعدد الذي يسمى أول هو الذي يعده الواحد فقط.
والأعداد التي كل واحد منها أول عند الآخر، هي التي ليس بها عدد مشترك يعدها جميعاً إلا الواحد فقط. والعدد المركب هو الذي يعده عدد آخر.
و الأعداد التي كل واحد منها مركب عند الآخر هي التي يعدها عدد آخر مشترك لها.
والعدد المضروب في عدد آخر هو الذي يضاعف بعده ما في المضروب فيه من الآحاد، ويكون ما اجتمع عدداً آخر.
والعدد المربع هو المجتمع من ضرب عدد في نفسه، ويحيط به عددان متساويان.
والعدد المكعب هو المجتمع من ضرب عدد في نفسه، ثم في نفسه، ويحيط به ثلاثة أعداد متساوية.
والعدد المسطح هو الذي يحيط به عددان. والعدد المصمت هو الذي يحيط به ثلاثة أعداد. والعدد التام هو المساوي لجميع أجزائه.
والأعداد المتناسبة هي التي يكون في الأول منها من أضعاف الثاني مثل ما في الثالث من أضعاف الرابع.
والأعداد المسطحة والمصمتة المتشابهة هي التي أضلاعها متناسبة، وهذه المقالة تسعة وثلاثون شكلاً.
المقالة الثامنة في الأعداد التي تلي بعضها بعضاً والطرفين اللذين كل واحد منهما أول عند الآخر، وهي خمسة وعشرون شكلاً.
المقالة التاسعة في ضرب الأعداد المسطحة المتشابهة، وما يكون من ضرب العدد في العدد المربع.
والأعداد التي يعد بعضها بعضاً.
والعدد المكعب في العدد المكعب، وما يكون من ضرب المكعب في عدد غير مكعب، وما يكون من الأعداد المؤلفة على نسب يتلو بعضها بعضاً من المربع، وكيف يكون المكعب وما يكون في الأعداد المتناسبات من المصمت المكعب والمسطح.
والأعداد التي يعد بعضها بعضاً وكيف تنتقض الأزواج من الأزواج، والأفراد من الأفراد، والأزواج من الأفراد، والأفراد من الأزواج، وهي ثمانية وثلاثون شكلاً.
المقالة العاشرة في الخطوط التي يكون لها مقدار واحد مشترك يقدرها جميعاً، يقال لها المتقادرات، والخطوط المتباينات التي ليس لها مقدار واحد مشترك يقدرها جميعاً، والخطوط المتقادرات التي يكون لمربعاتها سطح واحد يكون مقداراً لها يقدرها، وهي مائة وأربعة أشكال. المقالة الحادية عشرة في المصمت الذي له طول وسمك وسطح، وهي أحد وأربعون شكلاً. المقالة الثانية عشرة في السطح الكثير الزوايا المتشابهة التي قدر بعضها عند بعض في الدوائر، كعدد المربعات التي تكون من أقطار الدوائر، وهي خمسة عشر شكلاً.
المقالة الثالثة عشرة وهي آخر مقالات إقليدس في خط يقسم على ذات وسط وطرفين، وهي واحد وعشرون شكلاً.
ولأقليدس هذا كتاب في المناظر، واختلافها من مخارج العيون والشعاع، يقول فيه: إن الشعاع يخرج من العين على خطوط مستقيمة، وتحدث بعد سموت لا نهاية لكثرتها، فإن الأشياء التي يقع عليها الشعاع تبصر، والتي لا يقع عليها الشعاع لا تبصر، ويمثل في ذلك أشكالاً مختلفة يبين بها مخرج النظر، وكيف تختلف عدة الأشكال التي يبين بها ذلك وهي أربعة وستون شكلاً.
ومنهم نيقوماخس الحكيم الفيثاغوري، وهو الذي يسمى القاهر عند المفاضلة، وهو أبو أرسطاطاليس، وله كتاب الأرثماطيقي الذي قصد فيه لإبانة الأعداد، وذكر ما تقدمت به الفلاسفة.
فقال نيقوماخس: إن القدماء الأولين الذين أظهروا العلم ونفذوا فيه، وكان أولهم فيثاغورس، حدوا بأن قالوا: إن الفلسفة معناها الحكمة، وإن اسمها مشتق منها، فقالوا: الحكمة حقيقة العلم بالأشياء الدائمة، وأفتن في صدر الكتاب في ذكر الحكمة وفضلها، وما قالته الحكماء في فضيلة العلم، ثم افتتح كتابه فقال:
إن جميع ما في الدنيا من الأشياء المحكم في الطبيعة تقديرها، إنما هو بالعدد، وقد يحقق القياس قولنا: إن العدد بمنزلة المثال الذي يحتذي عليه، وهو كله بكماله معقول، وهذه الأشياء التي تلحقها كلمة الكمية، وهي أشياء مختلفة، فمن الاضطرار أن يكون هذا العدد اللازم بهذه الأشياء مؤلفاً مقدراً على حدته لا من أجل غيره، فإن كل مؤلف إنما هو من أشياء مختلفة لا محالة، ومن أشياء موجودة، فإن التي ليست بموجودة لا يقدر على تأليفها، وما كان منها موجوداً، إلا أنها غير متشاكلة، يمكن تأليفها، والأشياء المؤتلفة إنما تألفت من أشياء موجودة مختلفة متشاكلة، لأنه إن لم يكن مختلفاً، فهو واحد لا يحتاج إلى ائتلاف، فإن لم يكن متشاكلا فليس بمتجانس، وإن ليس متجانساً، فإنما هو متضاد لا يقع به ائتلاف.
والعدد هو من هذه الأشياء، فإن فيه نوعين مختلفين، متشاكلين، متجانسين، وهو الزوج والفرد فإن ائتلافهما على حسب اختلافهما يعد تألفا مشتبكاً لا انقضاء له.
فالقول الأول من الأرثماطيقي في أبواب أحدها حدود العدد، وهو ينقسم قسمين يقال لأحدهما الفرد، والآخر الزوج، فالفرد ينقسم ثلاثة أقسام: منه أول غير مركب، وهو الذي لا يعده عدد مثل سبعة، وأحد عشر.
ومنه ثان مركب، وهو الذي له عدد مثل: تسعة، وخمسة عشر.
ومنه ثالث مركب بطبعه، وعند الإضافة إلى مركب آخر أول، وهما اللذان لكل واحد منهما عدد يعده، وليس لهما عند المقايسة عدد مشترك مثل: تسعة إلى خمسة وعشرين.
والزوج ينقسم ثلاثة أقسام منه زوج الزوج، وهو المنقسم أزواجاً إلى الوحدانية، مثل: أربعة وستين.
ومنه زوج الفرد، وهو المنقسم مرة واحدة بنصفين، ثم يقف مثل: أربع عشرة وثماني عشرة. ومنه زوج الزوج والفرد، وهو الذي لا ينقسم نصفين أكثر من مرة، ولا ينتهي إلى الوحدانية، وتكلم في هذا بكلام مشروح.
والقول الثاني في الكمية المفردة، وهو العدد الزائد والعدد المعتدل والناقص، فأما الزائد، فهو الذي تزيد جملة أجزائه على جملته إذا اجتمعت الأجزاء مثل: اثني عشر، وأربعة وعشرين، فإن الاثني عشر لها نصف وثلث وربع وسدس، وجزء من اثني عشر، فإذا جمعتها زاد العدد و المعتدل الذي تعادل جملة أجزائه جملته مثل: ستة، وثمانية وعشرين، فإن لستة نصفاً وثلثاً وسدساً، فيكون مبلغه، إذا جمع، ستة سواء، والناقص الذي تنقص جملة أجزائه من جملته مثل ثمانية، وأربعة وعشرين، فإن الثمانية لها نصف وربع وثمن، فإذا اجتمع كان سبعة ونقص واحداً وجعل في ذلك أشكالاً.
وأصح القول القول الثالث في الكمية المضافة، وهي تنقسم قسمين: أحدهما المعادلة لما أضيف إليها مثل المائة المعادلة للمائة، والعشرة المعادلة للعشرة، ومنه الخروج عن الاعتدال، وينقسم قسمين: أحدهما كبير والآخر صغير، فالكبير ينقسم خمسة أقسام، فمنه: المتضاعف مثل اثنين من أربعة، وأربعة من ثمانية، ومنه الزائد جزءا مثل ثلاثة عند أربعة، فإن الأربعة مثلها و مثل ثلثها، ومنه الزائد جزءين مثل ثلاثة، وهي أول الأفراد، إلى الخمسة، وهي الثانية من الأفراد، فتحدث زيادة جزءين، ثم على هذا الترتيب تحدث زيادة أجزاء، ومنه المضاعف الزائد جزءا، وهو يظهر بين عددين: أحدهما مثل الآخر ومثل جزء منه كالخمسة، إذا أضيفت إلى الاثنين، فإنه مثل مضاعف الاثنين و زيادة جزء، ومنه المضاعف الزائد جزءين مثل أربعة عند واحد، والصغير ينقسم على خمسة أقسام: منه تحت المضاعف، ومنه تحت الزائد جزء، ومنه تحت الزائد أجزاء، ومنه تحت المضاعف أجزاء.
ثم يقول في الأعداد الثلاثة التي أحدها كبير والآخر وسط والثالث صغير، فإذا طلب اعتدالها ألقي من الأوسط مثل الأصغر، ومن الأعظم مثل ما بقي من الأوسط، ومثل الأصغر، فإذا تعادلت الأعداد فقد تمت إضافتها.
ثم يقول فيما يزيد من الأعداد وينقص في المضاعفات، ويجعل لذلك شكلاً مثلياً بركنين، وفي الشكل واحد وعشرون بيتاً: فالأول ستة أبيات، و أوله واحد، ثم يضعفه إلى اثنين وثلاثين، والثاني خمسة أبيات، وأوله ثلاثة، ثم يضعفه إلى ثمانية وأربعين، والثالث أربعة أبيات، وأوله تسعة، ثم يضعفه إلى اثنين وسبعين، والرابع ثلاثة أبيات، وأوله سبعة وعشرون، ثم يضعفه إلى مائة وثمانية، والخامس بيتان أوله واحد وثمانون، ويضعفه فيصير مائة واثنين وستين، والسادس بيت، وهو آخره، مائتان وثلاثة وأربعون.
ثم يقول في العدد المربع الذي يزيد عليه ضعفه، ثم يتكلم في السطوح والخطوط والنقط، ويصف السطوح المثلثة والمربعة والمسدسة، والأضلاع التي يقوم بها السطوح ومسائحها.
ثم يقول في العدد المخمس ذي الأضلاع المعتدلة المخمسة، وكيف نموها، ثم المسدسة، ثم المسبعة، ثم المثمنة، ثم يصف كيف تركيبها، ويضرب لها جدولاً خمسة في تسعة، ويتكلم في أجزاء من المثلثات والمربعات والمخمسات والمسدسات مما له جرم بلا سطح، وما له جرم وسطح.
ثم يقول في تركيب الأشياء التي تركب من أخلاط شتى.
ثم يقول في الوسائط التي هي ثلاثة أنواع: واحد للحساب، والثاني للمساحة، والثالث لتأليف اللحون، ويقول إن بعض الأولين جعلوها عشراً، وبين وسائط الحساب، ووسائط المساحة، ووسائط اللحون، ويتكلم في كل نوع منها بكلام مشروح وبرهان بين.
ومنهم اراطس الذي عمل صورة الفلك كهيئة البيضة، فحكى بها الفلك، وصور فيها البروج.
ومنهم أرسطاطاليس بن نيقوماخس الجهراسيني، وكان تلميذاً لأفلاطون، فتكلم في العالم العلوي والسفلى، في صلاح العالم وفساده، وفي أخلاق النفس، وفي حقيقة المنطق، ووضع أصول الحكمة وانقسامها وتشعبها، فأول كتبه: كتاب المدخل إلى علم الفلسفة، وهو الذي يسمى باليونانية إيساغوجي، فأوله ذكر الحد، وما قوام الحد، ومن أين اشتق اسم الحد، وما فضيلة الحد، وما فيه فساد الحد، والفرقة بين الحد والمحدود.
والثاني ذكر الفلسفة، وكيف اشتقت. والثالث كتاب قوى النفس التي هي بالفكر والغضب والشهوة، فما خرج عن هذا الاعتدال كان فاسداً.
والكتاب الرابع في المنطق الذي هو أصل الفلسفة.
والكتاب الخامس يذكر فيه انقسام الأشياء ضربين: ما لا بد منه، كالغذاء، وما منه بد، كتنظيف الثوب.
والكتاب السادس في الأمور، وهي ثلاثة: واجبة كقولك: النار حارة، وممكنة كقولك: زيد كاتب، وممتنعة كقولك: النار باردة.
والكتاب السابع في الجنس، وهو ثلاثة أقسام: جنس العادة، وجنس الطبيعة والكتاب الثامن يذكر فيه ما لا يتجزأ، وهو ينقسم على أربعة: إما لأنه لا أجزاء له كالنقطة، و إما لصغره كحبة الخردل، وإما لصلابته كالحجر، وإما أنه لا على أجزاء.
والكتاب التاسع في المناسبة، وهو على أربعة: إما طبيعة كمناسبة الأب لابنه، وإما مهنة كمناسبة التلميذ معلمة، وإما مشيئة كمناسبة الصديق صديقه، وإما عرضية كمناسبة العبد سيده. ثم كتبه بعد ذلك في أربعة أنواع: أحدها المنطقيات، والثاني في الطبائع، والثالث فيما يوجد مع الأجسام ويواصلها، و الرابع فيما لا يوجد مع الأجسام ولا يواصلها.
وكتبه في المنطق ثمانية: فالأول سمي بقاطيغورياس، وغرضه فيه القول على المقولات المفردة العشر، ورسمها بما يميز به كل واحد منها من غيره، وما يعمها ويعم العدة منها، و ما يخص كل واحد منها، فحد الأشياء التي تقدمها في الوصف والشبه منها: أن جوهراً محمولاً، وجوهراً حاملاً ليس بجوهري فيه بل عرضي، وأن عرضاً حاملاً وعرضاً محمولاً عليه أي منقولاً عليه ليبين أن جواهر محسوسة، وأعراضاً ثواني غير محسوسة مقولة على المحسوسة، وأعراضاً محسوسة، وأعراضاً ثواني غير محسوسة مقولة على المحسوسة، ويبين عن العشرة بأعيانها، وبرسومها، وعوامها، وخواصها، وهذه العشرة: الجوهر، ثم الكمية، ثم الكيفية، ثم المضاف، ثم الأين، ثم المتى، ثم الفاعل، ثم المفعول، ثم الوضع، ثم الجد.
وإنما سمي كتاب المقولات لأن هذه الأسماء أجناس، وهي مقولة من الأنواع، والواحد
بمنزلة الجوهر، فإنه مقول على الجسم، والجسم مقول على المتنفس وغير المتنفس، والمتنفس مقول على الحيوان والنبات، والحيوان مقول على الإنسان والفرس والأسد، والإنسان مقول على زيد وعمرو وخالد التي هي غير متجزئة، والفرس على هذا الفرس بالإشارة، وذلك الفرس بالشبه والكمية مقولة على المتصلة والمنفصلة وسائر أجزائها، وكذلك سائر الأجناس. والثاني هو المسمى بكتاب التفسير، وغرضه فيه القول على التفسير للقضايا المقدمات للمقاييس العلمية، أعني الجوامع التي هي أخبار موجبة أو سالبة أو ما في أوله، فبين عما منه تكون القضايا من الاسم، والحرف، والقول، والتصريف، والمخبر عن القول، وعن القضايا المؤلفة من اسم وحرف، وثالث ورابع كقولنا: النار هي حارة، وما يعرض في ذلك، وفي الفحص عن أي القضايا أشد تناسباً الموجبة لسالبها أم الموجبة للموجبة المضادة لها.
وإنما سماه كتاب التفسير لأنه أراد المقالة على الجزم، والبسيط المقول، الذي ليس فيه اشتراك اسم، وأراد أن يفصل بينه وبين القول الذي ليس بجازم، الذي يكذب ولا يصدق، وهو تسعة: الاستخبار كقولك: من أين جئت؟ والدعاء كقولك: يا فلان أقبل! والراغب كقولك في الأمر: إني أطلب إليك أن تفعل كذا وكذا، والتعجب كقولك في الأمر: ما الذي يكون من هذا؟ والقسم كقولك: أقسمت بالله لتذهبن، والشك كقولك: لعل الأمر على ما قيل، والوضع كقولك: تكون هذه الضيعة وقفاً على المساكين، والمجازي كقولك: إن فعلت كذا وكذا أجزتك بكذا. والمقالة قد تلقب ألقاباً شتى في جهات مختلفة، فإذا كان القول يوجب شيئاً لشيء سمي موجبة، وإذا كان يفلت شيئاً من شيء سمي سالبة، وإذا كان مقدما ليستخرج منه شيء سمي مقدمه، فإذا كان مستخرجاً من مقدمات قبله سمي نتيجة، وإذا كانت مقدمات ونتيجتها معها سمي صيغة.
والثالث المسمى أنوليطيقا ومعناه النقائض، وغرضه فيه الإبانة عن الجوامع المرسلة، أعني ما هي، وكيف هي، ولم هي، وغرضه النوع الجامع للمعاني الثلاثة، وما قيل على الجامعة المرسلة، ووجود الجامعة، وكيف تركيب الجوامع، ولكم نوع يكون، وما الذي يظهر من صوادقها بذاته، وما الذي يظهر من الحركة. والكتاب الرابع المسمى أبودقطيقا ومعناه الإصلاح، وغرضه فيه الإبانة عن الأمور المتضحة البرهانية، وكيف هي، وما ذا ينبغي أن يؤلف، ويسمى هذا الكتاب البيان والبرهان، لأنه يصف فيه التمييز الذي يميز به الحق من الباطل، والصدق من الكذب، فيقول: إن المقدمات على جهة المقدمة المجتمعة عليها، المعروفة عند العامة، المركبة من الجزئين السابقين في العلم، بمنزلة قول القائل: كل إنسان حي.
والثانية الموجبة للمجادلة، فإنها، وإن كانت صحيحة في نفسها، مجهولة عند العامة، وهي تحتاج إلى وساطة يعرف بها صحتها، بمنزلة قولنا: كل إنسان جوهر.
فأما كتابه الخامس المسمى طوبيقا فغرضه فيه الإبانة عن الأسماء الخمسة التي هي: الجنس، والنوع، والفصل، والخاصة، والعرض، عن الحد، فتعرف ماهية الجنس، وماهية النوع، لئلا يذهب عن أحدها الجنس والنوع، فإنما يعرف هذا بالفصل الذي يفصل بين النوع و الجنس، وما خاصية كل واحد منهما، أو ما الأعراض من الجواهر.
وأما كتابه السادس، وهو المسمى سوفسطيقا، فغرضه فيه القول على المغالطة، ويقول كم نوعا تكون المغالطة، ويخبر كيف الاحتراس من قبول تلك الأغاليط، وهو الذي رد فيه على السوفسطائية.
وأما كتابه السابع، وهو المسمى ريطوريقا، ومعناه البلاغة، فغرضه فيه القول في الأنواع الثلاثة: في الحكومة، وفي المشورة، وفي الحمد، وفي الذم، والجامع لها التقريظ.
وأما كتابه الثامن، وهو المسمى فوايطيقا، فغرضه فيه القول على صناعة الشعر، وما يجوز فيه الشعر، وما يستعمل من الأوزان، وكل نوع فهذه أغراضه في كتبه المنطقيات الأربعة المقدمة، والأربعة الثانية.
فأما كتبه الطبيعية فالأول كتاب سمع الكيان، وهو الخبر الطبيعي بين فيه عن الأشياء الطبيعية، وهي خمسة، المشتملة على الطبائع كلها التي لا وجود لشيء من الطبائع دونها، وهي:
العنصر، والصورة، والمكان، والحركة، والزمان، فإنه لا وجود لزمان إلا بحركة، ولا وجود لحركة إلا بمكان، ولا وجود لمكان إلا بصورة، ولا وجود لصورة إلا بعنصر، وهذه الخمسة منها اثنان جوهران، وهما: العنصر والصورة، وثلاثة أعراض جوهرية.
والثاني هو المسمى كتاب السماء والعالم، وغرضه فيه الإبانة عن الأشياء الفلكية غير ذوات الفساد، وهي صنفان: أحدهما صنف مستدير الصنعة، وحركته الاستدارة، وهو الفلك المحيط بالأشياء، وهو ركن خامس لا يلزمه الكون، ولا الفساد، والصنف الثاني الفلكي المستدير بالتكوين، وإن لم يكن مستديراً بالحركة، وهي الأربعة الأركان: النار والهواء والأرض والماء، فإن هذه ليست بمستديرة الحركة بل مستقيمة الحركة، مستديرة بالكون، والمستديرة الكون هي التي يكون بعضها من بعض، بالانقلاب، بمنزلة الشيء الذي يستدير وينقلب، بمنزلة النار التي تستدير وتنقلب فتكون من الهواء، والهواء من الماء، والماء من الأرض، وكل واحد من هذه الأركان يستدير بالكون بعضه على بعض، فالنار والهواء إلى فوق، والماء والأرض إلى أسفل. وكتابه الثالث هو المسمى كتاب الكون والفساد، وغرضه فيه الإبانة عن ماهية الكون والفساد، ككون الماء هواء، والهواء ماء، وكيف يكون، وكيف يفسد بالطبيعة.
والكتاب الرابع في الشرائع، وهو كتاب المنطق في الآثار العلوية، وغرضه فيه الإبانة عن عرض الكون والفساد، وكون كل كائن وفساده، مما بين نهاية فلك القمر إلى مركز الأرض، فيما بين الجو وما على الأرض، وما في بطنها، وعن الآثار العارضة فيها: كالسحاب، والضباب، والرعد، والبرق، والريح، والثلج، والمطر، وغير ذلك.
وكتاب في المعادن، وهو الخامس، وغرضه فيه الإبانة عن كون الأجرام المتكونة في باطن الأرض، وكيفياتها، وخواصها، وعوامها، والمواضع الخاصة بها.
والكتاب السادس في الإبانة عن علل النبات، وكيفياته، وخواصه، وعوامه، وعلل أعضائه، والمواضع الخاصة به، وحركاته، فهذه أغراضه في كتبه الطبيعية.
فأما كتبه النفسانية، فهما كتابان: فكتابه الأول منهما كتاب النفس، وغرضه فيه الإبانة عن ماهية النفس، وقوامها، وفصولها، وتفصيل الحس، وتعديد أنواعه، وفضائل النفس وعاداتها، والأمور المحمودة منها، والأمور المذمومة منها، فالمحمودة: المنطق، والعدل، والحكمة، والحكم، والحلم، والشجاعة، والقوة، والجرأة، وشرف النفس، والتحرج، والأمور المذمومة منها: الجور، والفسق، والنفاق، والغش، والكذب، والنميمة، والخيانة.
والكتاب الثاني في الحس والمحسوس والإبانة عن علل الحس للمحسوس، وغرضه فيه أن يخبر ما الحس والمحسوس، وكيف يقبل الحس الأشياء المحسوسة، وكيف يكون الحس والمحسوس شيئاً واحدا، وهما مختلفان في الأدوات، وهل الأشياء بذواتها وأجرامها أم بذواتها دون أجرامها.
ثم كتابه في الكلام الروحاني، وغرضه فيه ذكر الصورة المجردة من الهيولى، التي في العالم الأعلى، والقوى الروحانية، ومعرفة اتصال قوى تلك الصور بالقوى الطبيعية، وهل هي بحركة، أو بلا حركة، وكيف تدير تلك القوى هذه القوى، وأن كل واحد من القوى الجرمية الغليظة جزء من تلك الأشياء الشريفة، وبين ما العقل، وما المعقول، وما النفس الكلية، وما هبوطها وطلوعها.
ثم كتابه في التوحيد، فقال: إن العلية الثانية علة العلل، والدهر تحتها، وهي مبدعة الأشياء، والإبداع لها، وقال في هذا قولا بين فيه التوحيد.
فأما كتبه في الخلق والإبانة عن أخلاق النفس، والسعادة في النفس والبدن، وتدبير العامة و الخاصة، وتدبير الرجل امرأته، والسياسة، و تدبير المدن، وقصص أهل التدبير للمدن، فهذه أغراض كتب أرسطاطاليس الحكيم المذكورة الشريفة، وما بعدها من الكتب فتبع لها.
ومن حكماء اليونانيين بطليموس وهو الذي وضع كتاب المجسطي، وكتاب ذات الحلق، وذات الصفائح، وهي الأسطرلاب والقانون، فأما كتاب المجسطي، ففي علم النجوم، والحركات، وتفسير المجسطي الكتاب الأكبر، وهو ثلاث عشرة مقالة، فابتدأ المقالة الأولى من المجسطي بذكر الشمس، لأنها الأس لا يوصل إلى علم شيء من حركات الفلك إلا بها، فقال في الباب الأول: إن الشمس فلك خارج المركز عن مركز العالم قد سمت ناحية منه، مصعدة نحو ما يحاذي بها من فلك البروج، متباعدة عن مركز الأرض، ودنت الناحية الأخرى منه، منحدرة نحو الأرض، متباعدة عما يحاذي بها من فلك البروج، فموضع السمو هو الموضع الذي فيه تبطىء الشمس، وموضع الدنو هو الذي فيه تسرع، ثم تكلم في ذلك بقول واضح.
والباب الثاني في قدر كلية الأرض عند كلية السماء ووضعت وضع الفلك المائل، وموضع عمران الأرض، ومقادير ساعاتها فيما بين خط الاستواء إلى القطب الشمالي، واختلاف ما بين هذين الموضعين، وقدر ذلك الاختلاف في نواحي الأفق من قبل اختلاف مواضع أهل الأرض، وحركة الشمس والقمر.
والباب الثالث في الكرة المستقيمة مع قسي فلك البروج المفروضة.
والمقالة الثانية ثلاثة عشر باباً: الباب الأول في المواضع المسكونة من الأرض.
الباب الثاني في معرفة مقدار ما بين الفلك المستقيم وبين مطلع الفلك المائل من تقويس دائر أفق المطلع، ومقادير النهار في كل يوم في طوله وقصره.
الباب الثالث في معرفة ارتفاع القطب وانخفاض الأخرى التي هي مقابلته، وهو عرض الإقليم من الصفة والرسوم قبل ارتفاع القطب، وما بقي إلى منتهى سمت الرءوس التي في تدوير وسط السماء.
الباب الرابع في معرفة مر الشمس في سمت رؤوس أهل البلاد أين يكون ذلك، ومتى يكون، وفي أي موضع من أجزاء البروج تكون الشمس يومئذ فوق رؤوسهم.
الباب الخامس في مقدار الظل نصف النهار في برجي الاستواء، وبرجي التغير.
الباب السادس في خواص المواضع من طريق ما بين المشرق والمغرب، والخطوط التي يوازي بعضها بعضاً في استواء ما بينها من العرض.
الباب السابع في اختلاف مطالع الفلك المائل عن طلوع الفلك المستقيم. الباب الثامن في جدوله مطالع خطوط أقاليم الأرض ومطلع طريقه خطاً خطاً.
الباب التاسع في معرفة طول الليل والنهار من أزمان ساعات الأقاليم، ومعرفة مطالع أجزاء البروج، والجزء الطالع، والجزء المتوسط السماء.
الباب العاشر في الزوايا التي تقع فيما بين الفلك المائل، وبين تدوير منتصف النهار الذي في وسط السماء.
الباب الحادي عشر في الزوايا التي تقع بين الفلك المائل، وتدوير أفق المطلع إلى حد الجنوب من ربع الدوائر في كل إقليم من الأقاليم.
الباب الثاني عشر في الزوايا والتقاويس التي تكون في دائرة الأفق التي تدور على قطب دائرة الأفق، في مواضع الأقاليم.
الباب الثالث عشر في وضع جداول القسي والزوايا التي في أقاليم الأرض، فهذه أبواب المقالة الثانية.
المقالة الثالثة من المجسطي عشرة أبواب، فالباب الأول في معرفة مقدار طول السنة، وعدد أيامها.
الباب الثاني في وضع الجداول لحركة الشمس الوسطى.
الباب الثالث في معرفة جهات الحركة المستديرة المتفقة.
الباب الرابع في معرفة ما يظهر من اختلاف حركة الشمس في المنظر والرؤية.
الباب الخامس في الأبحاث الجزئية عن الاختلاف.
الباب السادس في صنعة فصول جداول القطع الجزئية الاختلاف.
الباب السابع في وضع جداول اختلاف حركة الشمس.
الباب الثامن في معرفة موضع الشمس في مسيرها الأوسط.
الباب التاسع في حساب الشمس ومعرفة حقيقة موضعها.
الباب العاشر في معرفة اختلاف الأيام ما بين نهار يوم وليلته وبين نهار يوم آخر وليلته. المقالة الرابعة من المجسطي أحد عشر باباً، فالباب الأول: من أي الأرصاد ينبغي أن يكون البحث عن القمر.
الباب الثاني في معرفة أزمان أدوار القمر.
الباب الثالث في معرفة تقسيم حركات القمر الوسطى.
الباب الرابع في وضع جداول تكون فيها حركات القمر الوسطى.
الباب الخامس في أن الجهتين جهة مركز الخارج وجهة فلك التدوير، في حركات القمر، تدلان على أمر واحد.
الباب السادس في برهان اختلاف حركة القمر الأولى المفردة.
الباب السابع في تقويم مسير القمر في الطول والاختلاف.
الباب الثامن في معرفة موضع حركات القمر الوسطى في الطول والاختلاف.
الباب التاسع في تقويم مسير القمر الأوسط في العرض وفي ابتدائه.
الباب العاشر في وضع جداول اختلاف القمر المفرد.
الباب الحادي عشر في أي مقدار يكون اختلاف القمر.
فهذه الأربع المقالات تجزي عن جميع ما يحتاج إليه من كتاب المجسطي، وتسع مقالات بعدها في صفة المراكز، وتقديم حركة التدوير، وصنعة جداول الحركة، وجداول طول الكواكب.
وأما كتاب: في ذات الحلق، فإنه ابتدأ بذكر عمل ذات الحلق، وهي تسع حلقات، بعضها في جوف بعض، إحداهن ذات علاقة، والثانية المعترضة فيها من المشرق والمغرب، والثالثة الحلقة التي تدور بهاتين الحلقتين على ما بين أسفلها إلى أعلاها، والرابعة الجارية تحت الحلقة ذات العلاقة، والخامسة حاملة نطاق البروج، وفيها تركيب المحور، والسادسة حاملة نطاق البروج الاثني عشر، والسابعة تحت حلقتي الفلك، وهي حلقة مركبة في المحور ليؤخذ بها عرض الكواكب الثابتة، الجارية فيما بين أرباع الفلك، والحلقة الثامنة جارية في حجري المحور، والحلقة التاسعة مركبة في الحلقة الثانية لمجرى الفلك المستقيم يحط في الجنوب، ويرفع السماء على قدر انتقال الفلك المستقيم، ويذكر فيه كيف يبتدأ بعملها، وكيف يكتب عليها، وكيف تركب كل واحدة في الأخرى، وكيف تجزى وتخطط وتسمر حتى لا تزول، وكيف تنصب.
ثم يذكر العمل بها في تسعة وثلاثين باباً، فالباب الأول من أبواب مواضع العمل في ذات الحلق والتداوير التي فيها. الباب الثاني في امتحانها.
الباب الثالث في أخذ ظل الشمس بها.
الباب الرابع إذا أردت أن تأخذ بها عرض إقليم، أو مدينة، أو موضع.
الباب الخامس إذا أردت أن تأخذ بها عرض كل إقليم ما هو.
الباب السادس إذا أردت أن تعرف النهار كيف يقصر ويطول في السرطان.
الباب السابع إذا أردت معرفة مقدار كل يوم من أيام السنة.
الباب الثامن إذا أردت معرفة استواء الليل والنهار في الإقليم الأول.
الباب التاسع إذا أردت أن تعلم كيف تطلع البروج في الأقاليم بأقل من ثلاثين جزءاً أو أكثر. الباب العاشر علم رد أجزاء البروج إلى جزء الفلك المستقيم.
الباب الحادي عشر في معرفة كل برج، وكيف يغيب بمطلع نظيره، ويطلع بمغيبه في الأجزاء. الباب الثاني عشر إذا أردت أن تعلم كيف تطلع البروج وسط السماء على اختلاف من أجزائها. الباب الثالث عشر إذا أردت معرفة كل برج منها.
الباب الرابع عشر إذا أردت معرفة الطالع والأوتاد الأربعة بالنهار من قبل الشمس.
الباب الخامس عشر إذا أردت معرفة الطالع بالليل من القمر والكواكب.
الباب السادس عشر إذا أردت أن تعلم كم ساعة مضت من النهار.
الباب السابع عشر إذا أردت أن تعلم أي ساعة يظهر القمر، أو كوكب من الكواكب الثابتة. الباب الثامن عشر إذا أردت أن تعلم ساعات القرانات.
الباب التاسع عشر إذا أردت أن تعرف مقدار المشرقين والمغربين في كل بلد.
الباب العشرون إذا أردت أن تعلم لكل برج مقدار مطلعه من المشرق، ومغربه من المغرب.
الباب الحادي والعشرون إذا أردت أن تعلم الكواكب التي تغيب في كل بلد.
الباب الثاني والعشرون إذا أردت أن تعلم الطرائق الخمس التي ذكرها الحكماء في الفلك في كل بلد.
الباب الثالث والعشرون إذا أردت أن تعرف الأقاليم السبعة.
الباب الرابع والعشرون إذا أردت معرفة كل إقليم منها.
الباب الخامس والعشرون إذا أردت أن تعرف كيف يكون النهار الأقصر، إذا صارت الشمس في الجدي، في الموضع الذي يكون عرضه ثلاثة وستين جزءاً، وذلك أقصى ما يسكن من ناحية الشمال، ويكون النهار أربع ساعات ونحوها، وليلة عشرين ساعة، ويكون النهار الأطول فيه عشرين ساعة، وليلة أربع ساعات، وهي جزيرة يقال لها جزيرة تولى من أرض أوريبا، وهي شمالي أرض الروم.
الباب السادس والعشرون إذا أردت أن تعرف المواضع التي تغيب عنها الشمس ستة أشهر، فيكون ظلمة راتبة، وتطلع عليه الشمس ستة أشهر، فيكون ضوءاً راتباً، وهو الموضع الذي يحاذي محور الشمال.
الباب السابع والعشرون إذا أردت أن تعلم كل كوكب من الكواكب الثابتة من أي جزء من أجزاء البروج التي تطلع في كل موضع تريد من الأرض.
الباب الثامن والعشرون إذا أردت أن تعلم كم جزءاً بين رأس الحمل والطالع من أجزاء المطالع في كل بلد.
الباب التاسع والعشرون إذا أردت أن تعلم لكل مدينة وبلد من أي الأقاليم هي.
الباب الثلاثون إذا أردت أن تعلم عرض القمر، أو كوكب من الكواكب.
الباب الحادي والثلاثون إذا أردت أن تقوم خط وسط السماء في موضعه من سمت كل بلد. الباب الثاني والثلاثون إذا أردت أن تعرف طول الكواكب وعرضها بعد معرفتك بجري وسط السماء.
الباب الثالث والثلاثون إذا أردت أن تعرف موضع رأس التنين وذنبه، وهل تلتقي بفلكي الشمس والقمر.
الباب الرابع والثلاثون إذا أردت أن تعرف المطالع من قبل ساعات الما.
الباب الخامس والثلاثون إذا أردت أن تعرف مجرى الفلك الذي فيه الكواكب الثابتة.
الباب السادس والثلاثون إذا أردت أن تعرف تشريق الكواكب وتغريبها.
الباب السابع والثلاثون إذا أردت أن تعرف طول مدينة من المدن.
الباب الثامن والثلاثون في معرفة أجزاء طول المدن.
الباب التاسع والثلاثون في استخراج القوس من حساب الجبر، فهذه أبواب ذات الحلق.
وأما كتاب في ذات الصفائح، وهي الأسطرلاب، فإنه يبتدىء بذكر عملها وكيف تعمل، وحدودها، ومقاديرها، وتركيب حجرها، وصفائحها، وعنكبوتها، وعضادتها، وكيف تجزأ وتقسم وتحفظ على قسمة أجزائها، ومقنطراتها، وميلها، ويشرح ذلك، ويصفه صفيحة إقليم إقليم، وطول كل إقليم وعرضه، ومواضع الكواكب والساعات فيها، والطالع والغارب والمائل، والجنوبي والشمالي، ورأس الجدي، ورأس السرطان، ورأس الحمل، ورأس الميزان، ثم يذكر العمل بها.
فالباب الأول امتحانها حتى تصح. الباب الثاني في امتحان طرفي العضادة.
الباب الثالث في علم ما مضى من النهار من ساعة وأي برج ودرجة الطالع.
الباب الرابع في علم ما مضى من ساعات الليل، وما الطالع من البروج والدرج.
الباب الخامس في معرفة موضع الشمس من البروج والدرج.
الباب السادس في علم مواضع القمر في أي برج ودرجة هو، وأين الكواكب السبعة.
الباب السابع في علم عرض القمر.
الباب الثامن في علم مطالع البروج الاثني عشر في الأقاليم السبعة، ومعرفة كل برج منها. الباب التاسع في قطع المطالع للفلك المستقيم، وما يصيب كل درجة من درج السواء.
الباب العاشر في علم ساعات الليل والنهار كم تكون في كل زمان، في كل إقليم.
الباب الحادي عشر في علم مقدار نهار كل كوكب من الكواكب الثابتة، وما يجري في الفلك من حين طلوع الكواكب إلى حين غروبها.
الباب الثاني عشر في معرفة طول الكواكب وعرضها.
الباب الثامن عشر في معرفة زوال الكواكب الثابتة، فإنها تزول في كل سنة من سني القمر درجة.
الباب الرابع عشر في معرفة ميل البروج عن خط الاستواء الذي هو مدار الحمل والميزان. الباب الخامس عشر في معرفة المدائن أيها أقرب إلى الشمال وإلى الجنوب.
الباب السادس عشر في معرفة أقرب المدائن من المشرق وأقربها إلى المغرب.
الباب السابع عشر في معرفة عرض كل إقليم.
الباب الثامن عشر في علم أي إقليم أنت فيه.
الباب التاسع عشر في علم عرض الإقليم وأي المدائن أردت.
الباب العشرون في علم تقدير الطرائق، وهي خمس، وكيف مجاريها، ويشرح في كل باب من هذه الأبواب شرحاً طويلاً بين فيه ما يحتاج إليه وإلى معرفته.
فهذه أغراضه في ذات الصفائح.
وأما كتابه القانون في علم النجوم وحسابها، وقسمة أجزائها، وتعديلها، فمن أتم كتب النجوم وأوضحها، وكان أول ما ابتدأ به في ذكر دور السماء التي تدور فيها هذه الكواكب.
باب في علم مسير الكواكب في كل يوم، فيقول: إن مسير الشمس في كل يوم يكون تسعاً وخمسين دقيقة، ومسير أوج القمر سبع دقائق، ومسير رأس التنين، وهو الجوزهر، ثلاث دقائق، ومسير زحل دقيقتان، ومسير المشتري خمس دقائق، ومسير المريخ إحدى وثلاثون دقيقة، ومسير الزهرة درجة وست وثلاثون دقيقة، ومسير عطارد أربع درج وخمس دقائق، و مسير قلب الأسد ست ثوان.
باب في علم أوساط الكواكب، وتقويمها، وتعديلها، إذا كانت لا تمكن أن تقوم إلا بأوساطها. باب في تحريك أرباع الفلك على ما ذكر أصحاب الطلسمات، أن أرباع الفلك تتحرك ثمانية أجزاء مقبلة، وثمانية أجزاء مدبرة، والجزء درجة فتقبل في كل ثمانين سنة، وتدبر على كل ثمانين سنة جزءاً.
باب في ميل الشمس وعرض الكواكب الستة، وتباعدها من خط الاستواء إلى الشمال، وإلى الجنوب، ووضع لكل كوكب منها في ذلك جدولاً، أما ميل الشمس، فميلها عن خط الاستواء، وأما ميل عرض الكواكب فتباعدها من مسير الشمس.
باب في مقام الكواكب السبعة ورجوعها، وكيف يلتمس على ذلك من زحل والمشتري والمريخ، إذا كان بين كل واحد منها وبين الشمس مائة وعشرون، أو مائتان وأربعون درجة، ومن الزهرة وعطارد إذا تباعدا من الشمس تباعدهما الأكبر، فكان بين الزهرة وبينها ست وأربعون درجة، وبين عطارد ثلاث وعشرون درجة.
باب في طلوع الكواكب السبعة من تحت شعاع الشمس، ومغيبها من بين يديها ومن خلفها.
باب في تقويم الساعات وتعديلها، وإخراجها من الساعات المعوجة إلى الساعات المستوية.
باب في علم عرض المدائن وطولها، وقسم مدائن العالم بين الأقاليم السبعة، فجعل لكل مدينة طولاً وعرضاً، وجعلها في جدول سماه جدول المدائن، ووضعه على ثلاثة أبواب: فالباب الأول فيه تسمية المدائن.
والباب الثاني طول كل مدينة. والباب الثالث عرض كل مدينة، وهو انحرافها عن حد رأس الجدي، والميزان إلى الشمال، ووضع لكل إقليم عرضه، وهو انحراف وسطه عن رأس الحمل، والميزان إلى الشمال، وأثبته على رأس جدول مطالعه، فإذا أردت عرض مدينة من مدائن العالم، وكانت مما قد أثبته في تسمية المدائن، وإلا نظر إلى عرض أي إقليم هي أقرب، فأي إقليم وجد عرض تلك المدينة أقرب إلى عرضه، فتلك المدينة من ذلك الإقليم.
باب فيه عرض كل إقليم، فقال الأول: ست عشرة درجة ودقيقة، والثاني ثلاث وعشرون درجة وإحدى عشرة دقيقة، والثالث ثلاثون درجة واثنتان وعشرون دقيقة، والرابع ست وثلاثون درجة، والخامس أربعون درجة وست وخمسون دقيقة، والسادس خمس وأربعون درجة واثنتان وثلاثون دقيقة، والسابع ثمان وأربعون درجة واثنتان و ثلاثون دقيقة.
وباب ذكر فيه انحراف القمر، وهو الذي يسمى البراكفيس، وأخبر أنه رؤية القمر، وذلك أن للقمر موضعين مختلفين: أحدهما موضع رؤيته، والآخر منزلته المعتدلة.
وباب في اجتماع الشمس والقمر والاستقبال، وكيف يحسب لذلك حتى يصح.
وباب في كسوف القمر ونواحيه.
وباب في كسوف الشمس، وكيف يحسب في وقت الاجتماع.
وباب في تعديل ما يوجد بجداول الكواكب والطالع وغير ذلك.
وباب من التعديل في استخراج الطالع وفيه مائة وثمانون جدولاً، وبين كل قول بالأشكال. وتسمية ملوك اليونانيين والروم وما ملك كل ملك على ما بينا من أسمائهم آخر هذا الفصل.
ملوك اليونانيين والروموكان أول ملوك اليونانيين، وهم أولاد يونان بن يافث بن نوح، وهو أول من سماه بطليموس في القانون من ملوكهم: فيلفوس، وكان جباراً عاتياً، وكان ملكه سبع سنين.
ثم ملك ابنه الإسكندر، وهو الذي يقال له ذو القرنين، واسم أمه ألومفيدا، وكان معلمه أرسطاطاليس الحكيم، فجل قدر الإسكندر، وعظم ملكه، واشتد سلطانه، وأعانته الحكمة والعقل والمعرفة، وكان معه نجدة وبأس، وهمة عالية، دعته إلى أن كتب إلى ملوك الأقاليم والآفاق يدعوهم إلى طاعته، وكان من كان قبله من ملوك اليونانيين يؤدي إلى ملوك أرض بابل من الفرس خرجاً، لجلالة تلك المملكة، وعظم قدرها، وصغر الممالك في جنبها، فلما كتب إلى ملك فارس يدعوه إلى طاعته عظم عليه، فسار الإسكندر حتى أتى أرض بابل، وملك الفرس يومئذ دارا بن دارا، فحاربه حتى قتله، وحوى خزائن ملكه، وتزوج ابنته.
ثم صار إلى أرض فارس، وقتل من بها من المرازبة والرؤساء، وافتتح البلاد.
ثم صار إلى أرض الهند، فزحف إليه فور ملك الهند، فحاربه حتى قتله، ثم صير الإسكندر على الهند ملكاً من قبله من أهل الهند يقال له كيهن، و انصرف، فشرق، وغرب، ثم رجع إلى أرض بابل بعد أن دوخ الأرض.
فلما صار في أداني العراق، مما يلي الجزيرة، اعتل، فاشتدت علته، فلما يئس من نفسه، وعلم أن الموت قد نزل به، كتب إلى أمه كتاباً يعزيها عن نفسه، وقال لها في آخره: اصنعي طعاماً، واجمعي من قدرت عليه من نساء أهل المملكة، ولا يأكل من طعامك من أصيب بمصيبة قط! فعملت طعاماً، وجمعت الناس، ثم أمرتهم ألا يأكل من أصيب بمصيبة قط، فلم يأكل أحد، فعلمت ما أراد.
ومات الإسكندر بموضعه الذي كاتب منه، فاجتمع أصحابه، فكفنوه، وحنطوه، وصيروه في تابوت من ذهب، ثم وقف عليه عظيم من الفلاسفة، فقال: هذا يوم عظيم كشف الملك عنه، وأقبل من شره ما كان مدبراً، وأدبر من خيره ما كان مقبلاً، فمن كان باكياً على ملك، فعلى هذا الملك فليبك، ومن كان متعجباً من حادث، فمن مثل هذا الحادث فليتعجب.
ثم أقبل على من حضره من الفلاسفة، فقال: يا معاشر الحكماء! ليقل كل امرىء منكم قولاً يكون للخاصة معزياً، وللعامة واعظاً. فقام كل واحد من تلامذة أرسطاطاليس، فضرب بيده على التابوت، ثم قال: أيها المنطيق ما أخرسك! أيها العزيز ما أذلك! أيها القانص إني وقعت موضع الصيد في الشرك من هذا الذي يقنصك؟ ثم قام آخر فقال: هذا القوي الذي أصبح اليوم ضعيفاً، والعزيز الذي أصبح اليوم ذليلاً.
وقام آخر فقال: قد كانت سيوفك لا تجف، ونقماتك لا تؤمن، وكانت مدائنك لا ترام، وكانت عطاياك لا تبرح، وكان ضياؤك لا يكسف، فأصبح ضوءك قد خمد، ونقماتك لا تخشى، وأصبحت عطاياك لا ترجى، وأصبحت سيوفك لا تنتضى، وأصبحت مدائنك لا تمنع.
ثم قام آخر فقال: هذا الذي كان للملوك قاهراً، فقد أصبح اليوم للسوقة مقهوراً.
وقام آخر فقال: قد كان صوتك مرهوباً، وكان ملكك غالباً، فأصبح الصوت قد انقطع، والملك قد اتضع.
وقام آخر فقال: لا امتنعت من الموت إذ كنت من الملوك ممتنعاً، وهلا ملكت عليه إذ كنت عليهم مملكاً.
وقام آخر فقال: حركنا الإسكندر بسكونه، وأنطقنا بصمته.
وتكلموا بنحو هذا الكلام، ثم أطبق التابوت، وحمل إلى الإسكندرية، فتلقته أمه بعظماء أهل المملكة، فلما رأته قالت: يا ذا الذي بلغت السماء حكمته، وحاز أقطار الأرض ملكه، ودانت الملوك عنوة له! ما لك اليوم نائماً لا تستيقظ، وساكتاً لا تتكلم؟ من يبلغك عني أنك قد وعظتني فاتعظت، وعزيتني فتعزيت؟ فعليك السلام حياً وهالكاً، فنعم الحي كنت، ونعم الهالك أنت.
ثم أمرت به، فدفن، وكان ملك الإسكندر مع ما نال من الدنيا اثنتي عشرة سنة.
ثم ملك بعد ذي القرنين بطليموس خليفة الإسكندر، وكان حكيماً عالماً، وكان ملكه عشرين سنة، ثم ملك فيلفوس، وكان جبارا، فاشتد سلطانه، وعتا في ملكه، وفي أيامه عملت الطلسمات، وكان ملكه ثمانياً وثلاثين سنة، ثم ملك هورحيطوب الأول خمساً وعشرين سنة، ثم ملك فيلوبطور سبع عشرة سنة، ثم ملك فيفانس أربعاً وعشرين سنة، ثم ملك فيلوبطور الثاني خمساً وعشرين سنة، ثم ملك هورحيطوب الثاني سبعاً وعشرين سنة.
ملوك الرومثم صار الملك من بعد اليونانيين، أولاد يونان بن يافث بن نوح، إلى الروم، وهم ولد روم بن سماحير بن هوبا بن علقا بن عيصو بن إسحاق بن إبراهيم، فغلبوا على البلد، وتكلموا بلغه القوم، وانتسبوا إلى الرومية، ودرست اليونانية إلا ما بقي في أيدي هؤلاء من فضل حكمهم، وكان أول من ملك من الروم بعد اليونانيين فهاساطق، وهو جاليوس الأصغر، ابن روم، وكان ملكه اثنتين وعشرين سنة.
ثم ملك أغسطس، فلما أتى لملكه سنة، ولد المسيح، واتصل ملك أغسطس ثلاثا وأربعين سنة. ثم ملك طباريس اثنتين وعشرين سنة.
ثم ملك جايس أربع سنين.
ثم ملك قلوديس أربع عشرة سنة.
ثم ملك أسفسيانوس عشر سنين، وكان أهل مملكته يسمونه الإله، ووجه ابنا له يقال له ططوس إلى بيت المقدس، فحصرها أربعة أشهر، وكان قد اجتمع إليها في عيد من أعياد اليهود خلق عظيم، فاشتد عليهم الحصار، حتى أكلوا الصبيان، ومات أكثرهم من الجوع، ثم افتتحها، فقتل وسبى وأحرق الهيكل بالنار.
ثم ملك ططوس ثلاث سنين، وانشق في زمانه جبل يقال له أبرمور، وخرجت منه نار أحرقت مدناً كثيرة.
ثم ملك دومطيانوس خمس عشرة سنة، وفي زمانه ظهر أبولوس صاحب الطلسمات من أهل طوانة، ووثب بدومطيانوس أهل مملكته، فقتلوه.
ثم ملك يهودس سنة واحدة.
ثم ملك طريانوس تسع عشرة سنة.
ثم ملك ادريانوس إحدى وعشرين سنة، ووثب به يهود بيت المقدس، فامتنعوا أن يؤدوا إليه الخراج، فوجه إليهم من قتلهم، وأمر بقتل من بقي منهم ببيت المقدس.
ثم ملك هيلوس أنطونينوس ثلاثاً وثلاثين سنة.
ثم ملك مرقس أنطونينوس خمساً وعشرين سنة.
ثم ملك الإسكندر بن ماميا ثلاث عشرة سنة.
ثم ملك مكسيميانوس ثلاث سنين.
ثم ملك جورديانوس ثلاث سنين.
ثم ملك فيلفوس سنتين.
ثم ملك ديقيوس سنة واحدة.
ثم ملك جالوس ثلاث سنين.
ثم ملك ولريانوس ست سنين.
ثم ملك قروس سبع سنين.
ثم ملك دقليطيانوس عشرين سنة.
ثم ملك قسطنطين ومكنيوس عشر سنين.
وكانت ملوك اليونانيين، ومن ملك بعدهم من الروم، مختلفة، فطائفة منهم على دين الصابئين، وكانوا يسمون الحنفاء، وهم الذين يقرون ويعترفون بخالق، ويزعمون أن لهم نبياً مثل اوراني، وعابيديمون، وهرمس، وهو المثلث بالنعمة، ويقال إنه إدريس النبي، وهو أول من خط بالقلم، وعلم علم النجوم، ويقولون في الخالق، جل وعز، على قول هرمس: أما أن يعقل الله، فعسر، وأن ينطق به، فلا يمكن، وإن الله علة العلل، المكون للعالم جملة واحدة.
وطائفة منهم أصحاب زينون، وهم السوفسطائية، وتفسير هذا الاسم باليونانية المغالطة، وبالعربية التناقضية، يقولون: لا علم ولا معلوم، واحتجوا باختلاف الناس وانتصاف بعضهم من بعض، وقالوا: نظرنا في قول الناس المختلفين، فوجدناها مختلفة غير متفقة، وأصبناهم في اختلافهم مجتمعين على أن الحق مؤتلف غير مختلف، وأن الباطل مختلف غير مؤتلف، وكان في اجتماعهم شاهد لهم انهم لم يعملوا بالصواب، فلما أقروا بهذا لم يبق للحق موضع يطمع في إصابته إلا في الخاصة منهم، فعلمنا أن ذلك لا يوجد إلا بأحد وجهين: إما بالتسليم للمدعي، وإما بالكشف لدعواه، فنظرنا في الدعوى فأصبنا بما يعمهم، فلم نجز تصديقهم لخلتين: إحداهما أن يكذب بعضهم بعضا، والأخرى إجماعهم على انهم لم يعلموا بالصواب. فلم يبق إلا كشف الدعوى، ففعلنا، فأصبناهم أهل تكافؤ وتجار بدور الغلبة عليهم جميعاً بالاستواء بينهم، تقوى هذه مرة، ومخالفتها أخرى، فلم نصب عند طائفة منهم فضلاً، ولا تشارك فيه، ولا حجة، ولا تساوي بها، ولا تجارى فيها، فلما أعوز وجود الحق في عامتها وخاصتها بالدعوى بالمناظرة لم يبق للعلم موضع يوجد فيه، ولا للحق مذهب يصاب منه، فقضينا أنه لا علم، ولا معرفة، لأن الشيء إذا كان ثابتاً لا محالة، فلا بد من الإحاطة في الاتفاق، أو في الاختلاف، فلا يذكر ذاكر، وهو غائب، فقال: فلان غائب، فأصابه، فلو قال هو أو غيره: فلان حاضر، وليس بحاضر، فخرج من الصدق، ثم خالفه مخالف، فقال: بل هو غائب، فكان أحدهما صادقاً لا محالة، لأنه لا يعدو إذا كان الشيء ثابتاً حقاً أن يكون حاضراً أو غائباً، فإذا لم يكن شيئاً، فكلاهما كاذب فيما قال من أنه حاضر أو غائب، لأن الحاضر شيء، والغائب شيء، فإن لم يكن شيئاً، فليس بحاضر ولا غائب.
واحتجوا بنحو هذا آخر فقالوا: إن كانت الأشياء كلها تدرك بالعلم والعلم بالعلم فإلى نهاية أو إلى لا نهاية، فإن تناهى، فإلى غير معلوم، وما لم يكن معلوماً، فهو مجهول، فإني تعلم الأشياء بمجهول، فإن لم تتناه، ولم تكن لذلك غاية، فلا إحاطة به، وما لم يحط به، فمجهول أيضاً، فكان الوجهان في هذا القياس مجهولين غير معلومين، فأنى يعلم شيء مجهول دون أن يعلم جميع الأشياء، وذلك أبعد.
وشققوا في هذين النوعين، وكثر سعيهم، وعظمت مؤنتهم، وقالت طائفة تسمى الدهرية: لا دين، ولا رب، ولا رسول، ولا كتاب، ولا معاد، ولا جزاء بخير، ولا بشر، و لا ابتداء لشيء، ولا انقضاء له، ولا حدوث، ولا عطب، وإنما حدوث ما سمي حدثاً تركيبه بعد الافتراق، وعطبه تفريقه بعد الاجتماع، وجميع الوجهين في الحقيقة حضور غائب ومغيب حاضر.
وإنما سميت الدهرية لزعمها أن الإنسان لم يزل، ولن يزول، وأن الدهر دائر لا أول له، ولا آخر، واحتجوا فيما ادعوا بأن قالوا: إنما يعرف في وجود الشيء وفقده حالان لا ثالث لهما: حال الشيء فيها موجود، فأنى يحدث ما قد كان ووجد، وحال لا شيء فيها، فأنى يكون الشيء في حال لا تشبيه لها، وذلك أبعد.
وكذلك القول في المدعي العطب فهو لا يعرف غير حالين: حال الشيء فيها قائم، فمحال قول من ادعى العطب للشيء في حال كونه وقيامه، وحال لا شيء فيها، فأنى يكون العطب الأدنى، وذلك محال، فإن أقر مخالفونا بصدقنا دخلوا في قولنا ونقضوا قولهم، وإن أنكروا قولنا ادعوا حالاً ثالثة لا عدم فيها ولا وجود، فذلك أقبح الثلاثة حالة.
وقالت فرقة منهم: إن أصل الأشياء في الأزلية حبة كانت، فانفلقت، فبدأ منها العالم على
ما ترى من اختلافه في ألوانه وإحساسه، وزعم بعضهم أنه غير مختلف في معانيه، وإنما ختلف معانيه من جهة إحساسه، وأنكر بعضهم ذلك، وأثبتوا له اختلافاً في معانيه وتحقيقه، وقالت المنكرة لتحقيق الاختلاف: الأشياء إنما تختلف باختلاف الإحساس لها، وإنه لا حقيقة لشيء منها تبين بها دون غيرها.
وادعوا من الدلالات في ذلك أن أهل المرض الحادث من الصفراء مثل أصحاب اليرقان، إذا ذاق أحد منهم العسل وجده مراً، وأهل السلامة من هذا الداء يجدونه حلواً، وإن الخفاش يغشيه ضوء النهار، ويذكي بصره الليل، فإن كان النور يزيد الأبصار نوراً، والظلمة مغشية لها، وجب أن يكون نور النهار الظلمة للخفاش وغيره، تغشى بصره النار، وقد يوجد ذلك في بعض الناس وغيرهم من الحيوان والطير وغيره، وإن الليل إذا كان مذكياً للأبصار على ما وصفنا، فليلها نور، كما أن النهار نور لمن خالفها، والليل ظلمة لها، فإن قلتم: إن ذلك لآفة دخلت على هذه الأصناف، قلنا لكم: عند من خالفهم أو عند من وافقهم؟ فإن قلتم: عند من خالفهم، قلنا: بل الآفة دخلت على من وافقهم، فإن قلتم: عند من وافقهم، قلنا: بل الآفة دخلت على من خالفهم عندهم، فلا فضل لأحد الصنفين على أحد.
وقالوا: ألا ترون الكاتب يكتب الكتاب عدلاً مستقيماً، فيراه كذلك من قبل وجهه، فإن نظر إليه من خلفه رآه بخلاف ما كان يعرف، وإن أزور عنه معوجاً أو خالفه رآه مخالفاً، كما تكتب الألف في صورة تميز من جميع الحروف، فإذا استقبلتها رأيتها ألفاً، وإذا استدبرتها رأيتها كالباء، وإذا انحرفت عنها رأيتها كالنون، أو كالباء، وإن الغائب عن موضعه حاضر موضعاً آخر.
وكذلك القول في الألوان والأصوات والطعوم والأعيان والملابس، كما ترى الشخص من قرب كبيراً، وصغيراً من بعد، كلما قرب الداني منه ازداد كبراً، وكلما بعد منه ازداد صغراً في عينه.
وكذلك الصوت يسمع من قريب قوياً ومن بعيد خفياً.
وكذلك الطعم تذوق الشيء قليلاً، فتجده قليل الحلاوة، فإذا زدت منه كان طعمه كثير الحلاوة. وكذلك اللمس تحس الشيء قليلا، فتجده فاتراً، وتلمسه شديداً، فتجده حاراً، وترى الصورة من قريب ثابتة مختلفة، فيزداد الرائي لها بعداً، فيرى أنها مستوية غير مختلفة.
وزعموا أن جميع الأشياء تدور على التكافؤ والتجاري، وكادوا أن يحلفوا بالسوفسطائية.
وقالت طائفة أخرى: إن الأشياء فروع لأصول أربعة لم تزل ولا تزول، فولدت وظهر العالم منها، وهي: الأفراد السواذج: الحر والبرد، والرطوبة واليبس، تنبت بأنفسها لا باعتماد، ولا إرادة، ولا مشيئة.
وقالت طائفة أخرى: إن الأصول أربعة، وهي أمهات ما في العالم، ومعها خامس لم يزل ولا يزول يدبرها ويؤلف بينها بإرادة، ومشيئة، وحكمة، ويؤلف بين زوجاتها وتتولد نتائجها عنه، لا يمنع أضدادها من القرب بعضها من بعض، وهو العلم.
وقالت طائفة، وهم أصحاب الجوهر، وهم الأرسطاطاليسية: إن الأشياء شيئاًن: جوهر وعرض، والجوهر ينقسم قسمين: حي ولا حي، وحده: القائم بنفسه، وافتراقه في الخاصة لا في الحد، والعرض تسعة فمنها: الكمية، وهو العدد، وصورها أربع: الكيل، والمساحة، والوزن، والقول.
ثم الكيفية، وصورها ثمان: الكون، والفساد، والهيئة، والحيلة، والقوة، والضعف، والإلف، والمألوف.
ثم الإضافة، وصورها أربع: طبيعي، وصناعي، واستحسان، ومودة.
ثم متى، وهي الواقعة على الوقت، يعني بالوقت الزمان، وصور الزمان ثلاث: الماضي، والمستقبل، والدائم.
ثم إني، وهي الواقعة على المكان وهو الست جهات يعني: أمام، وخلف، وأعلى، وأسفل، ويمين، ويسار.
ثم الجدة، وهي الملك، وصورة الملك قسمان: إما خارج، وإما داخل، فمعنى خارج مثل المملوك والدار والأثاث ونحوه، ومعنى داخل مثل العلم والحكمة.
ثم النصبة، ومعنى النصبة هيئة الشيء كقول القائل: فلان قائم، وفلان قاعد، وفلان ذاهب، وفلان جاء.
ثم الفاعل وهو قسمان: إما أن يفعل بالاختيار، وإما أن يفعل بالطبع، فالمختار مثل الحي، الباقي، الآكل، الشارب، والفاعل بالطبع كحركة العناصر الأربعة مثل النار تسمو من الوسط إلى العلو تكرر وإن كان دون النار، وكالأرض من العلو إلى الوسط، إلى مركزها الأخص بها، والماء من العلو إلى دون الأرض.
ثم المنفعل، وهو القابل للتأثير الفاعل فيه حال طينته المحتملة لأن يديرها ويربعها في جميع الأشكال، فهذه مقالات اليونانيين ومن تلاهم من الروم، ومذاهب متكلميهم وفلاسفتهم وحكمائهم وأهل النظر منهم.
ملوك الروم المتنصرةوكان أول من ملك من ملوك الروم، فخرج من مقالة اليونانية إلى النصرانية: قسطنطين، وكان سبب ذلك أنه كان يحارب قوماً، فرأى في منامه كان رماحاً نزل بها من السماء عليها صلبان، فلما أصبح حمل على رماحه الصلبان. ثم حارب، فظفر، وكان ذلك سبب تنصره، فقام بدين النصرانية، وبنى الكنائس، وجمع الأساقفة من كل بلد لإقامة دين النصرانية، فكان أول اجتماع لهم واجتمع بنيقيه ثلاثمائة وثمانية عشر أسقفاً، وأربعة بطارخة: بطرخ الإسكندرية، وبطرخ رومية، وبطرخ أنطاكية، وبطرخ القسطنطينية.
وكان سبب جمع قسطنطين هؤلاء أنه لما تنصر، وحلت النصرانية بقلبه، أراد أن يستقصي علمها، فأحصى مقالات أهلها، فوجد ثلاث عشرة مقالة، فمنها قول من قال إن المسيح وأمه كانا الهين، ومنها قول من قال إنه من الأب بمنزلة شعلة نار انفصلت من شعلة نار، فلم ينقص الأولى انفصال الثانية، ومنها مقالة من قال بتألهه، ومنها مقالة من قال بتعبيده، ومنها مقالة من قال: إن جسده كان خيالاً مثل متى وأصحابه، ومنها مقالة من قال: هو الكلمة، ومنها قول من قال: هو الابن، ومنها مقالة من قال: هو روح قديمه، ومنها مقالة من قال: هو ابن يوسف، ومنها مقالة من قال: هو نبي من الأنبياء، ومنها مقالة من قال: هو لاهوتي وناسوتي، فجمع قسطنطين ثلاثمائة وثمانية عشر أسقفاً وأربعة بطارخة ولم يكن في ذلك العصر غيرهم.
وكان بطرخ الإسكندرية يقول: إن المسيح مألوه مخلوق، فلما اجتمعوا ناظروه في ذلك، فأجمع مقالة القوم جميعاً أن قالوا: إن المسيح ولد من الأب قبل كون الخلائق، وهو من طبيعة الأب، ولم يذكروا روح القدس، ولا أثبتوه خالقاً ولا مخلوقاً، ولكن وافقوا على أن الأب الإله والابن إله منه، وخرجوا من نيقية، وكان ملك قسطنطين خمساً وخمسين سنة.
ثم ملك يوليانوس سنة واحدة، ثم ملك دسيوس سنة واحدة، وفي أيامه ظهر أصحاب الكهف بعد أن كانوا قد ماتوا بعد دهر طويل، وكانوا عدة نفر وراع، ومعهم كلب الراعي، وأسماؤهم: مكسلمينا، ومراطوس، وشاه بونبوش، وبطريوش، ودواس، ويوالس، وكنيفرطو، وسوطر، والراعي مليخا، وهو صاحب الكلب، واسم الكلب قطمير، فخرجوا بعد مائة سنة، ويقال: ثلاثمائة سنة وتسع سنين، وبعثوا بعضهم ومعه دراهم يمتار لهم طعاماً، فأنكرت السوقة ضرب دراهمه، ثم اتبعوه حتى صاروا إلى المغارة، فعمى أمرهم على القوم، وبني على المغارة مسجد يصلى فيه. ثم ملك والنطيانوس أربع سنين، ثم ملك تيدوسوس الأكبر، وكان في عصره الاجتماع الثاني للنصرانية، فاجتمع له بالقسطنطينية مائة وخمسون أسقفاً وثلاثة بطارخة، ولم يحضرها بطرخ رومية، فوضعوا صحيفة الأمانة، وأثبتوا روح القدس، وكانت صحيفة الأمانة التي وضعوها: أومن بالله الواحد الأب، ملك كل شيء، خالق السماوات والأرض، وما يرى وما لا يرى، وبالرب المسيح ابن الله الذي ولد قبل الدهر، نور من نور، إله حق من إله حق، مولود ليس بمخلوق، ومن سوس الأب، به كان كل شيء، من أجلنا البشر، ومن أجل خلاصنا، نزل من السماء وتجسد بروح القدس ومن مريم العذراء، فصار بشراً، وصلب من أجلنا على عهد بلاطس البنطي، وأصيب، وقبر، وقام لثلاثة أيام، كما هو في الكتب، وصعد إلى السماء، وجلس عن يمين الأب الذي ليس لملكه فناء، وبروح القدس الرب الذي من الأب اشتق الذي تكلم فيه الأنبياء، وبواحدة القدسية الكنيسة السليحية للحواريين، أومن بمعمودية واحدة، بمغفرة الخطايا وقيام الأموات، وحرموا من قال بعد هذا شيئاً، وافترقوا من القسطنطينية، وكان ملك تيدوسوس سبع عشرة سنة.
ثم ملك بعده ابن أخيه تيدوسوس الأصغر ووالنطيانوس، وكان الجمع الثالث للنصرانية، فاجتمع بافسس، وحضر مائتا أسقف، وخالف نسطور على القوم جميعاً، وقال: إن المسيح جوهران وكيانان، إله تام بجوهره وكيانه، فالأب ولد الإله، ولم يلد إنساناً، والأم ولدت إنساناً، ولم تلد الإله، فقال له قريلس: إن كان الأمر كما قلت، فمن عبد المسيح، فهو مسيء، لأنه قد يكون عبد قديماً ومحدثاً، ومن ترك عبادته، فقد كفر، لأنه يكون قد ترك عبادة القديم كما ترك عبادة المحدث، ومن عبد الإله دون الإنسان، فلم يعبد المسيح، إذ كان لا يستحق أن يقال مسيحاً من إحدى جهتيه دون الأخرى، فأوجب ذلك على من حضر، وخالفه بطرخ أنطاكية، فقال نسطور: بطرخ أنطاكية يقول بمثل قولي.
وهرب نسطور إلى أرض العراق، فصارت النسطورية بالعراق، وصيروا رئيسهم، مكان البطرخ، جاثليق، فافترقوا على هذا، وكان ملك تيدوسوس الأصغر سبعاً وعشرين سنة.
ثم ملك مرقيانوس، وكان في عهده الاجتماع الرابع، وكان سبب ذلك أن طرسيوس، صاحب اليعقوبية، قال: إن المسيح جوهر واحد وطبيعة واحدة، فأنكرته النصارى، فاجتمع ستمائة وثلاثون أسقفاً بالقسطنطينية، وناظروا طرسيوس، فقالوا له: إن كان المسيح، كما زعمت، طبيعة واحدة، فالطبيعة القديمة هي الطبيعة المحدثة، وإن كان القديم من المحدث، فالذي لم يزل هو الذي لم يكن، فلم يرجع عن مقالته، فحرموه، فصار إلى أرض مصر والإسكندرية، وكان طبيبا، فأقام بها. وكان ملك مرقيانوس خمس سنين.
ثم ملك بعده أليون وأنيموس سبع عشرة سنة، ثم ملك زينون ثماني عشرة سنة، ثم ملك أنسطاسيوس، وكان الجمع الخامس للنصرانية في عصره، وذلك أن قوماً من رؤساء النصارى قالوا: إن جسد المسيح كان خيالاً على غير حقيقة، فاجتمعوا لذلك وقالوا: إن كان جسده خيالاً، فيجب أن يكون فعله خيالاً على غير حقيقة، وهذا بقول السوفسطائية أشبه منه بقول النصارى، ولعن أولئك الذين قالوا هذا، وبرئت النصارى منهم. وكان ملك أنسطاسيوس سبعاً وعشرين سنة.
ثم ملك يوسطوس الثاني تسعاً وعشرين سنة، وفي عصره ولد محمد رسول الله، ثم ملك يوسطوس الثالث عشرين سنة، ثم ملك طيبريوس أربع سنين، ثم ملك هرقل وقسطنطين ابنه، وكان في أيامه الجمع السادس للنصرانية، وذلك أن قورس الإسكندراني زعم أن المسيح مشيئة واحدة وفعل واحد فقال: وهذا شبيه بقول اليعقوبية، فاجتمعوا لذلك، ورضوا ببطرخ رومية، وكتب كتاباً ولم يحضر، ولم يكن للنصرانية جمع بعدها. وكان ملك هرقل وقسطنطين ابنه اثنتين وثلاثين سنة.
ثم ملك قسطنطينوس ثماني عشرة سنة، ثم ملك بطرخ رومية ثلاث سنين، ثم ملك فلسعرربى أربع سنين، ثم ملك أليون وقسطنطين ابنه تسعاً وعشرين سنة.
وكانت شهور الروم التي يجرون عليها حسابهم وتاريخاتهم اثني عشر شهراً، أولها: كانون الآخر، وهو الشهر الذي يسمونه بالرومية ينوارس، وهو رأس السنة عندهم. وهذه أسماء شهورهم: ينوارس، وهو كانون الآخر، ويلياس، وهو شباط، ونرلس وهو آذار، وأبرلس، وهو نيسان، ومايس، وهو أيار، ويولس، وهو حزيران، وأغسطس، وهو تموز، وستنبرس، وهو آب، وأقطبرس، وهو أيلول، ونونبرس، وهو تشرين الأول، وأكبرس وهو تشرين الآخر، ومورس، وهو كانون الأول.
وكانت مملكتهم من حد الفرات إلى حد الإسكندرية، مما صار في أرض الإسلام، سوى ما بأرض الروم، مما هو في أيديهم إلى هذه الغاية.
وكانت أعظم مدائنهم: الرها من أرض الجزيرة، وهي من ديار مضر، ثم أنطاكية، وبها كرسي بطرس وكف يحيى بن زكرياء في كنيسة القسيان، وهي الكرسي الرابع، والبطرك الكبير. فما كان في مملكة الروم، وصار في الإسلام: أرض الجزيرة من حران والرها وسائر كورها، وبالس، وسميساط، وملطية، وأذنة، وطرسوس، وجند قنسرين، والعواصم وسائر كورها، وجند حمص، ومدينة حمص إحدى المدن المعدودة في مملكة الروم، ثم اللاذقية، وهي من حمص أيضا، وجند دمشق، وكان عمال ملك الروم بها آل جفنة من غسان، وجند الأردن، وكانت إليهم أيضا، وعمالها من قبل ملك الروم من آل جفنة الغسانيين، وجند فلسطين بكورة، وتنيس، ودمياط، والإسكندرية، فهذه مملكة الروم الخالصة مما صارت في أرض الإسلام.
ثم لهم ما خلف الدرب إلى بلاد الصقالبة والألان والأفرنج، ومن المدن التي في بلاد الروم المشهورة المعروفة مثل: رومية، ونيقية، وقسطنطينية، وأماسية، وخرشنة، وقرة، وعمورية، وصملة، والقلمة، وسلندوا، وهرقلة، وصقلية، وفلطنة، وأنطاكية المحترقة، ودهبرناطة، وملوية، وسلوقية، وأمربه، وقونية، وجنوس، وبلوس، وبراوعس، وسلنيقة.
ملوك فارسفارس تدعي لملوكها أموراً كثيرة، مما لا يقبل مثلها، من الزيادة في الخلقة، حتى يكون للواحد عدة أفواه وعيون، ويكون للآخر وجه من نحاس، ويكون على كتفي آخر حيتان تطعمان أدمغة الرجال، وطول المدة في العمر، ودفع الموت عن الناس، وأشباه ذلك مما تدفعه العقول ويجري فيه مجرى اللعبات والهزل، ومما لا حقيقة له ولم يزل أهل العقول والمعرفة من العجم، ومن له شرف، والبيت الرفيع من أبناء ملوكهم ودهاقينهم، وذوي الرواية والأدب، لا يحققون هذا، ولا يصححونه، ولا يقولونه.
ووجدناهم إنما يحسبون ملك فارس من لدن أردشير بابكان، فمن كان عندهم من أول ملوكهم والمملكة الأولى قبل أردشير: شيومرث سبعين سنة، أوشهنج فيشداد أربعين سنة، طهمورث ثلاثين سنة، جمشاد سبعمائة سنة، الضحاك ألف سنة، أفريدون خمسمائة سنة، منوجهر مائة وعشرين سنة، أفراسياب، ملك الترك، مائة وعشرين سنة، زوطهماسب خمس سنين، كيقباذ مائة سنة، كي كاووس مائة وعشرين سنة، كي خسرو ستين سنة، كي لهراسب مائة وعشرين سنة، كي بشتاسب مائة واثنتي عشرة سنة، كي أردشير مائة واثنتي عشرة سنة، خماني بنت جهرزاد ثلاثين سنة، دارا بن جهرزاد اثنتي عشرة سنة، ثم قتله الإسكندر الذي يقال له ذو القرنين، فافترق ملك فارس، وملك ملوك يسمون ملوك الطوائف، وهؤلاء كان ملكهم ببلخ. ويزعم النسابون انهم من ولد عامورا بن يافث بن نوح، و كانوا على دين الصابئين، يعظمون الشمس والقمر والنار والنجوم السبعة، و لم يكونوا مجوساً، و لكنهم كانوا على شرائع الصابئين، وكان كلامهم السرياني، به يتكلمون، وبه يكتبون، وهذا رسم خط السرياني، ولهم أخبار قد أثبتت رأينا أكثر الناس ينكرونها ويستبشعونها، فتركناها، لأن مذهبنا حذف كل مستبشع.
المملكة الثانية من أردشير بابكانوملك أردشير، وهو أول ملوك الفرس المتمجسة، وكان ملكه بإصطخر، وامتنع عليه بعض كور فارس، فحاربهم حتى فتحها، ثم صار إلى أصبهان، ثم صار إلى الأهواز، ثم إلى ميسان، ثم رجع إلى فارس، فحارب ملكا يقال له أردوان، فقتله، وسمى أردشير شاهنشاه، وبنى بيت نار بأردشير خره، ثم صار إلى الجزيرة وأرمينية واذربيجان، ثم صار إلى سواد العراق، فسكنه، وصار إلى خراسان، فافتتح كوراً منها، ولما دوخ البلاد عقد لابنه سابور الملك بعده، وتوجه، وسماه الملك. وتوفي أردشير، وكان ملكه أربع عشرة سنة.
وملك سابور بن أردشير، فغزا بلاد الروم، وفتح منها عدة بلدان، وأسر خلقا من الروم، فبنى مدينة جنديسابور، وأسكنها سبي الروم، وهندس له رئيس الروم القنطرة التي على نهر تستر، وعرضه ألف ذراع.
وفي أيام سابور بن أردشير ظهر ماني بن حماد الزنديق، فدعا سابور إلى الثنوية، وعاب مذهبه، فمال سابور إليه، وقال ماني: إن مدبر العالم اثنان، وهما شيئان قديمان: نور وظلمة، خالقان، فخالق خير، وخالق شر، فالظلمة والنور كل واحد منهما في نفسه اسم لخمسة معان: اللون، والطعم، و الرائحة، والمجسة، والصوت، وإنهما سميعان بصيران عالمان، وإنه ما كان من خير ومنفعة، فهو من قبل النور، وما كان من ضرر وبلاء، فهو من قبل الظلمة، وإنهما كانا غير ممتزجين، ثم امتزجا، والدليل على ذلك أنه لم تكن صورة ثم حدثت، وإن الظلمة هي بدأت للنور بالممازجة، وإنهما كانا متماسين على مثال الظل والشمس، والدليل على ذلك استحالة كون شيء لا من شيء، الدليل على أن الظلمة بدأت للنور بالممازجة، أنه لما كانت مخالطة الظلام للنور مفسدة له كان محالاً أن يكون النور بدأها لأن النور من شأنه الخير. والدليل على أنهما اثنان قديمان خير وشر أنه لما وجدت المادة الواحدة لا يكون منها فعلان مختلفان مثل النار الحارة المحرقة لا يكون منها التبريد، والذي يكون منه التبريد لا يكون منه التسخين، فذلك الذي يكون منه الخير لا يكون منه الشر، والذي يكون منه الشر لا يكون منه الخير.
والدليل على أنهما حيان فاعلان أن الخير تثبت له فعلاً، والشر تثبت له فعلاً.
فأجابه سابور إلى هذه المقالة، وأخذ بها أهل مملكته، فعظم ذلك عليهم، فاجتمع حكماء أهل مملكته ليصدوه عن ذلك، فلم يفعل.
ووضع ماني كتباً يثبت بها الاثنين، ومما وضع كتابه الذي يسميه كنز الإحياء يصف ما في النفس من الخلاص النوري والفساد الظلمي، وينسب الأفعال الردية إلى الظلمة.
وكتاب يسميه الشابرقان يصف فيه النفس الخالصة والمختلطة بالشياطين، والعلل، ويجعل الفلك مسطوحاً، ويقول: إن العلم على جبل مائل يدور عليه الفلك العلوي.
وكتاب يسميه كتاب الهدى والتدبير، واثنا عشر إنجيلاً يسمى كل انجيل منها بحرف من الحروف، ويذكر الصلاة وما ينبغي أن يستعمل لخلاص الروح.
وكتاب سفر الأسرار الذي يطعن فيه على آيات الأنبياء.
وكتاب سفر الجبابرة، وله كتب كثيرة ورسائل.
فأقام سابور على هذه المقالة بضع عشرة سنة، ثم أتاه الموبذ، فقال: إن هذا قد أفسد عليك دينك، فاجمع بيني وبينه لأناظره! فجمع بينهما، فظهر عليه الموبذ بالحجة، فرجع سابور عن الثنوية إلى المجوسية، وهم بقتل ماني، فهرب، فأتى إلى بلاد الهند، فأقام بها حتى مات سابور. ثم ملك بعد سابور هرمز بن سابور، وكان رجلاً شجاعاً، وهو الذي بنى مدينة رامهرمز، ولم تطل أيامه، وكان ملكه سنة واحدة.
ثم ملك بهرام بن هرمز وكان مشغوفاً بالعبيد والملاهي، وكتب تلاميذ ماني إليه: أن قد ملك ملك حديث السن، كثير التشاغل، فقدم إلى أرض فارس، واشتهر أمره، وظهر موضعه، فأحضره بهرام، فسأله عن أمره، فذكر له حاله، فجمع بينه وبين الموبذ، فناظره، ثم قال له الموبذ: يذاب لي ولك رصاص يصب على معدتي ومعدتك، فأينا لم يضره ذلك، فهو على الحق. فقال: هذا فعل الظلمة! فأمر به بهرام فحبس، وقال له: إذا أصبحت دعوت بك، فقتلتك قتلة ما قتل بها أحد قبلك، فلم يزل ماني ليلة يسلح حتى خرجت نفسه، وأصبح بهرام، فدعا به، فوجدوه قد مات، فأمر بحز رأسه، وحشا جسده بالتبن، وتتبع أصحابه، فقتل منهم خلقاً عظيماً. وكان ملك بهرام بن هرمز ثلاث سنين.
ثم ملك بهرام بن بهرام، وكان ملكه سبع عشرة سنة، ثم ملك بعده ابنه بهرام بن بهرام بن بهرام، فكان ملكه أربع سنين، ثم ملك أخوه نرسى بن بهرام تسع سنين.
ثم ملك هرمز بن نرسى تسع سنين، وولد له ابن سماه سابور، وعقد له الملك، ومات هرمز وسابور صبي في المهد، فأقام أهل مملكته متلومين عليه، حتى ترعرع وشب، ثم ظهر منه عتو وجبرية، فغزا بلاد العرب، وغور عليهم المياه، وغزاه ملك الروم، وهو اليانوس، فأعانته العرب من جميع القبائل، ثم تسرعت قبائل العرب إلى سابور، فأوقعت به في دار ملكه، حتى هرب، وخلا ملكه فانتهبت مدينته وخزائنه، ثم جاء سهم غرب فقتل اليانوس ملك الروم، فملكت الروم يوبنيانوس، فصالح سابور.
وأقام سابور على معاداة العرب لا يظفر بأحد منهم إلا خلع كتفه، فلذلك سمي سابور ذا الأكتاف. وكان ملكه اثنتين وسبعين سنة.
ثم ملك أردشير بن هرمز أخو سابور، فساءت سيرته، وقتل الأشراف والعظماء منهم، فخلع بعد أن ملك أربع سنين. وملكت الفرس سابور بن سابور، فخضع له أردشير المخلوع ومنحه الطاعة، وسقط على سابور فسطاط فقتله، وكان ملكه خمس سنين.
وملك بعد سابور بهرام بن سابور، وكتب إلى الآفاق يعدهم العدل، والنصفة، والإحسان، وأقام على ملكه إحدى عشرة سنة، ثم ثار عليه قوم فقتلوه.
ثم ملك يزدجرد بن سابور، وكان فظاً، غليظاً، مستطيلاً، سيء السيرة، قليل الخير، كثير الشر، فسامهم سوء العذاب، ثم رمحه فرس، فقتله. وكان ملكه إحدى وعشرين سنة.
ثم ملك بهرام جور بن يزدجرد، وكان قد نشأ بأرض العرب، وكان أبوه قد دفعه إلى النعمان، فأرضعته نساء العرب، ونشأ على أخلاق جميلة.
وقد كان لما مات يزدجرد كرهت الفرس أن تولي ابنا له لسوء مذهبه، وقالوا: بهرام ابنه قد نشأ بأرض العرب، لا علم له بالملك! وأجمعوا على أن يملكوا رجلاً غيره ، فسار بهرام في العرب، فلما لقي الفرس هابته، فأخذوا تاج الملك والزينة التي تلبسها الملوك، فوضعوهما بين أسدين، وقالوا لبهرام ولكسرى: أيكما أخذ التاج والزينة من بين هذين الأسدين، فهو الملك. فقالوا لبهرام، فأخذ جرزاً، وتقدم، فضرب الأسدين حتى قتلهما، وأخذ التاج والزينة، فأذعنوا له، وأعطوه الطاعة، فوعدهم من نفسه خيراً، وكتب إلى الآفاق يعدهم بذلك، ويعلمهم ما هو عليه من العدل، وتوخي عمارة البلاد، وقدم المنذر بن النعمان عليه، فرفع منزلته.
وكان بهرام رجلاً مؤثراً للهو، متشاغلاً عن الرعية، ثم صار لطلب الصيد واللهو، واستخلف أخاه نرسى على المملكة، فلما بلغ خاقان ملك الترك حال بهرام طمع فيه، فأراد أن يسير نحوه، فبلغ بهرام ذلك، فسار إليه حتى قتله، وكتب إلى رعيته بالفتح، ثم خرج يوما يتصيد، فأمعن في طلب عير، ثم طرحه فرسه في موضع حماة، فمات، فكان ملكه تسع عشرة سنة.
ثم ملك يزدجرد بن بهرام، وكان ملكه سبع عشرة سنة، وكان ليزدجرد هذا ابنان يقال لأحدهما هرمز والآخر فيروز، فغلب هرمز على الملك بعد أبيه، فهرب فيروز، ولحق ببلاد الهياطلة، وأخبر ملكها بقصته، وبمذاهب أخيه وجوره، فأمده بجيش، فأقبل بهم، وقاتل أخاه فقتله، وشتت جمعه. وملك فيروز، فنال الناس في أيامه جدب وقحط، ومجاعة شديدة، وغاضت الأنهار والعيون، فلم يزل على تلك حالهم ثلاث سنين، ثم خصبت البلاد.
وسار فيروز إلى بلاد الترك ليحارب ملكها، وقد كان الصلح وقع بين الفرس والترك، فلما قرب من البلاد أرسل إليه ملك الترك يسأله الرجوع، ويعظم عليه ترك الوفاء، فلم يقبل، فحفر له خندقاً عميقاً، ثم عماه، فلما قرب منه عبا عسكره واقتحمه، فسقط وجميع جنده في ذلك الخندق، فمات، وحوى ملك الترك أمواله، وأخذ أختاً له. وكان ملكه سبعاً وعشرين سنة.
فلما بلغ الفرس مقتل فيروز أعظموه، فسار رئيس من رؤسائهم يقال له سوخرا في جمع وعدة، حتى لقي ملك الترك، فحاربه، ونال منه، فدعاه ملك الترك إلى الصلح على أن يدفع إليه كل ما حواه من خزائن فيروز، ويرد أخته، ومن في يده من أصحابه، ففعل ذلك، وانصرف عنه. وملك بلاش بن فيروز، وكانت مدته أربع سنين، ثم ملك أخوه قباذ بن فيروز، وكان صغير السن، فترك لسوخرا تدبير المملكة، فلما بلغ وصار في حد الرجال لم يرض بتدبير سوخرا، فقتله، وقدم مهران، ثم إن الفرس أزالت قباذ عن ملكه، وحبسته، وملكت أخاه جامسب بن فيروز، فأقام قباذ في الحبس، وأخوه الملك.
ثم إن أختاً لقباذ دخلت الحبس، فتعرض لها صاحب الحبس، وأطمعته في نفسها، وقالت إنها طامث، ثم دخلت، فأقامت عند قباذ يوماً، ثم لفته في بساط، وأخرجته على عنق غلام جلد، فهرب قباذ يريد ملك الهياطلة، فلما صار بأبر شهر نزل برجل، فأقام عنده، ثم سأله أن يطلب له امرأة، فأتاه بجارية، فوقع عليها، وأعجبه حسنها وجمالها، ثم مضى إلى ملك الهياطلة، فأقام عنده سنة، ثم بعث معه جيشاً، فلما رجع بأبر شهر قال للرجل الذي نزل عنده: ما فعلت تلك الجارية؟ فأتى بها، وقد ولدت صبياً كأحسن ما يكون من الصبيان، فسماه كسرى أنوشروان. وزحف قباذ إلى بلاده، فغلب على الملك، وقوي أمره، واشتدت شوكته، وغزا بلاد الروم، و كور الكور والطساسيج، وعقد لابنه أنوشروان الملك، ودعاه، فأوصاه بأحسن الوصية وعرفه كل ما يحتاج إليه. وكان ملك قباذ ثلاثا وأربعين سنة.
ثم ملك أنوشروان بن قباذ، فكتب إلى أهل مملكته يذكر لهم وفاة قباذ، ويعدهم من نفسه خيراً، ويأمرهم بما لهم فيه الحظ، ويوعز إليهم في الطاعة والمناصحة، وعفا عن قوم كانوا يتحملون عليه، وقتل مزدق الذي كان أمر الناس بأن يتساووا في الأموال والحرم، وقتل زراذشت بن خركان لما ابتدع في المجوسية، وقتل أصحابهما، وقدم أهل المملكة والشرف، وغزا بلدانا عدة مما لم يكن في مملكة الفرس، فضمها إلى ملكه.
وجرى بينه وبين يخطيانوس ملك الروم، فغزا أنوشروان بلاد الروم، فقتل وسبى، وغلب على مدن كثيرة من الجزيرة والشام منها: الرها، ومنبج، وقنسرين، والعواصم، وحلب، وأنطاكية، وأفامية، وحمص وغيرها، وأعجبته أنطاكية، فبنى مدينة مثلها لم يخرم منها شيئاً، ثم جاء بسبي أنطاكية، فأرسلهم فيها، فلم ينكروا شيئاً.
ومسح أنوشروان البلاد، ووضع عليها الخراج، وألزم كل جريب من الغلات بقدر احتماله، فلم تزل السنة جارية على ذلك، والبلاد عامرة.
ورتب لديوان المقاتلة رجلاً رضي حزمه وعزمه، وأخذ مقاتلته مما يحتاج إليه من السلاح، و جعل ديوان العطاء، ودفاتر الأسماء والحلي، وسمات الدواب، وديوان العرض على مثل ذلك. وكان أنوشروان نبيلاً، كريماً، ظاهر العدل، لا يسأله إنسان شيئاً إلا أجابه، فسار إليه سيف بن ذي يزن، فأعلمه أن الحبشة قدمت بلاد اليمن، وغلبت عليها، وأنه صار إلى هرقل ملك الروم، فلم يجد عنده ما يحب، فبعث معه بأهل السجون في البحر، وقود عليهم رجلاً من مشيخة قواده شجاعاً مجرباً يقال له وهرز، فصار إلى بلاد اليمن، حتى قتل الحبشة، وأفناهم، ورمى ملكهم أبرهة فقتله، وأقام في البلد وملك سيف بن ذي يزن.
وعقد أنوشروان لابنه هرمز الملك من بعده، وكانت أم هرمز بنت خاقان ملك الترك. وكتب له في ذلك كتاباً بالعهد، وأمره فيه بما يأمر به مثله، وأوصاه أحسن الوصايا، وامتحنه، فوجده بحيث يحب، وأجابه على كل ما قال له بجواب سديد، وتنكر، ولا يأتيه إلا بقول حسن لطيف، وهلك أنوشروان، وكان ملكه ثمانياً وأربعين سنة .
ثم ملك هرمز بن أنوشروان، فقرأ على الناس كتاباً عاماً يعد فيه بالعدل والإنصاف، والعفو والإحسان، ويأمرهم بما فيه الصالح، ونال ظفراً وعزاً، ففتح عدة مدائن، ثم اجترأ أعاديه عليه، وغزوا بلاده، وكان أغلظ الأعداء عليه شابه ملك الترك، فإنه زحف في خلق عظيم حتى دخل بلاد خراسان، وكاد أن يحتوي عليها.
وأقبل ملك الخزر في جموع حتى نزل آذربيجان، فعظم ذلك عليه، وخاف ألا يكون له طاقة بصاحب الترك، فأتاه رجل من قواده يقال له بهزاد، فأعلمه أن عنده رجلاً يقال له مهران ستاد عالماً، وأن خاتون امرأته سألت عما قبلهم، فأخبرها أن ابنتها تلد من ملك الفرس ابنا يلي الملك بعد أبيه، وإنه يزحف إليه ملك الترك في خلق عظيم، فيوجه إليه بإنسان ليس بالنبيه يقال له: بهرام شوبين، في شرذمة من الجند، ويقتل ذلك الملك، ويصطلم ملكه.
فلما سمع هرمز ذلك سره، ثم طلب بهرام شوبين، فقيل له: ما نعرف هذا إلا رجلاً من أهل الري هو باذربيجان! فوجه إليه، فأقدمه، ثم وجهه إلى شابه ملك الترك في اثني عشر ألف مقاتل، فقال موبذان موبذ لهرمز: ما أخلقه أن ينال ظفراً، غير أن في قرنه حاجبه دليلا على ثلمة يثلمها في ملكك.
وقال له زاجر، كان له، مثل ذلك، فكتب هرمز إلى بهرام أن يرجع، فلم يرجع، ووافاه بهرام بهراة، وشابه مغتر، وكان عند شابه رجل وجه به هرمز ليخدعه يقال له هرمز جرابزين، حتى فر منه، ثم ارتحل عنه، فأرسل شابه من عرف خبر بهرام، فانصرف إليه، فأعلمه حاله، فأرسل إليه شابه في الرجوع، فأجابه بهرام بجواب غليظ شديد، ثم لقيه وقد عبا جنده، وقد كان مع شابه قوم عرافون وسحرة، وكانوا يلبسون على أصحاب بهرام، ثم التحمت الحرب، فاستحر القتل في أصحاب شابه، حتى قتل منهم خلق عظيم، فولوا منهزمين، وقتل بهرام منهم مقتلة عظيمة، ولحق شابه، فرماه بحربة طويلة، فقتله، وأخذ ساحراً كان مع صاحب الترك، فأراد بهرام أن يستبقيه، فيكون عدة له في حروبه، ثم رأى أن قتله أصلح، فكتب بالفتح إلى هرمز، فسر به، و كتب به إلى الآفاق.
ثم خرج برموذة بن شابه، فلقي بهرام، فحاربه وبيته، وكانت بينهما حرب شديدة، ثم بيته
بهرام، فهزمه، ولحقه، فحصره في حصن، فطلب برموذة بن شابه الأمان على أن يكون ذلك من هرمز الملك، فكتب بهرام إلى هرمز، فأجابه، وكتب له كتاب أمان، وكتب إلى بهرام أن يسرحه إليه، فخرج برموذة بن شابه من الحصن، وكان هرمز قد وجه ناساً إلى بهرام شوبين، فصار برموذة إلى هرمز، فأكرمه هرمز، وبره، وأجلسه معه على السرير، وأخبره برموذة بما صار إلى بهرام من الأموال العظام والكنوز، وأنه قد كتم ذلك عن أمنائه، وأخبر أمناؤه بمثل ذلك، وأن الذي بعث به قليل من كثير، فكتب هرمز إلى بهرام يأمره أن يحمل إليه ما في يده من الأموال، فغلظ ذلك على بهرام، وأخبر به جنده، فذكروا هرمز أقبح ذكر، وخلعه هو وجميع جنده.
فلما بلغ ذلك هرمز اغتم له، وكتب إلى بهرام يعتذر إليه وإلى جنده من مثل ذلك، فلم يقبل بهرام ولا جنده قول هرمز، وبعث بهرام إلى هرمز بسفط فيه سكاكين معوجة الرءوس، فلما رآها هرمز علم أنه قد عصى، فقطع أطراف السكاكين، وردها إليه، فعلم بهرام ما أراد، فأرسل إلى خاقان ملك الترك يطلب صلحه على أن يرد عليه كل أرض حازها من بلاده. وسار بهرام حتى صار إلى الري، ثم دبر أن يوقع بين هرمز وبين ابنه كسرى أبرويز شراً وكان هرمز متهما لابنه، وكان قد بلغه أن قوما قد حملوه على أن يثب بأبيه، فضرب دراهم كثيرة، وصير عليها اسم كسرى أبرويز، وبعث بها إلى مدينة هرمز، فكثرت في أيدي الناس، ولما بلغ هرمز خبرها اشتد غمه، فأراد أن يحبس ابنه كسرى أبرويز، فلما بلغ أبرويز الخبر هرب إلى آذربيجان، فاجتمع إليه من بها من مرازبتها ورؤسائها، وعاقدوه، وبايعوه.
ووجه هرمز إلى بهرام بجيش مع رجل يقال له آذينجشنس، فلما صار في بعض الطريق قتله رجل حواري كان آذينجشنس أخرجه من الحبس، وضمه إلى نفسه، وافترق أصحابه، فلما قتل آذينجشنس ضعف أمر هرمز، واجترأ عليه جنده، وكانوا متغضبين له كارهين لولايته. فكتبوا إلى ابنه أبرويز، فقدم بجيش من آذربيجان، فخلعوا هرمز، وملكوا أبرويز، وأخذ هرمز فحبس، وسملت عيناه، فأقام في الحبس أياما، ثم دخل إليه ابنه، فكلمه فقال له هرمز: اقتل من صنع بي هذا. وكان قد احتوى على تدبير الملك بندي وبسطام خالا أبرويز، وكان ملك هرمز اثنتي عشرة سنة.
فلما استقام أمر أبرويز، وبلغه مسير بهرام شوبين إليه، خرج في جيشه، ومعه بندي وبسطام، حتى وقف على بهرام بالنهروان، وكلمه وعظم عليه الأمر، فأجابه بهرام بجواب غليظ شديد، وكان كردويه أخو بهرام مع كسرى أبرويز، وألحقه بهرام، وانكشف عن كسرى جنده، وأسلمه أصحابه، فمر هاربا، فلما كان في بعض الطريق، رجع بندي وبسطام خالاه، فقتلا هرمز أباه، ولحقاه في بعض الطريق، واستمر به الهرب حتى ساءت حالته، واشتد بؤسه وجزعه، فطلب طعاما فلم يجد إلا خبز شعير.
ولحقته خيل بهرام، فاحتال له خاله بندي حتى نجاه، فمضى حتى صار إلى الرها، فأخذ بندي، فأتى به بهرام، فحبسه، ثم أفلت من الحبس، فصار إلى آذربيجان، وصار كسرى إلى الرها يريد مورق ملك الروم، فحبسه صاحب الرها، وكتب إلى مورق ملك الروم يخبره أنه أتاه لينصره، فاستشار ملك الروم أصحابه في أمره، فأشار بعضهم بأن لا يجاب، وأشار بعضهم بأن يجاب، فأجابه ملك الروم، وزوجه ابنته، ووجه معه بجيش عظيم، وشرط عليه الشروط، إذا تم له نصره، ووجه إليه كسرى بثلاثة نفر من أصحابه، فشرط عليهم كل ما أراد، ووجه بابنته وبالجيش وعليهم أخ له يقال له ثيادوس، ومعه رجل يجري مجرى ألف رجل، فسار كسرى بجيشه، بعد ابتنائه بابنة ملك الروم، إلى ناحية آذربيجان، وكان بندي خاله قد صار إليها، فلما علم بمكانه لقيه في جيش عظيم.
ولما علم بهرام شوبين بما اجتمع لكسرى كتب إلى وجوه أصحابه يخبرهم بسوء مذهب آل
ساسان، ويصف سيرة ملك ملك، ويدعوهم إلى نفسه، ووقعت الكتب في يد كسرى قبل أن تصل إلى القوم، فكتب إليه بأغلظ الجواب عن القوم، ورد إليه الرسول، فزحف إليهم بهرام حتى صار إلى آذربيجان، فحاربه محاربة شديدة، وأخذت الحرب من الفريقين، وخرج الرومي الذي كان يجري مجرى ألف رجل. فقال لكسرى: أين عبدك هذا الذي غصبك ملكك، حتى أقتله؟ فقال: هو صاحب الأبلق، فحمل عليه وتراجع بهرام إلى ورائه، ثم تراجع عليه. فضربه بسيفه فقده نصفين، فضحك كسرى، وقال: زه، فغضب أخو ملك الروم، وقال: سررت أن قتل رجلنا وصاحبنا؟ فقال: لا ولكن صاحبكم قال لي: أين العبد الذي غصبك وغلبك ملكك، فأردت أن تعلم أن العبد يضرب في كل يوم عدة ضربات كلا مثل هذه.
واشتدت الحرب حتى انهزم كسرى، وصعد في جبل، فكاد يهلك، ثم ثاب جند كسرى، وانهزم بهرام شوبين، فمضى منصرفاً لا يلوي على شيء، متوجها إلى ملك الترك.
واستقام الأمر لكسرى أبرويز، فكتب إلى صاحب الروم بذلك، وأهدى له ملك الروم ثوبين فيهما الصلب، فلبسهما، فقال الفرس: قد تنصر، ثم كتب في النصارى أن يكرموا، ويقدموا، ويبرزوا، ويخبر بما قد جرى بينه وبين الرومي من العصمة، واللحمة، والموادعة، وأنه لم يقل هذا ملك من الملوك قبله.
ووثب بندي خال كسرى بثيادوس أخي ملك الروم، فصمه، فوقع الشر، وقال أخو ملك الروم: إما أن تدفع إلى بندي، وإما أن يعود الشر، فسكنه كسرى.
وورد بهرام شوبين بلاد الترك، فأكرمه خاقان وبره، وكان لخاقان أخ يقال له بفارس يداريه خاقان، فرآه بهرام، فقال لخاقان: كيف اجترأ هذا عليك هذه الجرأة؟ فسمع أخو خاقان الكلام، فتوعده، فقال بهرام: متى شئت فابرز، فدفع خاقان ملك الترك إلى أخيه نشابة وإلى بهرام نشابة، ثم أخرجهما إلى الصحراء، فرمى أخو خاقان بهرام، فأصابه، فشك سلاحه، ورماه بهرام، فقتله، فسر خاقان بقتل أخيه لمعاندته له، ولما كان يخافه منه.
وكان كسرى يرهب مكان بهرام شوبين مع خاقان، ولا يأمن أن يجري عليه شراً، فوجه برجل من وجوه الفرس يقال له بهرام جرابزين، وكان كبيراً في الفرس، ووجه معه إلى خاقان بهدايا ويسأله أن يبعث إليه بهرام شوبين، وأمر جرابزين أن يتلطف في أمره، فقدم على خاقان بالهدايا، وذكر له أمر بهرام، فلم يجد عنده الذي يحب، فتلطف بخاتون امرأة خاقان، وأهدى لها جوهراً ومتاعاً، وسألها في أمر بهرام، فوجهت برجل من أصحابها له إقدام وجرأة قلب، وقالت له: ادخل إلى بهرام شوبين فاقتله! فانطلق حتى استأذن عليه، وكان نوم بهرام، فلم يأذن له، فقال: أن الملك خاقان وجهني في أمر مهم، فأذن له، فلما دخل عليه قال: أن الملك حملني رسالة أخبرك بها سراً من غير حضور أحد. فقام من مجلسه، ودنا منه كأنه يساره، ووجاه بخنجر معه تحت إبطه، وخرج التركي مسرعا، فركب دابته.
ودخل أصحاب بهرام، فرأوه بتلك الحال، فقالوا: أيها الليث الضرغام! من أقصدك؟ وأيها الجبل المنيف! من هدك؟ فقص عليهم القصة، وكتب إلى خاقان يعلمه أنه لا وفاء له، ولا شكر، و مات بهرام، فحمل إلى الناووس، ولما علم جرابزين بموته ارتحل إلى كسرى، فأخبره، فسر به، وأظهره في مملكته، وكتب به إلى آفاقه. ولما مات بهرام بعث ملك الترك إلى كردية امرأة بهرام وأصحابه يخبرهم بغمه، وأنه قد قتل كل من شرك في قتله، ووجه بأخيه نطرا إليهم، وكتب إلى كردية امرأة بهرام شوبين أنه يرغب فيها، ويأمرها أن تتزوج نطرا، فحملت كردية امرأة بهرام جند أخيها، وارتحلت بأصحابها ومن معها تريد بلاد الفرس، فلحقها نطرا أخو خاقان، فبرزت إليه في السلاح، وقالت: لا أتزوج إلا من كان في الشجاعة والقوة مثل بهرام، فابرز إلي! فبرز إليها أخو خاقان، فقتلته، ومضت لوجهها.
وكان كسرى قد غضب على خاله بندي، فسمل عينيه، وقطع يديه ورجليه وصلبه حياً لما فعل بأبيه، فلما علم بسطام أخو بندي ما فعل كسرى بأخيه خلع كسرى، وصار إلى الري وجمع
وبلغه أن كردية أخت بهرام وامرأته قد أقبلت من بلاد الترك، فتلقاها ومن معها، فذم إليها كسرى، وخبرها بغدره وفجوره، وسألها أن تقيم عنده بمن معها، وأن تزوجه نفسها، ففعلت، وكتبت إلى أخيها كردي تعلمه ذلك، وتسأله أن يأخذ لها ولمن معها أمانا من كسرى، فأخبر كسرى بمصير كردية، بمن معها من جند بهرام وأصحابه، إلى الري، وتزوج بسطام خاله بها، ومقامها معه، فعلم ذلك كسرى، ودعا كردي أخاها، فسأله أن يتلطف بها حتى تقتل بسطام وتقدم فيتزوجها. فوجه كردي أبرخة امرأته إلى كردية أخته بما ذكر له الملك، وأنفذ إليها كتب الأمانات لها ولمن معها بأوثق ما يكون من العهود، فقبل أصحابها، ووثبوا على بسطام فقتلوه. وقدمت كردية على كسرى، فتزوجها، وأحلها محلاً رفيعاً، فاستقامت لكسرى أموره، ودانت له بلاده. ثم وثبت الروم بمورق ملكها، فقتلوه، وملكوا غيره، وصار إليه ابن مورق، فوجه معه جيشاً، ثم قتل ابن مورق، وملك هرقل، فغزا أصحاب كسرى، فقتلهم وشردهم، وزحف إليهم حتى هزم شهربراز صاحب كسرى.
وكان كسرى لما اشتد ملكه قد طغى، وبغى، وعتا، وظلم، وجار، وأخذ أموال الناس، وسفك الدم، فمقته الناس لما نال منهم ولاحتقاره إياهم، وإن عظماء الفرس لما رأوا ما هم فيه من الذل والبلاء والمكروه من كسرى خلعوه، وجاءوا بابن له يقال له شيرويه، فملكوه، وأدخلوه المدينة، ونادوا شيرويه شاهنشاه، وأخرجوا من في السجون ممن كان كسرى يريد قتلهم، فهرب كسرى، حتى دخل بستاناً له، فأخذوه، فحبسوه ، ثم قالوا لشيرويه: إنه لا يستقيم الملك، وأن يكون أبرويز حياً، فاقتله وإلا خلعناك! فوجه شيرويه إلى أبيه برسالة غليظة يعنفه فيها على فعله، ويذكر له ما نال من أهل مملكته، وما كان من سوء سيرته، فأجابه بجواب تفنيد و تجهيل له، فوجه إليه برجل كان كسرى أبرويز قطع يد أبيه بغير سبب ولا جرم، إلا أنه قيل له إن ابن هذا يقتلك، فقطع يده، وكان من خاصته، فلما دخل عليه سأله عن اسمه قال له: شأنك وما أمرت به، فضربه، حتى قتله، ثم إن شيرويه حمل أباه إلى الناووس، وقتل قاتله. وكان ملك كسرى أبرويز ثمانياً وثلاثين سنة.
ولما ملك شيرويه بن أبرويز أطلق من في المحابس، وتزوج بنساء أبيه، وقتل سبعة عشر أخاً له ظلماً واعتداء، فلم يستقم ملكه، ولم يصلح حاله، فاشتد سقمه، ومات بعد ثمانية أشهر، وملكت الفرس ابنا لشيرويه طفلاً يقال له أردشير، واختاروا له رجلاً يقال له مه آذرجشنس، فحضنوه إياه ليقوم بتدبير الملك، فأحسن التدبير، وقام بالأمر قياماً محموداً، وجرت أمور المملكة.
وكان شهربراز الموجه لحرب الروم، قد عظم أمره، فكره موضع مه آذرجشنس، وكتب إلى الفرس أن يوجهوا إليه برجال سماهم، وإلا أقبل إليهم حتى يحاربهم، فلم يفعلوا، فأقبل شهربراز في ستة آلاف إلى جانب مدينة المملكة، وحاصر من فيها، وقاتلهم، ثم فكر، فاحتال حتى دخل المدينة، فأخذ عظماء الفرس، فقتلهم، وفضح نساءهم، وقتل أردشير الملك. وكان ملك أردشير سنة وستة أشهر.
وجلس شهربراز على سرير الملك، ودعا نفسه ملكاً، فلما رأت الفرس فعل شهربراز أعظمته، وقالت: مثل هذا لا يملك علينا! فوثبوا به، وقتلوه، وجروا برجله.
ولما قتلت الفرس شهربراز طلبوا رجلاً من أهل الملك، فلم يجدوه، فملكوا بوران بنت كسرى، فأحسنت السيرة، وبسطت العدل والإحسان، وكتبت إلى آفاقها كتاباً تعد فيه بالعدل والإحسان، و تأمرهم بجميل المذهب والقصد والسداد، ووادعت ملك الروم، وكان ملكها سنة وأربعة أشهر. ثم ملكت آزرميدخت بنت كسرى، واستقام أمرها، فقال فرخهرمزد أصبهبذ خراسان: أنا اليوم قريع الناس، وعماد مملكة فارس، فزوجيني نفسك! فقالت: لا يجوز لملكة أن تزوج نفسها، ولكن إذا أردت أن تصل إلي، فأتني بالليل! فرضي بذلك، فأمرت صاحب حرسها أن يرصده حتى يدخل، ثم يقتله، فلما كان الليل أتى، فدخل وبصر به صاحب الحرس، فقال: من أنت؟ فقال: أنا فرخهرمزد! فقال: وما تصنع في مثل هذا الوقت في موضع لا يدخله مثلك؟ فضربه حتى قتله، وطرحه في الرحبة، فلما غدا الناس رأوه قتيلاً، فرفعوا خبره، وكان ابنه رستم، الذي لقي سعد بن أبي وقاص بالقادسية، بخراسان، فقدم، فقتل آزرميدخت، وكان ملكها ستة أشهر.
ثم ملك رجل من عقب أردشير بن بابك يقال له كسرى بن مهرجشنس، وقد كان دعي إلى الملك قبل ذلك، فامتنع منه، وكان مقامه بالأهواز، فلما ملك لبس التاج، وجلس على السرير، فقتلوه بعد أيام، فلم يتم له شهر، فأعوز عظماء الفرس من يملكونه من أهل بيت المملكة، ثم وجدوا رجلاً يقال له فيروز قد أولده أنوشروان من قبل أمه فملكوه ضرورة، فلما أجلس ليتوج، وكان ضخم الرأس، قال: ما أضيق هذا التاج! فتطيرت عظماء الفرس من قوله، فقتلوه.
وأقبل ابن لكسرى كان قد هرب إلى نصيبين لما قتل شيرويه يقال له فرخزاد خسرو، فتوج وملك، وكان نبيلاً، فملك سنة، ثم وجدوا يزدجرد بن كسرى، وكانت أمه حجامة وقع عليها كسرى، فجاءت بيزدجرد، فتطيروا منه، فغيبوه، ثم اضطروا إليه، فجاءوا به وأمورهم مضطربة، وأهل مملكته مجترئون عليه، ولما أتى لملكه أربع سنين قدم سعد بن أبي وقاص القادسية، فبعث إليه برستم، ثم صار المسلمون إلى المدائن، وهي مدينة الملك، يوم النوروز، وقد استعدت الفرس بصنوف الأطعمة، واستعدت أحسن الزينة، فانهزمت الفرس، وهرب يزدجرد، فلم يزل المسلمون يتبعونه، حتى صاروا إلى مرو، فدخل طاحونة، وقتله صاحب الطاحونة، وكان ملكه إلى أن قتل عشرين سنة.
وكانت الفرس تعظم النيران، ولا تستنجي بالماء، إنما تستنجي بالدهن، ولا تتخذ لقصورها أبوابا، إنما كانت أبوابها عليها الستور، يحفظها الحرس من الرجال، ولا تأكل إلا بزمزمة، وهو الكلام الخفي، وتنكح الأمهات والأخوات والبنات، وتذهب إلى أنها صلة لهن، وبر بهن، وتقرب إلى الله فيهن.
ولم تكن لها حمامات ولا كنف، وكانت تعظم الماء والنار والشمس والقمر والأنوار كلها. وكانت تعد الأزمنة على شهورها وأيام أعيادها، وكان الخريف عندهم شهريور ماه، ومهر ماه، وآبان ماه، والشتاء آذر ماه، و دي ماه، وبهمن ماه، والربيع إسفندارمذ ماه، وفروردين ماه، و أرديبهشت ماه، والقيظ خرداذ ماه، وتير ماه، ومرداذ ماه، وكانت تزيد في الخريف خمسة أيام تسميها أيام الأندركاه، فتكون السنة ثلاثمائة وخمسة وستين يوماً، وشهورهم ثلاثين يوماً، ورأس سنتهم يوم النوروز، وهو أول يوم من فروردين، ويكون ذلك في نيسان وآذار، وقد مرت الشمس في الحمل، وهو يوم عيدهم المعظم عندهم، ويوم المهرجان، وهو لستة عشر يوما يمضي من مهر ماه، ثم يكون بين النوروز والمهرجان مائة وخمسة وسبعون يوماً، وذلك خمسة أشهر وخمسة وعشرون يوماً، والمهرجان في تشرين الآخر.
وكانت الفرس تسمى كل يوم من أيام شهورهم باسم، وهي: الروزات، فأولها هرمز، بهمن، أرديبهشت، شهريور، إسفندارمذ، خرداذ، مرداذ، دي باذر، آذر آبان، خور ماه، تير، جوش، دي بهمر، مهر سروش، رشن، فروردين، بهرام، رام باذ، دي بدين، دين، أرد، أشتاذ، اسمان، زامياذ، مارسفند، أنيران.
وكان من قول الجماعة منهم فيما يقولونه من زراذشت الذي يدعون أنه نبيهم: أن يكون النور قديما لم يزل، وهم يسمونه زروان، وإنه فكر في الشر لهفوة كانت منه علمهم منها لأن الحسن مستحيل إلى قبح، والطيب الريح إلى نتن، وإن القديم عندهم غير ممتنع من أن يلزمه التغيير والفساد في بعضه لا في كله.
فلما فكر القديم في الشر، تنفس الصعداء، فخرج ذلك الغم من جوفه، فامتثل بين يديه، ويسمون ذلك الغم الممتثل بين يدي القديم: أهرمن، ويسمونه أيضاً: زروان هرمز.
قالوا: فأراد أهرمن محاربة هرمز، فكره ذلك هرمز لئلا يفعل شراً، فصالحه على أن يصير إليه خلق كل ضار فاسد.
وزعموا أنهما جسمان وروحان، وبينهما فرجة للحنق لأنهما ليسا بملتقيين، وقالوا: إن هرمز النور الفاعل الأجرام وأزواجها، وإن أهرمن إنما يفعل المضار في هذه الجواهر، كالسم في الهوام، والغيظ، والغضب، والضجر، والشرور، والتعادي، والحنق، والخوف في الحيوان، فإن الله هو فاعل الأعيان وأعراضها الراتبة.
وكانت منازل ملوك الفرس في أول ملك أردشير بن بابكان بإصطخر من كور فارس، ثم لم تزل الملوك تنتقل، حتى ملك أنوشروان بن قباذ، فنزل المدائن من أرض العراق، فصارت دار الملك، وأجمع العلماء من المنجمين والمتطببين أنه ليس في المملكة بلد أصح، ولا أفضل، ولا أعدل من تلك البقعة، وما قرب منها من إقليم بابل.
وكانت البلاد التي تملكها الفرس، ويحوز سلطانها فيها، من كور خراسان: نيسابور، وهراة، ومرو، ومرو الروذ، والفارياب، والطالقان، وبلخ، وبخارى، وباذغيس، وبأورد، وغرشستان، وطوس، وسرخس، وجرجان، وكان على هذه الكور عامل تسميه أصبهبذ خراسان.
ومن كور الجبل: طبرستان والري، وقزوين، وزنجان، وقم، وأصبهان، وهمذان، ونهاوند، والدينور، وحلوان، وماسبذان، ومهر جانقذق، وشهرزور، والصامغان، وآذربيجان، وكان لهذه الكور أصبهبذ يقال له أصبهبذ آذربيجان، وكرمان. وفارس، وكورها: إصطخر، وشيراز، والرجان، والنوبندجان، وجور، وكازرون، وفسا، ودارابجرد، وأردشيرخره، وسابور. والأهواز، وكورها: جنديسابور، والسوس، ونهر تيري، ومناذر، وتستر، وإيذج، ورامهرمز، وعلى هذه أصبهبذ يقال له أصبهبذ فارس.
وكور العراق، ولها ثمانية وأربعون طسوجا على الفرات ودجلة، فسقى الفرات: بادوريا، والأنبار، وبهرسير، والرومقان، والزاب الأعلى، والزاب الأسفل، والزاب الأوسط، وزندورد، وميسان، وكوثى، ونهر درقيط، ونهر جوبر، والفلوجة العليا، والفلوجة السفلى، وبابل، وخطرنية، والجبة، والبداة، والسيلحين، وفرات بادقلى، وسورا، وبربسما، ونهر الملك، وباروسما، ونستر.
وسقى دجلة: نهر بوق، ونهر بين، وبزرجسابور، والراذان الأعلى، والراذان الأسفل، والزابيين، والدسكرة، وبرازروز، وسلسل، ومهروذ، وجلولاء، والنهروان الأعلى، والنهروان الأوسط، والنهروان الأسفل، و جازر، والمدائن، والبندنجين، ورستقباذ، وأبزقباذ، والمبارك، وبادرايا، وباكسايا، ولهم أصبهبذ رابع يسمى أصبهبذ المغرب.
وكانت آخر مسالح الفرس مما يلي الفرات: الأنبار، ثم تصير إلى مسالح الروم، ومما يلي دجلة ثم تصير إلى مسالح الروم، إلا أن يتعاور القوم، فيدخل الفرس بلاد الروم على المخالبة، وربما دخل الروم بلاد الفرس. وكل الاسم الواقع على كل ملك للفرس: كسرى، وكانوا إن سموه و ذكروه قالوا: كسرى شاهنشاه، معناه ملك الملوك، وكانت تسمى الوزير: بزرجفرمذار، معناه متقلد الأمور، وكانت تسمى العالم القيم بشرائع دينهم: موبذ موبذان، ومعناه عالم العلماء، وأول من رفع عليه منها الاسم: زراذشت، وكانت تسمى قيم النار: الهربذ، وكانت تسمى الكاتب: دبيربذ، وكانت تسمى العظيم منهم: الإصبهبذ، ومعناه الرئيس، والذي دونه: الفادوسبان، و معناه دافع الأعداء، وتسمى رئيس البلد: المرزبان، وتسمى رئيس الكور: الشهريج، وتسمى أصحاب الحروب وقواد الجيوش: الأساورة، وتسمى صاحب المظالم: شاهريشت، وتسمى صاحب الديوان: المردمارعد.
ممالك الجربىوكان ولد عامور بن توبل بن يافث بن نوح لما قسم فالغ بن عابر بن أرفخشد بن سام بن نوح الأرض بين ولد نوح خرجوا في يسرة المشرق، فقطع قوم منهم ولد ناعوما ناحية الجربى على سمت الشمال، فانتشروا في البلاد، فصاروا عدة ممالك، وهم: البرجان، والديلم، والتبر، والطيلسان، وجيلان، وفيلان، واللان، والخزر، والدودانية، والأرمن، وكانت الخزر المتغلبة على عامة بلاد أرمينية، وعليها ملك يقال له خاقان، وله خليفة يقال له يزيد بلاش على الران، وجرزان، والبسفرجان، والسيسجان، وكانت هذه الكور تسمى أرمينية الرابعة التي افتتحها قباذ ملك الفرس، فصارت إلى أنوشروان، إلى باب اللان، مائة فرسخ، وفيها ثلاثمائة وستون مدينة. وغلب ملك الفرس على الباب والأبواب، وطبرسران، والبلنجر، و بنى مدينة قاليقلا، ومدناً كثيرة، فأسكنها قوماً من أهل فارس، ثم غلبت الخزر على ما كانت فارس غلبتهم عليه، فأقام في أيديهم حيناً، ثم غلبتهم الروم، فملكت على أرمينية الرابعة ملكاً يقال له الموريان، وافترقوا عدة رياسات كل رئيس منهم في قلعته وحصنه، فهي لهم ممالك معروفة.
وقطع قوم من ولد عامور ما وراء النهر، ثم افترقوا في البلاد، فصارت ممالك مفترقة وأمم كثيرة، فمنهم: الختل، والقواديان، والأشروسنة، والسغد، والفرغانة، والشاش، والترك، والخرلخية، والتغزغز، والترك الكيماكية، والتبت، وفي الترك قوم أصحاب مدر ومدن وحصون، وفيهم قوم في رؤوس الجبال والصحاري كالبدو، ولهم شعور طوال، ومنازلهم خيام اللبود، فإذا غزوا كان في الخيمة الواحدة عشرون مقاتلاً، ويرمون فلا يخطئون، وبيوتهم متصلة من أول كور خراسان إلى جبال التبت وجبال الصين. //////
={مجلد 2.}}}}}}}}}
مجلد 2. من كتاب : تاريخ اليعقوبي
المؤلف : اليعقوبي
وأما التبت، فبلد واسع أعظم من الصين، ومملكتهم جليلة، وهم أصحاب منعه وحكمة يضاهون صنعة الصين، وفي بلادهم غزلان سررها المسك، وهم عبدة أصنام، ولهم بيوت نيران، وشوكتهم شديدة، فليس يحاربهم أحد.
ملوك الصينذكرت الرواة وأهل العلم ومن صار إلى بلاد الصين، فأقام بها الدهر الطويل، حتى فهم أمرهم، وقرأ كتبهم، وعرف أخبار المتقدمين منهم، ورأوه في كتبهم، وسمعوه من أخبارهم، ومكتوب على أبواب مدنهم وبيوت أصنامهم، ومنقور في الحجارة قد أجرى فيه الذهب: إن أول من ملك الصين صاين بن باعور بن يرج بن عامور بن يافث بن نوح بن لمك، فإنه كان عمل فلكاً حكى به فلك نوح، فركب فيه، ومعه جماعة من ولده وأهله، حتى قطع البحر، فصار إلى موضع استحسنه، وأقام به، فسمي ذلك الموضع الصين باسمه، فكثر ولده، وتناسلت ذريته، فكانت ذريته على دين قومه، واتصل ملكه ثلاثمائة سنة.
ومنهم عرون الذي شيد البنيان، وعمل الصنعة، واتخذ الهياكل المذهبة، وعمل فيها صورة أبيه، وجعلها في صدر الهيكل، فكان إذا دخل سجد لتلك الصورة تعظيماً لصورة أبيه، وكان لصاين اسم تفسيره بالعربية ابن السماء، فمن ذلك الزمان صارت الأوثان تعبد في بلاد الصين، وكان ملك عرون مائة وأربعين سنة.
ومنهم عير الذي سار في بلاد الصين طولاً وعرضاً، وبنى المدن العظام، وشيد القباب من الجزلان والنحاس المذهب، وعمل صورة أبيه من ذهب مكلل بالجوهر والرصاص والنحاس المزوق، فاتخذها أهل مملكته جميعاً في مدنهم وبلدانهم، وقالوا: ينبغي للرعية أن تعمل صورة ملك قد ملكها من السماء، وعدل فيها، واتصل ملك عير مائة وثلاثين سنة.
ومنهم عينان الذي سام أهل مملكته سوء العذاب، ونفاهم إلى جزائر البحر، فكانوا يصيرون من تلك الجزائر إلى مواضع فيها الثمار ليأكلوا منها، فيجدون بها الوحوش، ولم يزالوا كذلك حتى أنسوا بالوحوش، وأنست بهم، وكانوا ينزون عليها، وربما نزت تلك على نسائهم فتأتي بينهم الخلق المشوهة.
وباد القرن الأول وأتى قرن بعد قرن، فذهبت عنهم لغاتهم، وصاروا يتكلمون ما لا يفهم، ففي الجزائر التي تجتاز منها إلى أرض الصين أمر عظيم من هذا الضرب، وأمم كثيرة، وكان يسمى عينان اسماً تفسيره بالعربية خلقة الشر.
وكان ملكه مائة سنة.
ومنهم خرابات الذي ملك وهو حدث السن، ثم احتنكت سنة، فعلا أمره، وحسن تدبيره، ووجه بوفد من قبله إلى أرض بابل وما اتصل بها من بلاد الروم يتعرفون ما فيها من الحكمة و الصنعة، وحمل معهم من صنعة الصين وما يعمل بها من ثياب الحرير وغيره، وما يؤتى به من تلك البلاد من الآلات وغيرها، وأمرهم أن يحملوا إليه كل صنعة وظريفة من أرض بابل وبلاد الروم، وأن يتعرفوا شرائع دين القوم، فكان ذلك أول ما دخل من متاع الصين إلى أرض العراق وما اتصل بها، وركب التجار بحر الصين للتجارة، وذلك أن الملوك استظرفت ما أتاهم من متاع الصين، فعملوا المراكب، وحملوا فيها التجارة، فكان ذلك أول دخول التجار إلى الصين. وكان ملك خرابات ستين سنة.
ومنهم توتال، وأهل الصين يقولون إنهم وجدوا مكتوباً على أبواب مدنهم: أنه لم يملكهم ملك قط مثله، ورضوا به رضا لم يرضوا مثله بأحد قط، وهو الذي سن لهم كل سنة هم عليها في أديانهم، وأفعالهم، وصناعاتهم، وشرائعهم وأحكامهم. وكان ملكه ثمانياً وسبعين سنة، فلما مات أقاموا يبكون عليه زماناً طويلًا، ويحملونه على أسره الذهب وعجل الفضة، ثم جمعوا له العود والعنبر والصندل وسائر الطيب، وألهبوه بالنار، وطرحوه فيها، وجعل خاصته يلقون أنفسهم في تلك النار أسفاً عليه ووفاء له، وصار هذا سنة فيهم، وجعلوا صورته على دنانيرهم، وهم يسمون الدنانير الكونح، وعلى أبواب منازلهم الصور.
وبلاد الصين بلاد واسعة، فمن أراد الصين في البحر قطع سبعة أبحر، كل بحر منها له لون وريح وسمك ونسيم ليس هو في البحر الذي يليه، فأولها بحر فارس الذي يركب فيه من سيراف، وآخره رأس الجمحة، وهو ضيق فيه مغائص اللؤلؤ.
والبحر الثاني الذي مبتدأه من رأس الجمحة يقال له لاروي، وهو بحر عظيم، وفيه جزائر الوقواق، وغيرهم من الزنج، وفي تلك الجزائر ملوك، وإنما يسار في هذا البحر بالنجوم، وله سمك عظيم، وفيه عجائب كثيرة وأمور لا توصف.
ثم البحر الثالث الذي يقال له هركند، وفيه جزيرة سرنديب، وفيه الجوهر والياقوت وغيره، ولها جزائر فيها ملوك، ولهم ملك عليهم، وفي جزائر هذا البحر الخيزران والقنا.
والبحر الرابع يقال له كلاهبار، وهو بحر قليل الماء، وفيه حيات عظام، وربما ركبت الريح فيه، فقطعت المراكب، وفيه جزائر فيها شجر الكافور.
والبحر الخامس يقال له سلاهط، وهو بحر عظيم كثير العجائب.
والبحر السادس يقال له كردنج، وهو كثير الأمطار. والبحر السابع يقال له بحر صنجي، و يقال له أيضاً كنجلى، وهو بحر الصين، وإنما يسار فيه بريح الجنوب، حتى يصيروا إلى بحر عذب عليه المسالح والعمران، حتى ينتهوا إلى مدينة خانفو.
ومن أراد الصين على البر سار في نهر بلخ، وقطع بلاد السغد، وفرغانة، والشاش، والتبت، حتى يصير إليها، والملك في حصن له منفرد، وصاحب شرطته خادم، وصاحب خراجه خادم، وصاحب حرسه خادم، وصاحب أخباره خادم، وأكثر أعوانه الخدم، وهم ثقاته، وخراجهم من رؤوس الرجال يوجبون على كل رجل بالغ جزية، لأنهم لا يدعون رجلاً بغير صناعة، فإذا تعطل عن العمل بعلة، أو هرم، أنفقوا عليه من مال الملك.
وهم يعظمون أمواتهم، ويطول حزنهم عليهم، وأكثر عقوباتهم القتل، فهم يقتلون على الكذب، ويقتلون على السرقة، ويقتلون على الزنا إلا قوماً معروفين، ومن تظلم من عامل الأعمال، فصحت مظلمته، قتل ذلك العامل، وإلا قتل المتظلم منه إن كان كاذباً مبطلاً.
وحدود الصين من البر ثلاثة حدود، ومن البحر حد واحد، فالحد الأول: الترك، والتغزغز، ولم تزل بينهم حروب متصلة، ثم اصطلحوا، وتصاهروا. والحد الثاني: التبت، وبين التبت والصين جبل عليه مسالح للصين يحترسون من التبت، ومسالح للتبت يحترسون من الصين، وهم ما بين حد البلدين.
والحد الثالث: إلى قوم يقال لهم المانساس، لهم مملكة منفردة، وهم في بلاد واسعة، ويقال إن سعة بلادهم طول عدة سنين في عرض مثل ذلك لا يعرف أحد من وراءهم، وهم قوم يقاربون أهل الصين.
والحد الواحد الذي يلي البحر، فمنه يأتي المسلمون، على ما ذكرنا من عدد البحور.
وديانتهم عبادة الأوثان والشمس والقمر، ولهم أعياد لأصنامهم، أعظمها عيد في أول السنة يقال له الزارار، يخرجون إلى مجمع، ويعدون فيه الأطعمة والأشربة، ثم يأتون برجل قد حبس نفسه على ذلك الصنم العظيم، وعلى جميع شهواته، وتمكن من كل ما يريد، فتقدم إلى ذلك الصنم، وقد صير على أصابع يده شيئاً يشعل بالنار، ثم يحرق أصابعه بالنار ويسرجها بين يدي ذلك الصنم، حتى يحترق، ويقع منها ميتاً، فيقطع، فمن نال منه شظية، أو خرقة من ثيابه، فقد فاز، ثم يأتون برجل آخر يريد أن يحبس نفسه للصنم للسنة المجدودة، فيقف موضعه، ويلبس الثياب، ويضرب عليه بالصنوج، ثم يفترقون، فيأكلون ويشربون، ويقيمون أسبوعاً، وينصرفون.
وهذا الشهر الذي هذا العيد فيه تسميه جناح، وهو أول يوم من حزيران، وللصين حساب أيضاً، وتسمى الشهور بأسماء مختلفة على حساب قد فهموه، فأولها: جناح، ورداح، ورايح، ومالح، وكسران، وبارد، ونمرود، وكنعان، وزاغ، وهراة، وهرهر، وباهر.
ملوك مصرمن القبط وغيرهم وكان بيصر بن حام بن نوح، لما خرج من بابل بولده وأهل بيته، وكانوا ثلاثين نفساً، أربعة أولاد له، وهم: مصر، وفارق، وماح، وياح، ونساؤهم، وأولادهم قد سار بهم إلى منف، وكان بيصر قد كبر وضعف، وكان مصر أكبر ولده وأحبهم إليه، فاستخلفه، وأوصاه بإخوته، واقتطع مصر لنفسه وولده، مسيرة شهرين من أربعة أوجه، وكان منتهى ذلك من الشجرتين بين رفح والعريش إلى أسوان طولاً، ومن برقة إلى أيلة عرضاً.
وأقام مصر متملكاً بعد أبيه دهراً، وكان له أربعة أولاد، وهم: قفط، وأشمن، واتريب، وصا، فقسم لهم شط النيل، وقطع لكل واحد قطيعة يحوزها هو وولده.
ثم ملك بعد مصر قفط بن مصر، ثم ملك أشمن بن مصر، ثم ملك اتريب بن مصر، ثم ملك صا بن مصر، ثم ملك تدارس بن صا، ثم ملك ماليق ابن تدارس، ثم ملك حرايا بن ماليق، ثم ملك أخوه ماليا بن حرايا، ثم ملك لوطس بن ماليا، فلما حضرت لوطس الوفاة ملكت ابنته حوريا، فلما حضرت حوريا الوفاة ملكت بنت عم لها يقال لها زالفا بنت مأموم.
وكان أولاد بيصر قد كثروا وامتلأت البلاد منهم، فلما ملكوا النساء طمعت فيهم العمالقة ملوك
الشام، فغزاهم ملك العمالقة، وهو يومئذ الوليد ابن دومع، ووطىء البلاد، فرضوا أن يملكوه عليهم، فأقام دهراً طويلاً. ثم ملك بعده آخر من العمالقة يقال له الريان بن الوليد، وهو فرعون يوسف.
ثم ملك آخر من العمالقة يقال له دارم بن الريان.
ثم ملك بعده كاسم بن معدان.
ثم ملك فرعون موسى، وهو الوليد بن مصعب، فاختلفت الرواة في نسبه، فقالوا: هو رجل من لخم، وقالوا من غيرها من قبائل اليمن، وقالوا من العمالقة، وقالوا من قبط مصر يقال له ظلماً، وهو الذي كان من أمره مع موسى ما قد قصة الله جل وعز، فعاش عمراً طويلاً، وعتا وبغى، حتى قال: أنا ربكم الأعلى، ثم غرقه الله وجنوده في بحر القلزم، فلما غرق الله فرعون ومن معه لم يبق في البلد إلا الذرية والعبيد والنساء، فاجتمع رأيهم على أن يملكوا امرأة يقال لها دلوكة، فخافت أن يتخطى إليها ملوك الأرض، فبنت حائطاً يحيط بأرض مصر من القرى والمزارع والمدن، وعملت أعمالا كثيرة، وكان ملكها عشرين سنة.
ثم ملكت دركون بن بلوطس.
ثم ملك بودس بن دركون.
ثم ملك لقاس بن بودس.
ثم ملك دنيا بن بودس.
ثم نمادس بن مرينا، فطغى وعتا، فقتلوه.
ثم ملك بلوطس بن مناكيل.
ثم ملك ماليس بن بلوطس.
ثم ملك نولة بن مناكيل، وهو فرعون الأعرج الذي سبى ملك بيت المقدس، وصنع ببني إسرائيل ما لم يصنعه أحد، وعتا، وبلغ مبلغاً لم يبلغه أحد قبله بعد فرعون، فصرعته دابته، فدقت عنقه.
ثم ملك مرينوس.
ثم ملك نقاس بن مرينوس.
ثم ملك قومس بن نقاس.
ثم ملك مناكيل اددامه الأعرج، وهو لحسابرسر الذي غزاه بخت نصر، فهزمه، وخرب مصر، وسبى أهلها، فأقاموا بعد ذلك يملكهم الروم، فتنصروا في ذلك الوقت.
ثم غلبت فارس على الشام في أيام أنوشروان، فملكوهم عشر سنين، ثم ظهرت الروم، فكان أهل مصر يؤدون إلى الروم خراجاً وإلى فارس خراجاً، يدفعون شر الفريقين.
ثم خرجت فارس عن الشام، وصار أمرهم إلى الروم، فدانوا بدين النصرانية.
وكان حكيم القبط هرمس القبطي، وهم أصحاب البرابي الذين يكتبون بخط البرابي، وهو ذا الخط الموجود وفي دهرنا قد عدم الناس معرفة قراءته، والسبب في ذلك أنه لم يكن يكتب به منهم إلا الخواص، وكانوا يمنعون العوام، والذين يقومون به منهم حكماؤهم وكهانهم، وكانت فيه أسرار دينهم وأصول مقالتهم التي لا يطلعون عليها إلا كهانهم، ولا يعلمون بها أحداً إلا أن يأمر الملك بتعليمه.
فلما قهرتهم الروم، وملكتهم بسطوه شديدة وسلطان، أبطلوا ما كانوا يقومون به من سعيهم وأعمالهم، وحملوهم في بدء أمورهم على شرائع اليونانيين، حتى فسدت لغتهم، ومازج كلامهم كلام الروم، ثم تنصرت الروم، فحملوهم على التنصر، فدرس جميع ما كانوا فيه من أمر دينهم وسنتهم، وقتل الروم كهانهم وعلماءهم، فهلك من كان يفهم ذلك الكتاب، ومنع من بقي منهم من تعليمه والنظر فيه، فلذلك ليس يوجد أحد يقرأه منهم ولا غيرهم. وكانت ديانتهم عبادة الكواكب، والقول بأنها مدبرة مختارة، وهم أصحاب القضايا بالنجوم، وإنها تسعد وتنحس، لأنهم زعموا أنها آلهتهم التي تحييهم، وتميتهم، وترزقهم، وتسقيهم.
وكان من قولهم: إن الأرواح قديمة كانت في الفردوس الأعلى، وإنه في كل ستة وثلاثين ألف سنة يفني جميع ما في العالم إما من تراب، يريدون الأرض وزلزلتها وخسوفها، أو من نار وإحراق، وسموم مهلك، وإما من ريح هواء ردي فاسد، غليظ عام، يسد الأنفاس لغلظه، فيهلك الحيوان، ويتلف الحرث والنسل، ثم يحيي الطبيعة من كل جنس من أجناس الحرث والنسل، ويرجع العالم بعد فساده.
وكانت عندهم من هذه الأرواح آلهة تنزل، فتصير في الأصنام، فتتكلم الأصنام لذلك، وإنما كانوا يخدعون عوامهم بذلك، ويسترون العلة التي بها كانت تتكلم أصنامهم، وهي بصنعة كان كهانهم يصنعونها، وعقاقير يستعملونها، وحيل يحتالونها، حتى تصفر، وتصيح بصنعة يحكون بها من خلقة الصنم كخلقة الطير، أو البهيمة، فيكون صوت ذلك الصنم مثل صوت جنسه من الحيوان، ثم يترجم كهانهم ذلك الصوت من الصنم على ما يريدون القضاء به، مما قد اتفقوا به من حساب النجوم، وعلم الفراسة.
ويخبرون أن الأرواح، إذا خرجت، صارت إلى هذه الآلهة، التي هي الكواكب، فتغسلها، وتطهرها إن كانت لها ذنوب، ثم تصعد إلى الفردوس حيث كانت.
ويقولون إن أنبياءهم كانت تكلمهم الكواكب وتعلمهم أن الأرواح تنزل إلى الأصنام، فتسكن فيها، وتخبر بالحادث قبل أن يحدث.
وكانت لهم فطنة عجيبة دقيقة يوهمون بها العوام انهم يكلمون الكواكب، وأنها تنبئهم بما يحدث، ولم يكن ذلك إلا لجودة علمهم بالأسرار التي للطوالع، وصحة الفراسة، فلم يكونوا يخطئون إلا القليل، وادعوا علم ذلك عن الكواكب، وأنها تنبئهم بما يحدث، وهذا باطل غير معقول، ثم ملكهم اليونانيون، فدخلوا في ملتهم، ثم ملكهم الروم، فتنصروا.
وكانت مملكة القبط أرض مصر من كور الصعيد: منف، ووسيم، والشرقية، والقيس، والبهنسا، وأهناس، ودلاص، والفيوم، وأشمون، وطحا، وأبشاية، وهو، وقفط، والأقصر، وأرمنت، ومن كور أسفل الأرض: اتريب، وعين شمس، وتنوا، وتمي، وبنا، وبوصير، وسمنود، ونوسا، والأوسية، والبجوم، وبسطة، وطرابية، وقربيط، وصان، وإبليل، وسخا، وتيدة، والأفراحون، ونقيزة، والبشرود، وطوة، ومنوف العليا، ومنوف السفلى، ودمسيس، وصا، وشباس، والبذقون وأخنا، ورشيد، وقرطسا، وخربتا، وترنوط، ومصيل، ومليدش.
والقبط تحسب سنيها على ثلاثمائة وخمسة وستين يوماً، وشهورها اثنا عشر شهراً، كل شهر ثلاثون يوماً، ولها خمسة أيام تسميها النسيء، فأول شهور القبط الذي يجعلونه رأس سنتهم: توت، ويسمون أول يوم منه نيروز، ويقولون إن فيه ابتداء عمارة الأرض، وهذه أسماء شهورهم: توت، بابه هتور، كيهك، طوبة، إمشير، برمهات، برموذة، بشنش، بونه، ابيب، مسري، وكانت الخمسة الأيام التي ينسئونها بين مسري وتوت. والخط الذي تكتب به القبط بين اليوناني والرومي، وهو على هذا الرسم.
ممالك البربر والأفارقةوكانت البربر والأفارقة، وهم أولاد فارق بن بيصر بن حام بن نوح، لما ملك إخوتهم بأرض مصر، فأخذوا من العريش إلى أسوان طولاً، ومن أيلة إلى برقة عرضاً، خرجوا نحو المغرب، فلما جازوا أرض برقة أخذوا البلاد، فغلب كل قوم منهم على بلد، حتى انتشروا بأرض المغرب.
فأول من ملك منهم: لوانة في أرض يقال لها أجدابية من جبال برقة، وملكت مزاتة في أرض يقال لها ودان، فنسب هؤلاء القوم إلى أبيهم، وجاز قوم منهم إلى بلد يقال له تورغه، فملكوا هناك، وهم هواره، وسار آخرون إلى بلاد أرميك، وهم بذرعه، وسار قوم إلى طرابلس يقال لهم المصالين، وجاز قوم إلى غربي طرابلس يقال لهم وهيله.
ثم استعلت بهم الطريق، فأخذ قوم إلى القيروان يقال لهم برقشانه، وأخذ آخرون ذات الشمال، فصاروا إلى تاهرت، وهم الذين يقال لهم كتامة وعجيسة، وأخذ قوم آخرون إلى سجلماسة، و هم الذين يقال لهم نفوسه ولماية، وأخذ قوم إلى جبال هكان، وهم الذين يقال لهم لمطة، ويسمون العيالات، وهم في بادية، في غير مساكن، وأخذ قوم إلى طنجة يقال لهم مكناسة، وأخذ قوم إلى السوس الأقصى، وهم الذين يقال لهم مداسه.
وقد ذكر قوم من البربر والأفارقة انهم من ولد بربر بن عيلان بن نزار، وقال آخرون: انهم من جذام ولحم، وكانت مساكنهم فلسطين، فأخرجهم بعض الملوك، ولما صاروا إلى مصر منعتهم ملوك مصر النزول، فعبروا النيل، ثم غربوا، فانتشروا في البلاد، وقال آخرون: إنهم من اليمن نفاهم بعض الملوك من بلد اليمن إلى أقاصي المغرب، وكل قوم ينصرون رواياتهم، والله أعلم بالحق في ذلك.
ممالك الحبشة والسودانوكان ولد حام بن نوح قصدوا عند تفرق ولد نوح من أرض بابل إلى المغرب، فجازوا من عبر الفرات إلى مسقط الشمس، وافترق ولد كوش بن حام، وهم الحبشة والسودان، لما عبروا نيل مصر فرقتين، فقصدت فرقة منهم التيمن بين المشرق والمغرب، وهم النوبة، والبجة، والحبشة، والزنج، وقصدت فرقة الغرب، وهم زغاوه، والحسن، والقاقو، والمرويون، ومرندة، والكوكو، وغانه.
فأما النوبة فإنها لما صارت في الجانب الغربي من النيل جاورت مملكة القبط، وهم ولد بيصر بن حام بن نوح تملكوا هناك، فصارت النوبة مملكتين، فإحداهما: مملكة الذين يقال لهم مقرة، وهم في شرق النيل وغربه، ومدينة مملكتهم دنقلة، وهم الذين سالموا المسلمين، وأدوا إليهم البقط، وبلادهم بلاد نخل وكرم وزرع، واتساع المملكة شبيه بشهرين.
والمملكة الثانية من النوبة الذين يقال لهم علوة، أعظم خطرا من مقرة، ومدينة مملكتهم يقال لها سوبة، ولهم بلاد واسعة شبيهة بثلاثة أشهر، والنيل متشعب عندهم في عدة خلجان.
مملكة البجةوهم بين النيل والبحر، ولهم عدة ممالك، في كل بلد ملك منفرد. فأول مملكة البجة من حد أسوان، وهي آخر عمل المسلمين من التيمن بين المشرق والمغرب إلى حد بركات، وهم الجنس الذي يقال له: نقيس، ومدينة المملكة يقال لها: هجر، ولهم قبائل وبطون كما تكون للعرب، فمنهم: الحدرات، وحجاب، والعماعر وكوير، ومناسة، ورسفة، وعربرتعة، والزنافج، وفي بلادهم المعادن من التبر والجوهر، والزمرد، وهم مسالمون للمسلمين، والمسلمون يعملون في بلادهم في المعادن.
والمملكة الثانية من البجة، مملكة يقال لها: بقلين، كثيرة المدن، واسعة يضارعون في دينهم المجوس والثنوية، فيسمون الله، عز وجل، الزنجير الأعلى، ويسمون الشيطان صحي حراقة، وهم الذين ينتفون لحاهم، ويقلعون ثناياهم، ويختتنون، وبلادهم بلاد مطر.
ثم المملكة الثالثة يقال لها: بازين، وهم يتاخمون مملكة علوة من النوبة، ويتاخمون بقلين من البجة، ويحاربون هؤلاء، وزرعهم الذي يأكلونه، وهو طعامهم واللبن.
والمملكة الرابعة يقال لها: جارين، ولهم ملك خطير، وملكه ما بين بلد يقال له: باضع، وهو ساحل البحر الأعظم إلى حد بركات من مملكة بقلين، إلى موضع يقال له: حل الدجاج، وهم قوم يقلعون ثناياهم من فوق وأسفل، ويقولون: لا يكون لنا أسنان كأسنان الحمير، وينتفون لحاهم.
والمملكة الخامسة يقال لها: قطعة، وهي آخر ممالك البجة، ومملكتهم واسعة من حد موضع يقال له: باضع، إلى موضع يقال له: فيكون، ولهم حد شديد، وشوكة صعبة، ولهم دار مقاتلة يقال لها دار السوا، فيها أحداث شباب، جلد، مستعدون للحرب والقتال.
ثم المملكة السادسة، وهي مملكة النجاشي، وهو بلد واسع، عظيم الشأن، ومدينة المملكة كعبر، ولم تزل العرب تأتي إليها للتجارات، ولهم مدن عظام، وساحلهم دهلك، ومن في بلاد الحبشة من الملوك، فهم من تحت يد الملك الأعظم يعطونه الطاعة، ويؤدون إليه الخراج، والنجاشي على دين النصرانية اليعقوبية، وآخر مملكة الحبشة الزنج، وهم يتصلون بالسند وما ضارع هذه البلدان، ويتصل أيضاً بما دون الزنج مما يتاخم السند والكرك، وهم قوم لهم حساب، واجتماع قلوب.
وأما السودان الذين غربوا وسلكوا نحو المغرب فإنهم قطعوا البلاد، فصارت لهم عدة ممالك، فأول ممالكهم: الزغاوة، وهم النازلون بالموضع الذي يقال له: كانم، ومنازلهم أخصاص القصب، وليسوا بأصحاب مدن، ويسمى ملكهم كاكرة. ومن الزغاوة صنف يقال لهم: الحوضن، ولهم ملك هو من الزغاوه.
ثم مملكة أخرى يقال لهم: ملل، وهم يبادون صاحب كانم، ويسمى ملكهم: ميوسي.
ثم مملكة الحشة، ولهم مدينة يقال لها: ثبير، ويسمى ملك هذه المدينة مرح، ويتصل بهم القاقو، إلا انهم معولون، وملكهم ملك ثبير.
ثم مملكة الكوكو، وهي أعظم ممالك السودان، وأجلها قدراً، وأعظمها أمراً، و كل الممالك تعطي لملكها الطاعة، والكوكو اسم المدينة، ودون هذا عدة ممالك يعطونه الطاعة، ويقرون له بالرئاسة على انهم ملوك بلدانهم، فمنهم مملكة المرو، وهي مملكة واسعة، وللملك مدينة يقال لها: الحيا، ومملكة مردية، ومملكة الهربر، ومملكة صنهاجة، ومملكة تذكرير، ومملكة الزيانير، ومملكة أرور، ومملكة بقاروت، فهذه كلها تنسب إلى مملكة الكوكو.
ثم مملكة غانة، وملكها أيضا عظيم الشأن، وفي بلاده معادن الذهب، وتحت يده عدة ملوك، فمنهم مملكة: عام، ومملكة: سامة، وفي هذه البلاد كلها الذهب.
ملوك اليمنذكرت الرواة، ومن يدعي العلم بالأخبار وأحوال الأمم والقبائل: أن أول من ملك من ولد قحطان بن هود النبي: ابن عابر بن شالح بن أرفخشد ابن سام بن نوح سبا بن يعرب بن قحطان، وكان اسم سبا عبد شمس، لأنه كان أول من ملك من ملوك العرب، وسار في الأرض، وسبى السبايا، وكان يعرب ابن قحطان أول من حيي: بأنعم صباحا وأبيت اللعن.
ثم ملك بعد سبا حمير بن سبا، واسم حمير زيد، وكان أول ملك لبس التاج من الذهب مفصصاً بالياقوت الأحمر.
ثم ملك بعد حمير أخوه كهلان بن سبا، فطال عمره حتى هرم.
ثم ملك بعد كهلان أبو مالك بن عميكرب بن سبا، فدام ملكه ثلاثمائة سنة.
ثم ملك بعد أبي مالك حنادة بن غالب بن زيد بن كهلان، وكان أول من صنع السيوف المشرفية، وكان يصنع الطعام للجن بالليل، وملك مائة وعشرين سنة.
وملك بعد حنادة الحارث بن مالك بن إفريقيس بن صيفي بن يشجب بن سبا مائة وأربعين سنة. ثم ملك بعد الحارث بن مالك الرائش، وهو الحارث بن شداد بن ملطاط بن عمرو بن ذي أبين بن ذي يقدم بن الصوار بن عبد شمس بن وائل بن الغوث ابن حيدان بن قطن بن عريب بن أيمن بن الهميسع بن حمير بن سبا، وهو أول من غزا وأصاب الأموال وأدخل اليمن الغنائم من غيرها فسمي الرائش فغلب اسمه، وكان ملكه مائة وخمساً وعشرين سنة.
ثم ملك بعد الرائش ابنه أبرهة بن الرائش، وهو أبرهة ذو منار، وذلك أنه صار إلى ناحية المغرب، وكان إذا غلب على بلد ضرب عليها النار، وكان ملكه مائة وثمانين سنة.
ثم ملك بعد أبرهة ابنه إفريقيس بن أبرهة، فسلك سبيل أبيه، وكان ملكه مائة وأربعاً وستين سنة.
ثم ملك بعد إفريقيس أخوه العبد بن أبرهة، وكان يسمى ذا الأذعار لأنه ذعر العدو، وكان يأتي بقوم عجيبة خلقهم، وكان ملكه خمساً وعشرين سنة.
ثم ملك بعد ذي الأذعار الهدهاد بن شرحبيل بن عمرو بن الرائش، وكان ملكه سنة واحدة.
ثم ملك بعد الهدهاد زيد، وهو تبع الأول بن نيكف، فطال عمره، وطغى، وبغى، وعتا، فيزعم الرواة أنه ملك أربعمائة سنة، ثم قتلته بلقيس.
وملكت بلقيس بنت الهدهاد بن شرحبيل، فكان ملكها مائة وعشرين سنة، ثم كان من أمرها مع سليمان ما كان، فصار ملك اليمن لسليمان بن داود ثلاثمائة وعشرين سنة، ثم ملك رحبعم بن سليمان بن داود عشر سنين، ثم رجع الأمر إلى حمير، فملك ياسر ينعم بن عمرو بن يعفر بن عمرو بن شرحبيل، واشتد سلطانه، فكان ملكه خمساً وثمانين سنة.
ثم ملك شمر بن إفريقيس بن أبرهة ثلاثاً وخمسين سنة.
ثم ملك تبع الأقرن بن شمر بن عميد، فغزا الهند، وأراد أن يغزو الصين، وكان ملكه مائة وثلاثاً وستين سنة.
ثم ملك ملكيكرب بن تبع، فغزا البلاد، ففرق قومه في أقاصي الأرض، ونقلهم إلى سجستان وخراسان، واجتمعوا عليه، فقتلوه، وكان ملكه ثلاثمائة وعشرين سنة.
ثم ملك حسان بن تبع، فأقام زماناً لا يغزو، ثم وقع بين طسم وجديس ما وقع، فسار إليهم تبع، فلما قرب منهم قال له رجل من طسم كان معه: إن معهم امرأة يقال لها اليمامة تنظر فلا تخطىء، فأخاف أن تنذرهم، فأمر أصحابه، فقطعوا من شجر الزيتون وقال: ليحمل كل واحد منكم غصناً عظيماً من الزيتون خلفه! فحمل كل رجل غصناً عظيماً، فلما نظرت قالت: أرى شجراً تمشي! قالوا: وهل تمشي الشجر؟ قالت: نعم ورب كل حجر ومدر، وإنها لخلف رجال حمير! فكذبوها، وصبحهم حسان، فقتلهم.
وملة قومه، وثقلت عليهم وطأته، فواطئوا أخاه عمرو بن تبع على قتله خلا ذا رعين، فإنه نهى عن ذلك، فقتله، وكان ملكه خمساً وعشرين سنة.
ثم ملك عمرو بن تبع بعد أن قتل أخاه، فذهب عنه النوم، وتنغص عيشه، فقتل كل من أشار بقتل أخيه، حتى بلغ إلى ذي رعين، فقال: قد أشرت عليك أن لا تفعل، فكتبت بيتي شعر هما عندك، وكان قد دفع إليه رقعة فيها:
ألا من يشتري سهراً بنوم ... سعيد من يبيت قرير عين
فإما حمير غدرت وخانت ... فمعذرة الإله لذي رعين
وكان ملك عمرو أربعاً وستين سنة.
ثم ملك تبع بن حسان بن بحيلة بن ملكيكرب بن تبع الأقرن، وهو أسعد أبو كرب، وهو الذي سار من اليمن إلى يثرب، وكان الفطيون قد تملك على الأوس والخزرج، فسامهم سوء العذاب، فخرج مالك بن العجلان الخزرجي، فشكا ذلك إلى تبع، فأعلمه غلبة قريظة والنضير عليهم، فسار تبع إليهم، فقتل قوما من اليهود، وكان تبع خلف ابنا له بين أظهرهم، فقتلوه، فزحف إليهم، وحاربهم.
وكان رئيس الأنصار عمرو بن طلحة الخزرجي من بني النجار، وكانوا يحاربونه بالنهار، ويقرونه بالليل، فيقول: إن قومنا لكرام. وجمع عظماء اليهود وقال: إني مخرب هذه البلدة، يعني المدينة، فقالت الأحبار وعظماء اليهود: إنك لا تقدر على ذلك! قال: ولم؟ قالوا: لأنها لنبي من بني إسماعيل يكون مخرجه من عند البيت المحرم، فخرج، وأخرج معه قوماً من أحبار اليهود، فلما قرب من مكة أتاه نفر من هذيل، فقالوا له: إن هذا البيت الذي بمكة فيه أموال وكنوز وجوهر، فلو أتيته فأخذت ما فيه. وإنما أرادوا أن يفعل، فيهلكه الله. وقيل: إنما أشار عليه قوم أن يهدمه، ويحول حجارته إلى اليمن، فيبني بها هناك بيتا تعظمه العرب، فدعا تبع أحبار اليهود، فذكر ذلك لهم، فقالوا: ما نعلم لله بيتاً في الأرض غير هذا البيت، وما أراده أحد بسوء إلا أهلكه الله.
واعترضته علة في ليلته، فقال له الأحبار: إن كنت أضمرت لهذا البيت مكروها، فارجع عنه، وعظمه، فرجع عما كان أضمر، فأذهب الله عنه العلة، فقتل من أشار عليه بهدمه، وطاف به وعظمه، ونحر، وحلق رأسه، ورأى في النوم أن أكسه، فكساه الخصف، فتجافى، فرأى في نومه أن أكسه، فكساه الملاء المعضد، وقال شعراً فيه:
وكسونا البيت الذي حرم الل ... ه ملاءً معضداً، وبرودا
ونحرنا بالشعب ستة آلا ... ف ترى الناس نحوهن ورودا
وأمرنا أن لا تقرب للكع ... بة ميتاً، ولا دماً مصفوداً
ثم طفنا بالبيت سبعاً وسبعاً ... وسجدنا عند المقام سجودا
وأقمنا فيه من الشهر سبعاً ... وجعلنا لبابه إقليدا
ثم رجع إلى اليمن ومعه الأحبار من اليهود، فتهود هو وقومه، وكان ملكه ثمانياً وسبعين سنة. ثم تفرقت ملوك قحطان، وملكوا أقواماً متفرقين منهم: عمرو بن تبع، ثم نزعوه، وملكوا مرثد بن عبد كلال أخاً تبع لأمه، فأقام أربعين سنة.
ثم ملك وليعة بن مرثد تسعاً وثلاثين سنة.
ثم ملك أبرهة بن الصباح، وكان من أحكم ملوك اليمن وأغلظهم، وكان ملكه ثلاثاً وتسعين سنة.
ثم ملك عمرو بن ذي قيقان.
ثم ملك ذو الكلاع.
ثم ملك لخيعة ذو شناتر، فكان من أخبث ملوك حمير وأرداها، وكان يعمل عمل قوم لوط، يبعث إلى الغلام من أبناء الملوك، فيلعب به، ثم يتطلع في غرفة له، وفي فمه السواك، حتى بعث إلى ذي نواس بن أسعد ليلعب به، فدخل، ومعه سكين، فلما خلا به، وثب عليه ذو نواس، وقتله، وحز رأسه، وصيره في الموضع الذي يتطلع منه، فلما خرج صاح به من بالباب من الجيش: يا ذا نواس، لا بأس! فقال: البأس على صاحب الرأس! فنظروا، فإذا به قد قتله، فملكوا ذا نواس. وكان ملك ذي شناتر سبعاً وعشرين سنة.
وملك ذو نواس بن أسعد، وكان اسمه زرعة، فعتا، وهو صاحب الأخدود، وذلك أنه كان على دين اليهودية، وقدم اليمن رجل يقال له عبد الله بن الثامر، وكان على دين المسيح، فأظهر دينه باليمن، وكان إذا رأى العليل والسقيم قال: أدعو الله لك حتى يشفيك، وترجع عن دين قومك! فيفعل ذلك، فكثر من اتبعه.
وبلغ ذا نواس، فجعل يطلب من قال بهذا الدين، ويحفر لهم في الأرض الأخدود، ويحرق بالنار، ويقتل بالسيف، حتى أتى عليهم، فسار رجل منهم إلى النجاشي، وهو على دين النصرانية، فوجه النجاشي إلى اليمن بجيش عليهم رجل يقال له أرياط، وهم في سبعين ألفاً، ومع أرياط في جيشه أبرهة الأشرم، فسار إليه ذو نواس، فلما التقوا انهزم ذو نواس فلما رأى ذو نواس افتراق قومه وانهزامهم ضرب فرسه، واقتحم به البحر، فكان آخر العهد به. وكان ملك ذي نواس ثمانياً وستين سنة.
ودخل أرياط الحبشي اليمن، فأقام بها عدة سنين، ثم نازعه أبرهة الأشرم الأمر، فافترقت الحبشة مع أرياط طائفة، ومع أبرهة طائفة، وخرجا للحرب، وسار كل واحد إلى صاحبه، فلما التقوا قال أبرهة لأرياط: ما نصنع يا أرياط بأن نقتل الناس بيني وبينك؟ ابرز إلي وأبرز إليك، فأينا أصاب صاحبه انصرف إليه جنده عنه! فبرز كل واحد إلى صاحبه، فضربه أرياط بالحربة، فشرم عينيه، وضربه غلام لأبرهة، فقتله، واجتمعت الحبشة باليمن على أبرهة
فلما بلغ النجاشي غضب، وحلف ليطأن أرضه برجله، أو ليجزن ناصيته! فحلق أبرهة رأسه، وبعث بها إليه، وبجراب من تراب أرضه، وقال: إنما أنا عبدك، وأرياط عبدك، اختلفنا في أمرك، وكل طاعته لك، فرضي عنه.
وخرج سيف بن ذي يزن إلى قيصر يستجيش على الحبشة، فأقام قبله سبع سنين، ثم رده، وقال: هم قوم على دين النصرانية لا أحاربهم! فسار إلى كسرى، فوجه بأهل السجون، ووجه معهم رئيساً يقال له وهرز، فلما قدم البلد حارب الحبشة، فقتل أبرهة الحبشي، وغلب على البلد، ثم ملك سيف بن ذي يزن بن ذي أصبح، وسيف الذي يقول فيه أمية بن أبي الصلت:
لا يطلب الثأر إلا ابن ذي يزن ... أقام في البحر للأعداء أحوالا
أتى هرقل، وقد شالت نعامته ... فلم يجد عنده الأمر الذي قالا
ثم انتحى نحو كسرى بعد سابعةٍ ... من السنين، لقد أبعدت إيغالا
حتى أتى ببني الأحرار يقدمهم ... اذهب إليك، لقد أسرعت قلقالا
وكانت ملوك اليمن يدينون بعبادة الأصنام في صدر من ملكهم، ثم دانوا بدين اليهود.
وتلوا التوراة، وذلك أن أحباراً من اليهود صاروا إليهم، فعلموهم دين اليهودية، ولم يكونوا يتجاوزون اليمن إلا أن يغيروا على البلاد، ثم يرجعون إلى دار ملكهم.
وكور بلاد اليمن تسمى مخاليف، وهي أربعة وثمانون مخلافاً، وهذه أسماؤها: اليحضبين، ويكلا، وذمار، وطمؤ، وعيان، وطمام، وهمل، وقدم، وخيوان، وسنحان، وريحان، وجرش، وصعدة، والأخروج، ومجيح، وحراز، وهوزن، وقفاعة، والوزيرة، والحجر، والمعافر، وعنه، والشوافي، وجبلان، ووصاب، والسكون، وشرعب، والجند، ومسور، والثجة، والمزدرع، وحيران، ومأرب، وحضور، وعلقان، وريشان، وجيشان، والنهم، وبيش، وضنكان، وقربى، وقنونا، ورنية، وزنيف، والعرش، والخصوف، والساعد، وبلجة، والمهجم، والكدراء، والمعقر، وزبيد، ورمع، والركب، وبني مجيد، ولحج، وأبين، والواديين، والهان، وحضرموت، ومقرى، وحيس، وحرض، والحقلين، وعنس، وبني عامر، وماذن، وحملان، وذي جرة، وخولان، و السرو، والدثينة، وكبيبة، وتبالة.
ومن السواحل: عدن، وهي: ساحل صنعاء، والمندب، وغلافقة، والحزدة، والشرجة، وعثر، والحمضة، والسرين، وجدة.
هذه بلاد مملكة اليمن وبلدانها، وكانوا ربما أغاروا على البلدان، فيرجعون إلى بلادهم. واليمن قبائل كثيرة، إذا دخلت فيهم قضاعة، فقد روي أن رجلاً سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله! أيما أكثر نزار أو قحطان؟ قال: ما شاب قضاعة، وقضاعة في هذا الوقت مقيمة على أنها ولد ملك بن حمير.
وهذه جماهير قبائل اليمن مع ما دخل فيهم من نزار من قضاعة، وجذام، ولخم، وبجيلة، وخثعم. وكان أول من ذكر اسمه وعرف قدره: سبا بن يشجب بن يعرب بن قحطان، فمن ولده كهلان بن سبا، وحمير بن سبا.
فمن قبائل كهلان طيء بن أدد بن زيد بن عريب بن كهلان، والأشعر بن أدد بن زيد، وعنس ابن قيس بن الحارث بن مرة بن أدد، وجذام، ولخم، وعاملة، وهم بنو عمرو بن عدي بن الحارث بن مرة بن أدد بن زيد، ومذحج ابن أدد بن زيد بن عريب بن كهلان.
فمن قبائل مذحج سعد العشيرة بن مذحج، ومراد بن مذحج، والنخع ابن عمرو بن علة بن جلد بن مذحج، وحكم وجعفي ابنا سعد العشيرة بن مذحج، وخولان بن عمرو بن سعد العشيرة بن مذحج، وزبيد بن الصعب بن سعد العشيرة بن مذحج. وهمدان، واسمه أوسلة بن خيار بن ربيعة بن مالك بن زيد بن كهلان.
وخثعم وبجيلة ابنا أنمار بن نزار بن عمرو بن الحبار بن الغوث بن نبت بن مالك بن زيد بن كهلان.
والأزد بن الغوث بن نبت بن مالك بن زيد بن كهلان. فمن قبائل الأزد: عك بن عدنان بن الذنب بن عبد الله بن الأزد، على أن عكا تنسب إلى عدنان ابن أدد، والعتيك بن أسد بن عمرو ابن الأزد، وغسان، وهو مازن ابن الأزد.
فمن قبائل غسان خزاعة، وهو ربيعة بن حارثة بن عمرو بن عامر بن حارثة بن امرىء القيس بن ثعلبة بن غسان بن وادعه بن عمران بن عامر بن حارثة بن امرىء القيس، و الأوس والخزرج ابنا حارثة بن ثعلبة بن غسان، قال حسان بن ثابت الأنصاري:
ونحن بنو الغوث بن نبت بن مالك ب ... ن زيد بن كهلان وأهل المفاخر
ومن قبائل حمير قضاعة، وقضاعة، فيما يزعم النسابون، ابن نزار بن معد بن عدنان، وكان
نزار يكنى أبا قضاعة.
فمن قبائل قضاعة: نهد بن زيد بن ليث بن سود بن أسلم بن الحاف بن قضاعة، وجهينة بن زيد بن ليث بن سود بن أسلم بن الحاف بن قضاعة، وعذرة بن سعد بن زيد بن ليث بن سود ابن أسلم بن الحاف بن قضاعة، وسليح ابن حلوان بن عمران بن الحاف بن قضاعة، وكلب بن وبرة بن تغلب بن حلوان ابن عمران بن الحاف بن قضاعة، والقين بن جسر بن الأسد بن وبرة بن تغلب ابن حلوان، وتنوخ، وهو مالك بن فهم بن تيم الله بن الأسد بن وبرة بن تغلب بن حلوان، فهذه جماهير قضاعة.
ومن حمير بن سبا: الصدف بن سهل بن عمرو بن قيس بن معاوية بن جشم بن وائل بن عبد شمس بن الغوث بن قطن بن عريب بن زهير بن الهميسع ابن حمير بن سبا بن يشجب بن يعرب بن قحطان.
والناس في حضرموت مختلفون، وقد ذكر قوم انهم من الأمم الخالية التي تقطعت مثل طسم، وجديس، وعملاق، وعاد، وثمود، وعبس الأولى، وأوبار، وجرهم.
وكان تفرق أهل اليمن في البلاد وخروجهم عن ديارهم بسبب سيل العرم، وكان أول ذلك، على ما حملته الرواة: أن عمرو بن عامر بن حارثة بن امرىء القيس بن ثعلبة بن مازن بن الأزد كان رئيس القوم، وكان كاهناً، فرأى أن بلاد اليمن تغرق، فأظهر غضبه على بعض ولده، وباع مرباعه، وخرج هو وأهل بيته ، فصار إلى بلاد عك، ثم ارتحلوا إلى نجران، فحاربتهم مذحج، ثم ارتحلوا عن نجران، فمروا بمكة، وبها يومئذ جرهم، فحاربوهم حتى أخرجوهم عن البلد، فصاروا إلى الجحفة، ثم ارتحلوا إلى يثرب، فتخلف بها الأوس والخزرج ابنا حارثة بن ثعلبة بن عمرو بن عامر، ولحق بهم جماعة من الأزد غير ابني حارثة، فصار بعضهم حلفاء، ودخل بعضهم معهم.
وتفرقت الأزد بيثرب، وكانت يثرب منازل اليهود، فنازعتهم، وغلبتهم اليهود بكثرتهم، وقهروهم، حتى كان الرجل من اليهود ليأتي منزل الأنصاري، فلا يمكنه دفعه عن أهله وماله، حتى دخل رجل منهم يقال له الفطيون إلى دار مالك بن العجلان، فوثب عليه، فقتله، ثم صار إلى بعض ملوك اليمن فشكا إليه ما يلقون من اليهود، فسار ذلك الملك إليهم بجيشه حتى قتل من اليهود مقتلة عظيمة، فصلحت حال الأوس والخزرج وغرس النخل، وأنشأوا المنازل. وسار باقي القوم يؤمون الشام، حتى صاروا إلى أرض السراة، فأقام أزد شنوءة بالسراة وما حولها، وخرج منهم قبائل إلى عمان، فكان أول من صار منهم إلى عمان: مالك بن فهم بن غنم ابن دوس بن عدثان بن عبد الله بن زهران ابن كعب بن الحارث بن كعب بن عبد الله بن مالك بن نصر بن الأزد، وتزوج مالك بامرأة من عبد القيس، فولدت له عدة أولاد، فيقال إن أصغر ولده قتله إذ كان معه في إبل له، فقام مالك بن فهم يطوف في الإبل، فرفع رأسه، فتوهمه ابنه سارقاً، فرماه فقتله، وكان يقال لأمه سليمة، فيقال إن مالك ابن فهم قال:
أعلمه الرماية كل يومٍ ... فلما استد ساعده رماني
ثم لحق بعد مالك بن فهم جماعة من بطون الأزد منهم: الربيعة وعمران بنو عمرو بن عدي ابن حارثة بن عمرو بن عامر، وهم: بارق، وغالب، ويشكر بن قيس بن صعب بن دهمان، وقوم من عامر، وقوم من حوالة بعمان، فلما صاروا بعمان انتشروا بالبحرين وهجر.
وكان بأرض تهامة من الأزد الجدرة وهم من ولد عمرو بن خزيمة بن جعثمة بن يشكر بن مبشر بن صعب بن دهمان بن نصر بن زهران بن كعب بن الحارث بن كعب بن مالك بن نصر بن الأزد، وذلك أن عمرا بنى جدار الكعبة، فسمي الجادر، وسار منهم نفر إلى هراة من أرض خراسان.
وسارت غسان إلى الشام، حتى نزلت بأرض البلقاء، وكان بالشام قوم من سليح قد دخلوا ذمة الروم، وتنصروا، فسألتهم غسان أن تدخل معهم في ذلك، فكتبوا إلى ملك الروم، فأجابهم ملك الروم إلى ذلك، ثم ساء مجاورتهم عامله على دمشق، فحمل عليهم صاحب الروم بجماعة من العرب من قضاعة من قبل ملك الروم ثم إن غسان طلبت الصلح، فأجابهم ملك الروم، وكان رئيس غسان يومئذ جفنة بن علية بن عمرو بن عامر، فتنصرت غسان، فأقامت بالشام مملكة من قبل صاحب الروم وسار ولد حوالة بن الهنو بن الأزد إلى الموصل، فنزلوها، وكان أهل اليمن يرون أن بلدهم يغرق من سد مأرب ، فحصنوه، وحرسوه، فلما بعث الله عليهم سيل العرم دخل عليهم الماء من جحر لجرذ كان يحفر في السد، فغرقهم.
ملوك الشأم
وكانت الشام دار ملك بني إسرائيل، فيقال إن أول من ملك بدمشق بالغ بن بعور.
ثم ملك يوباب، وهو أيوب بن زارح الصديق، وكان من خبره ما قد قصة الله، عز وجل.
ثم ملك مينسوس، وكانت بنو إسرائيل تحاربهم.
ثم ملك هوسير من أهل لد.
ثم انقطعت الممالك، فكانت ملوك بني إسرائيل، حتى انقرضوا.
وغلبت الروم على ملكها، فخرج القوم عن البلاد، فكانت قضاعة أول من قدم الشأم من العرب، فصارت إلى ملوك الروم فملكوهم، فكان أول الملك لتنوخ بن مالك بن فهم بن تيم الله ابن الأسد بن وبرة بن تغلب بن حلوان ابن عمران بن الحاف بن قضاعة، فدخلوا في دين النصرانية، فملكهم ملك الروم على من ببلاد الشام من العرب، فكان أول من ملك منهم: النعمان بن عمرو بن مالك.
ثم غلبت بنو سليح، وهم بنو سليح بن حلوان بن عمران بن الحاف بن قضاعة، وأقامت بنو سليح زماناً على ذلك، فلما تفرقت الأزد، وصار من صار منهم إلى تهامة، ومن صار إلى يثرب، ومن صار إلى عمان وغير ذلك من البلدان، فصارت غسان إلى الشأم، فقدموا أرض البلقاء، فسألوا سليحاً أن يدخلوا معهم فيما دخلوا فيه من طاعة ملك الروم، وأن يقيموا في البلاد، لهم ما لهم وعليهم ما عليهم، فكتب رئيس سليح، وهو يومئذ دهمان بن العملق، إلى ملك الروم، وهو يومئذ نوشر، وكان منزله أنطاكية، فأجابهم إلى ذلك، وشرط عليهم شروطاً، فأقاموا.
ثم جرى بينهم وبين ملك الروم مشاجرة بسبب الإتاوة التي يقبضها ملك الروم، حتى أن رجلاً من غسان يقال له جذع ضرب رجلاً من أصحاب ملك الروم بسيفه، فقتله، فقال بعضهم: خذ من جذع ما أعطاك! فذهب مثلاً، فحاربهم صاحب الروم، فأقاموا ملياً يحاربونه ببصري من أرض دمشق، ثم صاروا إلى المخفف، فلما رأى ملك الروم صبرهم على الحرب، ومقاومتهم جيوشه، كره أن تكون ثلمة عليهم، وطلب القوم الصلح على أن لا يكون عليهم ملك من غيرهم، فأجابهم ملك الروم إلى ذلك، فملك عليهم جفنة ابن علية بن عمرو بن عامر، واستقام الذي بينهم وبين الروم، وصارت أمورهم واحدة.
وكان أول ملك جل قدره وعلا ذكره من غسان، بعد جفنة بن علية: الحارث بن مالك بن الحارث بن غضب بن جشم بن الخزرج بن حارثة بن ثعلبة بن عمرو بن عامر بن ثعلبة بن حارثة بن عدي بن امرىء القيس بن مازن بن الأزد.
وملك بعده الحارث الأكبر بن كعب بن علية بن عمرو بن عامر وكعب هو جفنة، وهو ابن مارية، وأمه مارية بنت عاديا بن عامر.
ثم ملك أخوه الحارث الأعرج فنزل الجولان.
ثم ملك أخوه الحارث الأصغر.
ثم ملك جبلة بن المنذر.
ثم ملك الحارث بن جبلة.
ثم ملك الأيهم بن جبلة.
ثم جبلة بن الأيهم.
وكان الحارث بن أبي شمر بن الأيهم مملكاً بالأردن، وكان منزل جبلة دمشق، وفي جبلة بن الأيهم وأهله يقول حسان بن ثابت:
لله در عصابةٍ نادمتهم ... يوماً بجلق، في الزمان الأول
بيض الوجوه كريمة أحسابهم ... شم الأنوف من الطراز الأول
أولاد جفنة حول قبر أبيهم ... قبر ابن مارية الكريم المفضل
يغشون حتى ما تهر كلابهم ... لا يسألون عن السواد المقبل
يسقون من ورد البريص عليهم ... بردى يصفق بالرحيق السلسل
ملوك الحيرة من اليمنقالت الرواة، وأهل العلم: إنه لما تفرق أهل اليمن قدم مالك بن فهم بن غنم بن دوس، حتى نزل أرض العراق في أيام ملوك الطوائف، فأصاب قوماً من العرب من معد وغيرهم بالجزيرة فملكوه عشرين سنة.
ثم أقبل جذيمة الأبرش، فتكهن، وعمل صنمين يقال لهما الضيزنان، فاستهوى أحياء من أحياء العرب، حتى صار بهم إلى أرض العراق، وبها دار اياد بن نزار، وكانت ديارهم بين أرض الجزيرة إلى أرض البصرة، فحاربوه، حتى إذا صار إلى ناحية يقال لها بقة على شط الفرات، بالقرب من الأنبار، وكان يملك الناحية امرأة يقال لها الزباء، وكانت شديدة الزهادة في الرجال، فلما صار جذيمة إلى أرض الأنبار، واجتمع له من أجناده ما اجتمع، قال لأصحابه: إني قد عزمت على أن أرسل إلى الزباء، فأتزوجها، وأجمع ملكها إلى ملكي! فقال غلام له يقال له قصير: إن الزباء لو كانت ممن تنكح الرجال لسبقت إليها! فكتب إليها، فكتبت إليه: أن أقبل إلى أزوجك نفسي فارتحل إليها، فقال له قصير: لم أر رجلاً يزف إلى امرأة قبلك، وهذه فرسك العصا قد صنعتها، فاركبها، وأنج بنفسك! فلم يفعل، فلما دخل عليها كشفت عن فخذها، فقالت: أدأب عروس ترى؟ قال: دأب فاجرة، بظراء، غادرة. فقطعته الزباء، وركب قصير الفرس العصا ونجا.
ولما قتل جذيمة ملك مكانه ابن أخته عمرو بن عدي بن نصر بن ربيعة بن عمرو بن الحارث ابن مالك بن عمم بن نمارة بن لخم، فقال قصير لعمرو: لا تعصني أنت! قال: قل ما بدا لك! قال: أجدع أنفي، واقطع أذني، وخلني! ففعل ذلك، فصار إلى الزباء، وقال: إني كنت من النصح لجذيمة على ما رأيت، ولعمرو ابن أخته، حتى ملكته، فكان جزائي عنده أن فعل بي ما ترين، فجئتك لأكون في خدمتك، ولعل الله أن يجري قتل عمرو على يدك.
ولم يزل يحتال لها حتى وجهته في تجارة فأتاها بأموال كثيرة مرةً بعد مرة، فأعجبها ذلك، فوثقت به، فلما استحكمت ثقتها به صار إلى عمرو، فقال: أقعد الرجال في الصناديق! فحمل أربعة آلاف رجل على ألفي جمل، معهم السيوف، ثم أدخلهم مدينتها، وفيهم عمرو، وفرق الصناديق في منازل أصحابها، وأدخل عدة منها دارها، فلما كان الليل خرجوا، وقتلوا الزباء وخلقاً من أهل مملكتها. وملك عمرو بن عدي خمساً وخمسين سنة.
ثم ملك امرؤ القيس بن عمرو خمساً وثلاثين سنة.
ثم ملك أخوه الحارث بن عمرو سبعاً وثمانين سنة.
ثم ملك عمرو بن امرىء القيس بن عمرو بن عدي أربعين سنة.
ثم ملك المنذر بن امرىء القيس، وهو محرق، وإنما سمي محرقاً لأنه أخذ قوماً حاربوه، فحرقهم، فسمي لذلك محرقاً.
ثم ملك النعمان، وهو الذي بنى الخورنق، فبينما هو جالس ينظر منه إلى ما بين يديه من الفرات وما عليه من النخل والأجنة والأشجار، إذ ذكر الموت، فقال: وما ينفع هذا مع نزول الموت وفراق الدنيا! فتنسك، واعتزل الملك، وإياه عنى عدي بن زيد حيث يقول:
وتفكر رب الخورنق إذ أش ... رف يوماً وللهدى تفكير
سره حاله، وكثرة ما يم ... لك، والبحر معرض، والسدير
فارعوى قلبه، وقال: وما غب ... طة حيٍ إلى الممات يصير؟
وملك بعده المنذر بن النعمان ثلاثين سنة.
ثم ملك عمرو بن المنذر، وهو الذي قتل الحارث بن ظالم عنده خالد بن جعفر بن كلاب، فنذر دمه، وطلبه، فطلب الحارث ابنه، وكان مسترضعاً في آل سنان، فقتله.
ثم ملك عمرو بن المنذر الثاني، وهو ابن هند، وكان يلقب مضرط الحجارة، وكان قد جعل الدهر يومين: يوماً يصيد فيه، ويوماً يشرب، فإذا جلس لشربه أخذ الناس بالوقوف على بابه، حتى يرتفع مجلس شرابه، فقال فيه طرفة بن العبد:
فليت لنا مكان الملك عمرو ... رغوثاً، حول حجرتنا تخور
قسمت الدهر في زمنٍ رخيٍ ... كذاك الدهر يعدل، أو يجور
من الزمرات أسبل قادماها ... فضرتها مركنة درور
لعمرك! إن قابوس بن هندٍ ... ليخلط ملكه نوك كثير
لنا يوم، وللكروان يوم ... تطير البائسات، ولا نطير
فأما يومهن، فيوم سوءٍ ... تطاردهن بالخسف الصقور
وأما يومنا، فنظل ركباً ... وقوفاً لا نحل، ولا نسير
ولم يزل طرفة يهجوه ويهجو أخاه قابوساً، ويذكرهما بالقبيح، ويشبب بأخت عمرو، ويذكرها بالعظيم، فكان مما قال فيه:
إن شرار الملوك قد علموا ... طراً، وأدناهم من الدنس
عمرو، وقابوس، وابن أمهما ... من يأتهم للخنا بمحتبس
يأت الذي لا تخاف سبته ... عمرو وقابوس قينتا عرس
يصبح عمرو على الأمور ... وقد خضخض ما للرجال كالفرس
وكان المتلمس حليفاً لطرفة، فكان يساعده على هجائه، فقال لهما عمرو: قد طال ثواكما، ولا مال قبلي، ولكن قد كتبت لكما إلى عاملي بالبحرين يدفع لكل واحد منكما مائة ألف درهم، فأخذ كل واحد منهما صحيفة، فاستراب المتلمس بأمره، فلما صارا عند نهر الحيرة لقيا غلاماً عبادياً فقال له المتلمس: أ تحسن أن تقرأ؟ قال: نعم! قال: اقرأ هذه الصحيفة! فإذا فيها: إذا أتاك المتلمس، فاقطع يديه ورجليه، فطرح الصحيفة، وقال لطرفة: في صحيفتك مثل هذا، قال: ليس يجترىء على قومي بهذا، وأنا بذلك البلد أعز منه. فمضى طرفة إلى عامل البحرين، فلما قرأ صحيفته قطع يديه ورجليه، وصلبه.
ثم ملك أخوه قابوس بن المنذر.
ثم ملك المنذر بن المنذر أربع سنين، وكان هؤلاء الملوك من قبل الأكاسرة يؤدون إليهم الطاعة، ويحملون الخراج.
وكانت قبائل معد مجتمعة عليهم، وكان أشدها امتناعاً غطفان وأسد بن خزيمة، وكان يأتيهم الرجل من معد على جهة الزيارة، فيحيونه ويكرمونه، وكان ضمن إياهم من رؤساء القبائل الربيع بن زياد العبسي، والحارث بن ظالم المري، وسنان بن أبي حارثة والنابغة الذبياني الشاعر، وكانت الملوك تعظم الشعراء، وترفع أقدارهم لما يبقون لهم من المدح والذكر، فكان النابغة مقدماً عند ملوكهم، ثم شبب بامرأة المنذر في قصيدته التي يقول فيها:
سقط النصيف، ولم ترد إسقاطه ... فتناولته واتقتنا باليد
فنذر المنذر دمه، فهرب إلى الشام إلى ملوك غسان ثم اعتذر إلى المنذر يشعره الذي يقول فيه:
فإنك كالليل الذي هو مدركي ... وإن خلت أن المنتأى عنك واسع
ويقول:
نبئت أن أبا قابوس أوعدني ... ولا قرار على زأرٍ من الأسد
وكان مع المنذر أهل بيت من بني امرىء القيس بن زيد مناة بن تميم، وكان من أهل ذلك البيت عدي بن زيد العبادي، وكان خطيباً شاعراً قد كتب العربية والفارسية، وكان المنذر قد جعل عندهم ابنه النعمان، فأرضعوه، وكان في حجورهم، فكتب كسرى إلى المنذر أن يبعث له بقوم من العرب يترجمون الكتب له، فبعث بعدي بن زيد وأخوين له، فكانوا في كتابه يترجمون له، فلما مات المنذر قال كسرى لعدي بن زيد: هل بقي أحد من أهل هذا البيت يصلح للملك؟ قال: نعم! إن للمنذر ثلاثة عشر ولداً، كلهم يصلح لما يريد الملك، فبعث، فأقدمهم، وكانوا من أجمل أهل بيت المنذر، إلا ما كان من النعمان، فإنه كان أحمر أبرش قصيراً، فكان أهل بيت عدي بن زيد الذين ربوه، وأمه سبية يقال لها سلمى، يقال إنها من كلب فأنزلهم عدي بن زيد كل واحد على حدته، وكان يفضل أخوه النعمان عليه في النزل، ويريهم أنه لا يرجوه، ويخلو بهم رجلاً رجلاً، ويقول لهم: إن سألكم الملك هل تكفوني العرب؟ فقولوا له: لن نكفيكهم، إلا النعمان.
وقال للنعمان: إن سألك الملك عن إخوتك، فقل: إن عجزت عنهم، فأنا عن العرب أعجز.
وكان من بني المنذر رجل يقال له الأسود، وكانت أمه من بني الرباب، وكان من الرجال، وكان يحضنه أهل بيت من الحيرة يقال لهم بنو مرينا، كانوا أشرافاً، وكان منهم رجل يقال له عدي بن أوس بن مرينا، كان مارداً شاعراً، وكان يقول للأسود بن المنذر: أخي النعمان، إنك قد عرفت أني لك راج، وأن طلبتي إليك ورغبتي أن تخالف عدي بن زيد، فإنه والله ما ينصحك أبداً! فلم يلتفت إلى قوله، فلما أمر كسرى عدي بن زيد أن يدخلهم عليه، جعل يدخلهم رجلاً رجلاً، فكان يرى رجالاً ما رأى مثلهم، فإذا سألهم: هل تكفوني ما كنتم تكفون؟ قالوا: لن نكفيك العرب، إلا النعمان. فلما دخل عليه النعمان رأى رجلاً وسيماً، فكلمه فقال: هل تستطيع أن تكفيني العرب؟ قال: نعم! قال: فكيف تصنع بإخوتك؟ قال: إن عجزت عنهم، فأنا عن غيرهم أعجز! فملكه، وكساه وألبسه اللؤلؤ، فلما خرج وقد ملك قال عدي بن أوس بن مرينا للأسود: دونك قد خالفت الرأي.
ومضى النعمان مملكاً على عدي بن مرينا، فأمر قوماً من خاصة النعمان وأصحابه أن يذكروا عدي بن زيد عنده، ويقولوا: إنه يزعم أن الملك عامله، وأنه هو ولاه، ولولاه ما ولي، وكلاماً
نحو هذا، فلم يزالوا يتكلمون بحضرة النعمان، حتى احفظوه واغضبوه على عدي بن زيد، فكتب النعمان إلى عدي: عزمت عليك إلا زرتني! فاستأذن كسرى، وقدم عليه فلما صار إلى النعمان أمر بحبسه في حبس لا يصل إليه فيه أحد.
وكان له مع كسرى أخوان يقال لأحدهما أبي والآخر سمي، وكانا عند كسرى، وكان أحدهما يسره هلاكه، والآخر يحب صلاحه، فجعل عدي يقول الشعر في محبسه، ويستعطف النعمان، ويذكر له حرمته، ويغظه بذكر الملوك المتقدمين، فلم ينفعه ذلك، وجعل أعداؤه من آل مرينا يحملون عليه النعمان، ويقولون له: إن أفلت قتلك، وكان سبب هلاكك، فلما يئس عدي أن يجد عند النعمان خيراً كتب إلى أخيه:
أبلغ أبياً على نأيه ... وهل ينفع المرء ما قد علم
بان أخاك شقيق الفؤا ... د وكنت به والهاً ما سلم
لدى ملك موثق بالحدي ... د إما بحق، وأما ظلم
فلا تلفين كذاك الغلا ... م ألا تجد عارماً يعتزم
فأرضك أرضك إن تأتنا ... تنم نومةً ليس فيها حلم
وكتب إلى ابنه عمرو بن عدي، وكانت له ناحية من كسرى:
لمن ليل بذي حبس طويل ... عظيم شقه، حزن، دخيل
وما ظلم امرىء في الجيد غل ... وفي الساقين ذو حلق طويل
ألا هبلتك أمك، عمرو بعدي ... أتقعد لا أفك، ولا تصول
ألم يحزنك أن أباك عانٍ ... وأنت مغيب غالتك غول
تغنيك ابنة القين ابن جسر ... وفي كلب فيصحبك الشمول
فلو كنت الأسير، ولا تكنه ... إذا علمت معد ما أقول
وإن أهلك، فقد أبليت قومي ... بلاء كله حسن جميل
وما قصرت في طلب المعالي ... فتقصرني المنية، أو تطول
فقام أخوه وابنه ومن معهما إلى كسرى فكلماه في أمره، فكتب كسرى إلى النعمان يأمره بتخلية سبيله، ووجه في ذلك رسولاً قال: فسأل أبي بن زيد الرسول أن يبتدىء بعدي، فابتدأ الرسول به، فقال عدي: إنك إن فارقتني قتلت! قال: كلا! إنه لا يجترىء النعمان على الملك! فبلغ النعمان مصير رسول كسرى إلى عدي، فلما خرج من عنده، وجه إليه النعمان من قتله، ووضع على وجهه وسادة، حتى مات، ثم قال للرسول: إن عدياً قد مات، وأعطاه وأجازه، وتوثق منه ألا يخبر كسرى إلا أنه وجده ميتاً، وكتب إلى كسرى أنه مات.
وكان عمرو بن عدي يترجم الكتب لكسرى، وطلب كسرى جارية، ووصف صفتها، فلم توجد له، فقال له عمرو بن عدي بن زيد: أيها الملك! عند عبدك النعمان بنات له وقرابات على أكثر مما يطلب الملك، ولكنه يرغب بنفسه عن الملك، ويزعم أنه خير منه، فوجه كسرى إلى النعمان يأمره أن يبعث إليه ابنته ليتزوجها، فقال النعمان: أما في عين السواد وفارس ما بلغ الملك حاجته؟ فلما انصرف الرسول خبر كسرى بقول النعمان، فقال كسرى: وما يعني بالعين؟ قال عمرو بن عدي بن زيد: أراد البقر، ذهاباً بابنته عن الملك، فغضب كسرى، وقال: رب عبد قد صار إلى أكبر من هذا، ثم صار أمره إلى تباب! فبلغت النعمان، فاستعد.
وأمسك عنه كسرى شهراً، ثم كتب إليه بالقدوم عليه، فعلم النعمان ما أراد، فحمل سلاحه وما قوي عليه، ولحق بجبلي طي وكانت سعدى بنت حارثة عنده، فسأل طيئاً أن يمنعوه من كسرى، فقالوا: لا قوة لنا به! فانصرف عنهم، وجعلت العرب تمتنع من قبوله، حتى نزل في بطن ذي قار، في بني شيبان، فلقي هانىء بن مسعود بن عامر بن عمرو بن أبي ربيعة بن ذهل بن شيبان، فدفع إليه سلاحه، وأودعه بنته وحرمته، ومضى إلى كسرى، فنزل ببابه، فأمر به فقيد، ثم وجه به إلى خانقين، فلقيه عمرو بن عدي بن زيد، فقال: يا نعيم! تصغيراً به، لقد شددت لك أواخي لا يقلعها إلا المهر الأرن! فقال: أرجو أن تكون قد قرنتها بقارح! فلما مضى به إلى خانقين طرح به تحت الفيلة، فداسته، حتى قتلته، وقرب للأسود فأكلته.
ووجه كسرى إلى هانىء بن مسعود: أن ابعث إلى مال عبدي الذي عندك وسلاحه وبناته، فلم يفعل هانىء، فوجه إليه كسرى بجيش، فاجتمعت ربيعة، وكانت وقعة ذي قار، فمزقت العرب العجم، وكان أول يوم ظفرت فيه العرب بالعجم.
ويروي عن رسول الله أنه قال: هذا أول يوم انتصفت فيه العرب من العجم، وبي نصروا.
حرب كندةوكان بين كندة وحضرموت حروب أفنت عامتهم، وكانت كندة قد اجتمعت على رجلين أحدهما سعيد بن عمرو بن النعمان بن وهب، وكان على بني الحارث بن معاوية عمرو بن زيد، وشرحبيل بن الحارث على السكون، واجتمعت حضرموت على عدة رؤساء منهم: مسعر بن مستعر، وسلامة بن حجر، وشراحيل بن مرة وعدة بعد هؤلاء، فزال هؤلاء كلهم. وطالت الحرب بينهم، وفتنت رجالهم، ودامت حتى ضرستهم، وكثر القتل في كندة.
وملكت حضرموت علقمة بن ثعلب، وهو يومئذ غلام، فلأنت كندة بعض اللين وكرهت محاربة حضرموت، ودخل أهل اليمن التشتيت والتفريق، فلما افترق أهل اليمن وانتشروا في البلاد ملك كل قوم عظيمهم، وصارت كندة إلى أرض معد، فجاورتهم، ثم ملكوا رجلاً منهم كان أول ملوكهم يقال له مرتع بن معاوية بن ثور، فملك عشرين سنة.
ثم ملك ابنه ثور بن مرتع، فلم يقم إلا يسيراً حتى مات، فملك بعده معاوية بن ثور.
ثم ملك الحارث بن معاوية، فكان ملكه أربعين سنة.
ثم ملك وهب بن الحارث عشرين سنة.
ثم ملك بعده حجر بن عمرو، آكل المرار، ثلاثاً وعشرين سنة، وهو الذي حالف بين كندة وربيعة، وكان تحالفهم بالذنائب.
ثم ملك بعده عمرو بن حجر أربعين سنة، وغزا الشام، ومعه ربيعة، فلقيه الحارث بن أبي شمر، فقتله، فملك بعده الحارث بن عمرو، وأمه ابنة عوف بن محلم الشيباني، ونزل بالحيرة، وفرق ملكه على ولده.
وكان له أربعة أولاد: حجر، وشرحبيل، وسلمة الغلفاء، ومعديكرب، فملك حجراً في أسد وكنانة، وملك شرحبيل على غنم وطيء والرباب، وملك سلمة الغلفاء على تغلب والنمر بن قاسط، وملك معديكرب على قيس بن عيلان، وكانوا يجاورون ملوك الحيرة فقتل الحارث، وقام ولده بما كان في أيديهم، وصبروا على قتال المنذر، حتى كافأوه.
فلما رأى المنذر تغلبهم على أرض العرب نفسهم ذلك، وأوقع بينهم الشرور، فوجه إلى سلمة الغلفاء بهدايا، ثم دس إلى شرحبيل من قال له: إن سلمة أكبر منك، وهذه الهدايا تأتيه من المنذر، فقطع الهدايا، فأخذها، ثم أغرى بينهما، حتى تحاربا، فقتل شرحبيل، فكانت معه تميم وضبة، فلما قتل خاف الناس أن يقولوا لأخيه سلمة: إن أخاك قد قتل، وجعل يسمع قولهم، فجزع لقتل أخيه، وندم على أن المنذر إنما أراد أن يقتل بعضهم بعضاً، فقال:
إن جنبي عن الفراش لناب ... كتجافي الأسر فوق الظراب
من حديث نمى إلي، فما ير ... قأ دمعي، ولا أسيغ شرابي
وتنكرت بنو أسد بحجر بن عمرو، وساءت سيرته فيهم، وكانت عنده فاطمة بنت ربيعة أخت كليب ومهلهل، فولدت له هنداً، فلما خاف على نفسه حملها، فاجتمعت بنو أسد على قتله، فقتلوه، وادعى قبائل من بني أسد قتل حجر، وكان القائم بأمر بني أسد علباء بن الحارث أحد بني ثعلبة.
وكان امرؤ القيس بن حجر غائباً، فلما بلغه مقتل أبيه جمع جمعاً، وقصد لبني أسد، فلما كان في الليلة التي أراد أن يغير عليهم في صبيحتها نزل بجمعه ذلك، فذعر القطا، فطار عن مجاثمة، فمر ببني أسد، فقالت بنت علباء: ما رأيت كالليلة قطا أكثر! فقال علباء: لو ترك القطا لغفا ونام، فأرسلها مثلاً.
وعرف أن جيشاً قد قرب منه، فارتحل، وأصبح امرؤ القيس، فأوقع بكنانة، فأصاب فيهم وجعل يقول: يا للثارات! فقالوا: والله ما نحن إلا من كنانة! فقال:
ألا يا لهف نفسي، بعد قوم ... هم كانوا الشفاء، فلم يصابوا
وقاهم جدهم ببني أبيهم ... وبالأشقين ما كان العقاب
وأفلتهن علباء جريضاً ... ولو أدركنه صفر الوطاب
وفي هذا الوقت يقول عبيد بن الأبرص الأسدي لامرىء القيس بن حجر في قصيدة طويلة:
يا ذا المعيرنا بقت ... ل أبيه إذلالاً وحينا
أزعمت أنك قد قت ... لت سراتنا كذباً ومينا
هلا على حجر بن أ ... م قطام تبكي لا علينا
إنا إذا عض الثقا ... ف برأس صعدتنا لوينا
نحمي حقيقتنا، وبع ... ض القوم يسقط بين بينا
وفي هذا يقول أيضاً عبيد في قصيدة له طويلة:
يا أيها السائل عن مجدنا ... إنك مستغبى بنا جاهل
إن كنت لم تأتك أنباؤنا ... فاسأل بنا يا أيها السائل
سائل بنا حجراً، غداة الوغى ... يوم يؤتى جمعه الحافل
يوم لقوا سعداً على مأقط ... وحاولت من خلفه كاهل
فأوردوا سرباً له ذبلاً ... كأنهن اللهب الشاعل
ومضى امرؤ القيس إلى اليمن لما لم يكن به قوة على بني أسد ومن معهم من قيس، فأقام زماناً، وكان يدمن مع ندامى له، فأشرف يوماً، فإذا براكب مقبل، فسأله من أين أقبلت؟ قال: من نجد! فسقاه مما كان يشرب، فلما أخذت منه الخمرة رفع عقيرته، وقال:
سقينا امرأ القيس بن حجر بن حارثٍ ... كؤوس الشجا حتى تعود بالقهر
وألهاه شرب ناعمٍ وقراقرٍ ... وأعياه ثأر كان يطلب في حجر
وذاك لعمري كان أسهل مشرعاً ... عليه من البيض الصوارم والسمر
ففزع امرؤ القيس لذلك، ثم قال: يا أخا أهل الحجاز! من قائل هذا الشعر؟ قال: عبيد بن الأبرص. قال: صدقت! ثم ركب، واستنجد قومه، فأمدوه بخمسمائة من مذحج، فخرج إلى أرض معد، فأوقع بقبائل من معد، وقتل الأشقر بن عمرو، وهو سيد بني أسد، وشرب في قحف رأسه، وقال امرؤ القيس في شعر له:
قولا لدودان: عبيد العصا ... ما غركم بالأسد الباسل
يا أيها السائل عن شأننا ... ليس الذي يعلم كالجاهل
حلت لي الخمر، وكنت امرأً ... عن شربها في شغلٍ شاغل
وطلب قبائل معد امرأ القيس، وذهب من كان معه، وبلغه أن المنذر ملك الحيرة قد نذر دمه، فأراد الرجوع إلى اليمن، فخاف حضرموت، وطلبته بنو أسد وقبائل معد، فلما علم أنه لا قوة به على طلب المنذر واجتماع قبائل معد على طلبه، ولم يمكنه الرجوع، سار إلى سعد بن الضباب الإيادي، وكان عاملاً لكسرى على بعض كور العراق، فاستتر عنده حيناً، حتى مات سعد بن الضباب، فلما مات سعد خرج امرؤ القيس إلى جبلي طي، فلقي طريف بن الطائي، فسأله أن يجيره، فقال: والله ما لي من الجبلين إلا موضع ناري! فنزل بقوم من طيء ثم لم يزل ينتقل في طيء مرة، وفي جديلة مرة وفي نبهان مرة، حتى صار إلى تيماء، فنزل بالسموأل بن عادياء، فسأله أن يجيره، فقال له: أنا لا أجير على الملوك، ولا أطيق حربهم، فأودعه أدراعاً، وانصرف عنه يريد ملك الروم حتى صار إلى قيصر ملك الروم، فاستنصره، فوجه معه تسعمائة من أبناء البطارقة.
وكان امرؤ القيس قد مدح قيصر فسار الطماح الأسدي إلى قيصر فقال له: إن امرأ القيس شتمك في شعره وزعم أنك علج اغلف، فوجه قيصر إلى امرىء القيس بحلة قد نضح فيها السم، فلما ألبسها تقطع جلده وأيقن بالموت فقال:
تأوبني دائي القديم فغلسا ... أحاذر أن يزداد دائي، فانكسا
لقد طمح الطماح، من بعد أرضه ... ليلبسني من دائه ما تلبسا
فلو أنها نفس تموت جميعة ... ولكنها نفس تساقط أنفسا
وهذه الأبيات في قصيدة له طويلة. وقال أيضاً في حاله تلك:
ألا أبلغ بني حجر بن عمرو ... وأبلغ ذلك الحي الحريدا
بأني قد بقيت بقاء نفس ... ولم أخلق سلاماً أو حديداً
ولو أني هلكت بأرض قومي ... لقلت الموت حق لا خلودا
ولكني هلكت بأرض قومٍ ... سحيقاً، من دياركم، بعيدا
بأرض الشأم لا نسب قريب ... ولا شاف فيسعف أو يجودا
ومات امرؤ القيس بأنقرة من أرض الروم.
ولد إسماعيل بن إبراهيموإنما أخرنا خبر إسماعيل وولده، وختمنا بهم أخبار الأمم، لأن الله، عز وجل، ختم بهم النبوة والملك، واتصل خبرهم بخبر رسول الله والخلفاء.
ذكرت الرواة والعلماء: أن إسماعيل بن إبراهيم أول من نطق بالعربية، وعمر بيت الله الحرام بعد أبيه إبراهيم، وقام بالمناسك، وأنه كان أول من ركب الخيل العتاق، وكانت قبل ذلك وحوشاً لا تركب.
وقال بعضهم: إن إسماعيل أول من شق الله فاه باللسان العربي، فلما شب أعطاه الله القوس العربية، فرمى عنها، وكان لا يرمي شيئاً إلا أصابه، فلما بلغ أخرج الله من البحر مائة فرس، فأقامت ترعى بمكة ما شاء الله، ثم ساقها الله إليه، فأصبح وهي على بابه، فرسنها وركبها، وأنتجها، وكانت دواب الناس البراذين، وركبها إسماعيل وبنوه وولده، وفي إسماعيل يقول بعض شعراء معد:
أبونا الذي لم تركب الخيل قبله ... ولم يدر شيخ قبله كيف تركب
ويقال إنما سميت أجياد مكة لأن الخيل كانت فيها، فأوحى الله، عز وجل، إلى إسماعيل أن يأتي الخيل، فأتاها، فلم تبق فرس إلا أمكنته من ناصيتها، فركبها وركبها ولده، فكان إسماعيل أول من ركب الخيل، وأول من اتخذها، وأول من نفى أهل المعاصي عن الحرم، فقال: أعربه! فسميت العربة بذلك.
وكان ولد جرهم بن عامر، لما صار إخوتهم من بني قحطان بن عامر إلى اليمن فملكوا صاروا هم إلى أرض تهامة فججاوروا إسماعيل بن إبراهيم، فتزوج إسماعيل الحتفاء بنت الحارث بن مضاض الجرهمي، فولدت له اثني عشر ذكراً، وهم: قيدار، ونابت، وأدبيل، و مبشام، ومسمع، ودوما، ومسا، وحداد، وتيما، ويطور، ونافس، وقيدما، وهذه الأسماء تختلف في الهجاء واللغة لأنها مترجمة من العبرانية، فلما كملت لإسماعيل مائة وثلاثون سنة توفي، فدفن في الحجر، فلما توفي إسماعيل ولي البيت بعده نابت بن إسماعيل، ويقال وليه قيدار، وبعد قيدار نابت بن إسماعيل.
وافترق ولد إسماعيل يطلبون السعة في البلاد، وحبس قوم أنفسهم على الحرم، فقالوا: لا نبرح من حرم الله. ولما توفي نابت، وقد تفرق ولد إسماعيل، ولي البيت المضاض بن عمرو الجرهمي، جد ولد إسماعيل، وذلك أن من بقي في الحرم من ولد إسماعيل كانوا صغاراً، فلما ولي المضاض نازعه السميدع بن هوبر، ثم ظهر عليه المضاض، فمضى السميدع إلى الشأم، وهو أحد ملوك العمالقة واستقام الأمر لمضاض حتى توفي.
ثم ملك بعده الحارث بن مضاض، ثم ملك عمرو بن الحارث بن مضاض، ثم ملك المعتسم بن الظليم، ثم ملك الحواس بن جحش بن مضاض، ثم ملك عداد بن صداد بن جندل بن مضاض ثم ملك فتحص بن عداد بن صداد، ثم ملك الحارث بن مضاض بن عمرو وكان آخر من ملك من جرهم.
وطغت جرهم، وبغت، وظلمت، وفسقت في الحرم، فسلط الله عليهم الذر، فأهلكوا به عن آخرهم، وكان ولد إسماعيل منتشرين في البلاد يقهرون من ناواهم، غير أنهم كانوا يسلمون الملك لجرهم للخؤولة، وكانت جرهم تطيعهم في أيامهم، ولم يكن أحد يقوم بأمر الكعبة في أيام جرهم غير ولد إسماعيل تعظيماً منهم لهم، ومعرفة بقدرهم، فقام بأمر الكعبة بعد نابت أمين، ثم يشجب بن أمين، ثم الهميسع، ثم أدد، فعظم شأنه في قومه، وجل قدره، وأنكر على جرهم أفعالها، وهلكت جرهم في عصره، ثم عدنان بن أدد، ثم معد بن عدنان، ثم افترق ولد عدنان في البلاد، ولحق قوم منهم باليمن، منهم: عك، والديث، والنعمان، فولد لعك من بنت أرغم بن جماهر الأشعري، ثم هلك، وبقي ولده بعده، فانتموا إلى الأخوال والدار.
وكان عدنان أول من وضع الأنصاب وكسا الكعبة، وكان معد بن عدنان أشرف ولد إسماعيل في عصره، وكانت أمه من جرهم، ولم يبرح الحرم، فكان له من الولد عشرة أولاد، وهم: نزار، وقضاعة، وعبيد الرماح وقنص، وقناصة، وجنادة، وعوف، وأود، وسلهم، وجنب، وكان معد يكنى أبا قضاعة، فانتسب عامة ولد معد في اليمن، وكان لهم عدد كثير، وانتمت قضاعة إلى ملك حمير، وقضاعة، فيما يقال، ولد على فراش معد، وكان معد أول من وضع رحلاً على جمل وناقة، وأول من زمها بالنسع.
وكان نزار بن معد سيد بني أبيه وعظيمهم، ومقامه بمكة، وأمه ناعمة بنت جوشم بن عدي بن دب الجرهمية ، وكان له من الولد أربعة: مضر، واياد وربيعة، وأنمار، وأمهم سودة بنت عك بن عدنان، ويقال إن أم مضر وأياد حيية بنت عك بن عدنان، وأم ربيعة وأنمار جدالة بنت وعلان ابن جوشم الجرهمي.
ولما حضرت نزار الوفاة قسم ميراثه على ولده الأربعة، فأعطى مضر وأيادا وربيعة وأنمارا ماله، فمضر وربيعة: الصريحان من ولد إسماعيل، فأعطى مضر ناقته الحمراء وما أشبهها من الحمرة، فسمي مضر الحمراء، وأعطى ربيعة الفرس وما أشبهها، فسمي ربيعة الفرس، وأعطى إياداً غنمه وعصاه، وكانت الغنم برقاء، فسمي أياد البرقاء ويقال أياد العصا، وأعطى أنماراً جارية له تسمى بجيلة فسمي بها، وأمرهم أن تخالفوا أن يتحاكموا إلى الأفعى بن الأفعى الجرهمي، فكان منزله بنجران، فتحاكموا إليه.
فأما أنمار بن نزار، فإنه تزوج في اليمن، فانتسب ولده إلى الخؤولة، فمنهم: بجيلة وخثعم لم يخرج من ولد نزار غيرهم.
وأما ربيعة بن نزار، فإنه فارق إخوته، فصار مما يلي بطن عرق إلى بطن الفرات، فولد له أولاد منهم: أسد، وضبيعة، وأكلب، وتسعة بعدها، ولا ينسبون في اليمن.
وانتشر ولد ربيعة بن نزار وولد ولده حتى كثروا، وامتلأت منهم البلاد، فجماهير قبائل ربيعة: بهثة بن وهب بن جلي بن أحمس بن ضبيعة بن ربيعة، وعنزة بن أسد بن ربيعة، وعبد القيس ابن أفصى بن دعمي بن جديلة بن أسد بن ربيعة، ويشكر بن بكر بن وائل بن قاسط بن هنب ابن أفصى، وحنيفة بن لجيم بن صعب بن علي بن بكر بن وائل بن قاسط وعجل بن لجيم ابن صعب بن علي بن بكر، وقيس بن ثعلبة بن عكابة بن علي بن بكر، وتيم اللات بن ثعلبة بن عكابة.
وكانت الحكومة والرئاسة من ربيعة في بني ضبيعة ولد بهثة بن وهب بن جلي بن أحمس بن ضبيعة بن ربيعة، ثم تحولت الحكومة والرئاسة في ولد عنزة بن أسد بن ربيعة، ثم تحولت في عبد القيس بن أفصى بن دعمي بن جديلة بن أسد بن ربيعة، ثم سارت عبد القيس، حتى نزلت اليمامة بسبب حرب كانت بينهم وبين بني النمر بن قاسط، وكانت إياد باليمامة، فأجلوهم، ثم صارت الرئاسة في النمر بن قاسط، ثم تحولت من النمر بن قاسط فصارت في بني يشكر بن صعب بن علي بن بكر، ثم تحولت الرئاسة من يشكر بن صعب، فصارت في بني تغلب، ثم صارت في بني شيبان.
وكانت لربيعة أيام مشهورة وحروب معروفة، فمن مشهور أيامهم: يوم السلان، فإن مذحج أقبلت تريد غزو أهل تهامة ومن بها من أولاد معد، فاجتمع ولد معد لحرب مذحج وكان أكثرهم ربيعة، فرأسوا عليهم ربيعة بن الحارث بن مرة بن زهير بن جشم بن بكر، فالتقوا ومذحج بالسلان، فهزموا مذحجاً، وكان لهم الظفر.
وأما يوم خزاز، فإن اليمن أقبلت، وعليهم سلمة بن الحارث بن عمرو الكندي، فرأست ولد معد كليب بن ربيعة بن الحارث بن مرة، فلما رأى سلمة كثرة القوم استجار ببعض الملوك، فأمده، فالتقوا بخزاز، وعلى ولد معد كليب، ففضت جموع اليمن. وأما يوم الكلاب، فإن سلمة وشرحبيل ابني الحارث بن عمرو الكندي تحاربا، فكان مع سلمة ربيعة ومع شرحبيل قيس، فكثرت ربيعة قيساً، فقتلت شرحبيل بن الحارث بن عمرو، وكان لهم العلو.
وأما أيام البسوس فإنها بين بني شيبان وتغلب بسبب قتل جساس بن مرة بن ذهل بن شيبان كليب بن ربيعة بن الحارث بن مرة بن زهير بن جشم التغلبي، فاشتبكت الحرب، واتصلت حتى أفنتهم، ودامت أربعين سنة.
وأما يوم ذي قار، فإنه لما قتل كسرى أبرويز النعمان بن المنذر بعث إلى هانىء بن مسعود الشيباني: أن ابعث إلي ما كان عبدي النعمان استودعك من أهله وماله سلاحه، وكان النعمان أودعه ابنته وأربعة آلاف درع، فأبى هانىء وقومه أن يفعلوا، فوجه كسرى بالجيوش من العرب والعجم، فالتقوا بذي قار، فأتاهم حنظلة بن ثعلبة العجلي، فقلدوه أمرهم، فقالوا لهانىء: ذمتك ذمتنا: ولا نخفر ذمتنا، فحاربوا الفرس، فهزموهم ومن معهم من العرب وكان مع الفرس إياس بن قبيصة الطائي وغيره من أخوه معد وقحطان، فأتى عمرو بن عدي بن زيد كسرى، وأخبره الخبر، فخلع كتفه، فمات، فكان أول يوم انتصرت فيه العرب من العجم.
وأما إياد بن نزار، فإنه نزل اليمامة، فولد له أولاد انتسبوا في القبائل، فيقول النسابون: إن ثقيفاً قسي بن النبت بن منبه بن منصور بن يقدم بن أفصى بن دعمي بن أياد، وانهم انتسبوا إلى قيس.
وكانت ديار إياد، بعد اليمامة، الحيرة ومنازلهم الخورنق والسدير وبارق، ثم أجلاهم كسرى عن ديارهم، فأنزلهم تكريت، مدينة قديمة على شط دجلة، ثم أخرجهم عن تكريت إلى بلاد الروم، فنزلوا بأنقرة من أرض الروم، ورئيسهم يومئذ كعب بن مامة، ثم خرجوا بعد ذلك، فجماهير قبائل إياد أربعة: مالك، وحذاقة، ويقدم، ونزار، فهذه بطون إياد، وفيهم يقول الأسود ابن يعفر التميمي:
أهل الخورنق والسدير وبارقٍ ... والقصر ذي الشرفات من سنداد
الواطئون على صدور نعالهم ... يمشون في الدفني والأبراد
عفت الرياح على محل ديارهم ... فكأنما كانوا على ميعاد
نزلوا بأنقرةٍ يسيل عليهم ... ماء الفرات يجيء من أطواد
بلد تخيرها، لطول مقيلها ... كعب بن مامة وابن أم دؤاد
وذكر أبو دؤاد الأيادي بعض ذلك، وكان أبو دؤاد أشعر شعرائهم، وبعده لقيط بالعراق، فلما بلغه أن كسرى آلى على نفسه أن ينفي إياداً من تكريت، وهي من أرض الموصل، كتب صحيفة بعث بها إليهم، وفيها:
سلام في الصحيفة من لقيطٍ ... إلى من بالجزيرة من إياد
فإن الليث يأتيكم بياتاً ... فلا يشغلكم سوق النقاد
أتاكم منهم سبعون ألفاً ... يزجون الكتائب كالجراد
وأما مضر بن نزار، فسيد ولد أبيه، وكان كريماً حكيماً، ويروى عنه أنه قال لولده: من يزرع شراً يحصد ندامة، وخير الخير أعجله، فاحملوا أنفسكم على مكروهها، فيما أصلحكم، واصرفوها عن هواها، فيما أفسدكم، فليس بين الصلاح والفساد إلا صبر ووقاية.
وروي أن رسول الله قال: لا تسبوا مضر وربيعة، فإنهما كانا مسلمين، وفي حديث آخر: فإنهما كانا على دين إبراهيم، فولد مضر بن نزار إلياس بن مضر وعيلان بن مضر، وأمهما الحنفاء بنت أياد بن معد، فولد عيلان بن مضر قيس بن عيلان، فانتشر ولده وكثروا، و صار فيه العدد والمنعة، فجماهير قبائل قيس بن عيلان: عدوان بن عمرو بن قيس، وفهم بن عمرو بن قيس، ومحارب بن خصفة بن قيس، وباهلة بن أعصر بن سعد بن قيس، وفزارة بن ذبيان بن بغيض بن ريث بن غطفان بن سعد بن قيس، وسليم بن منصور بن عكرمة بن خصفة بن قيس، وعامر بن صعصعة بن معاوية بن بكر بن هوازن، ومازن بن صعصعة بن معاوية بن بكر بن هوازن بن منصور بن عكرمة بن خصفة بن قيس، وسلول بن صعصعة بن معاوية بن بكر بن هوازن، وثقيف، وهو قسي بن منبه بن بكر بن هوازن، وثقيف ينسب إلى أياد بن نزار، وكلاب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة، وعقيل بن كعب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة، وقشير بن كعب بن ربيعة، والحريش بن كعب بن ربيعة بن عامر، وعوف بن عامر بن ربيعة بن عامر، والبكاء بن عامر بن ربيعة.
وكانت الرئاسة والحكومة في قيس، وانتقلت في عدوان، وكان أول من حكم منهم ورأس: عامر ابن الضرب، ثم صارت في فزارة، ثم صارت في عبس، ثم صارت في بني عامر بن صعصعة، ولم تزل فيهم.
وكانت لقيس أيام مشهورة وحروب متصلة منها: يوم البيداء، ويوم شعب جبلة، ويوم الهباءة، ويوم الرقم، ويوم فيف الريح، ويوم الملبط، ويوم رحرحان، ويوم العرى، ويوم حرب داحس والغبراء بين عبس وفزارة.
وكان الياس بن مضر قد شرف وبان فضله، وكان أول من أنكر على بني إسماعيل ما غيروا من سنن آبائهم، وظهرت منه أمور جميلة، حتى رضوا به رضاً لم يرضوه بأحد من ولد إسماعيل بعد أدد، فردهم إلى سنن آبائهم حتى رجعت سنتهم تامة على أولها، وهو أول من أهدى البدن إلى البيت، وأول من وضع الركن بعد هلاك إبراهيم، فكانت العرب تعظم إلياس تعظيم أهل الحكمة، وكان لإلياس من الولد: مدركة، واسمه عامر، وطابخة، واسمه عمرو، وقمعة، واسمه عمير، وأمهم جميعاً خندف، واسمها ليلى بنت حلوان بن عمران بن الحاف بن قضاعة.
وكان إلياس قد أصابه السل، فقالت خندف امرأته: لئن هلك لا أقمت ببلد مات به! وحلفت ألا يظلها بيت، وأن تسيح في الأرض فلما مات خرجت سائحة في الأرض حتى هلكت حزناً.
وكانت وفاته يوم الخميس، فكانت تبكيه، وإذا طلعت شمس ذلك اليوم بكت حتى تغيب، فصارت مثلاً.
وقيل لرجل من أياد هلكت امرأته: ألا تبكيها؟ فقال:
لو أنه أغنى بكيت كخندف ... على الياس، حتى ملها السر تندب
إذا مؤنس لاحت خراطيم شمسه ... بكت غدوة حتى نرى الشمس تغرب
يعني بقوله مؤنس: يوم الخميس، لأن العرب كانت تسمي الأيام بغير أسمائها في هذا الوقت، فكانت تسمى الأحد الأول، والإثنين أهون، والثلاثاء جبار، والأربعاء دبار، والخميس مؤنساً، و الجمعة عروبة، والسبت شيار، وكانوا يسمون أيام الشهر عشرة أسماء كل ثلاث ليال اسم، فالثلاث التي أول الهلال الغرر، ثم النفل ثم التسع، ثم العشر، ثم البيض، ثم الظلم، ثم الخنس، ثم الحنادس، ثم المحاق، والآخر ليلة السرار، إذا استسر الهلال، وكانوا يسمون المحرم مؤتمراً، وصفراً ناجراً، وربيعاً الأول خوان، وربيعاً الآخر وبصان، وجمادى الأولى حنين، وجمادى الآخرة ربى، ورجباً الأصم، وشعبان العاذل، ورمضان ناتقاً، وشوالاً وعلاً، وذا القعدة ورنة، وذا الحجة بركاً، وكان آخرون من العرب يسمون الثلاث ليال من أول الشهر هلالاً، ثم ثلاث قمر حين يقمر، ثم ثلاث بهر حين يضيء ويبهر لونه، وثلاث نقل، وثلاث بيض، وثلاث درع، وثلاث ظلم، وثلاث حنادس، وثلاث دآدي، وليلتان محاق، وليلة سرار. وولد لطابخة بن إلياس أد بن طابخة، فتفرقت من ولد أد بن طابخة أربع قبائل، وهي: تميم بن مر بن أد، والرباب وهو عبد مناة بن أد، وضبة بن أد، ومزينة بن أد، وكان العدد في تميم بن مر بن أد، حتى امتلأت منهم البلاد، وافترقت قبائل تميم، فمن جماهير قبائل تميم: كعب بن سعد بن زيد مناة، وحنظلة بن مالك بن زيد مناة، وهم يسمون البراجم، وبنو دارم، وبنو زرارة ابن عدس وبنو أسد، وعمرو بن تميم، فهؤلاء ولد أد بن طابخة بن إلياس بن مضر، وفيهم العدد والمنعة والبأس والنجدة والشعر والفصاحة، وكانت الرئاسة في تميم، وكان أول رئيس فيهم: سعد بن زيد مناة بن تميم، ثم حنظلة بن مالك بن زيد مناة، وكانت لهم أيام مشهورة وحروب معروفة، فمنها يوم الكلاب، ويوم المروت، ويوم جدود، ويوم النسار.
وكان مدركة بن إلياس سيد ولد نزار قد بان فضله، وظهر مجده، وخرج أخوه قمعة إلى خزاعة، فتزوج فيهم، وصار ينسب ولده معهم، وكان ولده فيهم، وكان من ولده عمرو بن لحي ابن قمعة، وهو أول من غير دين إبراهيم وولد مدركة بن إلياس خزيمة، وهذيلاً، وحارثة، وغالباً، وأمهم سلمى ابنة الأسود بن أسلم بن الحاف بن قضاعة، ويقال: بنت أسد بن ربيعة بن نزار، وأما حارثة فدرج صغيراً، وأما غالب فانتسبوا في بني خزيمة، وأما هذيل بن مدركة، فإن العدد منهم في بني سعد بن هذيل، ثم تميم بن سعد، ثم في معاوية بن تميم والحارث بن تميم وهذيل شجعان أصحاب حروب وغارات ونجدة وفصاحة وشعر.
وكان خزيمة أحد حكام العرب، ومن يعد له الفضل والسؤدد، فولد خزيمة بن مدركة كنانة، وأمه عوانة بنت قيس بن عيلان، وأسد والهون، وأمهم برة بنت مر بن أد بن طابخة أخت تميم ابن مر، فأما أسد بن خزيمة، فإن ولده انتشروا في اليمن، وهم: جذام، ولخم، وعاملة بنو عمرو بن أسد، وكانت مضر تدعي جذاماً خاصة، وبنو أسد مقيمون على انهم منهم يواصلونهم على ذلك، ويعدونهم منهم، قال امرؤ القيس بن حجر الكندي:
صبرنا عن عشيرتنا، فبانوا ... كما صبرت خزيمة عن جذام
وقال عبد المطلب بن هاشم في شعر له:
فقل لجذام إن أتيت بلادهم ... وخص بني سعد بها ثم وائل
أنيلوا، وأدنوا من وسائل قومكم ... فيعطف منكم قبل قطع الوسائل
وقال عبيد بن الأبرص في شعر له طويل:
أبلغ جذاماً ولخماً إن عرضت لهم ... والقوم ينفعهم علم إذا علموا
بأنكم في كتاب الله إخوتنا ... إذا تقسمت الأرحام والنسم
ويقال: إن هذا الشعر لشمعان بن هبيرة الأسدي، فأما جذام بن عدي بن الحارث، فإنها مقيمة على نسبها في اليمن، فتقول: جذام بن عدي بن الحارث بن مرة بن أدد بن يشجب بن عريب ابن مالك بن كهلان، وكان لأسد ابن خزيمة من الولد: دودان، وكاهل، وعمرو، وهند، والصعب، وتغلب، وكان العدد في دودان، ومنه افترقت قبائل بني أسد.
وقبائل بني أسد قعين، وفقعس، ومنقذ ودبان، ووالبة، ولاحق، وحرثان، ورئاب، وبنو الصيداء
وكانت أسد منتشرة من لدن قصور الحيرة إلى تهامة، وكانت الطيء محالفة متفقة معها، ودارهما تكاد أن تكون واحدة، وكانت محاربة لكندة، حتى قتلت حجر بن الحارث بن عمرو الكندي، وهرب امرؤ القيس، وذلت كندة، ثم حاربت بني فزارة، حتى قتلت بدر ابن عمرو، ثم اختلف الذي بينها وبين طيء، فتحارب الحيان أسد وطيء حتى قتلوا لأم بن عمرو الطائي، وأسروا زيد بن مهلهل، وهو زيد الخيل، وأخذوا السبايا، وقال زيد الخيل:
ألا أبلغ الأقياس: قيس بن نوفل ... وقيس بن أهبان وقيس بن جابر
بني أسد ردوا علينا نساءنا ... وأبناءنا، واستمتعوا بالأباعر
وبالمال، إن المال أهون هالك ... إذا طرقت إحدى الليالي الغوابر
ولا تجعلوها سنةً يقتدي بها ... بنو أسد، وأعفوا بأيد قوادر
فأطلقوه وردوا ظعائنهم لما سمعوا هذا الشعر، وبقي فرس لزيد، وكان زيد يحب الخيل، فقال زيد:
يا بني الصيداء ردوا فرسي ... إنما يفعل هذا بالذليل
عودوا مهري الذي عودته ... دلج الليل، وإيطاء القتيل
فردوا عليه فرسه، وكانت بنو أسد تقول: قتلنا أربعة كلهم بنو عمرو، وكل سيد قومه، قتلنا حجر بن عمرو ملك كندة ولأم بن عمرو الطائي، وصخر بن عمرو السلمي، وبدر بن عمرو الفزاري.
والهون بن خزيمة، وهو القارة، وإنما سموا القارة لأن بني كنانة لما خرجت بنو أسد بن خزيمة من تهامة، وخالفوا كنانة، وضموا القليل إلى الكثير، جعلوا بني الهون بن خزيمة قارة بينهم لأحد دون أحد.
ويقال إن بني الهون نزلوا أرضاً منخفضة، والعرب يسمون الأرض المنخفضة القارة، فقيل لهم: أصحاب القارة، والقارة المرامي، فقال بعضهم: قد أنصف القارة من راماها، ويقال إن حرباً جرت بين الهون بن خزيمة وبين بكر بن كنانة، فقال رجل من بني بكر: أيما أحب إليكم، المراماة، أو المسابقة؟ فقال رجل منهم:
قد علمت سلم، ومن والاها ... أنا نصد الخيل عن هواها
قد أنصف القارة من راماها ... أما إذا ما فئة نلقاها
نردها داميةً كلاها
وقبائل بني الهون بن خزيمة عضل وديش ابنا ييثع بن الهون بن خزيمة، فأما الحكم بن الهون ابن خزيمة، فإنه صار إلى اليمن، فحل بلاد مذحج، فولد له بها أولاد، ومات، فانتسب ولده إلى حكم بن سعد العشيرة.
وظهر في كنانة بن خزيمة فضائل لا يحصى شرفها، وعظمته العرب، فروي أن كنانة أتي، وهو نائم في الحجر، فقيل له: تخير يا أبا النضر بين الهضيل أو الهدر، أو عمارة الجدر، أو عز الدهر! فقال: كل هذا يا رب! فأعطيه، فولد كنانة بن خزيمة النضر، وحدال، وسعداً، ومالكاً، وعوفاً، ومخرمة، وأمهم هالة بنت سويد بن الغطريف، وهو حارثة بن امرىء القيس ابن ثعلبة بن مازن بن الغوث، وعلياً، وغزوان، وأمهما برة بنت مر، وجرولاً، والحارث، وأمهما من أزد شنوءة، وعبد مناة، وأمه الذفراء، واسمها فكيهة بنت هني بن بلي بن عمرو بن الحاف بن قضاعة، فأما مخرمة، فيقال إنهم بنو ساعدة رهط سعد بن عبادة وبنو عبد مناة بن كنانة، فهم عدد كنانة، فمنهم: بنو ليث بن بكر بن عبد مناة، وبنو الدئل بن بكر، وبنو ضمرة بن بكر منهم: بنو غفار بن مليك بن ضمرة، وبنو جذيمة بن عامر بن عبد مناة الذين أصابهم خالد بن الوليد بالغميصاء، وبنو مدلج بن مرة بن عبد مناة.
ومن بني مالك بن كنانة بن خزيمة: بنو فقيم بن عدي بن عامر بن ثعلبة ابن الحارث بن مالك ابن كنانة، ومن بني فقيم كان النسأة، وهم القلامس كانوا ينسئون ويحلون ويحرمون، وكان أولهم حذيفة بن عبد فقيم الذي يسمى القلمس، ثم صار ذلك في ولده، فقام بعده عباد بن حذيفة ابنه، ثم بعد عباد قلع بن عباد، ثم أمية بن قلع، ثم عوف بن أمية، ثم جنادة بن عوف، وهو أبو ثمامة، ومنهم فراس بن غنم بن مالك بن كنانة، فهذه جماهير قبائل كنانة.
وأما النضر بن كنانة، فكان أول من سمي القرشي، يقال إنه سمي القرشي لتقرشه وارتفاع همته، وقيل لتجارته ويساره، ويقال لدابة في البحر تسمى القرش، سمته أمه قريشاً تصغير
قرش، فمن لم يكن من ولد النضر بن كنانة، فليس بقرشي، فولد النضر بن كنانة مالكاً، ويخلد، والصلت، وكان النضر أبا الصلت، وأم ولد النضر عكرشة بنت عدوان ابن عمرو بن قيس بن عيلان، وأما يخلد فلم يبق منهم أحد يعرف، وأما ولد الصلت، فصاروا في خزاعة، وكان من ولده كثير بن عبد الرحمن الشاعر، وهو الذي يقول في النسب:
أليس أبي بالصلت أم ليس إخوتي ... بكل هجان من بني النضر أزهرا
وكان مالك بن النضر عظيم الشأن، وكان له من الولد: فهر، والحارث، وشيبان، وأمهم جندلة بنت الحارث بن مضاض بن عمرو بن الحارث الجرهمي، ويقال إن اسم فهر بن مالك: قريش، وإنما فهر لقب، والاسم قريش.
وظهر في فهر بن مالك علامات فضل في حياة أبيه فلما هلك أبوه قام مقامه، وكان لفهر بن مالك من الولد: غالب، والحارث، ومحارب، وجندلة، وأمهم ليلى بنت الحارث بن تميم بن سعد ابن هذيل، فمن ولد الحارث ابن فهر ضبة بن الحارث رهط أبي عبيدة بن الجراح، ومن ولد محارب بن فهر شيبان بن محارب: رهط الضحاك بن قيس، وكان غالب بن فهر أفضلهم وأظهرهم مجداً، فيروي أن فهر بن مالك قال لابنه غالب، حين حضرته الوفاة: أي بني! إن في الحذر انغلاق النفس، وإنما الجزع قبل المصائب، فإذا وقعت مصيبة برد حرها، وإنما القلق في غليانها، فإذا قامت، فبرد حر مصيبتك بما ترى من وقع المنية أمامك وخلفك، وعن يمينك وعن شمالك، وما ترى في آثارها من محق الحياة، ثم اقتصر على قليلك، وإن قلت منفعته، فقليل ما في يدك أغنى لك من كثير مما أخلق وجهك إن صار إليك، فلما مات فهر شرف غالب ابن فهر وعلا أمره، وكان له من الولد لؤي، وتيم الأدرم، وأمهما عاتكة بنت يخلد بن النضر ابن كنانة، وتغلب، ووهب، و كثير، وحراق، هؤلاء لا بقية لهم، فأما تيم الأدرم، فإنه أعقب. وكان لؤي بن غالب سيداً شريفاً بين الفضل، يروي أنه قال لأبيه غالب ابن فهر، وهو غلام حدث: يا أبه! رب معروف قل أخلافه، ونصر، يا أبه، من أخلفه أخمله، وإذا أخمل الشيء لم يذكر، وعلى المولى تكبير صغيره ونشره، وعلى المولى تصغير كبيرة وستره فقال له أبوه: يا بني إني أستدل بما أسمع من قولك على فضلك، وأستدعي به الطول لك في قومك، فإن ظفرت بطول، فعد علي قومك، وأكف غرب جهلهم بحلمك، والمم شعثهم برفقك، فإنما يفضل الرجال الرجال بأفعالهم، فإنها على أوزانها، وأسقط الفضل ومن لم تعل له درجة على آخر لم يكن له فضل، وللعليا أبداً على السفلى فضل. فلما مات غالب بن فهر قام لؤي بن غالب مقامه.
وكان للؤي من الولد: كعب، وعامر، وسامة، وخزيمة، وأمهم عائذة، وعوف والحارث، وجشم، وأمهم ماوية بنت كعب بن القين، وسعد بن لؤي، وأمه يسرة بنت غالب بن الهون بن خزيمة، فأما سامة بن لؤي، فإنه هرب من أخيه عامر بن لؤي، وذلك أنه كان بينهما شر، فوثب سامة على عامر ففقأ عينه، فأخافه عامر، فهرب منه، فصار إلى عمان، فيقال إنه مر ذات يوم على ناقة له، فوضعت الناقة مشفرها في الأرض، فعلقتها أفعى ونفضتها، فوقعت على سامة، فنهشت الأفعى ساقه، فقتلته، فقال فيما يزعمون، حين أحس بالموت:
عين فأبكى لسامة بن لؤي ... علقت ما بساقه العلاقه
لم يروا مثل سامة بن لؤي ... يوم حلوا به، قتيلاً لناقه
بلغا عامراً وكعباً رسولاً ... أن نفسي إليهما مشتاقه
إن تكن في عمان داري، فإني ... ماجد قد خرجت من غير فاقه
رب كأس هرقت يا بن لؤي ... حذر الموت لم تكن مهراقه
رمت دفع الحتوف، يا بن لؤي ... ما لمن رام ذاك بالحتف طاقه
فأما خزيمة بن لؤي، وهو عائذة، فإنه نزل في شيبان، فانتسب ولده في ربيعة، وأما الحارث وهو جشم وسعد، فإنهم نزلوا في هزان فانتسبوا فيهم، وفيهم يقول جرير بن الخطفى:
بني جشم لستم لهزان، فانتموا ... لأعلى الروابي من لؤي بن غالب
وأما عوف بن لؤي، فإنه خرج فيما يزعمون في ركب من قريش، حتى إذا كان في أرض غطفان أبطأ به بعيره، فانطلق من كان معه من قومه، فأتاه ثعلبة بن سعد بن ذبيان، فاحتبسه، وجعله له أخاً، فصار نسبه في عوف بن سعد بن ذبيان قال الحارث بن ظالم، وهو من بني مرة بن عوف:
وما قومي بثعلبة بن سعد ... ولا بفزارة الشعر الرقابا
وقومي إن سألت بني لؤي ... بمكة علموا مضر الضرابا
سفهنا باتباع بني بغيض ... وترك الأقربين لنا انتسابا
وقال الحارث بن ظالم في ذلك أيضاً:
إذا فارقت ثعلبة بن سعد ... وإخوتهم نسبت إلى لؤي
إلى نسب كريم غير ... وحي هم أكارم كل حي
فإن يبعد بهم نسبي، فمنهم ... قرابين الإله بنو قصي
وللحارث بن ظالم في هذا شعر كثير، وقد كان عمر بن الخطاب دعا بني عوف إلى أن يردهم إلى نسبهم في قريش، فشاوروا علي بن أبي طالب، فقال لهم: أنتم أشراف في قومكم، فلا تكونوا مستلحقين في قريش، فأما عامر بن لؤي فإنه كان له من الولد حسل بن عامر، و معيص بن عامر، وعويص بن عامر، وأمهم امرأة من قرن، وليس لعويص بن عامر بقية، والبقية في حسل ومعيص.
فأما كعب بن لؤي، فكان أعظم ولد أبيه قدراً، وأعظمهم شرفاً، وكان أول من سمي يوم الجمعة بالجمعة، وكانت العرب تسميه عروبة، فجمعهم فيه، وكان يخطب عليهم، فيقول: اسمعوا، وتعلموا، وافهموا، واعلموا أن الليل ساج، والنهار ضاح، والأرض مهاد، والسماء عماد، والجبال أوتاد، والنجوم أعلام، والأولون كالآخرين، والأبناء ذكر، فصلوا أرحامكم، واحفظوا أصهاركم، وثمروا أموالكم، فهل رأيتم من هالك رجع، أو ميت نشر الدار أمامكم، والظن غير ما تقولون، وحرمكم زينوه وعظموه، وتمسكوا به، فسيأتي نبأ عظيم، وسيخرج منه نبي كريم، ثم يقول:
نهار وليل كل يؤوب بحادث ... سواء علينا ليلها ونهارها
يؤوبان بالأحداث حين يؤوبا ... وبالنعم الضافي علينا ستورها
صروف، وأنباء تغلب أهلها ... لها عقد ما يستحل مريرها
على غفلة يأتي النبي محمد ... فيخبر أخباراً صدوقاً خبيرها
ثم يقول: يا ليتني شاهد نجوى دعوته، لو كنت ذا سمع، وذا بصر ويد ورجل تنصبت له تنصب العجل، وأرقلت إرقال الجمل، فرحاً بدعوته، جذلاً بصرخته، فلما مات كعب أرخت قريش من موت كعب.
وكان لكعب من الولد: مرة، وهصيص، وأمهما وحشية ابنه شيبان بن محارب بن فهر بن مالك، وعدي بن كعب، وأمه حبيبة بنت بجالة بن سعد بن فهم بن عمرو بن قيس بن عيلان، فعدي بن كعب رهط عمر بن الخطاب، وولد هصيص بن كعب سهماً وجمحاً.
وكان مرة بن كعب سيداً هماماً، فتزوج هند بنت سرير بن ثعلبة بن الحارث بن مالك بن كنانة، وكان سرير أول من نسأ الشهور، فولدت هند لمرة كلابا، ثم تزوج مرة بنت سعد بن بارق، فولدت له تيما ويقظة، فتيم بن مرة رهط أبي بكر، ومخزوم بن يقظة بن مرة رهطه أيضاً. وشرف كلاب بن مرة، وجل قدره، واجتمع له شرف الأب والجد من قبل الأم لأنهم كانوا يجيزون الحج، ويحرمون الشهور، ويحللونها، فكانوا يسمون النسأة والقلامس، وكان لكلاب بن مرة من الولد: قصي، وزهرة، وفيهما قال رسول الله: صريحا قريش بن كلاب، وأمهما فاطمة بنت سعد بن سيل الأزدي، وكان سعد بن سيل أول من حليت له السيوف بالذهب والفضة، وله يقول الشاعر:
لا أرى في الناس شخصاً واحداً ... فاعلموا ذاك، كسعد بن سيل
فلما مات كلاب تزوجت فاطمة بنت سعد بن سيل ربيعة بن حرام العذري، فخرج بها إلى بلاد قومه، فحملت قصياً معها، وكان اسمه زيداً، فلما بعد من دار قومه سمته قصياً، فلما شب قصي، وهو في حجر ربيعة، قال له رجل من بني عذرة: الحق بقومك، فإنك لست منا! فقال: ممن أنا؟ فقال: سل أمك! فسألها، فقالت: أنت أكرم منه نفساً، وولداً، ونسباً! أنت ابن كلاب بن مرة، وقومك آل الله، وفي حرمه.
وكانت قريش لم تفارق مكة إلا انهم لما كثروا قلت المياه عليهم، فتفرقوا في الشعاب، فكره قصي الغربة، وأحب أن يخرج إلى قومه، فقالت له أمه: لا تعجل حتى يدخل الشهر الحرام، فتخرج في حجاج قضاعة فإني أخاف عليك! فلما دخل الشهر الحرام شخص معهم حتى قدم مكة، وأقام قصي بمكة، حتى شرف وعز وولد له الأولاد.
وكانت حجابه البيت إلى خزاعة، وذلك أن الحجابة كانت إلى أياد، فلما أرادوا الرحيل عن مكة حملوا الركن على جمل، فلم ينهض الجمل، فدفنوه، وخرجوا، وبصرت بهم امرأة من خزاعة حين دفنوه، فلما بعدت أياد اشتد ذلك على مضر، وأعظمته قريش وسائر مضر، فقالت الخزاعية لقومها: اشرطوا على قريش وسائر مضر أن يصيروا إليكم حجابه البيت، حتى أدلكم على الركن، ففعلوا ذلك، فلما أظهروا الركن صيروا إليهم الحجابة، فقدم قصي بن كلاب مكة، والحجابة إلى خزاعة، والإجازة إلى صوفة، وهو الغوث بن مر أخي تميم وكان الحج وإجازة الناس من عرفات إليه، ثم صارت إلى عقبه من بعده، وبنو القيس بن كنانة ينسئون الشهور، ويحلون، ويحرمون، فلما رأى قصي ذلك جمع إليه قومه من بني فهر بن مالك، وحازهم إليه، فلما حضر الحج حال بين صوفة وبين الإجازة، وقامت معه خزاعة وبنو بكر، وعلموا أن قصيا سيصنع بهم كما صنع بصوفه، وأنه سيحول بينهم وبين أمر مكة وحجابه البيت، وانحازوا عنه، وصاروا عليه، فلما رأى ذلك أجمع لحربهم، وبعث إلى أخيه من أمه دراج بن ربيعة العذري، فأتاه أخوه بمن قدر عليه من قضاعة، وقيل: وافى دراج، وقصي قد نصب لحرب القوم، ودراج يريد البيت، فأعان أخاه بنفسه وقومه، فاقتتلوا قتالاً شديداً بالأبطح، حتى كثرت القتلى في الفريقين، ثم تداعوا إلى الصلح، وأن يحكم ما بينهم رجل من العرب فيما اختلفوا فيه، فحكموا يعمر بن عوف بن كعب بن ليث ابن بكر بن كنانة، فقضى بينهم بأن قصياً أولى بالبيت وأمر مكة من خزاعة، وأن كل دم أصابه قصي من خزاعة وبني بكر موضوع يشدخه تحت قدميه، وأن ما أصابت خزاعة وبنو بكر من قريش ففيه الدية، فودوا خمساً و عشرين بدنة وثلاثين حرجاً، وأن يخلوا بين قصي وبين البيت ومكة، فسمي يعمر الشداخ.
ولم يكن بمكة بيت في الحرم، إنما كانوا يكونون بها نهاراً، فإذا أمسوا خرجوا، فلما جمع قصي قريشاً، وكان أدهى من رئي من العرب، أنزل قريشاً الحرم، وجمعهم ليلاً، وأصبح بهم حول الكعبة، فمشت إليه أشراف بني كنانة وقالوا: إن هذا عظيم عند العرب، ولو تركناك ما تركتك العرب. فقال: والله لا أخرج منه، فثبت.
وحضر الحج، فقال لقريش: قد حضر الحج، وقد سمعت العرب ما صنعتم، وهم لكم معظمون، ولا أعلم مكرمة عند العرب أعظم من الطعام، فليخرج كل إنسان منكم من ماله خرجاً! ففعلوا، فجمع من ذلك شيئاً كثيراً، فلما جاء أوائل الحج نحر على كل طريق من طرق مكة جزوراً، ونحر بمكة، وجعل حظيرة، فجعل فيها الطعام من الخبز واللجم، وسقى الماء واللبن، وغدا على البيت، فجعل له مفتاحاً وحجبة، وحال بين خزاعة وبينه، فثبت البيت في يد قصي، ثم بنى داره بمكة، وهي أول دار بنيت بمكة، وهي دار الندوة.
وروى بعضهم أنه لما تزوج قصي إلى حليل بن حبشية الخزاعي حبي ابنته، وولدت له، أوصى حليلاً عند موته بولاية البيت إلى قصي، وقال: إنما ولدك ولدي، وأنت أحق بالبيت، وكانت حبى بنت حليل بن حبشية قد ولدت لقصي بن كلاب، عبد مناف، وعبد الدار، وعبد العزى، وعبد قصي، وقال آخرون: دفع حليل بن حبشية المفتاح إلى أبي غبشان، وهو سليمان ابن عمرو بن بوي بن ملكان بن أفصى بن حارثة بن عمرو بن عامر، فاشتراه قصي منه وولاية البيت بزق خمر وقعود، فقيل: أخس من صفقة أبي غبشان، ووثبت خزاعة، فقالت: لا نرضى بما صنع أبو غبشان، فوقعت بينهم الحرب، فقال بعضهم:
أبو غبشان أظلم من قصي ... وأظلم من بني فهر خزاعة
فلا تلحوا قصياً في شراه ... ولوموا شيخكم إذ كان باعه
فولي قصي البيت وأمر مكة والحكم، وجمع قبائل قريش، فأمر لهم بأبطح مكة، وكان بعضهم في الشعاب ورؤوس الجبال، فقسم منازلهم بينهم، فسمي مجمعاً، وفيهم يقول الشاعر:
أبوكم قصي كان يدعى مجمعاً ... به جمع الله القبائل من فهر
وملكه قومه عليهم، فكان قصي أول من أصاب الملك من ولد كعب بن لؤي، فلما قسم أبطح مكة أرباعاً بين قريش، هابوا أن يقطعوا شجر الحرم ليبنوا منازلهم، فقطعها قصي بيده، ثم استمروا على ذلك.
وكان قصي أول من أعز قريشاً، وظهر به فخرها، ومجدها، وسناها، وتقرشها، فجمعها، و أسكنها مكة، وكانت قبل متفرقة الدار، قليلة العز، ذليلة البقاع، حتى جمع الله ألفتها، وأكرم دارها، وأعز مثواها.
وكانت قريش كلها بالأبطح خلا بني محارب والحارث ابني فهر، ومن بني تيم بن غالب، وهو الأدرم، وبني عامر بن لؤي، فإنهم نزلوا الظواهر، ولما حاز قصي شرف مكة كلها، وقسمها بين قريش، واستقامت له الأمور، ونفى خزاعة، هدم البيت، ثم بناه بنياناً لم يبنه أحد، وكان طول جدرانه تسع أذرع، فجعله ثماني عشرة ذراعاً، وسقفها بخشب الدوم وجريد النخل، وبنى دار الندوة. وكان لا ينكح رجل من قريش، ولا يتشاورون في أمر، ولا يعقدون لواء بالحرب، ولا يعذرون غلاماً، إلا في دار الندوة، وكانت قريش في حياته، وبعد وفاته، يرون أمره كالدين المتبع، وكان أول من حفر بمكة بعد إسماعيل بن إبراهيم، فحفر العجول في أيام حياته، و بعد وفاته، ويقال إنها في دار أم هانىء بنت أبي طالب.
وكان قصي أول من سمي الدابة الفرس، وكانت له دابة يقال لها العقاب السوداء، وكان لقصي من الولد عبد مناف، وكان يدعى القمر، وهو السيد النهر، واسمه المغيرة، وعبد الدار وعبد العزى، وعبد قصي، ويقال إن قصياً قال: سميت اثنين بإلهي، وآخر بداري، وآخر بنفسي. وقسم قصي بين ولده، فجعل السقاية والرئاسة لعبد مناف، والدار لعبد الدار، والرفادة لعبد العزى، وحافتي الوادي لعبد قصي، وقال قصي لولده: من عظم لئيماً شاركه في لؤمه، ومن استحسن مستقبحاً شركه فيه، ومن لم تصلحه كرامتكم، فدلوه بهوانه، فالدواء يحسم الداء. ومات قصي، فدفن بالحجون، ورأس عبد مناف بن قصي، وجل قدره، وعظم شرفه ولما كبر أمر عبد مناف ابنه جاءته خزاعة وبنو الحارث بن عبد مناة بن كنانة يسألونه الحلف ليعزوا به، فعقد بينهم الحلف الذي يقال له حلف الأحابيش، وكان مدبر بني كنانة الذي سأل عبد مناف عقد الحلف: عمرو بن هلل بن معيص بن عامر، وكان تحالف الأحابيش على الركن: يقوم رجل من قريش وآخر من الأحابيش، فيضعان أيديهما على الركن، فيحلفان بالله القاتل، وحرمة هذا البيت، والمقام، والركن، والشهر الحرام على النصر على الخلق جميعاً، حتى يرث الله الأرض ومن عليها، وعلى التعاقد، وعلى التعاون على كل من كادهم من الناس جميعاً ما بل بحر صوفة، وما قام حري وثبير، وما طلعت شمس من مشرقها إلى يوم القيامة، فسمي حلف الأحابيش. فولد عبد مناف بن قصي هاشماً، واسمه عمرو، وكان يقال له عمرو العلى، وسمي هاشماً، لأنه كان يهشم الخبز، ويصب عليه المرق واللحم في سنة شديدة نالت قريشاً، وعبد شمس، والمطلب، ونوفلاً، وأبا عمرو، وحنة، وتماضر، وأم الأخثم، وأم سفيان، وهالة، و قلابة، وأمهم جميعاً، إلا نوفلاً وأبا عمرو: عاتكة بنت مرة بن هلال بن فالج بن ذكوان ابن ثعلبة بن بهثة بن سليم، فولدت له هؤلاء، وهي التي جرت حلف الأحابيش وأم نوفل وأبي عمرو: وافدة بنت أبي عدي، وهو عامر بن عبد نهم من بني عامر بن صعصعة، ويقال إن هاشماً وعبد شمس كانا توأمين، فخرج هاشم، وتلاه عبد شمس، وعقبه ملتصق بعقبه، فقطع بينهما بموسى، فقيل: ليخرجن بين ولد هذين من التقاطع ما لم يكن بين أحد.
وشرف هاشم بعد أبيه، وجل أمره، واصطلحت قريش على أن يولي هاشم بن عبد مناف الرئاسة والسقاية والرفادة فكان إذا حضر الحج قام في قريش خطيباً، فقال: يا معشر قريش! إنكم جيران الله وأهل بيته الحرام، وأنه يأتيكم في هذا الموسم زوار الله يعظمون حرمة بيته، فهم أضياف الله، وأحق الضيف بالكرامة ضيفه، وقد خيركم الله بذلك، وأكرمكم به، ثم حفظ منكم أفضل ما حفظ جار من جاره، فأكرموا ضيفه وزواره، فإنهم يأتون شعثاً غبراً من كل بلد على ضوامر كالقداح، وقد أعيوا وتفلوا، وقملوا، وأرملوا، فأقروهم، وأغنوهم! فكانت قريش ترافد على ذلك.
وكان هاشم يخرج مالاً كثيراً، ويأمر بحياض من أدم، فتجعل في موضع زمزم، ثم يسقى فيها من الآبار التي بمكة، فيشرب منها الحاج، وكان يطعمهم بمكة ومنى وعرفة وجمع، وكان يثرد لهم الخبز واللحم والسمن والسويق، ويحمل لهم المياه، حتى يتفرق الناس إلى بلادهم، فسمي هاشماً.
وكان أول من سن الرحلتين: رحلة الشتاء إلى الشام ورحلة الصيف إلى الحبشة إلى النجاشي، وذلك أن تجارة قريش لا تعدو مكة، فكانوا في ضيق، حتى ركب هاشم إلى الشام، فنزل بقيصر، فكان يذبح في كل يوم شاة، ويضع جفنة بين يديه، ويدعو من حواليه.
وكان من أحسن الناس وأجملهم، فذكر لقيصر، فأرسل إليه، فلما رآه، وسمع كلامه، أعجبه، وجعل يرسل إليه، فقال هاشم: أيها الملك إن لي قوماً، وهم تجار العرب، فتكتب لهم كتاباً يؤمنهم ويؤمن تجاراتهم، حتى يأتوا بما يستطرف من أدم الحجاز وثيابه، ففعل قيصر ذلك، وانصرف هاشم، فجعل كلما مر بحي من العرب أخذ من أشرافهم الإيلاف أن يأمنوا عندهم وفي أرضهم، فأخذوا الإيلاف من مكة والشام.
قال الأسود بن شعر الكلبي: كنت عسيفاً لعقيله من عقائل الحي اركب الصعبة والذلول، لا أليق مطرحاً من البلاد أرتجي فيه ربحاً من الأموال، إلا يرغب إليه من الشام بخرثيه، وأثاثه، أريد كبة العرب، فعدت، ودهم الموسم فدفعت إليها مسدفاً، فحبست الركاب، حتى انجلى عني قميص الليل، فإذا قباب سامية مضروبة من أدم الطائف، وإذا جزر تنحر وأخرى تساق وأكله وجبنه على الظهار إلا عجلوا ! فبهرني ما رأيت، فتقدمت أريد عميدهم، وعرف رجل شأني، فقال: إمامك! فدنوت، فإذا رجل على عرش سام تحته نمرقة قد كار عمامة سوداء، واخرج من ملاثمها جمة فينانه، كان الشعرى تطلع من جبينه، وفي يده مخصرة، وحوله مشيخة جله منكسو الأذقان، ما منهم أحد يفيض بكلمة، ودونهم خدم مشمرون إلى أنصاف، وإذا برجل مجهر على نشز من الأرض ينادي: يا وفد الله، هلموا الغداء! وانسيان على طريق من طعم يناديان: يا وفد الله! من تغدى فليرجع إلى العشاء! وقد كان نمى إلى من حبر من أحبار اليهود: إن النبي الأمي هذا أوان توكفه، فقلت: لأعرف ما عنده، يا نبي الله! فقال: مه، وكان قد له، فقلت لرجل كان إلى جانبي: من هذا؟ فقال: أبو نضلة هاشم بن عبد مناف، فخرجت، وأنا أقول: هذا والله المجد لا مجد آل جفنة، ومر مطرود بن كعب الخزاعي برجل مجاور في بني هاشم، وبنات له وامرأة في سنة شديدة، فخرج يحمل متاعه ورحله هو وولده وامرأته لا يؤويه أحد، فقال مطرود الخزاعي:
يا أيها الرجل المحول رحله ... هلا نزلت بآل عبد مناف؟
هبلتك أمك لو حللت بدارهم ... ضمنوك من جوع ومن إقراف
عمرو العلى هشم الثريد لقومه ... ورجال مكة مسنتون عجاف
نسبوا إليه الرحلتين كليهما ... عند الشتاء ورحلة الأصياف
الآخذون العهد في آفاقها ... والراحلون لرحلة الإيلاف
وخرج هاشم بتجارات عظيمة يريد الشام، فجعل يمر بأشراف العرب، فيحمل لهم التجارات، ولا يلزمهم لها مؤونة، حتى صار إلى غزة، فتوفي بها ولما هلك هاشم بن عبد مناف جزعت قريش، وخافت أن تغلبها العرب، فخرج عبد شمس إلى النجاشي ملك الحبشة فجدد بينه وبينه العهد، ثم انصرف، فلم يلبث أن مات بمكة، ودفن بالحجون، وخرج نوفل إلى العراق، وأخذ عهدا من كسرى، ثم أقبل، فمات بموضع يقال له سلمان، وقام بأمر مكة المطلب بن عبد مناف. وكان لهاشم من الولد عبد المطلب، والشفاء، وأمهما سلمى بنت عمرو بن زيد بن خداش بن عامر بن غنم بن عدي بن النجار، واسم النجار تيم الله بن ثعلبة بن عمرو بن الخزرج، ونضلة ابن هاشم وأمه أميمة بنت عدي بن عبد الله، وأسد أبو فاطمة بنت أسد أم علي بن أبي طالب، وأمه قيلة بنت عامر ابن مالك بن المطلب، وأبو صيفي انقرض نسله، إلا من رقيقة بنت أبي صيفي، وصيفي درج صغيراً، وأمهما هند بنت عمرو بن ثعلبة بن الخزرج، وضعيفة وخالدة، وأمهما واقده بنت أبي عدي، وحنة بنت هاشم، وأمها أم عدي بنت حبيب بن الحارث الثقفية. وكان هاشم لما أراد الخروج إلى الشام حمل امرأته سلمى بنت عمرو إلى المدينة لتكون عند أبيها وأهلها، ومعه ابنه عبد المطلب، فلما توفي أقامت بالمدينة.
وكان المطلب بن عبد مناف قد قام بأمر مكة بعد أخيه هاشم، فلما كبر عبد المطلب بلغ المطلب مكانه ووصف له حاله، ومر رجل من تهامة بالمدينة، فإذا غلمان يتناضلون، وإذا غلام فيهم
إذا أصاب قال: أنا ابن هاشم، أنا ابن سيد البطحاء! فقال له الرجل: من أنت يا غلام؟ قال: أنا شيبة بن هاشم بن عبد مناف فانصرف الرجل، حتى قدم مكة فوجد المطلب بن عبد مناف جالساً في الحجر، فقال: يا أبا الحارث، علمت أني جئت من يثرب، فوجدت غلماناً يتناضلون. وقص عليه ما رأى من عبد المطلب قال: و إذا أظرف غلام ما رأيته قط. قال المطلب: أغفلته، أما والله لا أرجع إلى أهلي حتى آتيه! فخرج المطلب حتى أتى المدينة عشاء، ثم خرج على راحلته حتى أتى بني عدي بن النجار، فلما نظر إلى ابن أخيه قال: هذا ابن هاشم؟ قال القوم: نعم! وعرف القوم المطلب، قالوا: هذا ابن أخيك، فإن أردت أخذه الساعة لا تعلم أمه، فإنها إن علمت حلنا بينك وبينه. فأناخ راحلته، ثم دعاه: يا ابن أخي! أنا عمك وقد أردت الذهاب بك إلى قومك، فاركب! فما كذب عبد المطلب أن جلس على عجز الراحلة، وجلس المطلب على الرحل، ثم بعثها، فانطلقت، فلما علمت أمه علقت تدعو حربها، فأخبرت أن عمه ذهب به.
ودخل المطلب مكة، وهو خلفه، والناس في أسواقهم ومجالسهم، فقاموا يرحبون به، ويحيونه، ويقولون: من هذا معك؟ فيقول: عبدي ابتعته بيثرب، ثم خرج حتى أتى الحزورة، فابتاع له حلة، ثم أدخله على امرأته خديجة بنت سعيد بن سهم، فلما كان العشي ألبسه، ثم جلس في مجلس بني عبد مناف، وأخبرهم خبره، وجعل بعد ذلك يخرج في تلك الحلة، فيطوف في سكك مكة، وكان أحسن الناس، فتقول قريش: هذا عبد المطلب! فلج اسمه عبد المطلب، وترك شيبة. ولما حضر رحيل المطلب إلى اليمن قال لعبد المطلب: أنت يا ابن أخي أولى بموضع أبيك، فقم بأمر مكة. فقام مقام المطلب، فتوفي المطلب في سفره ذلك بردمان، فقام عبد المطلب بأمر مكة، وشرف وساد، وأطعم الطعام، وسقى اللبن والعسل، حتى علا اسمه، وظهر فضله، وأقرت له قريش بالشرف، فلم يزل كذلك.
قال محمد بن الحسن: لما تكامل لعبد المطلب مجده وأقرت له قريش بالفضل، رأى، وهو نائم في الحجر، آتيا أتاه، فقال له: قم يا أبا البطحاء، واحفر زمزم حفيرة الشيخ الأعظم. فاستيقظ، فقال: اللهم بين لي في المنام مرة أخرى، فرآه يقول: قم فاحفر برة! قال: وما برة؟ قال: مضنة ضن بها على العالمين، وأعطيتها، ثم رأى قائلا يقول له: قم يا أبا الحارث، فاحفر زمزم لا تنزف ولا تذم، تروى الحج الأعظم، ثم رأى ثالثة: قم فاحفر! قال: وما أحفر؟ قال: احفر بين الفرث والدم عند مبحث الغراب الأعصم وقرية النمل، فإذا أبصرت الماء، فقل: هلم إلى الماء الروا، أعطيته على رغم العدا فلما استيقن عبد المطلب أنه قد صدق جلس عند البيت مفكرا في أمره، وذبحت بقرة بالحزورة، فأفلتت، وأقبلت تسعى، حتى طرحت نفسها موضع زمزم، فسلخت هناك، وقسم لحمها، وبقي الفرث والدم، فقال عبد المطلب: الله أكبر! ثم سعى لينظر، فإذا قرية نمل مجتمع في الأرض، فانطلق، فأتى بمعول، وابنه الحارث وحيده، فاجتمعت إليه قريش فقالوا: ما هذه؟ قال: أمرني ربي أن أحفر ما يروي الحجيج الأعظم! فقالوا له: أمر ربك بالجهل، لم لا تحفر في مسجدنا؟ قال: بذلك أمرني ربي. فلم يحفر إلا قليلاً، حتى بدا الطي، فكبر، واجتمعت قريش، فعلمت لما رأت الطي أنه قد صدق، وليس له من الولد يومئذ إلا الحارث، فلما رأى وحدته قال: اللهم! إن لك علي نذراً، إن وهبت لي عشرة ذكوراً، أن أنحر لك أحدهم وحفر حتى وجد سيوفاً، وسلاحاً، وغزالاً من ذهب مقرطاً، مجزعاً، ذهباً وفضة، فلما رأت قريش ذلك قالوا: يا أبا الحارث من فوق الأرض ومن تحتها، فأعطنا هذا المال الذي أعطاك الله، فإنها بئر أبينا إسماعيل، فأشركنا معك! فقال: إني لم أؤمر بالمال إنما أمرت بالماء، فأمهلوني! فلم يزل يحفر حتى بدا الماء، فكثر، ثم قال: بحرها لا تنزف، وبنى عليها حوضاً وملأه ماء، ونادى: هلم إلى الماء الروا، أعطيته على رغم العدا. وكانت قريش تفسد ذلك الحوض وتكسره، فرأى في المنام: أن قم، فقل: اللهم! إني لا أحله لمغتسل، ولكن لشارب حل، فقام عبد المطلب، فقال ذلك، فلم يكن يفسد ذلك الحوض أحد إلا رمي بداء من ساعته، فتركوه.
ولما استقام له الماء دعا ستة قداح، فجعل لله قدحين أسودين، وجعل للكعبة قدحين أبيضين، وجعل لقريش قدحين أحمرين، ثم أخذها بيده، واستقبل الكعبة، ثم أفاض، وهو يقول:
يا رب أنت الأحد الفرد الصمد ... إن شئت ألهمت الصواب والرشد
وزدت في المال، وأكثرت الولد ... إني مولاك على رغم معد
ثم ضرب فخرج الأسودان لله، فقال قال ربكم: هو مالي، ثم أفاض، وهو يقول:
لهم أنت الملك المحمود ... وأنت ربي المبدىء المعيد
من عندك الطارف والتليد ... إن شئت ألهمت بما تريد
فخرج الأبيضان للكعبة، فقال: أخبرني ربي أن المال كله له، فحلى به الكعبة، وجعله صفائح على باب الكعبة، وكان أول من حلي الكعبة.
ولما رأت قريش ما أعطيه نفست ذلك عليه، فقالت: أنا لشركاء معك لأنها بئر أبينا إسماعيل، فقال: هذا شيء خصصت به دونكم، فنافروه إلى كاهنة بني سعد، فقضت له عليهم.
وروى بعضهم أن ماء عبد المطلب نفد في الطريق ومياه القوم، فخافوا الهلكة، فقال عبد المطلب: ليحفر كل رجل منا لنفسه حفيراً، ثم ليقعد فيه، حتى يأتيه الموت، ففعلوا، ثم قال: إن إلقاءنا بأيدينا لعجز، فلو ركبنا وطلبنا الماء! فلما استوى على راحلته انفجرت تحت صدرها عين ماء، فقال: ردوا الماء! فقالوا: لقد قضى لك الله علينا، ولا حاجة في أن نناوئك، فانصرفوا.
ولما رأت قريش أن عبد المطلب قد حاز الفخر طلبت أن يحالف بعضها بعضاً ليعزوا، وكان أول من طلب ذلك بنو عبد الدار لما رأت حال عبد المطلب، فمشت بنو عبد الدار إلى بني سهم، فقالوا: امنعونا من بني عبد مناف! فلما رأى ذلك بنو عبد مناف اجتمعوا، خلا بني عبد شمس، فإن الزبيري قال: لم يكن ولد عبد شمس في حلف المطيبين، ولا ولد عبد مناف، وإنما كان فيهم هاشم، وبنو المطلب، وبنو نوفل، وقال آخرون: كانت بنو عبد شمس معهم، فأخرجت لهم أم حكيم البيضاء بنت عبد المطلب طيباً في جفنة، ثم وضعتها في الحجر، فتطيب بنو عبد مناف، وأسد، وزهرة، وبنو تيم، وبنو الحارث بن فهر، فسموا حلف المطيبين، فلما سمعت بذلك بنو سهم ذبحوا بقرة، وقالوا: من أدخل يده في دمها ولعق منه، فهو منا! فأدخلت أيديها بنو سهم، وبنو عبد الدار، وبنو جمح، وبنو عدي، وبنو مخزوم، فسموا اللعقة، وكان تحالف المطيبين ألا يتخاذلوا، ولا يسلم بعضهم بعضاً، وقالت اللعقة: قد أعتدنا لكل قبيلة قبيلة.
وكان عبد المطلب لما حفر زمزم صار إلى الطائف فاحتفر بها بئرا يقال لها ذو الهرم، فكان يأتي أحياناً، فيقيم بذلك الماء، فأتى مرة، فوجد به حيين من قيس عيلان، وهم بنو كلاب، وبنو الرباب، فقال عبد المطلب: الماء مائي، وأنا أحق به، وقال القيسيون: الماء ماؤنا، ونحن أحق به. قال: فإني أنافركم إلى من شئتم يحكم بيني وبينكم، فنافروه إلى سطيح الغساني، وكان كاهن العرب يتنافرون إليه، فتعاهد القوم وتعاقدوا على أن سطيحاً إن قضى بالماء لعبد المطلب، فعلى كلاب وبني الرباب مائة من الإبل لعبد المطلب، وعشرون لسطيح، وإن قضى سطيح بالماء للحيين، فعلى عبد المطلب مائة من الإبل للقوم، وعشرون لسطيح، فانطلقوا، وانطلق عبد المطلب بعشرة نفر من قريش، فيهم حرب بن أمية، فجعل عبد المطلب لا ينزل منزلاً إلا نحر جزورا وأطعم الناس، فقال القيسيون: إن هذا الرجل عظيم الشأن، جليل القدر، شريف الفعل، وإنا نخشى أن يطمع حاكمنا بهذا، فيقضي له بالماء، فانظروا لا نرضى بقول سطيح حتى نخبىء له خبأ، فإن أخبرنا ما هو رضينا بحكمه، وإلا لم نرض به.
فبينا عبد المطلب في بعض الطريق إذ فنى ماؤه وماء أصحابه، فاستسقى القيسيين من فضل مائهم، فأبوا أن يسقوهم، وقالوا: أنتم الذين تخاصموننا وتنازعوننا في مائنا، والله لا نسقيكم! فقال عبد المطلب: أيهلك عشرة من قريش، وأنا حي؟ لأطلبن لهم الماء، حتى ينقطع خيط
عنقي، وأبلي عذراً، فركب راحلته، وأخذ الفلاة، فبينا هو فيها، إذ بركت راحلته وبصر به القوم، فقالوا: هلك عبد المطلب! فقال القرشيون: كلا والله لهو أكرم على الله من أن يهلكه، وإنما مضى لصلة الرحم، فانتهوا إليه، وراحلته تفحص بكركرتها على ماء عذب، روي، قد ساح على ظهر الأرض، فلما رأى القيسيون ذلك أهرقوا أسقيتهم، وأقبلوا نحوهم ليأخذوا من الماء، فقال القرشيون: كلا والله، ألستم الذين منعتمونا فضل مائكم؟ فقال عبد المطلب: خلوا القوم، فإن الماء لا يمنع! فقال القيسيون: هذا رجل شريف سيد، وقد خشينا أن يقضي له علينا، فلما وصلوا إلى سطيح قالوا: إنا قد خبأنا لك خبأ، وأخذ إنسان منهم تمرة في يده فقال: فأخبرنا ما هو؟ فقال: خبأتم لي ما طال، فسمك، ثم أينع، فما هلك، ألق التمرة من يدك! فقالوا: قاتله الله! اخبئوا له خبأ هو أخفى منه، فأخذ إنسان جرادة، فقالوا له: إنا قد خبأنا لك خبأ، فأخبرنا ما هو؟ قال: خبأتم لي ما رجله كالمنشار، وعينه كالدينار، قالوا: إي. قال: ما طار، فسطع، ثم قبض، فوقع، فترك الصيد أنفع. قالوا: ما له، قاتله الله؟ اخبئوا له خبأ هو أخفى من هذا! فأخذوا رأس جرادة، فجعلوه في خرز مزادة، ثم علقوه في عنق كلب لهم يقال له سوار، ثم ضربوه حتى ذهب، ثم رجع على الطريق، فقالوا: قد خبأنا لك خبأ، فأخبرنا ما هو؟ قال: خبأتم لي رأس جرادة، في خرز مزادة، بين عنق سوار والقلادة. قالوا: اقض بيننا! قال: قد قضيت. اختصمتم أنتم وعبد المطلب في ماء بالطائف يقال له ذو الهرم، فالماء ماء عبد المطلب، ولا حق لكم فيه، فأدوا إلى عبد المطلب مائة من الإبل، وإلى سطيح عشرين، ففعلوا.
وانطلق عبد المطلب ينحر ويطعم، حتى دخل مكة، فنادى مناديه: يا معشر أهل مكة! إن عبد المطلب يسألكم بالرحم، لما قام كل رجل منكم حدثته نفسه أن يغنيني عن هذا الغرم، فأخذ مثل ما حدثته نفسه. فقاموا، وأخذوا من بعير واثنين وثلاثة على قدر ما حدثت كل امرىء منهم نفسه، وفضلت بعد ذلك جزائر، فقال عبد المطلب لابنه أبي طالب: أي بني! قد أطعمت الناس، فانطلق بهذه الجزائر، فانحرها على أبي قبيس، حتى يأكلها الطير والسباع، ففعل أبو طالب ذلك، فأصابها الطير والسباع. قال أبو طالب:
ونطعم حتى يأكل الطير فضلنا ... إذا جعلت أيدي المفيضين ترعد
قال أبو إسحاق وغيره من أهل العلم: تزوج عبد المطلب النساء، فولد له الأولاد، ولما كمل عشرة رهط قال: اللهم إني قد كنت نذرت لك نحر أحدهم، وإني أقرع بينهم، فأصب بذلك من شئت. فأقرع فصارت القرعة على عبد الله بن عبد المطلب، وكان أحب ولده إليه، وكان ولده العشرة الحارث، وبه يكنى، وقثم وأمهما صفية بنت جندب من ولد عامر بن صعصعة، والزبير، وأبو طالب، وعبد الله والمقوم، وهو عبد الكعبة، وأم الأربعة فاطمة بنت عمرو بن عائذ بن عمران بن مخزوم، وحمزة وأمه هالة بنت أهيب ابن عبد مناف بن زهرة، والعباس، وضرار وأمهما نتيلة بنت جناب بن كليب بن النمر بن قاسط، وأبو لهب، وهو عبد العزى، و أمه لبني بنت هاجر بن عبد مناف بن ضاطر الخزاعي، والغيداق، وهو جحل، وأمه ممنعة بنت عمرو بن مالك بن نوفل الخزاعي، وكانت بناته ستاً: أم حكيم البيضاء، وعاتكة، وبرة، وأروا وأميمة وأمهن جميعاً فاطمة بنت عمرو بن عائذ بن عمران بن مخزوم، وصفية وأمها هالة بنت أهيب، فانطلق عبد المطلب بعبد الله ليذبحه، وأخذ الشفرة، وأتبعه ابنه الحارث، فلما سمعت ذلك قريش لحقته، وقالت: يا أبا الحارث! إنك إن فعلت ذلك صارت سنة في قومك، ولم يزل الرجل يأتي بولده إلى ههنا ليذبحه، فقال: إني عاهدت ربي، وإني موف له بما عاهدته. فقال له بعضهم: افده! فقام، وهو يقول:
عاهدت ربي، وأنا موفٍ عهده ... أخاف ربي إن تركت وعده
والله لا يحمد شيء حمده
ثم أحضر مائة من الإبل، فضرب بالقداح عليها، وعلى عبد الله، فخرجت على الإبل، فكبر الناس، وقالوا: قد رضي ربك! فقال عبد المطلب:
لهم رب البلد المحرم ... الطيب، المبارك، المعظم
أنت الذي أعنتني في زمزم
ثم قال: إني معيد القداح، فأعادها، فخرجت على الإبل، فقال:
لهم قد أعطيتني سؤالي ... أكثرت بعد قلةٍ عيالي
فاجعل فداه اليوم جل مالي
ثم ضرب بالقداح ثالثة، فخرجت على الإبل، فنحرها، ونادى مناديه: ألا فخذوا لحمها! وانصرف عنها، ووثب الناس يأخذونها، فلذلك يقول مرة بن خلف الفهمي:
كما قسمت نهباً ديات ابن هاشم ... ببطحاء بسل حيث يعتصب البرك
وصارت الدية من الإبل على ما سن عبد المطلب ولما قدم أبرهة ملك الحبشة صاحب الفيل مكة ليهدم الكعبة تهاربت قريش في رؤوس الجبال، فقال عبد المطلب: لو اجتمعنا، فدفعنا هذا الجيش عن بيت الله؟ فقالت قريش: لا بد لنا به! فأقام عبد المطلب في الحرم، وقال: لا أبرح من حرم الله، ولا أعوذ بغير الله، فأخذ أصحاب أبرهة إبلاً لعبد المطلب، وصار عبد المطلب إلى أبرهة، فلما استأذن عليه قيل له: قد أتاك سيد العرب، وعظيم قريش وشريف الناس، فلما دخل عليه أعظمه أبرهة، وجل في قلبه لما رأى من جماله، وكماله، ونبله، فقال لترجمانه: قل له: سل ما بدا لك! فقال: إبلاً لي أخذها أصحابك، فقال: لقد رأيتك، فأجللتك، وأعظمتك، وقد تراني حيث نهدم مكرمتك وشرفك، فلم تسألني الانصراف، وتكلمني في إبلك؟ فقال عبد المطلب: أنا رب هذه الإبل، ولهذا البيت الذي زعمت أنك تريد هدمه رب يمنعك منه. فرد الإبل، وداخله ذعر لكلام عبد المطلب، فلما انصرف جمع ولده ومن معه، ثم جاء إلى باب الكعبة، فتعلق به وقال:
لهم! إن تعف فإنهم عيالك ... إلا فشيء ما بدا لك
ثم انصرف وهو يقول:
لهم! إن المرء يمنع رحله فامنع حلالك
لا يغلبن صليبهم ومحالهم عدواً محالك
ولئن فعلت، فإنه أمر تتم به فعالك
وأقام بموضعه، فلما كان من غد بعث ابنه عبد الله ليأتيه بالخبر، ودنا وقد اجتمعت إليه من قريش جماعة ليقاتلوا معه إن أمكنهم ذلك. فأتى عبد الله على فرس شقراء يركض، وقد جردت ركبته، فقال عبد المطلب: قد جاءكم عبد الله بشيراً ونذيراً، والله ما رأيت ركبته قط قبل اليوم، فأخبرهم ما صنع الله بأصحاب الفيل، وقال عبد المطلب لما كان من أصحاب الفيل ما كان:
أيها الداعي لقد أسمعتني ... ثم ناد، عن نداكم، من صمم
هل يد الله أمر، أم له ... سنة في القوم ليست في الأمم
قلت، والأشرم تردي خيله: ... إن ذا الأشرم غر بالحرم
إن للبيت لرباً مانعاً ... من يرده بأثام يصطلم
رامه تبع، فيما قد مضى ... و كذا حمير، والحي قدم
فانثنى عنه، وفي أوداجه ... حارج أمسك منه بالكظم
هلكت بالبغي فيه جرهم ... بعد طسم، وجديس، وجمم
وكذا الأمر بمن كاده بحر ... ب، فأمر الله بالأمر اللمم
نعرف الله، وفينا سنة ... صلة الرحم، وإيفاء الذمم
لم يزل لله فينا حجة ... يدفع الله بها عنا النقم
نحن أهل الله في بلدته ... لم يزل ذاك على عهد أبرهم
أديان العربوكانت أديان العرب مختلفة بالمجاورات لأهل الملل، والانتقال إلى البلدان، والانتجاعات، فكانت قريش، وعامة ولد معد بن عدنان، على بعض دين إبراهيم، يحجون البيت، ويقيمون المناسك، ويقرون الضيف، ويعظمون الأشهر الحرم، وينكرون الفواحش والتقاطع والتظالم، ويعاقبون على الجرائم، فلم يزالوا على ذلك ما كانوا ولاة البيت.
وكان آخر من قام بولاية البيت الحرام من ولد معد: ثعلبة بن أياد بن نزار بن معد، فلما خرجت أياد وليت خزاعة حجابه البيت، فغيروا ما كان عليه الأمر في المناسك، حتى كانوا يفيضون من عرفات قبل الغروب، ومن جمع بعد أن تطلع الشمس. وخرج عمرو بن لحي، واسم لحي ربيعة بن حارثة بن عمرو بن عامر، إلى أرض الشام، وبها قوم من العمالقة يعبدون الأصنام، فقال لهم: ما هذه الأوثان التي أراكم تعبدون؟ قالوا: هذه أصنام نعبدها، نستنصرها، فننصر، ونستسقي بها، فنسقى، فقال: ألا تعطونني منها صنما، فأسير به إلى
أرض العرب، عند بيت الله الذي تفد إليه العرب؟ فأعطوه صنماً يقال له هبل، فقدم به مكة، فوضعه عند الكعبة، فكان أول صنم وضع بمكة، ثم وضعوا به إساف ونائلة كل واحد منهما على ركن من أركان البيت، فكان الطائف، إذا طاف، بدأ بإساف، فقبله، وختم به، ونصبوا على الصفا صنما يقال له مجاور الريح، وعلى المروة صنما يقال له مطعم الطير، فكانت العرب إذا حجت البيت، فرأت تلك الأصنام، سألت قريشا وخزاعة، فيقولون: نعبدها لتقربنا إلى الله زلفى، فلما رأت العرب ذلك اتخذت أصناماً، فجعلت كل قبيلة لها صنماً يصلون له تقرباً إلى الله، فيما يقولون، فكان لكلب بن وبرة وأحياء قضاعة ود منصوبا بدومة الجندل، بجرش، وكان لحمير وهمدان نسر منصوباً بصنعاء، وكان لكنانة سواع، وكان لغطفان العزى، وكان لهند وبجيلة وخثعم ذو الخلصة، وكان لطيء الفلس منصوباً بالحبس، وكان لربيعة وأياد ذو الكعبات بسنداد، من أرض العراق، وكان لثقيف اللات منصوباً بالطائف، وكان للأوس والخزرج مناة منصوبا بفدك، مما يلي ساحل البحر، وكان لدوس صنم يقال له ذو الكفين، ولبني بكر بن كنانة صنم يقال له سعد، وكان لقوم من عذرة صنم يقال له شمس، وكان للأزد صنم يقال له رئام، فكانت العرب، إذا أرادت حج البيت الحرام، وقفت كل قبيلة عند صنمها، وصلوا عنده، ثم تلبوا حتى تقدموا مكة، فكانت تلبياتهم مختلفة.
وكانت تلبية قريش: لبيك، اللهم، لبيك! لبيك لا شريك لك، تملكه، وما ملك.
وكانت تلبية كنانة: لبيك اللهم لبيك! اليوم يوم التعريف، يوم الدعاء والوقوف.
وكانت تلبية بني أسد: لبيك اللهم لبيك! يا رب أقبلت بنو أسد أهل التواني والوفاء والجلد إليك. وكانت تلبية بني تميم: لبيك اللهم لبيك! لبيك لبيك عن تميم قد تراها قد أخلقت أثوابها وأثواب من وراءها، وأخلصت لربها دعاءها.
وكانت تلبية قيس عيلان: لبيك اللهم لبيك! لبيك أنت الرحمن، أتتك قيس عيلان راجلها والركبان.
وكانت تلبية ثقيف: لبيك اللهم! إن ثقيفاً قد أتوك وأخلفوا المال، وقد رجوك. وكانت تلبية هذيل: لبيك عن هذيل قد أدلجوا بليل في إبل وخيل.
وكانت تلبية ربيعة: لبيك ربنا لبيك لبيك! إن قصدنا إليك، وبعضهم يقول: لبيك عن ربيعة، سامعة لربها مطيعة.
وكانت حمير وهمدان يقولون: لبيك عن حمير وهمدان، والحليفين من حاشد وألهان.
وكانت تلبية الأزد: لبيك رب الأرباب! تعلم فصل الخطاب، لملك كل مثاب.
وكانت تلبية مذحج: لبيك رب الشعرى، ورب اللات والعزى.
وكانت تلبية كندة وحضرموت: لبيك لا شريك لك! تملكه، أو تهلكه، أنت حكيم فاتركه.
وكانت تلبية غسان: لبيك رب غسان راجلها والفرسان.
وكانت تلبية بجيلة: لبيك عن بجيلة في بارق ومخيلة.
وكانت تلبية قضاعة: لبيك عن قضاعة، لربها دفاعة، سمعاً له وطاعة.
وكانت تلبية جذام: لبيك عن جذام ذي النهى والأحلام.
وكانت تلبية عك والأشعريين: نحج للرحمن بيتاً عجباً، مستتراً، مضبباً، محجباً.
وكانت العرب في أديانهم على صنفين: الحمس والحلة، فأما الحمس، فقريش كلها، وأما الحلة، فخزاعة لنزولها مكة ومجاورتها قريشاً، وكانوا يشددون على أنفسهم في دينهم، فإذا نسكوا لم يسلاوا سمناً، ولم يدخروا لبناً، ولم يحولوا بين مرضعة ورضاعها، حتى يعافه، ولم يحزوا شعراً، ولا ظفراً، ولم يدهنوا، ولم يمسوا النساء ولا الطيب، ولم يأكلوا لحما، ولم يلبسوا في حجهم وبراً ولا صوفاً ولا شعراً، ويلبسون جديداً، ويطوفون بالبيت في نعالهم لا يطأون أرض المسجد تعظيماً له، ولا يدخلون البيوت من أبوابها، ولا يخرجون إلى عرفات، ويلزمون مزدلفة ويسكنون في حال نسكهم قباب الأدم.
وكان الحلة، وهي تميم، وضبة، ومزينة، والرباب، وعكل وثور، وقيس عيلان، كلها، ما خلا عدوان وثقيفاً، وعامر بن صعصعة، وربيعة ابن نزار كلها، وقضاعة، وحضرموت، وعك، و قبائل من الأزد لا يحرمون الصيد في النسك، ويلبسون كل الثياب، ويسلأون السمن، ولا يدخلون من باب بيت ولا دار، ولا يؤويهم ما داموا محرمين، وكانوا يدهنون ويتطيبون، ويأكلون اللحم، فإذا دخلوا مكة، بعد فراغهم، نزعوا ثيابهم التي كانت عليهم، فإن قدروا على أن يلبسوا ثياب الحمس كراء أو عارية فعلوا وإلا طافوا بالبيت عراة، وكانوا لا يشترون في حجهم، ولا يبيعون، فهاتان الشريعتان اللتان كانت العرب عليهما.
ثم دخل قوم من العرب في دين اليهود، وفارقوا هذا الدين، ودخل آخرون في النصرانية، وتزندق منهم قوم، فقالوا بالثنوية، فأما من تهود منهم، فاليمن بأسرها، كان تبع حمل حبرين من أحبار اليهود إلى اليمن، فأبطل الأوثان، وتهود من باليمن، وتهود قوم من الأوس والخزرج، بعد خروجهم من اليمن، لمجاورتهم يهود خيبر، وقريظة، والنضير، وتهود قوم من بني الحارث بن كعب، وقوم من غسان، وقوم من جذام.
وأما من تنصر من أحياء العرب، فقوم من قريش من بني أسد بن عبد العزى، منهم: عثمان بن الحويرث بن أسد بن عبد العزى، وورقة بن نوفل بن أسد، ومن بني تميم بنو امرىء القيس بن زيد مناة، ومن ربيعة بنو تغلب، ومن اليمن طيء، ومذحج، وبهراء، وسليح، وتنوخ، وغسان، ولخم، وتزندق حجر بن عمرو الكندي.
حكام للعربوكان للعرب حكام ترجع إليها في أمورها، وتتحاكم في منافراتها، ومواريثها، ومياهها، ودمائها، لأنه لم يكن دين يرجع إلى شرائعه، فكانوا يحكمون أهل الشرف، والصدق، والأمانة والرئاسة، والسن، والمجد، والتجربة.
وكان أول من استقضى إليه، فحكم: الأفعى بن الأفعى الجرهمي، وهو الذي حكم بين بني نزار في ميراثهم، ثم سليمان بن نوفل، ثم معاوية بن عروة، ثم سخر بن يعمر بن نفاثة بن عدي بن الدئل، ثم الشداخ، وهو يعمر ابن عوف بن كعب بن عامر بن ليث بن بكر بن عبد مناة بن كنانة، وسويد بن ربيعة بن حذار بن مرة بن الحارث بن سعد، ومخاشن بن معاوية بن شريف ابن جروة بن أسيد بن عمرو بن تميم، وكان يجلس على سرير من خشب، فسمي ذا الأعواد، وأكثم بن صيفي بن رباح بن الحارث بن مخاشن، وعامر بن الظرب بن عمرو بن عياذ بن يشكر بن عدوان بن عمرو بن قيس، وهرم بن قطبة بن سيار الفزاري، وغيلان بن سلمة بن معتب الثقفي، وسنان ابن أبي حارثة المري، والحارث بن عباد بن ضبيعة بن قيس بن ثعلبة، وعامر الضحيان بن الضحاك بن النمر بن قاسط، والجعد بن صبرة الشيباني، ووكيع ابن سلمة ابن زهير الأيادي، وهو صاحب الصرح بالحزورة، وقس بن ساعدة الأيادي، وحنظلة ابن نهد القضاعي، وعمرو بن حممة الدوسي.
وكان في قريش حكام منهم: عبد المطلب، وحرب بن أمية، والزبير ابن عبد المطلب، وعبد الله بن جدعان، والوليد بن المغيرة المخزومي.
أزلام العربوكانت العرب تستقسم بالأزلام في كل أمورها، وهي القداح، ولا يكون لها سفر ولا مقام، ولا نكاح، ولا معرفة حال، إلا رجعت إلى القداح، وكانت القداح سبعة: فواحد عليه: الله عز وجل والآخر: لكم، والآخر: عليكم، والآخر: نعم، والآخر: منكم، والآخر: من غيركم، والآخر: الوعد، فكانوا إذا أرادوا أمرا رجعوا إلى القداح، فضربوا بها، ثم عملوا بما يخرج من القداح لا يتعدونه، ولا يجوزونه، وكان لهم أمناء على القداح لا يثقون بغيرهم.
وكانت العرب، إذا كان الشتاء ونالهم القحط، وقلت ألبان الإبل، استعملوا الميسر، وهي الأزلام، و تقامروا عليها، وضربوا بالقداح، وكانت قداح الميسر عشرة: سبعة منها لها أنصب، وثلاثة لا أنصب لها، فالسبعة التي لها أنصب يقال لأولها الفذ، وله جزء، والتوأم، وله جزءان، والرقيب، وله ثلاثة أجزاء، والحلس، وله أربعة أجزاء، والنافس، وله خمسة أجزاء، والمسبل، وله ستة أجزاء، والمعلى، وله سبعة أجزاء، والثلاثة التي لا أنصب لها إغفال ليس عليها اسم يقال لها: المنيح، والسفيح، والوغد.
وكانت الجزور تشترى بما بلغت، ولا ينقد الثمن، ثم يدعي الجزار، فيقسمها عشرة أجزاء، فإذا قسمت أجزاؤها على السواء أخذ الجزار أجزاءه، وهي الرأس والأرجل، وأحضرت القداح العشرة، واجتمع فتيان الحي، فأخذ كل فرقة على قدر حالهم ويسارهم، وقدر احتمالهم، فيأخذ الأول الفذ، وهو الذي فيه نصيب واحد من العشرة أجزاء، فإذا خرج له جزء واحد أخذ من الجزور جزءاً، وإن لم يكن يخرج له غرم ثمن جزء من الجزور، ويأخذ الثاني التوأم، وله نصيبان من أجزاء الجزور، فإن خرج أخذ جزئين من الجزور، وإن لم يخرج غرم ثمن الجزئين.
وكذلك سائر القداح على ما سمينا منها، فما خرج أخذ صاحبه ما فيه، وما لم يخرج غرم ما
فيه من الأجزاء، فإذا عرف كل رجل منهم قدحه دفعوا القداح إلى رجل أخس لا ينظر إليها، معروف أنه لم يأكل لحماً قط بثمن، ويسمى الحرضة، ثم يؤتى بالمجول، وهو ثوب شديد البياض، فيجعل على يده ويعمد إلى السلفة وهي قطعة من جراب، فيعصب بها على كفه لئلا يجد مس قداح يكون له في صاحبه هوى، فيخرجه، ويأتي رجل، فيجلس خلف الحرضة، يسمى الرقيب، ثم يفيض الحرضة بالقداح، فإذا نشز منها قدح استله الحرضة، فلم ينظر إليه حتى يدفعه إلى الرقيب، فينظر لمن هو، فيدفعه لصاحبه، فيأخذ من أجزاء الجزور على نصيبه منها، فإن خرج من الثلاثة الأغفال شيء رد من ساعته، وإن خرج أولاً الفذ أخذ صاحبه نصيبه، وضربوا بباقي القداح على التسعة الأجزاء الآخر، فإن خرج التوأم أخذ صاحبه جزئين، و ضربوا بباقي القداح على الثمانية الأجزاء الآخر، فإن خرج المعلى أخذ صاحبه نصيبه، وهو السبعة الأجزاء التي بقيت، وخرجوا وفقاً، ووقع غرم ثمن الجزور على من خاب سهمه، وهم أربعة: صاحب الرقيب والحلس والنافس والمسبل، ولهذه القداح ثمانية عشر سهماً، فيجزا الثمن على ثمانية عشر جزءاً، وأخذ كل واحد من الغرم مثل الذي كان نصيبه من اللحم لو فاز قدحه، وإن خرج المعلى أول القداح أخذ صاحبه سبعة أجزاء الجزور، وكان الغرم على أصحاب القداح التي خابت، واحتاجوا أن ينحروا جزورا أخرى لأن في قداحهم المسبل، وله ستة أجزاء، ولم يبق من اللحم إلا ثلاثة أجزاء.
ولا ينبغي لمن خاب قدحه في الجزور الأولى أن يأكل منها شيئاً، فإنه يعاب به، فإن نحروا الجزور الثانية، وضربوا عليها القداح، فخرج المسبل، أخذ صاحبه ستة أجزاء الجزور الأخرى: الثلاثة الباقية من الجزور الأولى، وثلاثة أجزاء من الجزور الثانية، ولزمه الغرم في الجزور الأولى، ولم يلزمه في الثانية شيء لأن قدحه قد فاز، وبقي من الجزور الثانية سبعة أجزاء، فيضرب عليها بقداح من بقي، فإن خرج النافس أخذ صاحبه خمسة أجزاء، ولم يغرم من ثمن الجزور الثانية شيئاً، لأن قدحه قد فاز، ولزمه الغرم من الأولى، وبقي جزءان من اللحم.
وفيما بقي من القداح الحلس له أربعة أجزاء، فيحتاجون أن ينحروا جزوراً أخرى لتتمة أربعة، ولا ينبغي لمن خاب قدحه في الجزور الثانية أن يأكل منها شيئاً، لأنه يعاب به، وإن نحروا الجزور الثالثة وفاز الحلس أخذ صاحبه أربعة أجزاء: جزئين من الجزور الثانية، وجزئين من الجزور الثالثة، ولم يغرم من الجزور الثالثة شيئاً لأنه فاز قدحه، ويبقى ثمانية أجزاء من الجزور الثالثة فيضرب بباقي القداح عليها، حتى يخرج قداحهم، وفقاً لاجزاء الجزور، فهذا حساب غرمهم الثمن كما وصفت.
وربما كانت أجزاء اللحم موافقة لاجزاء القداح، فلا يحتاجون إلى نحر شيء إنما تنحر الجزور، إذا قصرت أجزاء اللحم عن بعض القداح، فإن عاد بعض من فاز قدحه ثانية، فخاب غرم من ثمن الجزور التي خاب قدحه منها على هذا الحساب، فإن فضل من أجزاء اللحم شيء، وقد خرجت القداح كلها، كانت تلك الأجزاء لأهل المسكنة من العشيرة، فهذا تفسير الميسر.
وكانوا يفتخرون به ويرون أنه من فعال الكرم والشرف، ولهم في هذا أشعار كثيرة يفتخرون بها.
شعراء العربوكانت العرب تقيم الشعر مقام الحكمة وكثير العلم، فإذا كان في القبيلة الشاعر الماهر، المصيب المعاني، المخير الكلام، أحضروه في أسواقهم التي كانت تقوم لهم في السنة ومواسمهم عند حجهم البيت، حتى تقف وتجتمع القبائل والعشائر، فتسمع شعره، ويجعلون ذلك فخرا من فخرهم، وشرفاً من شرفهم.
ولم يكن لهم شيء يرجعون إليه من أحكامهم وأفعالهم إلا الشعر، فبه كانوا يختصمون، وبه يتمثلون، وبه يتفاضلون، وبه يتقاسمون، وبه يتناضلون، وبه يمدحون ويعابون، فكان ممن قدم شعره في جاهلية العرب على ما أجمعت عليه الرواة وأهل العلم بالشعر، وجاءت به الآثار والأخبار، من شعراء العرب في جاهليتها مع من أدركه الإسلام، فسمي مخضرماً، فإنهم دخلوا مع من تقدم، فسموا الفحول، وقدموا على تقدم أشعارهم في الجودة، فإن كان بعضهم أقدم من بعض وهم على ما بينا من أسمائهم ومراتبهم على الولاء، فأولهم امرؤ القيس بن حجر بن الحارث بن عمرو بن حجر آكل المرار بن معاوية ابن ثور، وهو كندة.
والنابغة الذبياني، وهو زياد بن معاوية بن ضباب بن جابر بن يربوع بن غيظ ابن مرة بن عوف بن سعد بن ذبيان.
وزهير بن أبي سلمى، واسم أبي سلمى ربيعة بن رياح بن قرط بن الحارث بن مازن بن ثعلبة بن ثور بن هذمة بن لاطم بن عثمان بن عمرو بن أد.
والأعشى، وهو أعشى وائل، وهو ميمون بن قيس بن جندل بن شراحيل ابن عوف بن سعد بن ضبيعة بن قيس بن ثعلبة.
وعبيد بن الأبرص بن حنتم بن عامر بن مالك بن زهير بن مالك بن الحارث بن سعد بن ثعلبة ابن دودان بن أسد.
ومهلهل وهو امرؤ القيس بن ربيعة بن الحارث بن زهير بن جشم بن بكر بن حبيب بن عمرو ابن غنم بن تغلب بن وائل.
وعلقمة بن عبدة بن ناشرة بن قيس بن عبد بن ربيعة بن مالك بن زيد مناة بن تميم.
والحارث بن حلزة بن مكروه بن يزيد بن عبد الله بن مالك بن عبد بن سعد ابن جشم بن عامر بن ذبيان بن كنانة بن يشكر بن بكر بن وائل.
وعمرو بن كلثوم بن مالك بن عتاب بن سعد بن زهير بن جشم بن بكر بن حبيب بن عمرو بن غنم بن تغلب بن وائل. وسعد بن مالك بن ضبيعة بن قيس بن ثعلبة بن عكابة بن علي بن بكر ابن وائل.
والأسود بن يعفر بن عبد الأسود بن جندل بن نهشل بن دارم بن مالك بن حنظلة بن مالك بن زيد مناة بن تميم.
وسويد بن أبي كاهل بن حارثة بن حسل بن مالك بن عبد بن سعد بن جشم ابن ذبيان بن كنانة بن يشكر بن بكر بن وائل.
وأوس بن حجر بن مالك بن حزن بن عمرو بن خلف بن نمير بن أسيد بن عمرو بن تميم بن مر.
وذو الإصبع العدواني، وهو حرثان بن حارث بن محرث بن ثعلبة بن سيار بن ربيعة بن هبيرة بن ثعلبة بن ظرب بن عمرو بن عباد بن بكر بن يشكر ابن عدوان، وهو الحارث بن عمرو بن قيس عيلان.
وبشر بن أبي خازم، وهو عمرو بن عوف بن حنش بن ناشرة بن أسامة بن والبة.
وعنترة بن شداد بن معاوية بن نزار بن مخزوم بن مالك بن غالب بن قطيعة بن عبس بن بغيض.
وعبدة بن الطبيب التميمي.
والمتلمس، وهو جرير بن عبد المسيح بن عبد الله بن زيد بن دوفان بن حرب بن وهب بن أحمس بن ضبيعة بن ربيعة بن نزار.
وأبو دؤاد الأيادي وهو حوثرة بن الحارث بن الحجاج.
والمرقش الأكبر وهو عوف، وقيل عمرو بن سعد بن مالك بن ضبيعة ابن قيس بن ثعلبة. والمرقش الأصغر، وهو ربيعة بن معاوية بن سعد بن مالك بن ضبيعة بن قيس بن ثعلبة. والمسيب بن علس بن عمرو بن قضاعة بن عمرو بن زيد بن ثعلبة بن دعدي بن مالك بن جشم بن مالك بن جماعة بن جلي.
وعدي بن زيد بن حماد بن زيد بن أيوب بن محروف بن عامر بن عصية ابن امرىء القيس بن زيد مناة بن تميم.
وسلامة بن جندل بن عبد عمرو بن عبد الحارث، وهو مقاعس بن عمرو بن كعب بن سعد بن زيد مناة بن تميم.
وسحيم بن وثيل بن عمرو بن كرز بن وهيب بن حميري بن رياح ابن يربوع بن حنظلة بن مالك بن زيد مناة بن تميم.
والجميح الأسدي، وهو منقذ بن الطماح بن قيس بن طريف بن عمرو ابن قعين.
وحاتم الطائي، وهو حاتم بن عبد الله بن سعد بن الحشرج بن امرىء القيس ابن عدي بن أخزم بن ربيعة بن جرول بن ثعل بن عمرو بن الغوث.
وطفيل الخيل، وهو طفيل بن عوف بن خليف بن ضبيس بن مالك بن سعد بن عوف بن هلان بن غنم بن غني.
والسفاح، وهو سلمة بن خالد بن كعب بن زهير بن تيم بن أسامة بن مالك بن بكر بن حبيب بن غنم بن تغلب.
وتأبط شراً، وهو ثابت بن جابر بن سفيان بن عدي بن كعب بن فهم بن عمرو بن قيس عيلان. وابن المضلل الأسدي، وهو جلد بن قيس بن مالك بن منقذ بن طريف ابن عمرو بن قعين.
وكعب الأمثال الغنوي، وهو كعب بن سعد بن علقمة بن ربيعة بن زيد ابن أبي مليل بن رفاعة بن مسلم بن سعد.
والحكم بن.
ومروان القرظ بن زنباع بن جذيمة بن رواحة بن قطيعة بن عبس.
ودريد بن الصمة بن الحارث بن بكر بن علقة بن جداعة بن عرف بن جشم بن معاوية بن بكر بن هوازن.
وأمية بن أبي الصلت، وهو عبد الله بن ربيعة بن عقدة بن غيره بن عوف بن قسي وهو ثقيف. والأفوه الأودي، وهو صلاة بن عمرو بن مالك بن عوف بن الحارث بن عوف بن منبه بن أود بن صعب بن سعد العشيرة بن مذحج.
وعمرو بن قمئة بن ذريح بن سعد بن مالك بن ضبيعة بن قيس بن ثعلبة. وضابىء بن الحارث بن أرطأة بن شهاب بن عبيد بن حلول بن قيس بن حنظلة بن مالك.
وخفاف بن ندبة، وندبة هي أمه، وأبوه عمير بن الحارث بن عمرو بن الشريد بن رياح بن يقظة بن عصية بن خفاف بن امرىء القيس بن بهثة بن سليم. والمتنخل الهذلي، وهو مالك بن غنم بن سويد بن حبشي بن خناعة ابن الديل بن عادية بن صعصعة بن كعب بن طابخة بن لحيان بن هذيل.
والذهاب الفحل، وهو مالك بن جندل بن مسلمة بن مجمع بن ضبيعة بن عجل.
وعروة بن الورد بن زيد بن عبد الله بن ناشب بن سفيان بن عوذ بن غالب بن قطيعة بن عبس بن بغيض.
والحارث بن عباد بن ضبيعة بن قيس بن ثعلبة، وهو فارس النعامة.
وأنس بن مدرك بن عمرو بن سعد بن عوف بن العتيك بن حارثة بن عامر ابن تيم الله بن مبشر بن أكلب بن ربيعة بن عفرس بن حلف بن خثعم.
والمنخل بن مسعود بن أفلت بن قطن بن سوادة بن مالك بن ثعلبة بن غنم ابن حبيب بن كعب بن يشكر.
وأشيم بن شراحيل بن عبد رضي بن عبد عوف بن مالك بن ضبيعة بن قيس بن ثعلبة. والحارث بن ظالم بن جذيمة بن يربوع بن غيض بن مرة بن عوف بن سعد ابن ذبيان. وصفوان بن حصين بن مالك بن رفاعة بن سالم بن عبيد بن سعد العنزي.
والسموأل بن عاديا، وهو ينسب إلى غسان، فيقول بعضهم إنه يهودي من سبط يهوذا.
وعمرو بن الأهتم بن سمي بن سنان بن خالد بن منقر بن عبيد بن عمرو ابن كعب بن سعد بن زيد مناة بن تميم.
ومطرود بن كعب بن عرفطة بن النافذ بن مرة بن تيم بن سعد بن كعب بن عمرو بن ربيعة الخزاعي.
وأوس بن غلفاء بن فقتط بن معبد بن عامر بن يمامة.
وحصين بن الحمام بن ربيعة بن حرام بن واثلة بن سهم بن مرة بن عوف ابن سعد بن ذبيان بن عامر بن صعصعة.
والركاض الأسدي، وهو ركاض بن أباق بن بديل أحد بني دبير.
وسويد بن كراع العكلي.
والحويدرة، واسمه قطبة بن أوس بن محصن بن جرول بن حبيب الأعظم ابن عبد العزى بن خزيمة بن رزام بن مازن بن ثعلبة بن سعد بن ذبيان.
وأعشى بني أسد، وهو قيس بن بجرة بن منقذ بن طريف بن عمرو بن قعين.
وابن الزبعرى السهمي، وهو عبد الله بن قيس بن عدي بن سعد بن سهم من قريش.
وقطن بن نهشل بن دارم بن مالك بن حنظلة.
وابن دجاجة الفقيم، وهو بكير بن بريد بن أنس بن امرىء القيس.
وسويد بن سلامة بن حديج بن قيس بن عمرو بن قطن بن نهشل بن دارم ابن مالك بن حنظلة. وقيس بن زهير بن جذيمة بن رواحة بن ربيعة بن الحارث بن مازن بن قطيعة ابن عبس بن بغيض.
ومقيس بن صبابة أخو بني كلب بن عوف بن كعب بن عامر بن ليث بن كنانة، أدركه الإسلام، وأسلم، ثم ارتد فقتل يوم فتح مكة كافراً.
والمسيب بن الرفيل بن حارثة بن حيان بن قيس بن أبي جابر بن زهير بن جناب بن هبل الكلبي.
والبراض بن قيس بن رافع بن قيس بن جدي بن ضمرة الكناني.
وسبرة بن عمرو بن أهنان بن دثار بن فقعس. وشافع بن عبد العزى الضمري.
وسراقة بن مالك بن جعشم المدلجي.
ومصروف واسمه عمرو بن قيس بن مسعود بن عامر بن عمرو بن أبي ربيعة بن ذهل.
وابن رميلة الضبي.
وقيس بن مسعود بن عامر بن عمرو بن أبي ربيعة بن ذهل.
ومرداس بن أبي عامر بن جارية بن عبد بن عبس بن رفاعة بن الحارث ابن بهثة بن سليم بن منصور.
ومن شعراء الجاهلية الفحول المتقدمين الذين أدركوا الإسلام: النابغة الجعدي، وكان في السن مثل النابغة الذبياني، واسمه قيس بن عبد الله بن عدس ابن ربيعة بن جعدة بن كعب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة.
ولبيد بن ربيعة بن مالك بن جعفر بن كلاب بن عامر بن صعصعة.
وتميم بن أبي بن مقبل بن عوف بن حنيف بن قتيبة بن العجلان بن عبد الله بن كعب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة.
وكعب بن زهير بن أبي سلمى، وهو ربيعة بن رياح بن قرط بن الحارث ابن مازن بن ثعلبة بن ثور بن هذمة بن لاطم بن عثمان بن عمرو بن أد.
وعبد الله بن عامر بن كرب الكندي.
وأبو سمال الأسدي، واسمه شمعان بن هبيرة بن مساحق.
وزيد بن مهلهل، وهو زيد الخيل بن يزيد بن منهب بن عبد رضي بن المحلس بن ثور بن عدي بن كنانة بن مالك بن نبهان بن عمرو بن الغوث.
والحطيئة واسمه جرول بن أوس بن مالك بن جوية بن مخزوم بن مالك بن غالب بن قطيعة بن عبس.
وضرار بن الخطاب بن مرداس بن كبير بن عمرو المحاربي.
والشماخ بن ضرار بن سنان بن أمية بن عمرو بن جحاش بن بجالة بن مازن بن ثعلبة بن سعد بن ذبيان.
وأبو ذؤيب الهذلي، وهو خويلد بن خالد بن محرث بن ربيد بن مخزوم ابن صاهله بن كاهل بن تميم بن سعد بن هذيل.
وأبو كبير الهذلي، وهو عامر بن الحليس.
والحرث بن عمرو بن جرجة بن يربوع بن فزارة.
وعبد بني الحسحاس، وهو سحيم بن هند بن سفين بن ثعلبة بن ذودان ابن أسد بن خزيمة.
أسواق العربكانت أسواق العرب عشرة أسواق يجتمعون بها في تجاراتهم، ويجتمع فيها سائر الناس، ويأمنون فيها على دمائهم وأموالهم، فمنها: دومة الجندل، يقوم في شهر ربيع الأول، ورؤساؤها غسان وكلب أي الحيين غلب قام.
ثم المشقر بهجر يقوم سوقها في جمادى الأولى، تقوم بها بنو تيم رهط المنذر بن ساوى.
ثم صحار يقوم في رجب في أول يوم من رجب، ولا يحتاج فيها إلى خفارة، ثم يرتحلون من صحار إلى ريا يعشرهم فيها الجلندى وآل الجلندى.
ثم سوق الشحر شحر مهرة، فيقوم سوقها تحت ظل الجبل الذي عليه قبر هود النبي، ولم تكن بها خفارة، وكانت مهرة تقوم بها .
ثم سوق عدن يقوم في أول يوم من شهر رمضان ويعشرهم بها الأبناء، ومنها كان يحمل الطيب إلى سائر الآفاق.
ثم سوق صنعاء يقوم في النصف من شهر رمضان يعشرهم بها الأبناء.
ثم سوق الرابية بحضرموت، ولم يكن يوصل إليها إلا بخفارة لأنها لم تكن أرض مملكة، وكان من عز فيها بز، وكانت كندة تخفر فيها.
ثم سوق عكاظ بأعلى نجد يقوم في ذي القعدة، وينزلها قريش وسائر العرب إلا أن أكثرها مضر، وبها كانت مفاخرة العرب، وحمالاتهم، ومهادناتهم .
ثم سوق ذي المجاز، وكانت ترتحل من سوق عكاظ وسوق ذي المجاز إلى مكة لحجهم.
وكان في العرب قوم يستحلون المظالم إذا حضروا هذه الأسواق، فسموا المحلين، وكان فيهم من ينكر ذلك، وينصب نفسه لنصرة المظلوم، و المنع من سفك الدماء، وارتكاب المنكر فيسمون الذادة المحرمين، فأما المحلون فكانوا قبائل من أسد وطىء وبني بكر بن عبد مناة بن كنانة وقوماً من بني عامر بن صعصعة.
وأما الذادة المحرمون، فكانوا من بني عمرو بن تميم وبني حنظلة بن زيد مناة، وقوم من هذيل، وقوم من بني شيبان، وقوم من بني كلب بن وبرة، فكان هؤلاء يلبسون السلاح لدفعهم عن الناس، وكان العرب جميعا بين هؤلاء تضع أسلحتهم في الأشهر الحرم وكانت العرب تحضر سوق عكاظ، وعلى وجوهها البراقع، فيقال إن أول عربي كشف قناعة ظريف بن غنم العنبري، ففعلت العرب مثل فعله.
/بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله ولي التوفيق، الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد خاتم النبيين وعلى أهل بيته الطيبين الطاهرين.
إنه لما انقضى كتابنا الأول الذي اختصرنا فيه ابتداء كون الدنيا وأخبار الأوائل من الأمم المتقدمة والممالك المفترقة والأسباب المتشعبة ألفنا كتابنا هذا على ما رواه الأشياخ المتقدمون من العلماء والرواة وأصحاب السير والأخبار والتاريخات، ولم نذهب إلى التفرد بكتاب نصنفه ونتكلف منه ما قد سبقنا إليه غيرنا، لكنا قد ذهبنا إلى جمع المقالات والروايات لأنا قد وجدناهم قد اختلفوا في أحاديثهم وأخبارهم وفي السنين والأعمال، وزاد بعضهم ونقص بعض، فأردنا أن نجمع ما انتهى إلينا مما جاء به كل امرئ منهم لأن الواحد لا يحيط بكل العلم، وقد قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب: العلم أكثر من أن يحفظ، فخذوا من كل علم محاسنه. وقال جعفر بن حرب بن الأشج: وجدت العلم كالمال، في يد كل إنسان منه شيء، فإذا حوى الرجل منه جملة سمي موسراً، ويحوي الآخر ما هو أكثر منه فيسمي موسراً، وكذلك العلم لا يحوي منه شيئاً إلا سمي عالماً وإن كان غيره أعلم منه. ولو كنا لا نسمي العالم عالماً حتى يحوي العلم كله لم يقع هذا الاسم على أحد من الآدميين. وقال بعض الحكماء: ليس طلبي للعلم طمعا في بلوغ قاصيته والاستيلاء على غايته. ولكن ألتمس شيئاً لا يسع جهله ولا يحسن بالعاقل خلافه. وقال بعض الحكماء:
إن لم تكن عالماً فتعلم وإن لم تكن حكيماً، فتحكم فإنه قل ما يتشبه رجل بقوم ألا يوشك أن يكون منهم. وقال بعضهم: العلم روح والعمل بدن، والعلم أصل والعمل فرع، والعلم والد والعمل مولود، وكان العمل بمكان العلم ولم يكن العلم بمكان العمل. وقال بعضهم: من طلب العلم لرغبة أو رهبة أو منافسة أو شهوة كان حظه منه على حسب الرهبة، ومن طلب العلم لكرم العلم والتمسه لفضل الاستبانة كان حظه منه بقدر كرمه وانتفاعه به حسب استحقاقه. وقال بعضهم: كل شيء يحتاج إلى العقل والعقل يحتاج إلى العلم.
وابتدئ كتابنا هذا من مولد رسول الله صلى الله عليه وسلم وخبره في حال بعد حال ووقت بعد وقت إلى أن قبضه الله إليه، وأخبار الخلفاء بعده وسيرة خليفة بعد خليفة وفتوحه، وما كان منه وعمل به في أيامه وسني ولايته. وكان من روينا عنه ما في هذا الكتاب: إسحاق بن سليمان بن علي الهاشمي عن أشياخ بني هاشم، وأبو البختري وهب بن وهب القرشي عن جعفر بن محمد وغيره من رجاله، وأبان بن عثمان عن جعفر بن محمد، ومحمد بن عمر الواقدي عن موسى بن عقبة وغيره من رجاله، وعبد الملك بن هشام عن زياد بن عبد الله البكائي عن محمد بن إسحاق المطلبي، وأبو حسان الزيادي عن أبي المنذر الكلبي وغيره من رجاله، وعيسى بن يزيد بن داب، والهيثم بن عدي الطائي عن عبد الله بن عباس، الهمداني، ومحمد بن كثير القرشي عن أبي صالح وغيره من رجاله، وعلي بن محمد بن عبد الله بن أبي سيف المدائني، وأبو معشر المدني، ومحمد بن موسى الخوارزمي المنجم، وما شاء الله الحاسب في طوالع السنين والأوقات. وأثبتنا عن غير هؤلاء الذين سمينا جملا جاء بها غيرهم ورواها سواهم وعلمناها من سير الخلفاء وأخبارهم، وجعلناه كتابا مختصرا، حذفنا منه الأشعار وتطويل الأخبار، وبالله المعونة والتوفيق والحول والقوة.
مولد رسول اللهوكان مولد رسول الله صلى الله عليه وسلم في عام الفيل، بينه وبين الفيل خمسون ليلة، وكان على ما رواه بعضهم يوم الاثنين لليلتين خلتا من شهر ربيع الأول، وقيل ليلة الثلاثاء لثمان خلون من شهر ربيع الأول.
وقال من رواه عن جعفر بن محمد يوم الجمعة حين طلع الفجر لاثنتي عشرة ليلة خلت من شهر رمضان. وولد على ما قال أصحاب الحساب بقران العقرب. قال ما شاء الله المنجم: كان طالع السنة التي كان فيها القرآن الذي دل على مولد رسول الله صلى الله عليه وسلم الميزان اثنتين وعشرين درجة حد الزهرة وبيتها والمشتري في العقرب ثلاث درجات وثلاثاً وعشرين دقيقة، وزحل في العقرب ست درجات وثلاثا وعشرين دقيقة راجعاً، وهما في الثاني من الطوالع، والشمس في نظير الطالع في الحمل أول دقيقة، والزهرة في الحمل على درجة وست وخمسين دقيقة، وعطارد في الحمل على ثماني عشرة درجة وست عشرة دقيقة راجعاً، والمريخ في الجوزاء اثنتي عشرة درجة وخمس عشرة دقيقة، والقمر وسط السماء في السرطان درجة وعشرين دقيقة.
وقال الخوارزمي: كانت الشمس يوم ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم في الثور درجة، والقمر في الأسد على ثماني عشرة درجة وعشر دقائق، وزحل في العقرب تسع درجات وأربعين دقيقة راجعاً، والمشتري في العقرب درجتين وعشر دقائق راجعا، والمريخ في السرطان درجتين وخمسين دقيقة، والزهرة في الثور اثنتي عشرة درجة وعشر دقائق. وكانت قريش تؤرخ السنين بموت قصي بن كلاب لجلالة قصي، فلما كان عام الفيل أرخت به لاشتهار ذلك العام، فكان تاريخهم من مولد رسول الله.
ولما ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم رجمت الشياطين وانقضت الكواكب. فلما رأت ذلك قريش أنكرت انقضاض الكواكب وقالوا: ما هذا إلا لقيام الساعة، وأصابت الناس زلزلة عمت جميع الدنيا حتى تهدمت الكنائس والبيع، وزال كل شيء يعبه دون الله، عز وجل، عن موضعه، وعميت على السحرة والكهان أمورهم وحبست شياطينهم، وطلعت نجوم لم تر قبل ذلك فأنكرتها كهان اليهود، وزلزل إيوان كسرى فسقطت منه ثلاث عشرة شرافة، وخمدت نار فارس ولم تكن خمدت قبل ذلك بألف عام. ورأى عالم الفرس وحكيمهم وهو الذي تسميه الفرس موبذان موبذ القيم بشرائع دينهم كان إبلاً عراباً تقود خيلا صعاباً حتى قطعت دجلة وانتشرت في البلاد. فراع ذلك كسرى أنو شروان وأفزعه، فوجه إلى النعمان فقال: هل بقي من كهان العرب أحد؟ قال: نعم! سطيح، الغساني بدمشق من أرض الشام. قال: فجئني بشيخ من العرب له عقل ومعرفة أوجهه إليه. فأتاه بعبد المسيح بن بقيلة، فوجهه إليه. فخرج عليه عبد المسيح على جمل حتى قدم دمشق. فسأل عنه فدل عليه وهو ينزل في باب الجابية، فوجده في آخر رمق. فنادى في أذنه بأعلى صوته:
أصم أم تسمع غطريف اليمن ... يا فارج الكربة أعيت من ومن
وفاصل الخطبة في الأمر العنن ... أتاك شيخ الحي من آل يزن
فقال: عبد المسيح، على جمل مشيح، نحو سطيح، حين أشفى على الضريح. بعثك ملك بني ساسان بهدم الأيوان وخمود النيران ورؤيا الموبذان. رأى إبلا عرابا تقود خيلا صعاباً حتى قطعت دجلة وانتشرت في البلاد. يا ابن ذي يزن تكون هنه وهنات ويموت ملوك وملكات بعدد الشرافات. إذا غاضت بحيرة ساوة وظهرت التلاوة بأرض تهامة وظهر صاحب الهراوة فليست الشام لسطيح شاما. ثم فاضت نفسه.
وجاء رجل من أهل الكتاب إلى ملأ من قريش فيهم هشام بن المغيرة والوليد بن المغيرة وعتبة بن ربيعة فقال: ولد لكم الليلة مولود. قالوا: لا. قال: أخطأكم والله معشر قريش فقد ولد إذا بفلسطين غلام اسمه أحمد، به شامة كلون الحر الأدكن يكون به هلاك أهل الكتاب، فلم يريموا حتى قيل لهم إنه ولد لعبد الله بن عبد المطلب الليلة غلام. فمضى الرجل حتى نظر إليه ثم قال: هو والله هو! ويل أهل الكتاب منه. فلما رأى سرور قريش بما سمعت منه قال: والله ليسطون بكم سطوة يتحدث بها أهل المشرق والمغرب. وكان تزويج عبد الله بن عبد المطلب لآمنه بنت وهب بعد حفر زمزم بعشر سنين، وقيل بضع عشرة سنة. وبين فداء عبد المطلب لابنه وبين تزويجه إياه سنة، فكان اسم عبد الله أبي رسول الله عبد الدار، وقيل: كان اسمه عبد قصي. فلما كان في السنة التي فدي فيها قال عبد المطلب: هذا عبد الله، فسماه يومئذ كذلك. وكان بين تزويج أبي رسول الله لأمه وبين مولده على ما روى جعفر بن محمد عشرة أشهر، وقال بعضهم سنة وثمانية أشهر.
وروي عن أمه أنها قالت: رأيت لما وضعته نوراً بداً مني ساطعاً حتى أفزعني، ولم أر شيئاً مما يراه النساء.
وروى بعضهم أنها قالت: سطع مني النور حتى رأيت قصور الشام، ولما وقع إلى الأرض قبض قبضة من تراب ثم رفع رأسه إلى السماء...
فكان أول لبن شربه بعد أمه لبن ثويبة مولاة أبي لهب. وقد أرضعت ثويبة هذه حمزة بن عبد المطلب وجعفر بن أبي طالب وأبا سلمة بن عبد الأسد المخزومي. وقال رسول الله، بعد ما بعثه الله: رأيت أبا لهب في النار يصيح العطش العطش فيسقي في نقر إبهامه. فقلت: بم هذا؟ فقال: بعتقي ثويبة لأنها أرضعتك.
وتوفي عبد الله بن عبد المطلب أبو رسول الله صلى الله عليه وسلم على ما روى جعفر بن محمد بعد شهرين من مولده. وقال بعضهم إنه توفي قبل أن يولد، وهذا قول غير صحيح لأن الإجماع على أنه توفي بعد مولده. وقال آخرون بعد سنة من مولده، وكانت وفاة عبد الله بالمدينة عند أخوال أبيه بني النجار في دار تعرف بدار النابغة، وكانت سنة يوم توفي خمساً وعشرين سنة.
واسترضع في بني سعد بن بكر بن هوازن. وكان عبد المطلب دفعه إلى الحارث بن عبد العزى بن رفاعة السعدي زوج حليمة بنت أبي ذؤيب السعدي، فلم يزل مقيما في بني سعد يرون به البركة في أنفسهم وأموالهم حتى كان من شأنه في الذي أتاه في صورة رجل، فشق عن بطنه وغسل جوفه، ما كان. فخافوا عليه وردوه إلى جده عبد المطلب وله خمس سنين، وقيل أربع سنين، وهو في خلق ابن عشر وقوته.
وتوفيت أمه آمنة بنت وهب بن عبد مناف بن زهرة بعد ما أتى عليه ست سنين وثلاثة أشهر، ولها ثلاثون سنة. وكانت وفاتها بموضع يقال له الأبواء بين مكة والمدينة. وكان عبد المطلب جد رسول الله يكفله، وعبد المطلب يومئذ سيد قريش غير مدافع، قد أعطاه الله من الشرف ما لم يعط أحداً، وسقاه زمزم وذا الهرم، وحكمته قريش في أموالها، وأطعم في المحل حتى أطعم الطير والوحوش في الجبال. قال أبو طالب:
ونطعم حتى تأكل الطير فضلنا ... إذا جعلت أيدي المفيضين ترعد
ورفض عبادة الأصنام ووحد الله، عز وجل، ووفى بالنذر وسن سننا نزل القرآن بأكثرها، وجاءت السنة من رسول الله بها وهي: الوفاء بالنذور، ومائة من الإبل في الدية، وألا تنكح ذات محرم، ولا تؤتي البيوت من ظهورها، وقطع يد السارق، والنهي عن قتل الموءودة، والمباهلة، وتحريم الخمر، وتحريم الزنا، والحد عليه، والقرعة، وألا يطوف أحد بالبيت عريانا، وإضافة الضيف، وألا ينفقوا إذا حجوا إلا من طيب أموالهم، وتعظيم الأشهر الحرم، ونفى ذوات الرايات. ولما قدم صاحب الفيل خرجت قريش من الحرم فارة من أصحاب الفيل، فقال عبد المطلب: والله لا أخرج من حرم الله وأبتغي العز في غيره. فجلس بفناء البيت ثم قال:
لهم إن تعف فإنهم عيالك ... ... إلا فشيء ما بدا لك
فكانت قريش تقول: عبد المطلب إبراهيم الثاني. وكان المبشر لقريش بما فعل الله بأصحاب الفيل عبد الله بن عبد المطلب أبو رسول الله. فقال عبد المطلب: قد جاءكم عبد الله بشيراً ونذيراً.
فأخبرهم بما نزل بأصحاب الفيل. فقالوا: إنك كنت لعظيم البركة لميمون الطائر منذ كنت.
وكان لعبد المطلب من الولد الذكور عشرة. ومن الإناث أربع: عبد الله أبو رسول الله، وأبو طالب وهو عبد مناف، والزبير وهو أبو الطاهر، وعبد الكعبة وهو المقوم، وأمهم فاطمة بنت عمرو بن عائذ بن عمران بن مخزوم وهي أم أم حكيم البيضاء. وعاتكة وبرة وأروى وأميمة بنات عبد المطلب، والحارث وهو أكبر ولد عبد المطلب وبه كان يكنى، وقثم، وأمهما صفية بنت جندب بن حجير بن زباب بن حبيب بن سوأة بن عامر بن صعصعة، وحمزة وهو أبو يعلى أسد الله وأسد رسول الله، وأمه هالة بنت وهيب بن عبد مناف بن زهرة وهي أم صفية بنت عبد المطلب، والعباس وضرار، أمهما نتيلة بنت جناب بن كليب بن النمر بن قاسط، وأبو لهب وهو عبد العزى، وأمه لبني بنت هاجر بن عبد مناف بن ضاطر الخزاعي، والغيداق وهو جحل وإنما سمي الغيداق لأنه كان أجود قريش وأطعمهم للطعام، وأمه ممنعة بنت عمرو بن مالك بن نوفل الخزاعي.
فهؤلاء أعمام رسول الله وعماته. وكان لكل واحد من ولد عبد المطلب شرف وذكر وفضل وقدر ومجد. وحج عامر بن مالك ملاعب الأسنة البيت فقال: رجال كأنهم جمال جون، فقال: بهؤلاء تمنع مكة. وحج أكثم بن صيفي في ناس من بني تميم فرآهم يخترقون البطحاء كأنهم أبرجة الفضة يلحقون الأرض جيرانهم. فقال: يا بني تميم إذا أحب الله أن ينشئ دولة نبت لها مثل هؤلاء. هؤلاء غرس الله لا غرس الرجال. وكان يفرش لعبد المطلب بفناء الكعبة، فلا يقرب فراشه حتى يأتي رسول الله، وهو غلام، فيتخطى رقاب عمومته، فيقول لهم عبد المطلب دعوا ابني، أن لابني هذا لشأناً.
وكان عبد المطلب قد وفد على سيف بن ذي يزن مع جلة قومه لما غلب على اليمن، فقدمه سيف عليهم جميعاً وآثره. ثم خلا به فبشره برسول الله ووصف له صفته، فكبر عبد المطلب وعرف صدق ما قال سيف، ثم خر ساجدا. فقال له سيف: هل أحسست لما قلت نبأ؟ فقال له: نعم! ولد لابني غلام على مثال ما وصفت، أيها الملك. قال: فاحذر عليه اليهود وقومك، وقومك أشد من اليهود، والله متمم أمره ومعل دعوته. وكان أصحاب الكتاب لا يزالون يقولون لعبد المطلب في رسول الله منذ ولد فيعظم بذلك ابتهاج عبد المطلب. فقال: أما والله لئن نفستني قريش الماء يعني ماء سقاه الله من زمزم وذي الهرم، لتنفسني غدا الشرف العظيم والبناء الكريم والعز الباقي والنساء العالي إلى آخر الدهر ويوم الحشر.
وتوالت على قريش سنون مجدبة حتى ذهب الزرع وقحل الضرع، ففزعوا وقالوا: قد سقانا الله بك مرة بعد أخرى فادع الله أن يسقينا، وسمعوا صوتاً ينادي من بعض جبال مكة: معشر قريش أن النبي الأمي منكم، وهذا أوان توكفه، ألا فانظروا منكم رجلاً عظاماً جساماً له سن يدعو إليه وشرف يعظم عليه فليخرج هو وولده ليمسوا من الماء ويلتمسوا من الطيب ويستلموا الركن، وليدع الرجل وليؤمن القوم فخصبتم ما شئتم إذا وغثتم، فلم يبق أحد بمكة إلا قال: هذا شيبة الحمد، هذا شيبة الحمد. فخرج عبد المطلب ومعه رسول الله، وهو يومئذ مشدود الإزار، فقال عبد المطلب: اللهم ساد الخلة وكاشف الكربة، أنت عالم غير معلم، مسؤول غير مبخل، وهؤلاء عبداؤك وإماؤك بعذرات حرمك يشكون إليك سنيهم التي أقحلت الضرع وأذهبت الزرع، فاسمعن اللهم وأمطرن غيثا مريعا مغدقا. فما راموا حتى انفجرت السماء بمائها وكظ الوادي بثجه، وفي ذلك يقول بعض قريش:
بشيبة الحمد أسقي الله بلدتنا ... وقد فقدنا الكري واجلوذ المطر
مناً من الله بالميمون طائره ... وخير من بشرت يوماً به مضر
مبارك الأمر يستسقي الغمام به ... ما في الأنام له عدل ولا خطر
وأوصى عبد المطلب إلى ابنه الزبير بالحكومة وأمر الكعبة وإلى أبي طالب برسول الله وسقاية زمزم، وقال له: قد خلفت في أيديكم الشرف العظيم الذي تطأون به رقاب العرب. وقال لأبي طالب:
أوصيك يا عبد مناف بعدي ... بمفرد بعد أبيه فرد
فارقه وهو ضجيع المهد ... فكنت كالأم له في الوجد
تدنيه من أحشائها والكبد ... فأنت من أرجى بني عندي
لدفع ضيم أو لشد عقد
وتوفي عبد المطلب ولرسول الله ثماني سنين ولعبد المطلب مائة وعشرون سنة، وقيل مائة وأربعون سنة. وأعظمت قريش موته، وغسل بالماء والسدر. وكانت قريش أول من غسل الموتى بالسدر، ولف في حلتين من حلل اليمن قيمتها ألف مثقال ذهب، وطرح عليه المسك حتى ستره، وحمل على أيدي الرجال عدة أيام إعظاماً وإكراماً وإكباراً لتغييبه في التراب. واحتبى ابنه بفناء الكعبة لما غيب عبد المطلب واحتبى ابن جدعان التيمي من ناحية والوليد بن ربيعة المخزومي فادعى كل واحد الرئاسة.
وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: أن الله يبعث جدي عبد المطلب أمه واحدة في هيئة الأنبياء وزي الملوك فكفل رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد وفاة عبد المطلب أبو طالب عمه، فكان خير كافل. وكان أبو طالب سيداً شريفاً مطاعاً مهيباً مع إملاقه.
قال علي بن أبي طالب: أبي ساد فقيرا، وما ساد فقير قبله. وخرج به إلى بصرى من أرض الشام وهو ابن تسع سنين، وقال: والله! لا أكلك إلى غيري. وربته فاطمة بنت أسد بن هاشم امرأة أبي طالب وأم أولاده جميعاً. ويروي عن رسول الله لما توفيت، وكانت مسلمة فاضلة، أنه قال: اليوم ماتت أمي، وكفنها بقميصه ونزل على قبرها واضطجع في لحدها. فقيل له: يا رسول الله لقد اشتد جزعك على فاطمة. قال: إنها كانت أمي، أن كانت لتجيع صبيانها وتشبعني وتشعثهم وتدهنني، وكانت أمي.
ولما بلغ العشرين ظهرت فيه العلامات وجعل أصحاب الكتب يقولون فيه ويتذاكرون أمره ويتوصفون حاله ويقربون ظهوره، فقال يوماً لأبي طالب: يا عم إني أرى في المنام رجلاً يأتيني ومعه رجلاًن فيقولان: هو هو، وإذا بلغ فشأنك به والرجل لا يتكلم. فوصف أبو طالب ما قال لبعض من كان بمكة من أهل العلم. فلما نظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: هذه الروح الطيبة! هذا والله النبي المطهر. فقال له أبو طالب: فاكتم على ابن أخي لا تغر به قومه، فوالله إنما قلت لعلي ما قلت، ولقد أنبأني أبي عبد المطلب بأنه النبي المبعوث وأمرني أن أستر ذلك لئلا يغري به الأعادي.
الفجاروشهد رسول الله صلى الله عليه وسلم الفجار وله سبع عشرة سنة، وقيل عشرون سنة، وكان سبب الفجار، وهي الحرب التي كانت بين كنانة وقيس، أن رجلاً من بني ضمرة يقال له البراض بن قيس، كان بمكة في جوار حرب بن أمية، وثب على رجل من هذيل يقال له الحارث فقتله. وأخرجه حرب بن أمية من جواره فلحق بالنعمان بن المنذر، فاجتمع هو وعروة بن عتبة بن جعفر بن كلاب.
وكان النعمان يوجه في كل سنة بلطيمة إلى عكاظ للتجارة، ولا يعرض لها أحد من العرب، حتى قتل النعمان أخا بلعاء بن قيس، فكان بلعاء بعد ذلك يغير على لطائم النعمان. فلما اجتمع عروة والبراض عنده قال: من يجير لطائمي؟ فقال البراض: أنا، وقال عروة: أنا، مثله، فتنازعا كلاما. فلما خرجا وتوجه عروة لينصرف، عارضه البراض فقتله وأخذ ما كان معه من لطائم النعمان.
فاجتمعت قيس على قوم البراض، ولجأت كنانة إلى قريش فأعانتها وخرجت معها، فاقتتلوا في رجب، وكان عندهم الشهر الحرام الذي لا تسفك فيه الدماء. فسمي الفجار لأنهم فجروا في شهر حرام. وكان على كل قبيل من قريش رئيس، وعلى بني هاشم الزبير بن عبد المطلب.
وقد روي أن أبا طالب منع أن يكون فيها أحد من بني هاشم وقال: هذا ظلم وعدوان وقطيعة واستحلال للشهر الحرام، ولا أحضره ولا أحد من أهلي، فأخرج الزبير بن عبد المطلب مستكرها. وقال عبد الله بن جدعان التيمي وحرب ابن أمية: لا نحضر أمراً تغيب عنه بنو هاشم فخرج الزبير.
وقيل: أن أبا طالب كان يحضر في الأيام ومعه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا حضر هزمت كنانة قيسا فعرفوا البركة بحضوره فقالوا: يا ابن مطعم الطير وساقي الحجيج لا تغب عنا فإنا نرى مع حضورك الظفر والغلبة. قال: فاجتنبوا الظلم والعدوان والقطيعة والبهتان فإني لا أغيب عنكم. فقالوا: ذاك لك. فلم يزل يحضر حتى فتح عليهم.
وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: شهدت الفجار مع عمي أبي طالب وأنا غلام. وروى بعضهم أنه شهد الفجار وهو ابن عشرين سنة وطعن أبا براء ملاعب الأسنة فأرداه عن فرسه، وجاء الفتح من قبله فجمعنا جميع الروايات ومات حرب بن أمية بن عبد شمس بالشام بعد الفجار بأشهر.
حلف الفضولحضر رسول الله صلى الله عليه وسلم حلف الفضول وقد جاوز العشرين، وقال بعد ما بعثه الله: حضرت في دار عبد الله بن جدعان حلفا ما يسرني به حمر النعم، ولو دعيت إليه اليوم لأجبت. وكان سبب حلف الفضول أن قريشا تحالفت أحلافا كثيرة على الحمية والمنعة، فتحالف المطيبون وهم بنو عبد مناف وبنو أسد وبنو زهرة وبنو تميم وبنو الحارث بن فهر على أن لا يسلموا الكعبة ما أقام حراء وثبير وما بل بحر صوفة. وصنعت عاتكة بنت عبد المطلب طيباً فغمسوا أيديهم فيه. وقيل أن الطيب كان لأم حكيم البيضاء بنت عبد المطلب، وهي توأم عبد الله أبي رسول الله، وتحالفت اللعقة وهم بنو عبد الدار وبنو مخزوم وبنو جمح وبنو سهم وبنو عدي على أن يمنع بعضهم بعضا ويعقل بعضهم عن بعض وذبحوا بقرة فغمسوا أيديهم في دمها، فكانت قريش تظلم في الحرم الغريب ومن لا عشيرة له حتى أتى رجل من بني أسد بن خزيمة بتجارة فاشتراها رجل من بني سهم فأخذها السهمي وأبي أن يعطيه الثمن، فكلم قريشا واستجار بها وسألها إعانته على أخذ حقه فلم يأخذ له أحد بحقه فصعد الأسدي أبا قبيس فنادى بأعلى صوته:
يا أهل فهر لمظلوم بضاعته ... ببطن مكة نائي الأهل والنفر
أن الحرام لمن تمت حرامته ... ولا حرام لثوبي لابس الغدر
وقد قيل: لم يكن رجل من بني أسد ولكنه قيس بن شيبة السلمي باع متاعا من أبي خلف الجمحي وذهب بحقه، فقال هذا الشعر، وقيل بل قال:
يال قصي كيف هذا في الحرم ... وحرمة البيت وأخلاق الكرم
أظلم لا يمنع مني من ظلم
فتذممت قريش فقاموا فتحالفوا ألا يظلم غريب ولا غيره وأن يؤخذ للمظلوم من الظالم، واجتمعوا في دار عبد الله بن جدعان التيمي. وكانت الأحلاف هاشم وأسد وزهرة وتيم والحارث بن فهر فقالت قريش: هذا فضول من الحلف، فسمي حلف الفضول. وقال بعضهم: حضره ثلاثة نفر يقال لهم الفضل بن قضاعة والفضل بن حشاعة والفضل بن بضاعة فسمي بهذا حلف الفضول. وقد قيل أن هؤلاء النفر حضروا حلفا لجرهم فسمي حلف الفضول بهم وشبه بالحلف في تلك السنة.
بنيان الكعبة
ووضع رسول الله صلى الله عليه وسلم الحجر في موضعه حين اختصمت قريش وهو ابن خمس وعشرين سنة، وذلك أن قريشا هدمت الكعبة بسبب سيل أصابهم فهدمها. وقيل: بل كانت امرأة من قريش تجمر الكعبة، فطارت شرره فأحرقت باب الكعبة وكان طولها تسعة أذرع فنقضوها. وكان أول من ضرب فيها بمعول الوليد بن المغيرة المخزومي. وحفروا حتى انتهوا إلى قواعد إبراهيم فقلعوا منها حجرا فوثب الحجر ورجع مكانه فأمسكوا. ويقال أن الذي بدر الحجر من يده أبو وهب بن عمرو بن عائذ بن عمران بن مخزوم، وخرج عليهم ثعبان فحال بينهم وبين البناء، فاجتمعوا، فقال: ما ذا ترون؟ فقال أبو طالب: أن هذا لا يصلح أن ينفق فيه إلا من طيب المكاسب فلا تدخلوا فيه مالا من ظلم ولا عدوان، فأحضروا ما لم يشكوا فيه من طيب أموالهم ورفعوا أيديهم إلى السماء، فجاء طائر فاختطف الثعبان حتى ذهب. فوضعوا أزرهم يعملون عراة إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه أبى أن ينزع ثوبه فسمع صائحا يصيح: لا تنزع ثوبك. ونقلت الحجارة التي بني بها البيت من جبل يقال له السيادة من أعلى الوادي وصيروها ثماني عشرة ذراعا، وكانت كل قبيلة تلي طائفة منها فكانت بنو عبد مناف تلي الربع وسائر ولد قصي بن كلاب وبنو تيم الربع ومخزوم الربع وبنو سهم وجمح وعدي وعامر بن فهر الربع. فلما أرادوا أن يضعوا الحجر اختصموا فيه، وقالت كل قبيلة: نحن نتولى وضعه. فأقبل رسول الله، وكانت قريش تسميه الأمين، فلما رأوه مقبلا قالوا: قد رضينا بحكم محمد بن عبد الله، فبسط رسول الله صلى الله عليه وسلم رداءه ثم وضع الحجر في وسطه وقال: لتحمل كل قبيلة بجانب من جوانب الرداء ثم ارفعوا جميعاً. ففعلوا ذلك فحمل عتبة بن ربيعة أحد جوانب الرداء وأبو زمعة بن الأسود وأبو حذيفة بن المغيرة وقيس بن عدي السهمي، وقيل العاص بن وائل. فلما بلغ الموضع أخذه رسول الله صلى الله عليه وسلم ووضعه بموضعه الذي هو به وسقفوها، ولم يكن لها قبل ذلك سقف.
تزويج خديجة بنت خويلد وتزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم خديجة بنت خويلد وله خمس وعشرون سنة، وقيل: تزوجها وله ثلاثون سنة، وولدت له، قبل أن يبعث، القاسم ورقية وزينب وأم كلثوم، وبعد ما بعث عبد الله، وهو الطيب والطاهر لأنه ولد في الإسلام، وفاطمة. وروى بعضهم عن عمار بن ياسر أنه قال: أنا أعلم الناس بتزويج رسول الله صلى الله عليه وسلم خديجة بنت خويلد: كنت صديقا له، فإنا لنمشي يوماً بين الصفا والمروة إذا بخديجة بنت خويلد وأختها هالة. فلما رأت رسول الله صلى الله عليه وسلم جاءتني هالة أختها فقالت: يا عمار! ما لصاحبك حاجة في خديجة؟ قلت: والله ما أدري. فرجعت فذكرت ذلك له، فقال: ارجع فواضعها وعدها يوماً نأتيها فيه، ففعلت. فلما كان ذلك اليوم أرسلت إلى عمرو بن أسد وسقته ذلك اليوم ودهنت لحيته بدهن أصفر، وطرحت عليه حبراً. ثم جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم في نفر من أعمامه تقدمهم أبو طالب فخطب أبو طالب فقال: الحمد لله الذي جعلنا من زرع إبراهيم وذرية إسماعيل وجعل لنا بيتا محجوجا وحرما آمنا وجعلنا الحكام على الناس وبارك لنا في بلدنا الذي نحن به، ثم أن ابن أخي محمد بن عبد الله لا يوزن برجل من قريش إلا رجح ولا يقاس بأحد إلا عظم عنه، وأن كان في المال قل فإن المال رزق حائل وظل زائل، وله في خديجة رغبة ولها فيه رغبة وصداق ما سألتموه عاجلة من مالي، وله والله خطب عظيم ونبأ شائع.
فتزوجها وانصرف. فلما أصبح عمها عمرو بن أسد أنكر ما رأى فقيل له: هذا ختنك محمد بن عبد الله بن عبد المطلب أهدى لك هذا. قال: ومتى زوجته؟ قيل له: بالأمس. قال: ما فعلت. قيل له: بلى، نشهد أنك قد فعلت. فلما رأى عمرو رسول الله صلى الله عليه وسلم قال. اشهدوا أني أن لم أكن زوجته بالأمس فقد زوجته اليوم، وأنه ما كان مما يقول الناس إنها استأجرته بشيء ولا كان أجيرا لأحد قط، وروى محمد بن إسحاق أن خويلد بن أسد بن عبد العزى زوج خديجة ابنته من رسول الله صلى الله عليه وسلم ومات بعد الفجار بخمس سنين، وروى بعضهم أنه قتل في الفجار أو مات عام الفجار.
المبعث
وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم لما استكمل أربعين سنة، فكان مبعثه في شهر ربيع الأول، وقيل في رمضان، ومن شهور العجم في شباط. وكانت سنته التي بعث فيها سنة قرآن في الدلو. قال، ما شاء الله، الحاسب: كان طالع السنة التي بعث فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو القرآن الثالث من قرآن مولده السنبلة أربع درجات، والقمر في الميزان سبع عشرة درجة، والمريخ من الطالع في السنبلة ثلاث عشرة درجة راجعاً، والمشتري في الخامس في الجدي إحدى وعشرين درجة، وزحل في الدلو في السادس في تسع درجات حد الزهرة في الحوت، والشمس في الثامن في الحمل دقيقة، وعطارد في الحمل أربع عشرة درجة، وحد مدخل السنة منذ أول يوم دخلت فيه الشمس. وقال الخوارزمي: كانت الشمس يومئذ في الدلو أربعاً وعشرين درجة وخمس عشرة دقيقة، والقمر في السرطان سبع عشرة درجة، وزحل في الدلو تسع عشرة درجة، والمشتري اثنتي عشرة درجة، والمريخ في الحوت خمس عشرة درجة وثلاثين دقيقة، والزهرة في الحمل إحدى عشرة درجة، وعطارد في الدلو ثلاثاً وعشرين درجة وثلاثين دقيقة. وكان جبريل يظهر له فيكلمه. وربما ناداه من السماء ومن الشجرة ومن الجبل فيذعر من ذلك رسول الله، ثم قال له: أن ربك يأمرك أن تجتنب الرجس من الأوثان، فكان أول أمره. فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتي خديجة ابنة خويلد ويقول لها ما سمع وتكلم به. فتقول له: استر يا ابن عم، فوالله إني لأرجو أن يصنع الله بك خيراً. وأتاه جبريل ليلة السبت وليلة الأحد ثم ظهر له بالرسالة يوم الإثنين، وقال بعضهم يوم الخميس، وقال من رواه عن جعفر بن محمد يوم الجمعة لعشر بقين من شهر رمضان ولذلك جعله عيدا للمسلمين وعلى جبريل جبة سندس وأخرج له درنوكا من درانيك الجنة فأجلسه عليه وأعلمه أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وبلغه عن الله وعلمه: اقرأ باسم ربك الذي خلق. وأتاه من غد وهو متدثر، فقال يا أيها المدثر قم فأنذر. وقال رسول الله: أول ما نهاني عنه جبريل بعد عبادة الأصنام ملاحاة الرجال. وروى بعضهم أن إسرافيل وكل به ثلاث سنين وأن جبريل وكل به عشرين سنة، وقال آخرون: ما زال جبريل موكلا به، وقد كان ورقة بن نوفل قال لخديجة بنت خويلد: اسأليه من هذا الذي يأتيه؟ فإن كان ميكائيل فقد أتاه بالخفض والدعة واللين، وأن كان جبريل فقد أتاه بالقتل والسبي. فسألته، فقال: جبريل، فضربت خديجة جبهتها. وكان أول ما افترض عليه من الصلاة الظهر، أتاه جبريل فأراه الوضوء، فتوضأ رسول الله صلى الله عليه وسلم كما توضأ جبريل ثم صلى ليريه كيف يصلى، فصلى رسول الله. وروى بعضهم أن الظهر الصلاة الوسطى أول صلاة صلاها رسول الله، وكان يوم جمعة. ثم أتى خديجة ابنة خويلد فأخبرها فتوضأت وصلت، ثم رآه علي بن أبي طالب ففعل كما رآه يفعل.
ولما بعث رميت الشياطين بشهب من السماء ومنعت من أن تسترق السمع. فقال إبليس: ما هذا إلا لأمر قد حدث ونبي قد بعث، وأصبحت الأصنام في جميع الدنيا منكسة، وخمدت النيران التي كانت تعبد.
وكان أول من أسلم خديجة بنت خويلد من النساء وعلي بن أبي طالب من الرجال. ثم زيد بن حارثة ثم أبو ذر وقيل أبو بكر قبل أبي ذر، ثم عمرو بن عبسة السلمي ثم خالد بن سعيد بن العاص ثم سعد بن أبي وقاص ثم عتبة بن غزوان ثم خباب بن الأرت ثم مصعب بن عمير. وروي عن عمرو بن عبسة السلمي قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أول ما بعث وبلغني أمره فقلت: صف لي أمرك. فوصف لي أمره وما بعثه الله به. فقلت: هل يتبعك على هذا أحد؟ قال: نعم! امرأة وصبي وعبد، يريد خديجة بنت خويلد وعلي بن أبي طالب وزيد بن حارثة.
وأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة ثلاث سنين يكتم أمره وهو يدعو إلى توحيد الله، عز وجل، وعبادته والإقرار بنبوته، فكان إذا مر بملأ من قريش، قالوا: أن فتى ابن عبد المطلب ليكلم من السماء حتى عاب عليهم آلهتهم وذكر هلاك آبائهم الذين ماتوا كفارا ثم أمره الله، عز وجل، أن يصدع بما أرسله، فأظهر أمره وأقام بالأبطح فقال: إني رسول الله صلى الله عليه وسلم أدعوكم إلى عبادة الله وحده وترك عبادة الأصنام التي لا تنفع ولا تضر ولا تخلق ولا ترزق ولا تحيي ولا تميت. فاستهزأت منه قريش وآذته وقالوا لأبي طالب: أن ابن أخيك قد عاب آلهتنا وسفه أحلامنا وضلل أسلافنا فليمسك عن ذلك وليحكم في أموالنا بما يشاء. فقال أن الله لم يبعثني لجمع الدنيا والرغبة فيها وإنما بعثني لأبلغ عنه وأدل عليه. وآذوه أشد الإيذاء، فكان المؤذون له منهم أبو لهب والحكم بن أبي العاص وعقبة بن أبي معيط وعدي بن حمراء الثقفي وعمرو بن الطلاطلة الخزاعي. وكان أبو لهب أشد أذى له.
وروى بعضهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام بسوق عكاظ، عليه جبة حمراء، فقال: يا أيها الناس قولوا لا إله إلا الله تفلحوا وتنجحوا. وإذا رجل يتبعه له غديرتان كان وجهه الذهب وهو يقول: يا أيها الناس أن هذا ابن أخي وهو كذاب فاحذروه. فقلت: من هذا؟ فقيل لي: هذا محمد بن عبد الله، وهذا أبو لهب ابن عبد المطلب عمه، وكان المستهزءون به العاص بن وائل السهمي والحارث ابن قيس بن عدي السهمي والأسود بن المطلب بن أسد والوليد بن المغيرة المخزومي والأسود بن عبد يغوث الزهري، وكانوا يوكلون به صبيانهم وعبيدهم فيلقونه بما لا يحب حتى إنهم نحروا جزورا بالحزورة ورسول الله صلى الله عليه وسلم قائم يصلي، فأمروا غلاما لهم فحمل السلى والفرث حتى وضعه بين كتفيه وهو ساجد.
فانصرف فأتى أبا طالب، فقال: كيف موضعي فيكم؟ قال: ما ذاك يا ابن أخي؟ فأخبره ما صنع به. قال: فأقبل أبو طالب مشتملا على السيف يتبعه غلام له فاخترط سيفه وقال: والله لا تكلم رجل منكم إلا ضربته. ثم أمر غلامه فأمر ذلك السلى والفرث على وجوههم واحدا واحدا. ثم قالوا: حسبك هذا فينا يا ابن أخينا. واجتمعت قريش إلى أبي طالب، فقالوا: ندعوك إلى نصفه، هذا عمارة بن الوليد بن المغيرة أحسن قريش وجها وأكملهم هيئة فخذه فصيره ابنك وصير إلينا محمداً نقتله. فقال: ما أنصفتموني! أدفع إليكم ابني تقتلونه، وتدفعون إلى ابنكم أغذوه! وقال أبو طالب في ذلك:
عجبت لحم يا ابن شيبة عارف ... وأحلام أقوام لديك سخاف
يقولون شايع من أراد محمداً ... بسوء وقم في أمره بخلاف
أصاميم إما حاسد ذو خيانة ... وإما قريب منه غير مصافي
ولا يركبن الدهر منك ظلامة ... وأنت امرؤ من خير عبد مناف
وأن له قربى إليكم وسيلة ... وليس بذي حلف ولا بمضاف
ولكنه من هاشم في صميمها ... إلى أبحر فوق البحور طوافي
فإن عصبت فيه قريش فقل لها ... بني عمنا ما قومكم بضعاف
فما قومكم بالقوم يخشون ظلمهم ... وما نحن فيما ساءكم بخفاف
وقال أيضاً:
وينهض قوم نحوكم غير عزل ... ببيض حديث عهدها بالصياقل
وأبيض يستسقي الغمام بوجهه ... ثمال اليتامى عصمة للأرامل
الإسراءوأسرى به وأتاه جبريل بالبراق، وهو أصغر من البغل وأكبر من الحمار مضطرب الأذنين خطوة مد بصره له جناحان يحفزانه من خلفه عليه سرج ياقوت، فمضى به إلى بيت المقدس فصلى به ثم عرج به إلى السماء، فكان بينه وبين ربه كما قال الله: قاب قوسين أو أدنى، ثم هبط به فنزل في بيت أم هانئ بنت أبي طالب. فقص عليها القصة فقالت له: بأبي أنت وأمي، لا تذكر هذا لقريش فيكذبوك.
وفي الليلة التي أسري به افتقده أبو طالب فخاف أن تكون قريش قد اغتالته أو قتلته، فجمع سبعين رجلاً من بني عبد المطلب معهم الشفار وأمرهم أن يجلس كل رجل منهم إلى جانب رجل من قريش، وقال لهم: أن رأيتموني ومحمدا معي فأمسكوا حتى آتيكم وإلا فليقتل كل رجل منكم جليسه ولا تنتظروني. فوجدوه على باب أم هانئ، فأتي به بين يديه حتى وقف على قريش فعرفهم ما كان منه فأعظموا ذلك وجل في صدورهم وعاهدوه وعاقدوه انهم لا يؤذون رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يكون منهم إليه شيء يكرهه أبداً.
النذارةوأمره الله، عز وجل، أن ينذر عشيرته الأقربين، فوقف على المروة ثم نادى بأعلى صوته: يا آل فهر، فاجتمعت إليه بطون قريش حتى لم يبق أحد منهم. فقال له أبو لهب: هذه فهر. ثم نادى: يا آل غالب فانصرفت بنو محارب وبنو الحارث بن فهر ثم نادى يا آل لؤي، فانصرفت بنو تيم الأدرم بن غالب. ثم نادى: يا آل كعب، فانصرفت بنو عامر وبنو عوف بن لؤي. ثم نادى: يا آل مرة، فانصرفت بنو عدي بن كعب وبنو سهم وجمح ابني هصيص بن كعب. ثم نادى: يا آل كلاب، فانصرفت بنو تيم ابن مرة وبنو مخزوم بن يقظة بن مرة. ثم نادى: يا آل قصي، فانصرفت بنو زهرة. ثم نادى: يا آل عبد مناف، فانصرفت بنو عبد الدار وبنو عبد العزى ابني قصي. ثم نادى: يا آل هاشم، فانصرفت بنو عبد شمس وبنو نوفل. وأقام بنو عبد المطلب، فقال أبو لهب: هذه هاشم قد اجتمعت، فجمعهم في بعض دورهم. وحدثني أبو عبد الله الفضل بن عبد الرحمن الهاشمي من ولد ربيعة بن الحارث انهم كانوا في دار الحارث بن عبد المطلب وكانوا أربعين رجلاً يزيدون رجلاً أو ينقصونه، فصنع لهم طعاما فأكلوا عشرة عشرة حتى شبعوا. وكان جميع طعامهم رجل شاة وشرابهم عس من لبن وأن منهم من يأكل الجذعة ويشرب الفرق. ثم أنذرهم كما أمره الله ودعاهم إلى عبادة الله تعالى، وأعلمهم تفضيل الله إياهم واختصاصه لهم إذ بعثه بينهم وأمره أن ينذرهم. فقال أبو لهب: خذوا على يدي صاحبكم قبل أن يأخذ على يده غيركم، فإن منعتموه قتلتم وأن تركتموه ذللتم. فقال أبو طالب: يا عورة والله لننصرنه ثم لنعيننه. يا ابن أخي إذا أردت أن تدعو إلى ربك فأعلمنا حتى نخرج معك بالسلاح. وأسلم يومئذ جعفر بن أبي طالب وعبيدة بن الحارث وأسلم خلق عظيم وظهر أمرهم وكثرت عدتهم وعاندوا ذوي أرحامهم من المشركين. فأخذت قريش من استضعفت منهم إلى الرجوع عن الإسلام والشتم لرسول الله، فكان ممن يعذب في الله عمار بن ياسر وياسر أبوه وسمية أمه حتى قتل أبو جهل سمية، طعنها في قبلها فماتت، فكانت أول شهيد في الإسلام، وخباب بن الأرت وصهيب بن سنان وأبو فكيهة الأزدي وعامر بن فهيرة وبلال بن رباح. وقال خباب بن الأرت: يا رسول الله ادع لنا. قال: إنكم لتعجلون، لقد كان الرجل ممن كان قبلكم يمشط بأمشاط الحديد ويشق بالمنشار فلا يرده ذلك عن دينه، والله ليتممن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله والذئب على عنزة. واشتد على القوم العذاب ونالهم منه أمر عظيم فرجع عن الإسلام خمسة نفر وهم: أبو قيس بن الوليد بن المغيرة وأبو قيس بن ألفاًكه بن المغيرة... فروي أن فيهم نزلت هذه الآية: " الذين تتوفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم " إلى آخر الآية.
مهاجرة الحبشةولما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما فيه أصحابه من الجهد والعذاب وما هو فيه من الأمن بمنع أبي طالب عمه إياه قال لهم: ارحلوا مهاجرين إلى أرض الحبشة إلى النجاشي فإنه يحسن الجوار. فخرج في المرة الأولى اثنا عشر رجلاً وفي المرة الثانية سبعون رجلاً سوى أبنائهم ونسائهم، وهم المهاجرون الأولون، فكان لهم عند النجاشي منزلة، وكان يرسل
إلى جعفر فيسأله عما يريد فلما بلغ قريشا ذلك وجهت بعمرو بن العاص وعمارة بن الوليد المخزومي إلى النجاشي بهدايا وسألوه أن يبعث إليهم بمن صار إليه من أصحاب رسول الله، وقالوا سفهاء من قومنا خرجوا عن ديننا وضللوا أمواتنا وعابوا آلهتنا، وأن تركناهم ورأيهم لم نأمن أن يفسدوا دينك. فلما قال عمرو وعمارة للنجاشي هذا، أرسل إلى جعفر فسأله، فقال: أن هؤلاء على شر دين يعبدون الحجارة ويصلون للأصنام ويقطعون الأرحام ويستعملون الظلم ويستحلون المحارم، وأن الله بعث فينا نبيا من أعظمنا قدرا وأشرفنا سررا وأصدقنا لهجة وأعزنا بيتا، فأمر عن الله بترك عبادة الأوثان واجتناب المظالم والمحارم والعمل بالحق والعبادة له وحده، فرد على عمرو وعمارة الهدايا وقال: أدفع إليكم قوما في جواري على دين الحق وأنتم على دين الباطل! وقال لجعفر: اقرأ علي شيئاً مما أنزل على نبيكم. فقرأ عليه: كهيعص فبكى وبكى من بحضرته من الأساقفة فقال له عمرو وعمارة: أيها الملك إنهم يزعمون أن المسيح عبد مملوك، فأوحشه ذلك وأرسل إلى جعفر فقال له: ما تقول وما يقول صاحبكم في المسيح؟ قال: إنه يقول إنه روح الله وكلمته، ألقاها إلى العذراء البتول. فأخذ عودا بين إصبعيه ثم قال: ما يزيد المسيح على ما قلت ولا مقدار هذا.
وكان عمرو بن العاص وعمارة بن الوليد تلاحيا في طريقهما، وكان عمارة رجلاً مغرماً بالنساء وكان معه امرأته رابطة بنت منبه بن الحجاج السهمي. فقال عمارة: قل لها فلتقبلني. فقال: سبحان الله! أتقول هذا لابنة عمك؟ قال: والله لتفعلن أو لأضربنك بهذا السيف. فقال لها: قبليه. ثم أن عمارة اعتقل عمراً فألقاه في البحر، فعام عمرو وأوهمه أنه فعل هذا مزاحاً. فقال: ألق إلى ابن عمك الحبل، سبحان الله أهكذا يكون المزاح؟ فألقى إليه الحبل فخرج. فلما أراد عمرو وعمارة الانصراف وأيسا من عند النجاشي، قال عمرو لعمارة: لو أرسلت إلى امرأة الملك النجاشي فلعلنا ننال منها حاجتنا عنده. ففعل ذلك ولاطفها حتى أرسلت إليه بطيب من طيب الملك، فكاد عمرو عمارة، وقال للنجاشي: أن صاحبي هذا أرسل إلى امرأة الملك حتى أطمعته في نفسها وبعثت إليه بطيب من طيب الملك. فأخذه النجاشي فنفخ في أنثييه السم وقيل الزئبق، فهام مع الوحوش على وجهه، فلم يزل هائما حتى قدم قوم من بني مخزوم فسألوه أن يأذن لهم في أخذه، فنصبوا له فأخذوه. فلم يزل يضطرب في أيديهم حتى مات. وانصرف عمرو إلى المشركين خائباً، وأقام المسلمون بأرض الحبشة حتى ولد لهم الأولاد. وجميع أولاد جعفر ولدوا بأرض الحبشة ولم يزالوا بها في أمن وسلامة. واسم النجاشي أصحمة.
حصار قريش لرسول الله وخبر الصحيفةوهمت قريش بقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأجمع ملأها على ذلك وبلغ أبا طالب فقال:
والله لن يصلوا إليك بجمعهم ... حتى أغيب في التراب دفينا
ودعوتني وزعمت أنك ناصح ... ولقد صدقت وكنت ثم أمينا
وعرضت ديناً قد علمت بأنه ... من خير أديان البرية دينا
فلما علمت قريش انهم لا يقدرون على قتل رسول الله، وأن أبا طالب لا يسلمه، وسمعت بهذا من قول أبي طالب، كتبت الصحيفة القاطعة الظالمة ألا يبايعوا أحداً من بني هاشم ولا يناكحوهم ولا يعاملوهم حتى يدفعوا إليهم محمد فيقتلوه. وتعاقدوا على ذلك وتعاهدوا وختموا على الصحيفة بثمانين خاتما، وكان الذي كتبها منصور بن عكرمة بن عامر بن هاشم بن عبد مناف بن عبد الدار، فشلت يده. ثم حصرت قريش رسول الله صلى الله عليه وسلم وأهل بيته من بني هاشم وبني المطلب ابن عبد مناف في الشعب الذي يقال له شعب بني هاشم بعد ست سنين من مبعثه. فأقام ومعه جميع بني هاشم وبني المطلب في الشعب ثلاث سنين حتى أنفق رسول الله صلى الله عليه وسلم ماله، وأنفق أبو طالب ماله، وأنفقت خديجة بنت خويلد مالها، وصاروا إلى حد الضر والفاقة. ثم نزل جبريل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أن الله بعث الأرضة على صحيفة قريش فأكلت كل ما فيها من قطيعة وظلم إلا المواضع التي فيها ذكر الله فخبر رسول الله أبا طالب بذلك ثم خرج أبو طالب ومعه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأهل بيته حتى صار إلى الكعبة، فجلس بفنائها وأقبلت قريش من كل أوب فقالوا: قد آن لك يا أبا
طالب أن تذكر العهد وأن تشتاق إلى قومك وتدع اللجاج في ابن أخيك. فقال لهم يا قوم أحضروا صحيفتكم فلعلنا أن نجد فرجا وسببا لصلة الأرحام وترك القطيعة، وأحضروها وهي بخواتيمهم. فقال: هذه صحيفتكم على العهد لم تنكروها. قالوا: نعم. قال: فهل أحدثتم فيها حدثا؟ قالوا: اللهم لا. قال: فإن محمداً أعلمني عن ربه أنه بعث الأرضة فأكلت كل ما فيها إلا ذكر الله أ فرأيتم أن كان صادقا ماذا تصنعون؟ قالوا: نكف ونمسك. قال: فإن كان كاذباً دفعته إليكم تقتلونه.
قالوا: قد أنصفت وأجملت، وفضت الصحيفة فإذا الأرضة قد أكلت كل ما فيها إلا مواضع بسم الله، عز وجل. فقالوا: ما هذا إلا سحر، وما كنا قط أجد في تكذيبه منا ساعتنا هذه وأسلم يومئذ خلق من الناس عظيم وخرج بنو هاشم من الشعب وبنو المطلب فلم يرجعوا إليه.
وفاة القاسم ابن رسول اللهوتوفي القاسم ابن رسول الله، فقال وهو في جنازته، ونظر إلى جبل من جبال مكة: يا جبل لو أن ما بي بك لهدك وكان للقاسم يوم توفي أربع سنين. ثم توفي عبد الله ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعده بشهر، ولم يفطم. فقالت خديجة: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم لو بقي حتى أفطمه! قال: فإن فطامه في الجنة. وسألت خديجة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: أين أولادي منك؟ قال: في الجنة. قالت: بغير عمل؟ قال: الله أعلم بما كانوا عاملين. قالت: فأين أولادي من غيرك؟ قال: في النار. قالت: بغير عمل؟ قال: الله أعلم بما كانوا عاملين.
ما نزل من القرآن بمكةونزل من القرآن بمكة اثنتان وثمانون سورة، على ما رواه محمد بن حفص ابن أسد الكوفي عن محمد بن كثير ومحمد بن السائب الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس. وكان أول ما نزل على رسول الله: اقرأ باسم ربك الذي خلق ثم: نون والقلم وما يسطرون ثم: والضحى ثم: يا أيها المزمل ثم يا أيها المدثر ثم فاتحة الكتاب ثم تبت ثم إذا الشمس كورت ثم سبح اسم ربك الأعلى ثم والليل إذا يغشى ثم والفجر ثم ألم نشرح لك صدرك ثم الرحمن ثم والعصر ثم إنا أعطيناك الكوثر ثم ألهاكم التكاثر ثم أرأيت الذي يكذب بالدين ثم أ لم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل ثم والنجم إذا هوى ثم عبس وتولى ثم إنا أنزلناه في ليلة القدر ثم والشمس وضحاها ثم والسماء ذات البروج ثم والتين والزيتون ثم لإيلاف قريش ثم القارعة ثم لا أقسم بيوم القيامة ثم ويل لكل همزة ثم والمرسلات عرفا ثم ق والقرآن المجيد ثم لا أقسم بهذا البلد ثم والسماء والطارق ثم اقتربت الساعة ثم ص والقرآن ذي الذكر ثم الأعراف ثم سورة الجن ثم سورة يس ثم تبارك الذي نزل الفرقان ثم حمد الملائكة ثم سورة مريم ثم سورة طه ثم طسم الشعراء ثم طس النمل ثم طسم القصص ثم سورة بني إسرائيل ثم سورة يونس ثم سورة هود ثم سورة يوسف ثم الحجر ثم الأنعام ثم الصافات ثم لقمان ثم حم المؤمن ثم حم السجدة ثم حم عسق ثم الزخرف ثم حمد سبأ ثم تنزيل الزمر ثم حم الدخان ثم حم الشريعة ثم الأحقاف ثم والذاريات ثم هل أتاك حديث الغاشية ثم سورة الكهف ثم سورة النحل ثم إنا أرسلنا نوحا ثم سورة إبراهيم ثم اقترب للناس حسابهم ثم
قد أفلح المؤمنون ثم الرعد ثم والطور ثم تبارك الذي بيده الملك ثم الحاقة ثم سأل سائل ثم عم يتساءلون ثم والنازعات غرقا ثم إذا السماء انفطرت ثم سورة الروم ثم العنكبوت. وقد اختلف الناس في هذا التأليف في غير رواية ابن عباس، وكان الاختلاف أيضاً يسيراً. وروى محمد بن كثير ومحمد بن السائب عن ابن صالح عن ابن عباس أنه قال: كان القرآن ينزل مفرقا، لا ينزل سورة سورة، فما نزل أولها بمكة أثبتناها بمكة وأن كان تمامها بالمدينة، وكذلك ما نزل بالمدينة وإنه كان يعرف فصل ما بين السورة والسورة إذا نزل بسم الله الرحمن الرحيم، فيعلمون أن الأولى قد انقضت وابتدئ بسورة أخرى. وروى بعضهم أن التوراة أنزلت لست خلون من شهر رمضان والزبور لاثنتي عشرة ليلة خلت من شهر رمضان بعد التوراة بألف وخمسمائة عام، والإنجيل لثماني عشرة ليلة خلت من شهر رمضان بعد الزبور بثمانمائة عام، وقيل ستمائة. وروى آخرون أن القرآن نزل لعشرين ليلة خلت من شهر رمضان. وروى جعفر بن محمد أنه قال: أن الله لم يبعث قط نبياً إلا بما هو أغلب على أهل زمانه، فبعث موسى بن عمران إلى قوم كان الأغلب عليهم السحر فأتاهم بما ضل معه سحرهم من العصا واليد والجراد والقمل والضفادع والدم وانفلاق البحر وانفجار الحجر حتى خرج منه الماء والطمس على وجوههم، فهذه آياته، وبعث داود في زمن أغلب الأمور على أهله الصنعة والملاهي فألان له الحديد وأعطاه حسن الصوت فكانت الوحوش تجتمع لحسن صوته، وبعث سليمان في زمان قد غلب على الناس فيه حب البناء واتخاذ الطلسمات والعجائب فسخر له الريح والجن، وبعث عيسى في زمان أغلب الأمور على أهله الطب فبعثه بإحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص، وبعث محمداً في زمان أغلب الأمور على أهله الكلام والكهنة والسجع والخطب فبعثه بالقرآن المبين والمحاورة.
وفاة خديجة وأبي طالبوتوفيت خديجة بنت خويلد في شهر رمضان قبل الهجرة بثلاث سنين، ولها خمس وستون سنة، ودخل عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي تجود بنفسها، فقال: بالكرة مني ما أرى، ولعل الله أن يجعل في الكره خيراً كثيراً، إذا لقيت ضراتك في الجنة يا خديجة فأقرئيهن السلام. قالت: ومن هن يا رسول الله؟ قال: أن الله زوجنيك في الجنة وزوجني مريم بنت عمران وآسية بنت مزاحم وكلثوم أخت موسى فقالت: بالرفاء والبنين. ولما توفيت خديجة، جعلت فاطمة تتعلق برسول الله وهي تبكي وتقول: أين أمي؟ أين أمي؟ فنزل عليه جبريل فقال: قل لفاطمة أن الله تعالى بنى لأمك بيتا في الجنة من قصب لا نصب فيه ولا صخب.
وتوفي أبو طالب بعد خديجة بثلاثة أيام وله ست وثمانون سنة، وقيل بل تسعون سنة. ولما قيل لرسول الله أن أبا طالب قد مات عظم ذلك في قلبه واشتد له جزعه ثم دخل فمسح جبينه الأيمن أربع مرات وجبينه الأيسر ثلاث مرات ثم قال: يا عم ربيت صغيراً وكفلت يتيماً ونصرت كبيرا، فجزاك الله عني خيراً، ومشى بين يدي سريره وجعل يعرضه ويقول: وصلتك رحم وجزيت خيراً، وقال: اجتمعت على هذه الأمة في هذه الأيام مصيبتان لا أدري بأيهما أنا أشد جزعا، يعني مصيبة خديجة وأبي طالب. وروي عنه أنه قال: أن الله، عز وجل، وعدني في أربعة، في أبي وأمي وعمي وأخ كان لي في الجاهلية.
عرض الرسول نفسه على القبائلوخروجه إلى الطائف واجترأت قريش على رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد موت أبي طالب وطمعت فيه وهموا به مرة بعد أخرى، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرض نفسه على قبائل العرب في كل موسم ويكلم شريف كل قوم، لا يسألهم إلا أن يؤووه ويمنعوه، ويقول: لا أكره أحداً منكم، إنما أريد أن تمنعوني مما يراد بي من القتل حتى أبلغ رسالات ربي، فلم يقبله أحد، وكانوا يقولون: قوم الرجل أعلم به، فعمد لثقيف بالطائف، فوجد ثلاثة نفر إخوة هم يومئذ سادة ثقيف وهم: عبد ياليل بن عمرو وحبيب بن عمرو ومسعود بن عمرو، فعرض عليهم نفسه وشكا إليهم البلاء، فقال أحدهم: ألا يسرق ثياب الكعبة أن كان الله بعثك؟ وقال الآخر أعجز على الله أن يرسل غيرك؟ وقال الآخر: والله لا أكلمك أبدا، لئن كنت رسولا كما تقول لأنت أعظم خطرا من
أن أرد عليك الكلام، ولئن كنت تكذب على الله ما ينبغي لي أن أكلمك. وتهزأوا به وأفشوا في قومهم ما قالوه له، وقعدوا له صفين. فلما مر رسول الله رجموه بالحجارة حتى أدموا رجله، فقال رسول الله: ما كنت أرفع قدما ولا أضعها إلا على حجر. ووافاه بالطائف عتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة ومعهما غلام لهما نصراني ويقال له عداس، فوجها به إلى رسول الله، فلما سمع كلامه أسلم ورجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مكة.
قدوم الأنصار مكةوكانت الأوس والخزرج ابنا حارثة بن ثعلبة أهل عز ومنعة في بلادهم حتى كانت بينهم الحروب التي أفنتهم في أيام لهم مشهورة منها يوم الصفينة وهو أول يوم جرت الحرب فيه ويوم السرارة ويوم وفاق بني خطمة ويوم حاطب ابن قيس ويوم حضير الكتائب ويوم أطم بني سالم ويوم أبتروه ويوم البقيع ويوم بعاث ويوم مضرس ومعبس ويوم الدار ويوم بعاث الآخر ويوم فجار الأنصار، وكانوا ينتقلون في هذه المواضع التي تعرف أيامهم بها ويقتتلون قتالاً شديدا، فلما ضرستهم الحرب وألقت بركها عليهم وظنوا أنها الفناء، واجترأت عليهم بنو النضير وقريظة وغيرهم من اليهود خرج قوم منهم إلى مكة يطلبون قريشا لتقويهم، وعزوا فاشترطوا عليهم شروطا لم يكن لهم فيها مقنع، وكان المشترط عليهم أبو جهل بن هشام المخزومي، وقد قيل أن قريشا قد كانت إجابتهم حتى قدم أبو جهل من سفر له وكان غائباً فنقض الحلف واشترط عليهم شروطا لم يقنعوا بها. ثم صاروا إلى الطائف فسألوا ثقيفا فأبطأوا عنهم فانصرفوا. وقدم رجل منهم بعد مبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم يقال له سويد بن الصامت من الأوس حاجا أو معتمرا فبلغه أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فلقيه وكلمه فدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الله. فقال له سويد: أن معي مجلة لقمان. قال: فاعرضها علي، فعرضها عليه. فقال رسول الله: أن هذا الكلام لحسن، والذي معي أحسن منه: كلام الله، وقرأ عليه. فقال: يا محمد أن هذا الكلام حسن.
ثم انصرف إلى المدينة، فلم يلبث أن قتلته الخزرج، ثم قدم نفر منهم أيضاً إلى مكة، وهم بنو عفراء، يتفاخرون مع أسعد بن زرارة، فلقيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعاهم إلى الله وقرأ عليهم القرآن. فقال رجل منهم يقال له إياس بن معاذ: يا قوم هذا والله النبي الذي كانت اليهود تعدكم، به فلا يسبقنكم إليه أحد، فأسلموا، وأخذ عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم الإيمان بالله وبرسوله، ثم انصرفوا فأخبروا قومهم الخبر وقد كانوا سألوه أن يوجه معهم رجلاً من قبله يدعو الناس بكتاب الله. فبعث إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم مصعب بن عمير فنزل على أسعد بن زرارة وجعل يدعوهم إلى الله، عز وجل، ويعلمهم الإسلام، وكان أول من قدم المدينة. ثم خرج اثنا عشر رجلاً منهم إليه فلقوه وهم أصحاب العقبة الأولى فأمنوا بالله وصدقوه، وانصرفوا إلى المدينة وكثر خبره وفشا الإسلام فيها.
فلما كان العام القابل خرج إليه جماعة من الأوس وجماعة من الخزرج فوافى منهم سبعون رجلاً وامرأتان فأسلموا وصدقوه، وأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم عليهم بيعة النساء.
فسألوه أن يخرج معهم إلى المدينة، وقالوا: إنه لم يصبح قوم في مثل ما نحن فيه من الشر، ولعل الله أن يجمعنا بك ويجمع ذات بيننا فلا يكون أحد أعز منا. فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم قولا جميلا، ثم انصرفوا إلى قومهم فدعوهم إلى الإسلام فكثر حتى لم تبق دار من دور الأنصار إلا وفيها ذكر حسن من ذكر رسول الله، وسألوه الخروج معهم وعاهدوه أن ينصروه على القريب والبعيد والأسود والأحمر، قال له العباس بن عبد المطلب: وإني فداك أبي وأمي آخذ العهد عليهم فجعل ذلك إليه وأخذ عليهم العهود والمواثيق أن يمنعوه وأهله مما يمنعون منه أنفسهم وأهليهم وأولادهم وعلى أن يحاربوا معه الأسود والأحمر وأن ينصروه على القريب والبعيد وشرط لهم الوفاء بذلك والجنة.
خروج رسول الله من مكة
وأجمعت قريش على قتل رسول الله، وقالوا: ليس له اليوم أحد ينصره وقد مات أبو طالب، فأجمعوا جميعاً على أن يأتوا من كل قبيلة بغلام نهد فيجتمعوا عليه فيضربوه بأسيافهم ضربه رجل واحد فلا يكون لبني هاشم قوة بمعاداة جميع قريش. فلما بلغ رسول الله، انهم أجمعوا على أن يأتوه في الليلة التي اتعدوا فيها، خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم لما اختلط الظلام ومعه أبو بكر، وأن الله، عز وجل، أوحى في تلك الليلة إلى جبريل وميكائيل أني قضيت على أحدكما بالموت فأيكما يواسي صاحبه؟ فاختار الحياة كلاهما فأوحى الله إليهما: هلا كنتما كعلي بن أبي طالب، آخيت بينه وبين محمد، وجعلت عمر أحدهما أكثر من الآخر، فاختار على الموت وآثر محمداً بالبقاء وقام في مضجعه، اهبطا فاحفظاه من عدوه، فهبط جبريل وميكائيل فقعد أحدهما عند رأسه والآخر عند رجليه يحرسانه من عدوه ويصرفان عنه الحجارة، وجبريل يقول: بخ بخ لك يا ابن أبي طالب من مثلك يباهي الله بك ملائكة سبع سماوات! وخلف علياً على فراشه لرد الودائع التي كانت عنده وصار إلى الغار فكمن فيه وأتت قريش فراشه فوجدوا علياً فقالوا: أين ابن عمك؟ قال: قلتم له اخرج عنا، فخرج عنكم. فطلبوا الأثر فلم يقعوا عليه، وأعمى الله عليهم المواضع فوقفوا على باب الغار وقد عششت عليه حمامة، فقالوا: ما في هذا الغار أحد، وانصرفوا. وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم متوجها إلى المدينة، ومر بأم معبد الخزاعية فنزل عندها. ثم نفذ لوجهه حتى قدم المدينة وكان جميع مقامه بمكة حتى خرج منها إلى المدينة ثلاث عشرة سنة من مبعثه. وروى بعضهم أنه قال: ما علمت قريش أين توجه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى سمعوا هاتفا من بعض جبال مكة يقول:
فإن يسلم السعدان يصبح محمد ... بمكة لا يخشى خلاف المخالف
وقال أبو سفيان: من السعود سعد هذيم وسعد تميم وسعد بكر فسمعوا في الليلة المقبلة قائلا يقول:
فيا سعد سعد الأوس كن أنت ناصراً ... ويا سعد سعد الخزرجين الغطارف
أنيبا إلى داعي الهدى وتمنيا ... على الله في الفردوس منية عارف
فعلمت قريش أنه قد مضى إلى يثرب، واتبعه سراقة بن جعشم المدلجي لما صار إلى ماء بني مدلج. فلما لحقه قال رسول الله: اللهم أكفنا سراقة، فساخت قوائم فرسه فصاح: يا ابن أبي قحافة، قل لصاحبك أن يدعو الله بإطلاق فرسي، فلعمري لئن لم يصبه مني خير لا يصبه مني شر. فلما رجع إلى مكة خبرهم الخبر فكذبوه، وكان أشدهم له تكذيبا أبو جهل، فقال سراقة:
أبا حكم والله لو كنت شاهداً ... لأمر جوادي حيث ساخت قوائمه
علمت ولم تشكك بأن محمداً ... رسول وبرهان فمن ذا يكاتمه
قدوم رسول الله المدينةوقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة يوم الاثنين لثمان خلون من شهر ربيع الأول، وقيل يوم الخميس لاثنتي عشرة ليلة خلت منه، والشمس يومئذ في السرطان ثلاثاً وعشرين درجة وست دقائق، والقمر في الأسد ست درجات وخمسا وثلاثين دقيقة، وزحل في الأسد درجتين، والمشتري في الحوت ست درجات راجعا، والزهرة في الأسد ثلاث عشرة درجة، وعطارد في الأسد خمس عشرة درجة، فنزل على كلثوم بن الهدم، فلم يلبث إلا أياماً، حتى مات كلثوم، وانتقل فنزل على سعد بن خيثمة في بني عمرو بن عوف فمكث أياماً. ثم كان سفهاء بني عمرو ومنافقوهم يرجمونه في الليل، فلما رأى ذلك قال: ما هذا الجوار؟ فارتحل عنهم وركب راحلته وقال: خلوا زمامها، فجعل لا يمر بحي من أحياء الأنصار إلا قالوا له: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم انزل بنا، فإنك تنزل في العدة والكثرة فيقول: خلوا زمام الراحلة فإنها مأمورة، حتى وقفت على باب أبي أيوب الأنصاري فبركت، فنخست بقضيب فلم تبرح، فنزل بأبي أيوب فأقام عنده أياماً ثم انتقل إلى حجراته، وقيل أن ناقته بركت في موضع المسجد فنزل فجاء أبو أيوب فأخذ رحلة فمضى بها إلى منزله، وكلمته الأنصار في النزول بها، فقال: المرء مع رحله.
وقدم علي بن أبي طالب بفاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم وذلك قبل نكاحه إياها، وكان يسير الليل ويكمن النهار حتى قدم فنزل مع رسول الله. ثم زوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم من علي بعد قدومه بشهرين، وقد كان جماعة من المهاجرين خطبوها إلى رسول الله، فلما زوجها علياً قالوا في ذلك، فقال رسول الله: ما أنا زوجته ولكن الله زوجه. وقدم العباس بن عبد المطلب بزينب بنت رسول الله، وكانت بالطائف حين هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم عند أبي العاص بن بشر بن عبد دهمان الثقفي، ثم رجع العباس إلى مكة وقدم المهاجرون فنزلوا منازل الأنصار فواسوهم بالديار والأموال.
افتراض الصوم والصلاةوافترض الله عز وجل، شهر رمضان، وصرفت القبلة نحو المسجد الحرام في شعبان بعد مقدمه بالمدينة بسنة وخمسة أشهر، وقيل بسنة ونصف. وأنزل الله، عز وجل: قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبله ترضاها فول وجهك شطر المسجد الحرام. وكان بين نزول افتراض شهر رمضان وبين توجه القبلة إلى الكعبة ثلاثة عشر يوماً. وروى بعضهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي الظهر في مسجد بني سلمة، فلما صلى ركعتين نزل عليه: صرف القبلة إلى الكعبة. واستدار حتى جعل وجهه إلى الكعبة، فسمي ذلك المسجد مسجد القبلتين وبنى مسجداً باللبن وسقفه بالجريد، وقيل له: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم لو وسعت المسجد فقد كثر المسلمون. فقال: لا عرش كعرش موسى. وعمل غلام للعباس يقال له كلاب منارة، ولم تكن للمسجد منارة على عهد رسول الله، وكان بلال يؤذن ثم أذن معه ابن أم مكتوم، وكان أيهما سبق أذن فإذا كانت الصلاة أقام واحد. وروى الواقدي أن بلالاً كان إذا أذن وقف على باب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: الصلاة يا رسول الله، حي على الصلاة حي على الفلاح.
ما نزل من القرآن بالمدينة ونزل عليهبالمدينة من القرآن اثنتان وثلاثون سورة. أول ما نزل: ويل للمطففين ثم سورة البقرة، ثم سورة الأنفال، ثم سورة آل عمران، ثم الحشر ثم سورة الأحزاب ثم سورة النور ثم الممتحنة ثم إنا فتحنا لك ثم سورة النساء ثم سورة الحج ثم سورة الحديد ثم سورة محمد ثم هل أتى على الإنسان ثم سورة الطلاق ثم سورة لم يكن ثم سورة الجمعة ثم تنزيل السجدة ثم المؤمن ثم إذا جاءك المنافقون ثم المجادلة ثم الحجرات ثم التحريم ثم التغابن ثم الصف ثم المائدة ثم براءة ثم إذا جاء نصر الله والفتح ثم إذا وقعت الواقعة ثم والعاديات ثم المعوذتين جميعاً وكان آخر ما نزل لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم إلى آخر السورة. وقد قيل: أن آخر ما نزل عليه اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام. دينا وهي الرواية الصحيحة الثابتة الصريحة. وكان نزولها يوم النفر على أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، ص، بغدير خم. وقيل: آخر ما نزل واتقوا يوماً ترجعون فيه إلى الله. وقال ابن عباس: كان جبريل إذا نزل على النبي بالوحي يقول له: ضع هذه الآية في سورة كذا في موضع كذا، فلما نزل عليه اتقوا يوماً ترجعون فيه إلى الله قال: ضعها في سورة البقرة.
قال ابن مسعود: نزل القرآن بأمر ونهي وتحذير وتبشير، وقال جعفر بن محمد: نزل القرآن بحلال وحرام، وفرائض وأحكام، وقصص وأخبار، وناسخ ومنسوخ، ومحكم ومتشابه، وعبر وأمثال، وظاهر وباطن، وخاص وعام. وأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم يتلوم ويتهيأ للقتال حتى أنزل الله، عز وجل: أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وأن الله على نصرهم لقدير والآية التي بعدها. وقال: فقاتل في سبيل الله لا تكلف إلا نفسك إلى آخر الآية. فكان الرجل من المؤمنين يعد بعشرة من المشركين حتى أنزل الله، عز وجل: الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا فإن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين وأن يكن منكم ألف يغلبوا ألفين وأنزل الله عليه سيفاً من السماء له غمد، فقال له جبريل: ربك يأمرك أن تقاتل بهذا السيف قومك حتى يقولوا: لا إله إلا الله، وإنك رسول الله، فإذا فعلوا ذلك حرمت دماؤهم وأموالهم إلا لمحقها وحسابهم على الله. فكان أول سرية سارت، ولواء عقد في الإسلام لحمزة بن عبد المطلب، وقد ذكرنا هذا وغيره في كتابنا هذا بعد انقضاء الغزوات التي غزاها رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقعة بدر العظمىوكانت وقعة بدر يوم الجمعة لثلاث عشرة ليلة بقيت من شهر رمضان، بعد مقدمه بثمانية عشر شهراً، وكان سببها أن أبا سفيان بن حرب قدم من الشام بعير لقريش تحمل تجارات وأموالا، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يعارضه وجاء الصريخ إلى قريش بمكة يخبرهم الخبر. وكان الرسول بذلك ضمضم بن عمرو الغفاري، فخرجوا نافرين مستعدين، وخالف أبو سفيان الطريق فنجا بالعير. وأقبلت قريش مستعدة لقتال رسول الله صلى الله عليه وسلم وعدتهم ألف رجل، وقيل تسعمائة وخمسون، وكانوا ينحرون كل يوم من الجزور عشراً وتسعاً، فنحر أبو جهل بن هشام عشراً وأمية بن خلف الجمحي تسعا وسهيل بن عمرو عشراً، وعتبة بن ربيعة عشراً وشيبة بن ربيعة تسعاً ومنبه ونبيه ابنا الحجاج السهميان عشراً وأبو البختري العاص بن هشام الأسدي عشراً والحارث بن عامر بن نوفل بن عبد مناف عشراً والعباس بن عبد المطلب عشرا. وقيل: أن العباس نحر يوم الوقعة فأكفئت القدور، وإنه خرج مستكرها كالأسير. وقال عبد الله بن العباس: أن أبي أطعم أسيرا، وما أطعم أسير قبله. وروى ابن إسحاق أن حكم بن حزام كان من المطعمين، وكان أبو لهب عليلا فلم يمكنه الخروج فأعانهم بأربعة آلاف درهم، وقيل بل كان أبو لهب قامر العاص بن هشام المخزومي فقمره نفسه فدفعه إليهم مكانه. وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثلاثمائة، وقيل: تسعين رجلاً منهم من المهاجرين واحد وثمانون، ومن الأنصار مائتان واثنان وثلاثون رجلاً، ومعه فرسان فرس للزبير بن العوام وفرس للمقداد بن عمرو البهراني، ويقال فرس لمرثد بن أبي مرثد الغنوي ومعه سبعون راحلة، فالتقوا يوم الجمعة لعشر خلون من شهر رمضان فقتل من المسلمين أربعة عشر رجلاً وقتل من المشركين من سادات قريش سبعون رجلاً وأسر منهم سبعون رجلاً. فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم برجلين من الأسارى فضربت أعناقهما وهما عقبة بن أبي معيط بن أبي عمرو ابن أمية والنضر بن الحارث بن كلدة بن عبد مناف بن عبد الدار، وأخذ الفداء من ثمانية وستين رجلاً، وافتدى العباس نفسه وابني أخيه عقيل بن أبي طالب ونوفل بن الحارث وحليفا لهما من بني فهر. وقال العباس لرسول الله: إنه لا مال لي فدعني أسأل الناس بكفي. فقال: أين المال الذي دفعته إلى أم الفضل؟ يعني لبابة بنت الحارث الهلالية امرأته، وقلت لها يكون عدة. فقال: أشهد أنك رسول الله، والله ما اطلع على ذلك غيري وغيرها فافتدى نفسه بسبعين أوقية وابني أخيه بسبعين أوقية. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الليلة التي بات فيها العباس أسيرا: لقد أسهرني أنين العباس عمي في القد منذ الليلة، وأسلم العباس وخرج إلى مكة يكتم إسلامه. وتوفي أبو لهب بعد وقعة بدر بأيام أو بعد أن أتاهم الخبر بتسعة أيام. وكان أول من قدم مكة وخبر بخبر قريش ومن قتل منها عمرو بن جحدم الفهري. وأعز الله نبيه وقتل من قريش من قتل فأوفدت العرب وفودها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وحاربت ربيعة كسرى وكانت وقعتهم بذي قار، فقالوا: عليكم بشعار التهامي، فنادوا: يا محمد، يا محمد، فهزموا جيوش كسرى وقتلوهم. فقال رسول الله: اليوم أول يوم انتصفت فيه العرب من العجم وبي نصروا. وكان يوم ذي قار بعد وقعة بدر بأشهر أربعة أو خمسة. وضحى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة، وخرج الناس إلى المصلى بعيديهم، ولم يخرج قبل ذلك، وكانت العنزة بين يديه، وذبح شاتين بالمصلى بيده، وقيل شاة، ومضى في طريق ورجع في أخرى.
وقعة أحد
وكانت وقعة أحد في شوال بعد بدر بسنة: اجتمعت قريش واستعدت لطلب ثارها يوم بدر، واستعانت بالمال الذي قدم به أبو سفيان، وقالوا: لا تنفقوا منه شيئاً إلا في حرب محمد. فكتب العباس بن عبد المطلب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بخبرهم، وبعث بالكتاب مع رجل من جهينة. فخبر رسول الله أصحابه بخبرهم، وخرج المشركون وعدتهم ثلاثة آلاف ورئيسهم أبو سفيان بن حرب. وكان رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا يخرج من المدينة لرؤيا رآها في منامه: أن في سيفه ثلمة وأن بعيرا يذبح له، وأنه أدخل يده في درع حصينة، وتأولها محمد أن نفرا من أصحابه يقتلون، وأن رجلاً من أهل بيته يصاب، وأن الدرع المدينة. فأشارت عليه الأنصار بالخروج، فلما لبس لباس الحرب ردت إليه الأنصار الأمر، وقالوا: لا نخرج عن المدينة. فقال: الآن وقد لبست لأمتي، والنبي إذا لبس لأمته لا ينزعها حتى يقاتل، ويفتح الله عليه. فخرج وخرج المسلمون وعدتهم ألف رجل حتى صاروا إلى أحد. ووافى المشركون فاقتتلوا قتالاً شديداً، فقتل حمزة بن عبد المطلب، أسد الله وأسد رسوله، رماه وحشي عبد لجبير بن مطعم بحربة، فسقط ومثلت به هند بنت عتبة بن ربيعة وشقت عن كبده فأخذت منها قطعة فلاكتها، وجدعت أنفه، فجزع عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم جزعاً شديداً وقال: لن أصاب بمثلك، وكبر عليه خمساً وسبعين تكبيرة، وانهزم المسلمون حتى بقي رسول الله صلى الله عليه وسلم وما معه إلا ثلاثة نفر: علي والزبير وطلحة. وقال المنافقون: قتل محمد، ورماه عبد الله بن قمئة فأثر في وجهه واقتحم خالد بن الوليد. وكان ميسرة المشركين الثغرة، فقتل عبد الله بن جبير وجماعة من المسلمين ناشبة. كان رسول الله صلى الله عليه وسلم صيرهم على تلك الثغرة، ودخل عسكر رسول الله صلى الله عليه وسلم وفيه كانت هزيمة المسلمين. قال الله تعالى: " إذ تصعدون ولا تلوون على أحد والرسول يدعوكم في أخراكم " . وعاتب الله المسلمين في آيات من كتابه. وقتل من المسلمين ثمانية وستون رجلاً، ومن المشركين اثنان وعشرون رجلاً، ثم رجع المشركون وفرق الله جمعهم. وجاء يهودي حتى وقف على باب الأطم الذي فيه النساء وكان حسان بن ثابت معهن فصاح اليهودي: اليوم بطل السحر، ثم ارتقى يصعد. فقالت صفية بنت عبد المطلب. يا حسان انزل إليه. فقال: رحمك الله يا بنت عبد المطلب، لو كنت ممن ينازل الأبطال خرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أقاتل. فأخذت صفية السيف، وقيل: أخذت هراوة فضربت اليهودي حتى قتلته، ثم قالت: انزل فاسلبه. فقال: لا حاجة لي في سلبه. وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ضرب لصفية يومئذ بسهم، فلما كان من غد يوم أحد، نادى رسول الله صلى الله عليه وسلم فخرجوا على علتهم وعلى ما أصابهم من الجروح، وخرج رسول الله حتى انتهى إلى حمراء الأسد ثم رجع إلى المدينة ولم يلق كيدا، فهم الذين أجابوا الله ورسوله من بعد ما أصابهم القرح.
وقعة بني النضيرثم كانت وقعة بني النضير، وهم فخذ من جذام إلا انهم تهودوا ونزلوا بجبل يقال له النضير، فسموا به، وكذلك قريظة بعد أحد بأربعة أشهر. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث إليهم بعد أن وجه من يقتل كعب بن الأشرف اليهودي الذي أراد أن يمكر برسول الله. أن اخرجوا من دياركم وأموالكم. فوجه إليهم عبد الله بن أبي بن سلول وأصحابه المنافقون: لا تخرجوا فإنا نعينكم، فلم يخرجوا. فسار إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد العصر فقاتلهم، فقتل منهم جماعة، وخذلهم عبد الله بن أبي بن سلول وأصحابه. فلما رأوا أنه لا قوة لهم على حرب رسول الله، طلبوا الصلح فصالحهم على أن يخرجوا من بلادهم ولهم ما حملت الإبل من خرثي متاعهم لا يخرجون معهم بذهب ولا فضة ولا سلاح، فتحملوا إلى الشام وأسلم سلام بن ويامين النضيري. وكانت غنائمهم لرسول الله خالصة، ففرقها بين المهاجرين دون الأنصار إلا رجلين: أبا دجانة وسهل بن حنيف، فإنهما شكياً حاجة. وفي هذه الغزاة شرب المسلمون الفضيخ فسكروا، فنزل تحريم الخمر.
وقعة الخندق
ثم كانت وقعة الخندق، وهو يوم الأحزاب، في السنة السادسة بعد مقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة بخمسة وخمسين شهراً، وكانت قريش تبعث إلى اليهود وسائر القبائل فحرضوهم على قتال رسول الله، فاجتمع خلق من قريش إلى موضع يقال له سلع، وأشار عليه سلمان ألفاًرسي أن يحفر خندقا، فحفر الخندق وجعل لكل قبيلة حدا يحفرون إليه، وحفر رسول الله صلى الله عليه وسلم معهم حتى فرغ من حفر الخندق وجعل له أبوابا وجعل على الأبواب حرسا، من كل قبيلة رجلاً، وجعل عليهم الزبير بن العوام وأمره أن رأى قتالاً أن يقاتل. وكانت عدة المسلمين سبعمائة رجل. ووافى المشركون فأنكروا أمر الخندق وقالوا: ما كانت العرب تعرف هذا. وأقاموا خمسة أيام. فلما كان اليوم الخامس خرج عمرو بن عبدود وأربعة نفر من المشركين: نوفل بن عبد الله بن المغيرة المخزومي وعكرمة ابن أبي جهل وضرار بن الخطاب الفهري وهبيرة بن أبي وهب المخزومي، فخرج علي بن أبي طالب إلى عمرو بن عبدود فبارزه وقتله وانهزم الباقون، وكبا بنوفل بن عبد الله بن المغيرة فرسه فلحقه علي فقتله. وبعث الله، عز وجل، على المشركين ريحا وظلمة فانصرفوا هاربين لا يلوون على شيء حتى ركب أبو سفيان ناقته وهي معقولة. فلما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك، قال: عوجل الشيخ. وكانت الحرب على ما روى بعضهم ثلاثة أيام بالرمي بغير مجالدة ولا مبارزة. واتصلت في اليوم الثالث حتى فاتت صلاة الظهر وصلاة العصر وصلاة المغرب وصلاة العشاء الآخرة، فقال رسول الله: شغلونا عن الصلاة، ملأ الله بطونهم وقبورهم نارا. ثم أمر بلالا فأقام الصلاة فصلى الظهر ثم العصر ثم المغرب ثم العشاء وذلك قبل أن ينزل عليه: فإن خفتم فرجالا أو ركبانا، وفي هذه الوقعة ظهر النفاق، وقال المنافقون: تعد يا محمد بقصور كسرى وقيصر ولأحدنا لا يقدر على الغائط، ما هذا إلا غرور. فأنزل الله، عز وجل، سورة الأحزاب، وقص. فيها ما قص فكان قوم اليهود صاروا إلى رسول الله: منهم حيي بن أخطب وسلام بن أبي الحقيق، فقالوا له: يا محمد نزل الم. قال: نعم. قال: جاءك بها جبريل من عند الله. قال: نعم. قال حيي بن أخطب: ما بعث الله نبياً إلا أعلمه قدر ملكه، فالألف واحد واللام ثلاثون والميم أربعون، فذلك إحدى وسبعون سنة، فهل غير هذا؟ قال: نعم المص. قال: هي أثقل وأطول، ألف واحد ولام ثلاثون والميم أربعون وصاد ستون، فهذه إحدى وثلاثون ومائة سنة، فهل غير هذا؟ قال: نعم، المر. قال: هي أثقل وأطول، ألف واحد ولام ثلاثون وراء مائتان، فهذا مائتان وإحدى وثلاثون سنة، فهل غير هذا؟ قال: نعم، المر. قال: هذا أثقل وأطول، ألف واحد ولام ثلاثون وميم أربعون وراء مائتان، فهذا مائتان وإحدى وسبعون، لقد لبس علينا أمرك يا محمد فلا ندري أقليلاً أعطيت أم كثيراً ولعلك قد أعطيت الم والمص والر والمر، فذلك سبعمائة وأربع وستون سنة. وقتل يوم الخندق من المسلمين ستة ومن المشركين ثمانية.
وقعة بني قريظةثم كانت وقعة بني قريظة، وهي فخذ من جذام أخوه النضير، ويقال أن تهودهم كان في أيام عاديا أي السموأل. ثم نزلوا بجبل يقال له قريظة، فنسبوا إليه. وقد قيل أن قريظة اسم جدهم بعقب الخندق. وكان بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم صلح فنقضوه، ومالوا مع قريش.
فوجه إليهم سعد بن معاذ وعبد الله بن رواحة وخوات بن جبير فذكروهم العهد وأساءوا الإجابة. فلما انهزمت قريش يوم الخندق دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم علياً، فقال له: قدم راية المهاجرين إلى بني قريظة، وقال: عزمت عليكم ألا تصلوا العصر إلا في بني قريظة، وركب حمارا له. فلما دنا منهم لقيه علي بن أبي طالب فقال: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تدن. فقال: أحسب أن القوم أساءوا القول، فقال: نعم يا رسول الله، فيقال إنه قال بيده هكذا وهكذا. فانفرج البجل حين رأوه، وقال: يا عبدة الطاغوت يا وجوه القردة والخنازير فعل الله بكم وفعل. فقالوا: يا أبا القاسم ما كنت فاحشا. فاستحيا، فرجع القهقرى ولم يتخلف عنه من المهاجرين أحد. وأفاء عامة الأنصار فقتل من بني قريظة ثم تحصنوا فحاصرهم رسول الله أياماً حتى نزلوا على حكم سعد بن معاذ الأنصاري، فحضر سعد عليلاً، فقالوا له: قل يا أبا عمرو وأحسن. فقال: قد آن لسعد أن لا تأخذه في الله لومة لائم، أرضيتم بحكمي؟ قالوا: نعم. ثم قال: قد حكمت أن تقتل مقاتلتهم وتسبي ذراريهم وتجعل أموالهم للمهاجرين دون الأنصار. فقال رسول الله: لقد حكمت بحكم الله من فوق سبع سماوات. ثم قدمهم عشرة عشرة، فضرب أعناقهم. وكانت عدتهم سبعمائة وخمسين، فانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم واصطفى منهم ست عشرة جارية فقسمها على فقراء هاشم وأخذ لنفسه منهن واحدة يقال لها ريحانة. وقسمت أموال بني قريظة ونساؤهم وأعلم سهم ألفاًرس وسهم الراجل، فكان ألفاًرس يأخذ سهمين والراجل سهماً، وكان أول مغنم أعلم فيه سهم ألفاًرس. وكانت الخيل ثمانية وثلاثين فرساً.
وقعة بني المصطلقثم كانت وقعة بني المصطلق من خزاعة، لقيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمريسيع وهزمهم وسباهم. فكان ممن سبي في غزاته جويرية بنت الحارث بن أبي ضرار، وقتل أبوها وعمها وزوجها فوقعت في سهم ثابت بن قيس بن شماس الخزرجي. فكاتبها، فأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم في مكاتبتها فقضى عليها مكاتبتها وتزوجها وجعل صداقها عتقها. فلم يبق عنده من سبي بني المصطلق أحد إلا أعتقه، وتزوجوا من فيهم من النساء لتزويج رسول الله صلى الله عليه وسلم جويرية.
وفي هذه الغزاة قال أصحاب الإفك في عائشة ما قالوا، فأنزل الله، عز وجل، براءتها. وكانت تخلفت لبعض شأنها، فجاء صفوان بن المعطل السلمي فصيرها على بعيره وقادها. فقال من قال فيها الإفك وجلد رسول الله صلى الله عليه وسلم حسان بن ثابت ومسطح بن أثاثة وعبد الله بن أبي بن سلول، وهو الذي تولى كبره، وحمنة بنت جحش. أخت زينب بنت جحش وأسلم بنو المصطلق وبعثوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بإسلامهم، فبعث الوليد بن عقبة بن أبي معيط ليقبض صدقاتهم فانصرف إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله، عز وجل: " يا أيها الذين آمنوا أن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوما بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين " .
غزوة الحديبيةثم كانت غزاة الحديبية. خرج
رسول الله في سنة ستة يريد العمرة، ومعه ناس وساق من الهدي سبعين بدنة. وساق أصحابه أيضاً وخرجوا بالسلاح، فصدته قريش عن البيت، فقال: ما خرجت أريد قتالاً وإنما أردت زيارة هذا البيت، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى في المنام أنه دخل البيت وحلق رأسه وأخذ المفتاح. فأرسلت إليه قريش مكرز بن حفص فأبى أن يكلمه، وقال: هذا رجل فاجر فبعثوا إليه الحليس بن علقمة من بني الحارث بن عبد مناة، وكان من قوم يتألهون، فلما رأى الهدي قد أكلت أوبارها رجع فقال: يا معاشر قريش إني قد رأيت ما لا يحل صده عن البيت. فبعثوا بعروة بن مسعود الثقفي، فكلم رسول الله، فقال له رسول الله: يا عروة أ في الله أن يصد هذا الهدي عن هذا البيت فانصرف إليهم عروة بن مسعود فقال: تالله ما رأيت مثل محمد لما جاء له. فبعثوا إليه سهيل بن عمرو فكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأرفقه وقال: نخليها لك من قابل ثلاثة أيام، فأجابهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وكتبوا بينهم كتاب الصلح ثلاث سنين، وتنازعوا بالكتاب لما كتب: بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد رسول الله، حتى كادوا أن يخرجوا إلى الحرب. وقال سهيل بن عمرو والمشركون: لو علمنا أنك رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قاتلناك. وقال المسلمون: لا تمحها. فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكفوا، وأمر علياً فكتب: باسمك اللهم، من محمد بن عبد الله، وقال: اسمي واسم أبي لا يذهبان بنبوتي. وشرطوا انهم يخلون مكة له من قابل ثلاثة أيام ويخرجون عنها حتى يدخلها بسلاح الراكب، وأن الهدنة بينهم ثلاث سنين لا يؤذون أحداً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يمنعونه من دخول، مكة ولا يؤذي أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أحداً منهم، ووضع الكتاب على يد سهيل بن عمرو. فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين أن يحلقوا وينحروا هديهم في الحل، فامتنعوا وداخل أكثر الناس الريب، فحلق رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحر فحلق المسلمون ونحروا. وانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ثم خرج من قابل وهي عمرة القضاء فدخل مكة على ناقة بسلاح الراكب، وأخلتها قريش ثلاثاً وخلفوا بها حويطب بن عبد العزى، فاستلم رسول الله صلى الله عليه وسلم الركن بمحجنة وصدق الله رسوله الرؤيا بالحق. وخرج عنها بعد ثلاث فابتنى بميمونة بنت الحارث الهلالية زوجته بسرف، وغدرت قريش فقتلت رجلاً من خزاعة ممن دخل في شرط رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقعة خيبرثم كانت وقعة خيبر في أول سنة سبعة ففتح حصونهم وهي ستة: حصون السلالم والقموص والنطاة والقصارة والشق والمربطة، وفيها عشرون ألف مقاتل، ففتحها حصنا حصنا، فقتل المقاتلة وسبى الذرية. وكان القموص من أشدها وأمنعها، وهو الحصن الذي كان فيه مرحب بن الحارث اليهودي. فقال رسول الله: لأدفعن الراية غدا أن شاء الله إلى رجل كرار غير فرار يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله، لا ينصرف حتى يفتح الله على يده، فدفعها إلى علي فقتل مرحبا اليهودي واقتلع باب الحصن، وكان حجارة طوله أربع أذرع في عرض ذراعين في سمك ذراع، فرمى به علي بن أبي طالب خلفه ودخل الحصن ودخله المسلمون.
وقدم جعفر بن أبي طالب في ذلك اليوم من أرض الحبشة، فقام إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقبل ما بين عينيه ثم قال: والله ما أدري بأيهم أنا أشد سروراً، بفتح خيبر أم بقدوم جعفر. واصطفى صفية بنت حيي بن أخطب وأعتقها وتزوجها وقسم بين بني هاشم نساءهم ورجالهم وأوساق التمر والقمح والشعير ثم قسم بين الناس كافة. وبلغه ما فيه أهل مكة من الضر والحاجة والجدب والقحط فبعث إليهم بشعير ذهب، وقيل نوى ذهب، مع عمرو بن أمية الضمري وأمره أن يدفعه إلى أبي سفيان بن حرب وصفوان بن أمية بن خلف وسهل بن عمرو ويفرقه ثلاثاً ثلاثاً، فامتنع صفوان بن أمية وسهل بن عمرو من أخذه، وأخذه أبو سفيان كله وفرقه على فقراء قريش، وقال: جزى الله ابن أخي خيراً فإنه وصول لرحمه.
وجاءته زينب بنت الحارث أخت مرحب بالشاة المسمومة فأخذ منها لقمة، وكلمته الذراع فقالت: إني مسمومة. وكان يأكل معه بشر بن البراء بن معرور فمات. فقال الحجاج بن علاط السلمي لرسول الله: قد أسلمت، ولي بمكة مالي، فتأذن لي أن أتكلم بشيء يطمئنون إليه لعلي أن آخذ مالي. فأذن له فخرج حتى قدم مكة فأتته قريش فقالوا: مرحبا بك يا ابن علاط، هل عندك خبر من هذا القاطع قال: نعم أن كتمتم علي، فتعاهدوا أن يكتموا عليه حتى يخرج، قال: إني والله ما جئت حتى هزم محمد وأصحابه هزيمة وحتى أخذ أسيرا. وقالوا: نقتله بسيدنا حيي بن أخطب، فاستبشروا وشربوا الخمور. وبلغ العباس والمسلمين الخبر، فاشتد جزعهم وأخذ الحجاج كل ما كان له ثم أتى العباس وأخبره بما فتح الله على نبيه وأن سهام الله قد جرت على خيبر وقتل ابن أبي الحقيق وبات رسول الله صلى الله عليه وسلم عروساً بابنة حيي بن أخطب ثم خرج من مكة فأصبح العباس مسرورا، فقال له أبو سفيان: تجلدا للمصيبة يا أبا الفضل فقال العباس: أن الحجاج، والله، خدعكم حتى أخذ ماله، وقد أخبرني بإسلامه وأنه ما انصرف حتى فتح الله على نبيه وقتل ابن أبي الحقيق وبات عروساً بابنة حيي بن أخطب وفتح جميع الحصون، فأعولت امرأة الحجاج واجتمع إليها نساء المشركين واشتدت كآبة المشركين وغمهم.
فتح مكةوكانت خزاعة في عقد رسول الله صلى الله عليه وسلم وكنانة في عقد قريش، فأعانت قريش كنانة فأرسلوا مواليهم فوثبوا على خزاعة فقتلوا فيهم. فجاءت خزاعة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فشكوا إليه ذلك فأحل الله لنبيه قطع المدة التي بينه وبينهم وعزم على غزو مكة وقال: اللهم أعم الأخبار عنهم، يعني قريشاً. فكتب حاطب بن أبي بلتعة مع سارة مولاة أبي لهب إلى قريش بخبر رسول الله وما اعتزم عليه فنزل جبريل فأخبره بما فعل حاطب، فوجه بعلي بن أبي طالب والزبير وقال: خذا الكتاب منها، فلحقاها وقد كانت تنكبت الطريق فوجد الكتاب في شعرها، وقيل في فرجها. فأتيا به إلى رسول الله، فأسر إلى كل رئيس منهم بما أراد وأمره أن يلقاه بموضع سماه له، وأن يكتم ما قال له. فأسر إلى خزاعي بن عبد نهم أن يلقاه بمزينة بالروحاء وإلى عبد الله بن مالك أن يلقاه بغفار بالسقيا وإلى قدامة بن ثمامة أن يلقاه ببني سليم بقديد وإلى الصعب بن جثامة أن يلقاه ببني ليث بالكديد. وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة حين صلى العصر لليلتين خلتا من شهر رمضان سنة ثمان. وقيل لعشر مضين من رمضان، واستخلف على المدينة أبا لبابة بن عبد المنذر. ولقيته القبائل في المواضع التي سماها لهم، وأمر الناس فأفطروا، وسمى الذين لم يفطروا العصاة. ودعا بماء فشربه، وتلقاه العباس بن عبد المطلب في بعض الطريق.
فلما صار بمر الظهران خرج أبو سفيان بن حرب يتجسس الأخبار ومعه حكيم بن حزام وبديل بن ورقاء، وهو يقول لحكيم: ما هذه النيران فقال: خزاعة أحمشتها الحرب. فقال: خزاعة أقل وأذل. وسمع صوته العباس فناداه: يا أبا حنظلة! فأجابه فقال له: يا أبا الفضل ما هذا الجمع قال: هذا رسول الله. فأردفه على بغلته ولحقه عمر بن الخطاب وقال: الحمد لله الذي أمكن منك بغير عهد ولا عقد. فسبقه العباس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، هذا أبو سفيان قد جاء ليسلم طائعاً، فقال له رسول الله: قل أشهد أن لا إله إلا الله وأني محمد رسول الله فقال: أشهد أن لا إله إلا الله، وجعل يمتنع من أن يقول: وإنك رسول الله، فصاح به العباس، فقال. ثم سأل العباس رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجعل له شرفاً وقال إنه يحب الشرف. فقال رسول الله: من دخل دارك يا أبا سفيان فهو آمن. وأوقفه العباس حتى رأى جند الله، فقال له: يا أبا الفضل لقد أوتي ابن أخيك ملكاً عظيماً. فقال: إنه ليس بملك إنما هي النبوة. ومضى أبو سفيان مسرعاً حتى دخل مكة فأخبرهم الخبر، وقال: هو اصطلام أن لم تسلموا، وقد جعل أن من دخل داري فهو آمن. فوثبوا عليه وقالوا: وما تسع دارك فقال: ومن أغلق بابه فهو آمن، ومن دخل المسجد فهو آمن. وفتح الله على نبيه وكفاه القتال.
ودخل مكة ودخل أصحابه من أربعة مواضع وأحلها الله له ساعة من نهار ثم قام رسول الله صلى الله عليه وسلم فخطب فحرمها، وأجارت أم هانئ بنت أبي طالب حموين لها: الحارث بن هشام وعبد الله بن أبي ربيعة، فأراد علي قتلهما، فقال رسول الله: يا علي قد أجرنا من أجارت أم هانئ، وآمنهم جميعاً إلا خمسة نفر أمر بقتلهم ولو كانوا متعلقين بأستار الكعبة وأربع نسوة وهم: عبد الله بن عبد العزى بن خطل من بني تميم الأدرم بن غالب، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم وجهه مع رجل من الأنصار فشد على الأنصاري فقتله وقال: لا طاعة لك ولا لمحمد، وعبد الله بن سعد بن أبي سرح العامري، وكان يكتب لرسول الله فصار إلى مكة فقال أنا أقول كما يقول، محمد والله ما محمد نبي وقد كان يقول لي: اكتب عزيز حكيم، فأكتب لطيف خبير، ولو كان نبيا لعلم. فآواه عثمان وكان أخاه من الرضاع، وأتى به إلى رسول الله، فجعل يكلمه فيه ورسول الله ساكت ثم قال لأصحابه: هلا قتلتموه! فقالوا: انتظرنا أن تومئ.
فقال: أن الأنبياء لا تقتل بالإيماء، ومقيس بن صبابة أحد بني ليث بن كنانة، وكان أخوه قتل فأخذ الدية من قاتله ثم شد عليه فقتله، والحويرث ابن نقيذ بن وهب بن عبد قصي، كان ممن يؤذي رسول الله بمكة ويتناوله بالقول القبيح. والنسوة: سارة مولاة بني عبد المطلب، وكانت تذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقبيح، وهند بنت عتبة، وقريبة وفرتنا جاريتا ابن خطل، كانتا تغنيان في هجاء رسول الله.
وأسلمت قريش طوعا وكرها وأخذ رسول الله مفتاح البيت من عثمان بن أبي طلحة وفتح الباب بيده وستره ثم دخل البيت فصلى فيه ركعتين ثم خرج فأخذ بعضادتي الباب، فقال لا إله إلا الله وحده لا شريك له، أنجز وعده ونصر عبده وغلب الأحزاب وحده، فلله الحمد والملك لا شريك له، ثم قال: ما تظنون وما أنتم قائلون قال سهيل: نظن خيراً ونقول خيراً، أخ كريم وابن عم كريم وقد ظفرت. قال: فإني أقول لكم كما قال أخي يوسف: لا تثريب عليكم اليوم، ثم قال: ألا كل دم ومال ومأثرة في الجاهلية فإنه موضوع تحت قدمي هاتين إلا سدانة الكعبة وسقاية الحاج فإنهما مردودتان إلى أهليهما، ألا وأن مكة محرمة بحرمة الله لم تحل لأحد من قبلي ولا تحل لأحد من بعدي وإنما حلت لي ساعة ثم أغلقت، فهي محرمة إلى يوم القيامة لا يختلى خلاها ولا يعضد شجرها ولا ينفر صيدها ولا تحل لقطتها إلا لمنشد، إلا أن في القتل شبه العمد الدية مغلظة والولد للفراش وللعاهر الحجر، ثم قال: ألا لبئس جيران الذين كنتم فاذهبوا فأنتم الطلقاء.
ودخل مكة بغير إحرام وأمر بلالاً أن يصعد على الكعبة فأذن فعظم ذلك على قريش، قال عكرمة بن أبي جهل وخالد بن أسيد أن ابن رباح ينهق على الكعبة، وتكلم قوم معهما فأرسل إليهم رسول الله. فقالوا: قد قلنا، فنستغفر الله. فقال: ما أدري ما أقول لكم ولكن يحضر الصلاة فمن صلى فسبيل ذلك وإلا قدمته فضربت عنقه. وأمر بكل ما في الكعبة من صورة فمحيت وغسلت بالماء. ودعا بعثمان بن طلحة فقال: رأيت في الكعبة قرني الكبش فخمرها فإنه لا ينبغي أن يكون في الكعبة شيء، فصيروا في بعض الجدر. وروى بعضهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قسم ما كان في الكعبة من المال بين المسلمين. وقال آخرون: أقره ونادى منادي رسول الله: من كان في بيته صنم فليكسره، فكسروا الأصنام. ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالنساء فبايعنه، وكانت الخيل يوم الفتح أربعمائة فرس، ونزلت عليه سورة: إذا جاء نصر الله والفتح، فقال نعيت إلى نفسي.
وبعث رسول الله، وهو بمكة، خالد بن الوليد إلى بني جذيمة بن عامر، وهم بالغميصاء، وقد كانوا في الجاهلية أصابوا من بني المغيرة وقتلوا عوفا أبا عبد الرحمن بن عوف، فخرج عبد الرحمن بن عوف مع خالد بن الوليد ورجال من بني سليم وقد كانوا قتلوا ربيعة بن مكدم في الجاهلية، فخرج جذل الطعان فقتل من بني سليم بدم ربيعة مالك بن الشريد، وبلغ جذيمة أن خالدا قد جاء ومعه بنو سليم، فقال لهم خالد: ضعوا السلاح.
فقالوا: إنا لا نأخذ السلاح على الله ولا على رسوله ونحن مسلمون، فانظر ما بعثك رسول الله صلى الله عليه وسلم له فإن كان بعثك مصدقا فهذه إبلنا وغنمنا فأعد عليها. قال: ضعوا السلاح. قالوا: إنا نخاف أن تأخذنا بأحنة الجاهلية. فانصرف عنهم وأذن القوم وصلوا، فلما كان في السحر شن عليهم الخيل فقتل المقاتلة وسبى الذرية، فبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد! وبعث علي بن أبي طالب فأدى إليهم ما أخذ منهم حتى العقال وميلغة الكلب، وبعث معه بمال ورد من اليمن فودى القتلى وبقيت معه منه بقية، فدفعها علي إليهم على أن يحللوا رسول الله صلى الله عليه وسلم مما علم ومما لا يعلم. فقال رسول الله: لما فعلت أحب إلي من حمر النعم، ويومئذ قال لعلي: فداك أبواي. وقال عبد الرحمن بن عوف: والله لقد قتل خالد القوم مسلمين، فقال خالد: إنما قتلتهم بأبيك عوف بن عبد عوف. فقال له عبد الرحمن: ما قتلت بأبي ولكنك قتلت بعمك ألفاًكه بن المغيرة.
وقعة حنينثم كانت وقعة حنين، بلغ رسول الله، وهو بمكة، أن هوازن قد جمعت بحنين جمعاً كثيراً ورئيسهم مالك بن عوف النصري، ومعهم دريد ابن الصمة من بني جشم، شيخ كبير يتبركون برأيه، وساق مالك مع هوازن أموالهم وحرمهم. فخرج إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في جيش عظيم عدتهم اثنا عشر ألفاً: عشرة آلاف أصحابه الذين فتح بهم مكة وألفان من أهل مكة ممن أسلم طوعاً وكرهاً، وأخذ من صفوان بن أمية مائة درع وقال عارية مضمونة، فأعجبت المسلمين كثرتهم، وقال بعضهم: ما نؤتى من قلة، فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك من قولهم، وكانت هوازن قد كمنت في الوادي، فخرجوا على المسلمين. وكان يوماً عظيم الخطب وانهزم المسلمون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بقي في عشرة من بني هاشم، وقيل تسعة، وهم: علي بن أبي طالب والعباس بن عبد المطلب وأبو سفيان بن الحارث ونوفل بن الحارث وربيعة بن الحارث وعتبة ومعتب ابنا أبي لهب والفضل بن العباس وعبد الله بن الزبير بن عبد المطلب، وقيل أيمن بن أم أيمن.
قال الله عز وجل: " ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئاً وضاقت عليكم الأرض بما رحبت ثم وليتم مدبرين ثم أنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين وأنزل جنودا لم تروها " ، وأبدى بعض قريش ما كان في نفسه. فقال أبو سفيان: لا تنتهي، والله هزيمتهم دون البحر، وقال كلدة بن حنبل: اليوم بطل السحر، وقال شيبة بن عثمان: اليوم أقتل محمداً، فأراد رسول الله
ليقتله فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم الحربة منه فأشعرها فؤاده. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للعباس: صح يا للأنصار، وصح يا أهل بيعة الرضوان، صح يا أصحاب سورة البقرة، يا أصحاب السمرة. ثم انفض الناس وفتح الله على نبيه وأيده بجنود من الملائكة، ومضى علي بن أبي طالب إلى صاحب راية هوازن فقتله، وكانت الهزيمة، وقتل من هوازن خلق عظيم، وسبي منها سبايا كثيرة، وبلغت عدتهم ألف فارس وبلغت الغنائم اثني عشر ألف ناقة سوى الأسلاب، وقتل دريد بن الصمة فأعظم الناس ذلك، فقال رسول الله: إلى النار وبئس المصير! إمام من أئمة الكفر أن لم يكن يعين بيده فإنه يعين برأيه. قتله رجل من بني سليم وقتل ذو الخمار سبيع بن الحارث، فقال رسول الله: أبعده الله إنه كان يبغض قريشا. وصارت السبايا والأموال في أيدي المسلمين وبلغت هزيمة المشركين الطائف ومعهم مالك بن عوف، وكان جميع من استشهد أربعة نفر. وجاءت الشيماء بنت حليمة أخت رسول الله صلى الله عليه وسلم من الرضاعة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فحباها وأكرمها وبسط لها رداءه، وكلمته في السبايا وقالت: إنما هن خالاتك وأخواتك. فقال: ما كان لي ولبني هاشم فقد وهبته لك. فوهب المسلمون ما كان في أيديهم من السبايا كما فعل إلا الأقرع ابن حابس وعيينة بن حصن، فقال رسول الله: اللهم نوه سهميهما، فخرج لهما عجوز وكلمته في مالك بن عوف النصري رئيس جيش هوازن، وآمنه، فجاء مالك فأسلم. ووجهه رسول الله صلى الله عليه وسلم لحصار الطائف وأعطى المؤلفة قلوبهم من غنائم هوازن وأعطى اثني عشر رجلاً مائة مائة من الإبل، وهم: أبو سفيان بن حرب ومعاوية بن أبي سفيان وحكيم بن حزام والحارث بن الحارث بن كلدة العبدري والحارث بن هشام بن المغيرة وسهيل بن عمرو وصفوان بن أمية بن خلف وحويطب بن عبد العزى والعلاء بن حارثة الثقفي حليف بني زهرة ومالك بن عوف النصري وعيينة بن حصن الفزاري والأقرع ابن حابس، وأعطى الباقين ما دون ذلك. وسألته الأنصار ودخلها غضاضة، فقال رسول الله: إني أعطي قوما تألفا وأكلكم إلى أيمانكم. وتكلم بعضهم فقال: قاتل بنا محمد حتى إذا ظهر أمره وظفر أتى قومه وتركنا. فأسقط الله سهمهم وأثبت للمؤلفة قلوبهم سهما في الصدقات. وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الطائف ووجه بعلي بن أبي طالب فلقي نافع بن غيلان ابن سلمة بن معتب في خيل من ثقيف فقتله، وانهزم أصحابه. وحصرها رسول الله صلى الله عليه وسلم بضعة وعشرين يوماً، ونزل إليه أربعون رجلاً. وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقطع الكروم، فكلموه فتركها وأمر ألا تقطع. ثم انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلف أبا سفيان بن حرب على حصار الطائف ووجه علياً لكسر الأصنام فكسرها.
غزاة مؤتةووجه جعفر بن أبي طالب وزيد بن حارثة وعبد الله بن رواحة في جيش إلى الشام لقتال الروم سنة ثمان، وروى بعضهم أنه قال: أمير الجيش زيد بن حارثة فإن قتل زيد بن حارثة، فجعفر بن أبي طالب، فإن قتل جعفر بن أبي طالب فعبد الله بن رواحة، فإن قتل عبد الله بن رواحة فليرتض المسلمون من أحبوا. وقيل: بل كان جعفر المقدم ثم زيد بن حارثة ثم عبد الله بن رواحة، وصار إلى موضع يقال له مؤتة، من الشام من البلقاء من أرض دمشق، فأخذ زيد الراية فقاتل حتى قتل، ثم أخذها جعفر فقطعت يده اليمنى فقاتل باليسرى فقطعت يده اليسرى ثم ضرب وسطه، ثم أخذها عبد الله بن رواحة فقتل، فرفع لرسول الله كل خفض، وخفض له كل رفع حتى رأى مصارعهم وقال: رأيت سرير جعفر المقدم فقلت: يا جبريل إني كنت قدمت زيداً. فقال: إن الله قدم جعفرا لقرابتك. ونعاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أنبت الله لجعفر جناحين من زبرجد يطير بهما من الجنة حيث يشاء، واشتد جزعه وقال: على جعفر فلتبك البواكي، وتأمر خالد بن الوليد على الجيش.
قالت أسماء بنت عميس الخثعمية، وكانت امرأة جعفر وأم ولده جميعاً: دخل على رسول الله، ويدي في عجين، فقال: يا أسماء أين ولدك؟ فأتيته بعبد الله ومحمد وعون، فأجلسهم جميعاً
في حجره وضمهم إليه ومسح على رؤوسهم ودمعت عيناه. فقلت: بأبي وأمي أنت يا رسول الله لم تفعل بولدي كما تفعل بالأيتام لعله بلغك عن جعفر شيء فغلبته العبرة وقال: رحم الله جعفرا فصحت: وا ويلاه وا سيداه فقال: لا تدعي بويل ولا حرب، وكل ما قلت فأنت صادقة. فصحت: وا جعفراه وسمعت صوتي فاطمة بنت رسول الله، فجاءت وهي تصيح: وا بن عماه فخرج رسول الله يجر رداءه، ما يملك عبرته، وهو يقول: على جعفر فلتبك البواكي، ثم قال يا فاطمة اصنعي لعيال جعفر طعاما فإنهم في شغل، فصنعت لهم طعاما ثلاثة أيام، فصارت سنة في بني هاشم.
الغزوات التي لم يكن فيها قتالوكانت غزوات فيما بين ذلك لم يكن فيها قتال. كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخرج فلا يلقى كيداًوينصرف، وإنما قدمنا ما كان فيها القتال على التي لا قتال. فيها لنفرد الغزوات التي لم يكن فيها قتال غزاة الأبواء: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ودان فرجع ولم يلق كيداً. وغزاة بواط: مثل ذلك وغزاة ذي العشيرة: من بطن ينبع وادع بها بني مدلج وحلفاء لهم من بني ضمرة وكتب بينهم كتابا، والذي قام بذلك بينهم مخشي بن عمرو الضمري.
وغزاة قرقرة الكدر: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في طلب مكدر بن جابر الفهري، ويقال كرز بن جابر، حين كان أغار على سرح المدينة، وذلك أن أبا سفيان ضاف سلام بن مشكم، وكان سيد بني النضير، فقرأه وسقاه خمراً ثم خرج من تحت ليلته حتى مر بمكان يقال له العريض، فوجد بها رجلين من الأنصار في صور لهما من النخل فقتلهما وانصرف إلى مكة، فبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم الخبر، فبلغ قرقرة الكدر ولم يلق كيداً وانصرف.
وغزاة حمراء الأسد: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من غد يوم أحد، وقد ذكرناها مع خبر أحد.
وغزاة بدر الصغرى: وهي بدر الموعد، لميعاد أبي سفيان بن حرب. فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في شعبان في السنة الرابعة فأقام عليها ثماني ليال ينتظر أبا سفيان، ووافق السوق وكانت عظيمة، فتسوق المسلمون فربحوا ربحا حسنا، وقال المنافقون للمؤمنين حين خرجوا لميعاد أبي سفيان: قد قتلوكم عند بيوتكم، فكيف إذا أتيتموهم في بلادهم وقد جمعوا لكم، والله لا ترجعون أبدا، فقالوا: حسبنا الله ونعم الوكيل، فأنزل الله في ذلك: الذين قال لهم الناس أن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل فانقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء واتبعوا رضوان الله والله ذو فضل عظيم. وانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يلق كيداًوخلفهم أبو سفيان وقال: هذا عام جدب ولا يصلحكم يا معشر قريش إلا عام خصب ترعون فيه الشجر وتشربون فيه اللبن، وإني راجع، فرجعوا بعد أن كان قد بلغ مر الظهران.
وغزاة تبوك سار رسول الله صلى الله عليه وسلم في جمع كثير إلى تبوك: من أرض الشام يطلب بدم جعفر بن أبي طالب: ووجه إلى رؤساء القبائل والعشائر يستنفرهم ويرغبهم في الجهاد، وحض رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل الغنى على النفقة، فأنفقوا نفقات كثيرة وقووا الضعفاء. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أفضل الصدقة جهد المقل. فأتاه البكاؤون يستحملونه، وهم: هرمي بن عبد الله من بني عمرو بن عوف وسالم بن عمير وعمرو بن الحمام وعبد الرحمن بن كعب وصخر بن سلمان. فقال ما أجد ما أحملكم عليه. وأتاه قوم من الأغنياء فاستأذنوه وقالوا: دعنا نكن مع من تخلف. فقال الله تعالى: " رضوا بأن يكونوا مع الخوالف " وهم: الجد بن قيس ومجمع بن جارية وخدام بن خالد. فأذن لهم رسول الله، فقال الله، عز وجل: " عفا الله عنك لم أذنت لهم " .
وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم غرة رجب سنة تسع واستخلف علياً على المدينة واستعمل الزبير على راية المهاجرين وطلحة على الميمنة وعبد الرحمن بن عوف على الميسرة
وخرج النساء والصبيان يودعونه عند الثنية، فسماها ثنية الوداع. وسار رسول الله صلى الله عليه وسلم فأصاب الناس عطش شديد، فقالوا يا رسول الله لو دعوت الله لسقانا، فدعا الله فسقاهم. وقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم تبوك في شعبان فأتاه يحنه بن رؤبة أسقف أيلة، فصالحه وأعطاه الجزية، وكتب له كتاباً، وانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم فجلس له أصحاب العقبة لينفروا به ناقته، فقال لحذيفة: نحهم وقل لهم: لتنحن أو لأدعونكم بأسمائكم وأسماء آبائكم وعشائركم، فصاح بهم حذيفة. وكان خروجه في رجب وانصرف في شهر رمضان وكان حذيفة يقول: إني لأعرف أسماءهم وأسماء آبائهم وقبائلهم.
الأمراء على السرايا والجيوشووجه رسول الله على السرايا والجيوش الأمراء وعقد لهم الألوية والرايات. فأول ذلك حمزة بن عبد المطلب على سرية إلى ساحل البحر وقيل: أن أولهم عبيدة بن الحارث بن المطلب على سرية إلى ثنية المرة في ستين أو ثمانين راكباً من المهاجرين ليس فيهم من الأنصار أحد. فسار حتى بلغ ماء بالحجاز بأسفل ثنية المرة، فلقي به جمعاً عظيماً من قريش فلم يكن منهم قتال إلا أن سعد بن أبي وقاص قد رمى يومئذ بسهم، وكان أول سهم رمي في الإسلام، ثم انصرف القوم عن القوم، وللمسلمين حامية. وجاء المقداد بن عمرو البهراني حليف بني زهرة وعتبة بن غزوان بن جابر الحارثي حليف بني نوفل، وكانا مسلمين ولكنهما خرجا فتوصلا بالكفار، وكان على القوم عكرمة بن أبي جهل. وسعد بن أبي وقاص على سرية الخرار وهو ماء من الجحفة. فأصاب نعما لبني ضمرة، فأرسلوا إلى رسول الله فردها بالحلف الذي بينهم وبينه.
وحمزة بن عبد المطلب على سرية إلى ساحل البحر من ناحية العيص في ثلاثين راكباً من المهاجرين ليس فيهم من الأنصار أحد، فلقي أبا جهل بن هشام في ثلاثمائة راكب من أهل مكة فحجز بينهم مجدي بن عمرو الجهني، وكان موادعا للفريقين جميعاً، وانصرف القوم بعضهم عن بعض، ولم يكن قتال: وعبد الله بن جحش بن رئاب على سرية إلى نخلة في ثمانية رهط من المهاجرين ليس فيهم أحد من الأنصار، وكتب له كتابا وأمره أن لا ينظر فيه حتى يسير يومين ثم ينظر فيه فيمضي لما أمره ولا يستكره من أصحابه أحداً. فلما سار عبد الله بن جحش يومين فتح الكتاب ينظر فيه، فإذا فيه: إذا نظرت في كتابي هذا فامض حتى تنزل نخلة بين مكة والطائف لترصد بها قريشاً وتعلم أخبارها. فمضى ومضى معه أصحابه، لم يتخلف منهم أحد، فلما نزل نخلة مرت به عير لقريش تحمل زبيبا وأدما وتجارة، فيها عمرو بن الحضرمي فقاتلوه فأسروا منهم رجلين، فكانا أول أسير من المشركين، وأفلت القوم وأخذوا ما كان معهم، فعزل رسول الله صلى الله عليه وسلم خمس العير وقسم سائرها لأصحابه، فكان أول خمس قسم في الإسلام. ووجه مرثد بن أبي مرثد حليف حمزة بن عبد المطلب على سرية إلى جمع وذلك أنه قدم على النبي صلى الله عليه وسلم نفر من العضل وديش، وهما حيان من الهون بن خزيمة، فقالا: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن فينا إسلاماً فابعث معنا أصحابك يفقهوننا ويقرئوننا القرآن. فبعث فيهم مرثد بن أبي مرثد الغنوي وخالد بن البكير حليف بني عدي وعاصم بن ثابت بن أبي الأقلح العمري وزيد بن دثنة البياضي وعبد الله بن طارق الظفري وخبيب بن عدي العمري، فلما كانوا على ماء يقال له الرجيع لهذيل خرج بعض الناس حتى انتهى إلى هذيل، فقال: أن هاهنا نفرا من أصحاب محمد، هل لكم أن نأخذهم ونسلبهم ونبيعهم من قريش؟ فما راع المسلمين إلا الرجال بأيديهم السيوف. فقالوا: استأسروا فلكم العهد والعقد ولا نقتلكم ولكن نبيعكم من قريش. فنادى مرثد، وهو أمير القوم، وعاصم وخالد فصاحوا بالقوم وسلوا سيوفهم وتهيئوا للقتال، وأما خبيب وعبد الله وزيد فلانوا وأعطوا بأيديهم فقاتل أصحابهم قتالاً شديداً وقتل. مرثد وخالد بن البكير وقاتل عاصم بن ثابت حتى قتل.
وزيد بن حارثة الكلبي مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم على سرية إلى قردة. لما انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم من بدر الصغرى، ميعاد أبي سفيان، هابت قريش أن يأخذوا طريقهم إلى الشام على بدر، فتركوا ذلك الطريق وسلكوا طريق العراق، فخرج أبو سفيان وأبو العاص بن الربيع في عير قريش في مال كثير إلى الشام، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم فأصابهم وما فيها. وخرج القوم هاربين: أبو سفيان وأصحابه، فسبقوهم، فقدم زيد بذلك المال وأسر معاوية بن المغيرة بن أبي العاص جد عبد الملك بن مروان، وقيل إنه قدم به. وأقبل أبو العاص بن الربيع حتى دخل المدينة فاستجار بزينب ابنة رسول الله، فلما صلى رسول الله الغداة نادت زينب، إلا إني قد أجرت أبا العاص بن الربيع. فقال رسول الله حين انصرف: أسمعتم؟ قالوا: نعم! قال: قد أجرت، من أجارت، أن أدنى المؤمنين يجير على أقصاهم. وقام فدخل عليهما فقال: لا يفوتنك، أكرمي مثواه. ورد عليه ما أخذ له، فرجع إلى مكة فرد إلى كل ذي حق حقه ثم أسلم ورجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فرد عليه زينب بالنكاح الأول.
وأيضاً زيد بن حارثة على سرية إلى الجحوم أو الجموم، فأصاب امرأة من مزينة يقال لها حليمة فدلتهم على محلة من محال بني سليم فأصابوا في تلك المحلة نعما وأسارى. وكان في أولئك الأسارى زوج حليمة. فلما قفل بها وهب رسول الله صلى الله عليه وسلم للمزينية زوجها ونفسها.
ومرة أخرى لزيد على جيش إلى جذام. وكان ابن خليفة الكلبي لما انصرف من عند قيصر مر بأرض جذام فأغار عليه الهنيد بن عارض الجذامي فسلبه ما كان معه، وأدركه نفر من المسلمين فاستنقذوا ما أخذ منه فدفعوه إلى دحية. فوجه رسول الله زيد بن حارثة فسبى وقتل وأخذ الهنيد وابنه فضرب أعناقهما. ووجه أيضاً زيداً على جيش إلى وادي القرى، وكانت أم قرفة ابنة ربيعة ابن بدر قد زوجها مالك بن حذيفة بن بدر، بعثت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بأربعين رجلاً من بطنها وقالت: ادخلوا عليه المدينة. فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم زيد بن حارثة في خيل فلقيهم بوادي القرى فهزم أصحابه وارتث زيد من القتلى، فحلف ألا يغسل ولا يدهن حتى يغزوهم. فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبعث به إليهم، فبعثه في خيل عظيمة فالتقوا بوادي القرى فاقتتلوا قتالاً شديدا فهزمت بنو فزارة وقتلوا وسبيت يومئذ أم قرفة فقتلها قتلاً عنيفاً، شقها بين بكرين. وأما ابنتها فوقعت في سهم قيس بن المحسر فاستوهبها رسول الله صلى الله عليه وسلم منه لخاله حزن بن أبي وهب بن عائذ بن عمران بن مخزوم، فولدت عبد الرحمن بن حزن.
ومرة على جيش الطرف إلى بني ثعلبة في خمسة عشر رجلاً، فهربت الأعراب وخافوا أن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم سار إليهم، فأصاب من نعمهم عشرين بعيرا ولم يكن بينهم قتال.
والمنذر بن عمرو الأنصاري على سرية إلى بئر معونة. وذلك أن أسد بن معونة قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم بهدية من قبل عمه أبي براء بن مالك ملاعب الأسنة، وأهدى له فرسين ونجائب، وكان صديقا للنبي. فقال رسول الله: والله لا أقبل هدية مشرك. فقال لبيد بن ربيعة: ما كنت أرى أن رجلاً من مضر يرد هدية أبي براء. فقال: لو كنت قابلاً من مشرك هدية لقبلتها منه. قال: فإنه يستشفيك من دبيلة في بطنة قد غلبت عليه. فتناول رسول الله جبوبة من تراب فأمرها على لسانه ثم دفها بماء ثم سقاه إياه، فكأنما انشط من عقال. وكان أبو براء سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبعث إليه بنفر من أصحابه ليفقهوهم في الدين ويبصروهم شرائع الإسلام، فقال رسول الله: إني أخاف أن يقتلهم بنو عامر، فأرسل أبو براء انهم في جواري. فبعث إليه المنذر بن عمرو ونفرا من أصحابه في تسعة وعشرين عامتهم بدري. فأغار عليهم عامر بن الطفيل وتابعه ثلاثة أحياء من بني سليم رعل وذكوان وعصية فلذلك لعنهم رسول الله، وأقبل عامر إلى حرام بن ملحان، وهو يقرأ كتاب رسول الله، فطعنه بالرمح. فقال: الله أكبر فزت بالجنة. واقتتل القوم قتالاً شديدا وكثرتهم بنو سليم، فقتلوا من عند آخرهم ما خلا المنذر بن عمرو فإنه قال لهم: دعوني أصلي على أخي حرام ابن ملحان. قالوا: نعم. فصلى عليه ثم أخذ سيفا وأعنق نحوهم فقاتلهم حتى قتل. وقال الحارث بن الصمة: ما كنت لأرغب بنفسي عن سبيل مضى فيه المنذر، والله لأذهبن فلئن ظفر لأظفرن ولئن قتل لأقتلن. فذهب فقتل وأعتق عامر بن الطفيل أسعد بن زيد الديناري عن رقبة كانت على أمه.
وبعث جعفر بن أبي طالب وزيد بن حارثة وعبد الله بن رواحة إلى البلقاء من أرض الشام فأصيبوا بمؤتة، وقد قدمنا ذكرهم قبل هذا الموضع.
وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم غالب بن عبد الله الكلبي إلى بني مدلج وهم حلفاؤه وهم الذين قال الله فيهم: أو جاءوكم حصرت صدورهم فقالوا: لسنا عليك ولسنا معك، ولم يجيبوه، فقال الناس: أغزهم يا رسول الله. فقال: أن لهم سيداً أديبا لن يأخذ إلا خيرة أمره، وإنهم إذا نحروا ثجوا وإذا لبوا عجوا، رب غاز من بني مدلج شهيد في سبيل الله.
وبعث نميلة بن عبد الله الليثي إلى بني ضمرة فرجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله قالوا لا نحاربه ولا نسالمه ولا نصدقه ولا نكذبه. فقال الناس: يا رسول الله أغزهم. فقال: دعوهم فإن فيهم عددا وسوددا، ورب شيخ صالح من بني ضمرة غاز في سبيل الله.
وبعث عمرو بن أمية الضمري إلى بني الديل فرجع فقال: يا رسول الله أدركتهم فلولا وجثتهم حلولا، دعوتهم إلى الله ورسوله فأبوا أشد الإباء. فقال الناس: أغزهم يا رسول الله. فقال رسول الله: دعوا بني الديل، إياكم! إلا أن سيدهم قد صلى وأسلم فيقول: أسلم، فيقولون: نعم.
وبعث رسول الله عبد الله بن سهيل بن عمرو العامري إلى بني معيص ومحارب ابن فهر ومن يليهم من السواحل في خمسمائة، فلقيهم على المدثراً. فلما واقعهم دعاهم إلى الإسلام، فجاء معه نفر فقال رسول الله: ها قطيعة الأيمان كجذع النخل حلو أوله حلو آخره.
وبعث أبا عبيدة بن الجراح على جيش إلى ذات القصة، وكان بها قوم من محارب وثعلبة وأنمار. فخرج أبو عبيدة وأصحابه يسيرون ليلتهم حتى أصبحوا. فلما أبصر القوم بهم هربوا وخلفوا إبلهم فغنموا الأموال وأخذوا رجلاً واحداً فأتوا به رسول الله صلى الله عليه وسلم فخمس رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذ الخمس وفرق الباقي على أصحاب السرية، وأسلم الرجل فتركه.
وعمر بن الخطاب على جيش إلى زبية قريبة من الطائف فلم يلق كيدا. وعلي بن أبي طالب على جيش إلى فدك. وبلغ رسول الله أن بها جمعاً يريدون أن يمدوا يهود خيبر، فسار علي بن أبي طالب الليل وكمن النهار حتى صبحهم فقتلهم. وأبا العوجاء السلمي على سرية، فاستشهد كل من كان في السرية فلم ينصرف منهم أحد. وعكاشة بن محصن بن حرثان الأسدي أسد بن خزيمة، على سرية إلى الغمرة. وأبا سلمة بن عبد الأسد بن هلال المخزومي إلى قطن. ومحمد بن مسلمة الأنصاري أخا بني حارثة على جيش إلى القرطاء من هوازن. وبشير بن سعد الأنصاري على سرية إلى فدك فأصيب أصحابه جميعاً ولم يرجع منهم أحد. ثم بعث إليهم غالب بن عبد الله الملوحي، فجاء بمرداس ابن نهيك الفدكي. ومرة أخرى إلى صروحان من أرض خيبر. وعبد الله بن رواحة الأنصاري على سرية إلى خيبر مرتين، أحداًهما إلى أصحاب اليسير بن رزام اليهودي وأصحابه، وكان يجمع غطفان لغزو رسول الله.
وعبد الله بن أنيس الأنصاري إلى خالد بن سفيان بن نبيح يجمع لرسول الله الناس ليغزوه، فقتله، ويقال لم تكن سرية إنما كان وحده.
وعيينة بن حصن بن حذيفة بن بدر الفزاري على جيش إلى بلعنبر فأصابهم وهم خلوف، فجاء بسباياهم فطرحهم في المسجد. فركب إليه رجالاتهم، فلما دخلوا المسجد صاحوا: يا محمد اخرج إلينا. وكان فيهم بسامة بن الأعور وسمرة ابن عمرو، قال الله، عز وجل: ولو انهم صبروا حتى تخرج إليهم لكان خيراً لهم فخرج إليهم رسول الله، فسألوه وطلبوا إليه أن يحكم سمرة بن عمرو وأن يهب لهم ثلاثاً ويؤخر ثلاثاً ويأخذ ثلاثا، فبلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: من أراد أن يعتق من ولد إسماعيل فليعتق من هؤلاء.
وكعب بن عمير الأنصاري على سرية إلى ذات أطلاح، ويقال ذات أباطح، فاستشهدوا جميعاً ولم يرجع من السرية أحد. وبعث رسول الله عمرو بن العاص على جيش إلى ذات السلاسل من أرض الشام، وبها ناس من بني عذرة وبلى وقبائل من اليمن، وكان معه أبو بكر وعمر وأبو عبيدة بن الجراح، وأعطاه مالا وقال: استنفر من قدرت عليه. فلما شارف القوم نهاهم ألا يوقدوا نارا فشق ذلك على المسلمين لشدة القر، فقال: قد أمركم رسول الله أن تسمعوا لي وتطيعوا. فكلموا أبا بكر في ذلك فأتى عمرا فلم يأذن له. فصاح به أبو بكر: يا ابن بياعة العباء اخرج إلي، فأبى. قال: يا ابن دباغة القرظ اخرج إلي، فأبى. فلما كان في السحر أغار بهم فأصاب وظفر، فقال لأبي بكر: كيف رأيت رأي ابن بياعة العباء؟ وصلى عمرو بن العاص بالناس وهو جنب، فلما قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبره أبو عبيدة بن الجراح، فقال عمرو: يا رسول الله كان البرد شديداً ولو اغتسلت لمت، فضحك رسول الله.
وعبد الله بن أبي حدرد الأسلمي على سرية إلى أضم، فلقي عامر بن الأضبط الأشجعي، فحمل عليه محلم بن جثامة بن قيس فطعنه فخاصمه عيينة ابن حصن إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بديته فعجل نصفاً وأخر نصفاً. فقام إليه محلم بن قيس فقال: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم استغفر لي. قال: قتلت مسلماً، لعنك الله! فما لبث بعدها إلا خمساً حتى مات.
وعبد الرحمن بن عوف على سرية إلى كلب، وعممه رسول الله صلى الله عليه وسلم بعمامة سوداء وأسدلها بين يديه ومن خلفه وقال: هكذا فاعتم فإنه أشبه وأعرف، وأمره أن فتح الله عليه أن يزوجه ابنة سيدهم، ففتح الله عليه فتزوج تماضر بنت الأصبغ التي صولحت عن ربع الثمن عن ثمانين ألف دينار.
وأمر علي بن أبي طالب حين خرج إلى تبوك... وكان المهاجر بن أبي أمية أميره على صنعاء وزياد بن لبيد البياضي على حضرموت وصدقاتها وعدي بن حاتم على صدقات طيء ومالك بن نويرة اليربوعي على صدقات حنظلة والزبرقان بن بدر وقيس بن عاصم على صدقات بني سعد وعلي ابن أبي طالب إلى أهل نجران بجمع صدقاتهم وأخذ جزيتهم وخالد بن الوليد على سرية إلى دومة الجندل وعتاب بن أسيد بن أبي أمية على مكة وأبو سفيان ابن حرب على نجران ويزيد بن أبي سفيان على تيماء وخالد بن سعيد بن العاص بن أمية على صنعاء، فقبض النبي وهو عليها، وعمرو بن سعيد بن العاص بن أمية على قرى عربية وأبان بن سعيد بن العاص بن أمية على الخط بالبحرين والوليد بن عقبة بن أبي معيط إلى بني المصطلق. وكذب عليهم وقد
جئنا بحديثه في غزاة بني المصطلق، والعلاء حليف سعيد بن العاص على الغطيف بالبحرين ومعيقيب ابن أبي فاطمة الدوسي على الغنائم وأبو رنم الغفاري أميره على المدينة حين غزا خيبر، ويقال أبو رهم كلثوم بن الحصين الغفاري وأبو رهم الغفاري أيضاً على المدينة في غزاة الفتح وأميره على الموسم، والناس بعد على الشرك، عتاب بن أسيد، فوقف عتاب بالمسلمين ووقف المشركون على حدتهم، وأبو بكر أميره على الموسم في سنة تسع وبعض الناس مشركون، فوقف أبو بكر بالمسلمين ووقف المشركون ناحية على مواقفهم.
وفي تلك السنة وجه علي بن أبي طالب بسورة براءة فأخذها من أبي بكر، فقال أبو بكر: يا رسول الله! هل نزل في شيء؟ فقال: لا، ولكن جبريل قال لي: لا يبلغ هذا إلا أنت أو رجل من أهلك. فقرأها على أهل مكة، ويقال قرأها على سقاية زمزم. وأمن فنادى أن من كان له عهد من رسول الله صلى الله عليه وسلم في تأجيله أربعة أشهر فهو على عهده ومن لم يكن له عنده عهد فقد أجله خمسين ليلة. وأميره على صلاة وفد ثقيف عثمان بن أبي العاص الثقفي ومعاذ بن جبل على بعض اليمن وعلى المقاسم يوم بدر محمية بن جزء بن عبد يغوث الزبيدي حليف بني جمح وأسامة بن زيد مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم على جيش إلى ناحية الشام، فأنفذه أبو بكر بعد وفاة رسول الله. وكان أبو بكر وعمر في الجيش وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا بعث السرايا والجيوش قال: اغزوا بسم الله، في سبيل الله، وقاتلوا من كفر بالله، لا تغلوا ولا تغدروا ولا تمثلوا ولا تقتلوا وليداً.
ووجه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الملوك يدعوهم إلى الإسلام. فوجه عبد الله بن حذافة السهمي إلى كسرى، وكتب إليه: بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى كسرى عظيم فارس، سلام على من اتبع الهدى وآمن بالله ورسوله وشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمداً عبده ورسوله إلى الناس كافة لينذر من كان حيا ويحق القول على الكافرين فأسلم تسلم، فإن أبيت فإن عليك آثام المجوس.
وكتب إليه كسرى كتاباً جعله بين سرقتي حرير وجعل فيهما مسكاً، فلما دفعه الرسول إلى النبي صلى الله عليه وسلم فتحه فأخذ قبضة من المسك فشمه وناوله أصحابه، وقال: لا حاجة لنا في هذا الحرير، ليس من لباسنا، وقال: لتدخلن في أمري أو لآتينك بنفسي ومن معي وأمر الله أسرع من ذلك. فأما كتابك فأنا أعلم به منك، فيه كذا وكذا، ولم يفتحه ولم يقرأه. ورجع الرسول إلى كسرى فأخبره، وقد قيل إن كسرى لما وصل إليه الكتاب وكان... راع أدم قده شتورا، فقال رسول الله: يمزق الله ملكهم كل ممزق.
ووجه دحية بن خليفة الكلبي إلى قيصر وكتب إليه: بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى هرقل عظيم الروم، سلام على من اتبع الهدى. أما بعد فإني أدعوك بداعية الإسلام فأسلم تسلم، ويؤتك الله أجرك مرتين، قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئاً ولا يتخذ بعضنا بعضا أرباباً من دون الله، فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون، فإن توليت فإن عليك إثم الأريسيين.
فكتب، هرقل: إلى أحمد رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي بشر به عيسى من قيصر ملك الروم: أنه جاءني كتابك مع رسولك وإني أشهد أنك رسول الله صلى الله عليه وسلم نجدك عندنا في الإنجيل، بشرنا بك عيسى بن مريم وإني دعوت الروم إلى أن يؤمنوا بك فأبوا، ولو أطاعوني لكان خيراً لهم، ولوددت أني عندك فأخدمك واغسل قدميك. فقال رسول الله: يبقى ملكهم ما بقي كتابي عندهم.
ووجه عمرو بن أمية الضمري إلى النجاشي وشجاع بن وهب إلى الحارث ابن أبي شمر الغساني وحاطب بن أبي بلتعة إلى المقوقس صاحب الإسكندرية وجرير بن عبد الله البجلي إلى ذي الكلاع الحميري والعلاء بن الحضرمي إلى المنذر بن ساوي من بني تميم بالبحرين وعمار بن ياسر إلى الأيهم بن النعمان الغساني وسليط بن عمرو بن عبد شمس العامري إلى ابني هوذة بن علي الحنفي باليمامة والمهاجر بن أبي أمية إلى الحارث بن عبد كلال الحميري وخالد بن الوليد إلى الديان وبني قنان وعمرو بن العاص إلى جيفر وعباد ابني الجلندا إلى عمان، وكتب إليهم
جميعا بمثل ما كتب به إلى كسرى وقيصر، وسليم بن عمرو الأنصاري إلى حضرموت.
وبعث قوماً من أصحابه في قتل قوم من المشركين. فوجه عمرو بن أمية الضمري بقتل أبي سفيان بن حرب فلم يقتله. وبعث محمد بن مسلمة وأبا نائلة سلكان بن سلامة وعباد بن بشر وأبا عبس بن جبر والحارث بن أوس في قتل كعب بن الأشرف اليهودي فقتلوه في النضير. وبعث عبد الله بن رواحة إلى اليسير بن رزام اليهودي الخيبري فقتله. وبعث عبد الله بن عتيك وأبا قتادة ابن ربعي وخزاعي بن الأسود ومسعود بن سنان وابن عتيك أميرهم في قتل سلام بن أبي الحقيق فقتلوه بخيبر. وبعث في قتل ابن أبي حدعة وقال للموجه: أن أصبته حياً فاقتله وأحرقه بالنار، فأصابه قد لسعته حية فمات. وبعث عبد الله بن أبي حدرد في قتل رفاعة بن قيس الجشمي فقتله، وبعث علي بن أبي طالب في قتل معاوية بن المغيرة بن أبي العاص بن أمية فقتله.
وفود العرب
الذين قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلموقدمت عليه وفود العرب، ولكل قبيلة رئيس يتقدمهم. فقدمت مزينة ورئيسهم خزاعي بن عبد نهم، وأشجع ورئيسهم عبد الله بن مالك، وأسلم ورئيسهم بريدة، وسليم ورئيسهم وقاص بن قمامة، وبنو ليث ورئيسهم الصعب بن جثامة، وفزارة ورئيسهم عيينة بن حصن، وبنو بكر ورئيسهم عدي بن شراحيل، وطيء ورئيسهم عدي بن حاتم، وبجيلة ورئيسهم قيس ابن غربة، والأزد ورئيسهم صرد بن عبد الله، وخثعم ورئيسهم عميس بن عمرو، ووفد نفر من طيء ورئيسهم زيد بن مهلهل وهو زيد الخيل، وبنو شيبان... وعبد القيس ورئيسهم الأشج العصري، ثم وفد الجارود ابن المعلى فولاه رسول الله صلى الله عليه وسلم على قومه، وأوفدت ملوك حمير بإسلامهم وفودا وهم: الحارث بن عبد كلال ونعيم بن عبد كلال والنعمان قيل ذي رعين وكتبوا إليه بإسلامهم فبعث إليهم معاذ بن جبل، وعكل ورئيسها خزيمة بن عاصم، وجذام ورئيسها فروة بن عمرو، وحضرموت ورئيسها وائل بن حجر الحضرمي، والضباب ورئيسها ذو الجوشن، وبنو أسد ورئيسها ضرار بن الأزور وقيل نقادة بن العايف، وعامر بن الطفيل في بني عامر فرجع ولم يسلم، وأربد بن قيس رجع ولم بسلم، وبنو الحارث بن كعب ورئيسهم يزيد بن عبد المدان، وبنو تميم وعليهم عطارد بن حاجب والزبرقان بن بدر وقيس بن عاصم ومالك ابن نويرة، وبنو نهد وعليهم أبو ليلى خالد بن الصقعب، وكنانة ورئيسهم قطن وأنس ابنا حارثة من بني عليم، وهمدان ورئيسهم ضمام بن مالك، وثمالة والحدان فخذ من الأزد ورئيسهم مسلمة بن هزان الحداني، وباهلة ورئيسهم مطرف بن كاهن الباهلي، وبنو حنيفة ومعهم مسيلمة بن حبيب الحنفي، ومراد ورئيسهم فروة بن مسيك، ومهرة ورئيسهم مهري بن الأبيض.
كتاب النبيوكتب إلى رؤساء القبائل يدعوهم إلى الإسلام. وكان كتابه الذين يكتبون الوحي والكتب والعهود: علي بن أبي طالب وعثمان بن عفان وعمرو بن العاص بن أمية ومعاوية بن أبي سفيان وشرحبيل بن حسنة وعبد الله بن سعد بن أبي سرح والمغيرة بن شعبة ومعاذ بن جبل وزيد بن ثابت وحنظلة بن الربيع وأبي بن كعب وجهيم بن الصلت والحصين النميري.
وكتب إلى أهل اليمن: بسم الله الرحمن الرحيم، هذا كتاب من محمد رسول الله إلى أهل اليمن فإني أحمد الله إليكم الذي لا إله إلا هو. وقع بنا رسولكم مقدمنا من أرض الروم فلقينا بالمدينة فبلغنا ما أرسلتم به وأخبرنا ما كان قبلكم ونباتا بإسلامكم وأن الله قد هداكم أن أصلحتم وأطعتم الله وأطعتم رسوله وأقمتم الصلاة وآتيتم الزكاة وأعطيتم من الغنائم خمس الله وسهم النبي والصفي وما على المؤمنين من الصدقة عشر ما سقى البعل وسقت السماء وما سقي بالغرب نصف العشر، وأن في الإبل من الأربعين حقة قد استحقت الرحل وهي جذعة، وفي الخمس والعشرين ابن مخاض، وفي كل ثلاثين من الإبل ابن لبون، وفي كل عشرين من الإبل أربع شياه، وفي كل أربعين من البقر بقرة، وفي كل ثلاثين من البقر تبيع ذكر أو جذعة، وفي كل أربعين من الغنم شاة، فإنها فريضة الله التي افترض على المؤمنين، فمن زاد خيراً فهو خير له، فمن أعطى ذلك وأشهد على إسلامه وظاهر المؤمنين على الكافرين فإنه من المؤمنين له ذمة الله وذمة رسوله محمد رسول الله، وإنه من أسلم من يهودي أو نصراني فإنه من المؤمنين له مثل ما لهم وعليه ما عليهم، ومن كان على يهوديته أو نصرانيته فإنه لا يغير عنها وعليه الجزية في كل حالم من ذكر أو أنثى حر أو عبد دينار وأف من قيمة المعافري أو عرضه. فمن أدى ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن له ذمة الله وذمة رسوله، ومن منعه فإنه عدو لله ولرسوله وللمؤمنين، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم مولى غنيكم وفقيركم، وأن الصدقة لا تحل لمحمد ولا أهله إنما هي زكاة تؤدونها إلى فقراء المؤمنين في سبيل الله، وأن مالك بن مرارة قد أبلغ الخبر وحفظ الغيب فامركم به خيراً، إني قد أرسلت إليكم من صالحي أهلي وأولي كتابهم وأولي علمهم فامركم به خيراً فإنه منظور إليه والسلام. وكان الرسول بالكتاب معاذ بن جبل.
وكتب إلى همدان: بسم الله الرحمن الرحيم، هذا كتاب من محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عمير ذي مران ومن أسلم من همدان سلم أنتم فإني أحمد الله إليكم، الله الذي لا إله إلا هو، أما بعد ذلك فإنه بلغني إسلامكم مرجعنا من أرض الروم فأبشروا فإن الله قد هداكم بهداه وإنكم إذا شهدتم أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبد الله ورسوله وأقمتم الصلاة وآتيتم الزكاة فإن لكم ذمة الله وذمة رسوله على دمائكم وأموالكم وأرض البور التي أسلمتم عليها سهلها وجبلها وعيونها وفروعها غير مظلومين ولا مضيق عليكم، وأن الصدقة لا تحل لمحمد ولا لأهل بيته إنما هي زكاة تزكونها عن أموالكم لفقراء المسلمين، وأن مالك ابن مرارة الرهاوي قد حفظ الغيب وبلغ الخبر فامركم به خيراً فإنه منظور إليه، وكتب علي بن أبي طالب.
وكتب إلى نجران: بسم الله، من محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أسقفه نجران: بسم الله فإني أحمد إليكم إله إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب، أما بعد ذلك فإني أدعوكم إلى عبادة الله من عبادة العباد وأدعوكم إلى ولاية الله من ولاية العباد، فإن أبيتم فالجزية وأن أبيتم آذنتكم بحرب والسلام.
وكتب إلى أهل هجر: بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أهل هجر سلم أنتم فإني أحمد الله إليكم الذي لا إله إلا هو، أما بعد فإني أوصيكم بالله وأنفسكم ألا تضلوا بعد إذ هديتم ولا تغووا بعد إذ رشدتم، أما بعد ذلكم فإنه قد جاءني وفدكم فلم آت فيهم إلا ما سرهم وإني لو جهدت حقي كله فيكم أخرجتكم من هجر فشفعت شاهدكم ومننت على غائبكم اذكروا نعمة الله عليكم. أما بعد فإنه قد أتاني ما صنعتم وأن من يجمل منكم لا يحمل عليه ذنب المسيء فإذا جاءكم أمراؤكم فأطيعوهم وانصروهم على أمر الله وفي سبيله فإنه من يعمل منكم عملاً صالحاً فلن يضل له عند الله ولا عندي. أما بعد يا منذر بن ساوي فقد حمدك لي رسولي وأنا، أن شاء الله، مثيبك على عملك.
وقدم عليه أهل نجران ورئيسهم أبو حارثة الأسقف، ومعه العاقب والسيد وعبد المسيح وكوز وقيس والأيهم، فوردوا على رسول الله. فلما دخلوا أظهروا الديباج والصلب ودخلوا بهيئة لم يدخل بها أحد. فقال رسول الله: دعوهم، فلقوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فدارسوه يومهم وساءلوه ما شاء الله. فقال أبو حارثة: يا محمد! ما تقول في المسيح؟ قال: هو عبد الله ورسوله. فقال: تعالى الله عما قلت، يا أبا القاسم هو كذا وكذا. ونزل فيهم: " أن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب " إلى قوله: " فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ثم نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين " . فرضوا بالمباهلة، فلما أصبحوا قال أبو حارثة: انظروا من جاء معه. وغدا رسول الله صلى الله عليه وسلم آخذا بيد الحسن والحسين تتبعه فاطمة وعلي بن أبي طالب بين يديه وغدا العاقب والسيد بابنين لهما عليهما الدر والحلي وقد حفوا بأبي حارثة. فقال أبو حارثة: من هؤلاء معه؟ قالوا: هذا ابن عمه وهذه ابنته وهذان ابناها. فجثا رسول الله صلى الله عليه وسلم على ركبتيه ثم ركع. فقال أبو حارثة: جثا والله كما يجثو النبيون للمباهلة.
فقال له السيد: ادن يا أبا حارثة للمباهلة. فقال: إني أرى رجلاً حريا على المباهلة وإني أخاف أن يكون صادقاً فإن كان صادقاً لم يحل الحول وفي الدنيا نصراني يطعم الطعام. قال أبو حارثة: يا أبا القاسم لا نباهلك ولكنا نعطيك الجزية. فصالحهم رسول الله صلى الله عليه وسلم على ألفي حلة من حلل الأواقي، قيمة كل حلة أربعون درهماً فما زاد أو نقص فعلى حساب ذلك. وكتب لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم كتاباً: بسم الله الرحمن الرحيم، هذا كتاب من النبي محمد رسول الله لنجران وحاشيتها إذا كان له عليهم حكمه في كل بيضاء وصفراء وثمرة ورقيق كان أفضل ذلك كله لهم غير ألفي حلة من حلل الأواقي قيمة كل حلة أربعون درهماً، فما زاد أو فقص فعلي هذا الحساب ألف في صفر وألف في رجب، وعليهم ثلاثون دينارا مثواه رسلي شهراً فما فوق. وعليهم في كل حرب كانت باليمن دروع عارية مضمونة لهم بذلك جوار الله وذمة محمد فمن أكل الربا منهم بعد عامهم هذا فذمتي منه بريئة. فقال العاقب: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم إنا نخاف أن تأخذنا بجناية غيرنا. قال فكتب: ولا يؤخذ أحد بجناية غيره. شهد على ذلك عمرو بن العاص والمغيرة بن شعبة وكتب علي بن أبي طالب. فلما قدموا نجران أسلم الأيهم وأقبل مسلماً.
أزواج رسول اللهوتزوج إحدى وعشرين امرأة، وقيل ثلاثاً وعشرين. دخل ببعضهن وطلق بعضا ولم يدخل ببعض، واللاتي دخل بهن: أولهن خديجة ابنة خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصي وولدت أولاده، أجمعين خلا إبراهيم، ولم يتزوج عليها حتى ماتت. ثم سودة بنت زمعة بن قيس بن عبد شمس بن عبد ود بن نصر بن مالك ابن حسل بن عامر بن لؤي، تزوجها بمكة. ثم عائشة بنت أبي بكر بن أبي قحافة، تزوجها بمكة ودخل بها بالمدينة. ثم غزية بنت دودان بن عوف بن جابر بن ضباب من بني عامر بن لؤي، وهي أم شريك التي وهبت نفسها للنبي. ثم حفصة بنت عمر بن الخطاب. ثم بنت نفيل بن عبد العزى العبدوي. ثم زينب بنت خزيمة بن الحارث من بني عامر بن صعصعة، وهي أم المساكين، ولم يمت من نسائه عنده غيرها وغير خديجة. ثم أم حبيبة بنت أبي سفيان بن حرب بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف. ثم زينب بنت جحش بن رئاب بن قيس بن يعمر بن صبرة من بني أسد ابن خزيمة. ثم أم سلمة بنت أبي أمية بن المغيرة بن عبد الله بن عمرو بن مخزوم. ثم جويرية واسمها برة بنت الحارث بن أبي ضرار المصطلقية من خزاعة. ثم صفية بنت حيي بن أخطب من بني النجار من سبط هارون النبي. ثم ميمونة بنت الحارث بن حزن بن بجير الهلالي.
ثم مارية أم إبراهيم، هؤلاء اللاتي دخل بهن، طلق منهن أم شريك، وأرجأ منهن سودة وصفية وجويرية وأم حبيبة وميمونة، وآوى عائشة وحفصة وزينب وأم سلمة. والنسوة اللاتي لم يدخل بهن: خولة بنت الهذيل بن هبيرة الثعلبية، هلكت في الطريق قبل وصولها إليه. وشراف أخت
دحية بن خليفة الكلبي، حملت إليه فهلكت قبل دخولها عليه. وسنا بنت الصلت بن حبيب بن حارثة السلمي، ماتت قبل أن يصل إليها. وريحانة بنت شمعون القريظية عرض عليها النبي صلى الله عليه وسلم الإسلام فأبت إلا اليهودية فعزلها ثم أسلمت بعد، فعرض عليها التزويج فأجابت وضرب الحجاب، فقالت: بل تتركني في ملكك، يا رسول الله. فلم تزل في ملكه حتى قبض. وأسماء بنت النعمان الكندي، من بني آكل المرار، كانت من أجمل نسائه وأتمهن فقال لها نساؤه: أن أردت أن تحظي عنده فتعوذى بالله إذا دخلت عليه. فلما دخل وأرخى الستر، قالت: أعوذ بالله منك! فصرف وجهه عنها. ثم قال: أمن عائذ الله! الحقي بأهلك. فخلف على أسماء بنت النعمان الكندي المهاجر بن أمية المخزومي ثم خلف عليها بعد المهاجر قيس بن مكشوح المرادي. وقتيلة بنت قيس بن معديكرب، وهي أخت الأشعث بن قيس بن فلان، قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل خروجها إليه من اليمن، فخلف عليها عكرمة بن أبي جهل. وعمرة بنت يزيد بن عبيد بن رواس الكلابي، بلغه أن بها بياضاً فطلقها ولم يدخل بها. والعالية بنت ظبيان بن عمرو الكلابي، طلقها.
والجونية امرأة من كندة وليست بأسماء، كان أبو أسيد الساعدي قدم بها عليه، فوليت عائشة وحفصة مشطها وإصلاح أمرها، فقالت أحداًهما لها: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يعجبه من المرأة إذا دخل عليها ومد يده إليها أن قالت: أعوذ بالله منك، ففعلت ذلك فوضع يده على وجهه واستتر بها وقال: عذت، فعاذت ثلاث مرات. ثم خرج وأمر أبا أسيد الساعدي أن يمتعها برازقيتين ويلحقها بأهلها، فزعموا أنها ماتت كمداً. وليلى بنت الحطيم الأوسي أتته وهو غافل فحطأت منكبه. فقال: من هذا أكله الأسود؟ قالت: أنا بنت الحطيم، وأبي مطعم الطير، وقد جئتك أعرض نفسي عليك. قال: قد قبلتك. فأتت نساءها فقلن لها: بئس ما صنعت! أنت امرأة غيور ورسول الله كثير الضرائر، إنا نخاف أن تغاري فيدعو عليك فتهلكي، استقيليه، فأتته فاستقالته، فأقالها، ودخلت حائطا من حيطان المدينة فأكلها الأسود. وصفية بنت بشامة العنبرية، عرض عليها المقام عنده أو ردها إلى أهلها فاختارت أهلها فردها. وضباعة بنت عامر القيسية، كانت عند عبد الله بن جدعان فطلقها ثم تزوجها هشام بن المغيرة فأولدها سلمة، فخطبها رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى سلمة، فقال: أستأمرها. فقالت: أفي رسول الله؟ قد رضيت. فبلغه عنها كبر، فأمسك عنها.
مولد إبراهيم ابن رسول اللهوولد إبراهيم ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمه مارية القبطية في ذي الحجة سنة ثمان. ولما ولد هبط جبريل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: السلام عليك يا أبا إبراهيم! وتنافست فيه نساء الأنصار أيهن ترضعه، فدفعه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أم بردة بنت المنذر بن زيد من بني النجار، وعق رسول الله صلى الله عليه وسلم بكبش. وكانت قابلته سلمى مولاة رسول الله صلى الله عليه وسلم امرأة أبي رافع، فجاء أبو رافع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره فوهب له عبدا. وغارت نساء رسول الله صلى الله عليه وسلم واشتد عليهن حيث رزق منها ولدا فروى الزهري عن عروة عن عائشة قالت: دخل على رسول الله ومعه ابنه إبراهيم يحمله، فقال: انظري إلى شبهه بي. قالت عائشة: أرى شبهها. قال: أما ترين بياضة ولحمه؟ قالت: من قصر عليه اللقاح ابيض وسمن. وتوفي إبراهيم في سنة عشرة وله سنة وعشرة أشهر، وكسفت الشمس ساعتين من النهار، فقال الناس: كسفت لموت إبراهيم. وقال رسول الله: أن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا يكسفان لموت أحد ولا لحياته، فإذا رأيتم فافزعوا إلى مساجدكم. وقال: أن العين تدمع والقلب يخشع وأنا بك يا إبراهيم لمحزونون ولكنا لا نقول ما يسخط الرب.
وأعتق جماعة عبيداً وإماء منهم: زيد بن حارثة بن شراحيل وأسامة بن زيد وأبو رافع، قبطى أهداه له المقوقس، وأنسه، وكان حبشياً، وأبو كبشه، وكان فارسياً، وأبو لبابة وأبو لقيط وأبو أيمن وأبو هند ورافع وسفينة وثوبان وصالح، وهو شقران، وأم أيمن حبشية كان أبو طالب خلفها عليه واسمها بركة، ويقال خضرة، ويقال إنه ورثها عن أبيه وكان يسمي كل شيء لها.
وكان رسم رايته العقاب وكانت سوداء على عمل الطيلسان، وكان له سيف يقال له المخدم وسيف يقال له الرسوب وسيفه الذي يلزمه ذو الفقار. وقد روي أن جبريل نزل به من السماء فكان طوله سبعة أشبار وعرضه شبرا وفي وسطه كال وكانت عليه قبيعة فضة ونعل فضة وفيه حلقتان فضة ورمحه المثوى حربته العنزة، وكان يمشي بها في الأعياد بين يديه ويقول: هكذا أخلاق السنن، وقوسه الكتوم وكنانته الكافور ونبله المتصلة وترسه الزلوق ومغفره السبوع ودرعه ذات الفضول وفيها زردتان زائدتان وفرسه السكب وفرس آخر المرتجز وفرس آخر السجل وفرس آخر البحر. وأجرى الخيل فجاء فرسه سابقا فجثا على ركبتيه وقال: ما هو إلا البحر، وكان يقول: الخيل في نواصيها الخير. وكانت له ناقة يقال لها القصوى وناقة يقال لها العضباء وناقة يقال لها الجذعاء. وسابق بالإبل فجاءت ناقته العضباء سابقة، وعليها أسامة بن زيد. فقال الناس: سبق رسول الله. فقال رسول الله: سبق أسامة. وكانت بغلته الشهباء يقال لها الدلدل أهداها له المقوقس وبغلة أخرى طويلة مرتفعة يقال لها الأبلية. وحماره اليعفور. وكانت له شاة يشرب من لبنها يقال لها غيثه. وقدح يقال له الريان وقدح يقال له العير. وقضيب يقال له الممشوق. وجبة يقال لها الكن. وعمامة سوداء يقال لها السحاب. وذكر أبو البختري أنه كان له منطقة من أديم مبشورة، فيها إبزيم وثلاث حلقات كالفلك من فضة، فإنه كان يلبس برود الحبر أزرا أو أردية البيضاء والقلنسوة الحبر والجبة السندس الخضراء وليس بالذي عن عن لبسهما فما لبس الصوف حتى قبضه الله إليه. وكان له فراش أدم وكان يلبس الملحفة المصبوغة بالزعفران والورس ويلبس الإزار الواحد يعقده بين كتفيه. وكان يتطيب حتى يصبغ الطيب رداءه من موضع رأسه وحتى يرى وميض المسك من مفرقه وحتى يعرف مجيئه بطيب رائحته من بعيد قبل أن يرى. وكان يقول: أطيب الطيب المسك. وكان لا يعرض عليه طيب إلا تطيب منه. وكان إذا أراد الخروج من منزله امتشط وسوى جمته وأصلح شعره. وكان يقول: أن الله يحب من عبده أن يكون له حسن الهيئة. ويروي أنه كان يلبس البرنس والشملة وكان له ثوبان.
وكان يلبس الخاتم ويصير فضة فصه مما يلي الكف ويلبسه في اليد اليمنى واليد اليسرى ويضعه في إصبعه الوسطى في المفصل ويديره في أصابع يده.
خطب رسول الله ومواعظهوتأديبه بالأخلاق الشريفة وكان يخطب أصحابه ويعظهم ويعلمهم محاسن الأخلاق ومكارم الأفعالي. خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال في خطبته: أيها الناس أن لكم معالم فانتهوا إلى معالمكم، وأن لكم نهاية فانتهوا إلى نهايتكم، وأن المؤمن بين مخافتين: بين أجل قد مضى ولا يدري ما الله صانع فيه، وأجل قد بقي ما يدري ما الله صانع فيه، وأجل قد بقي ما يدري ما الله قاض فيه، فليأخذ العبد من نفسه لنفسه ومن دنياه لأخرته: في الشبيبة قبل الكبر، وفي الحياة قبل الممات، فو الذي نفس محمد بيده ما بعد الموت من مستعتب وما بعد الدنيا من دار إلا الجنة أو النار.
وخطب يوماً فقال في خطبته: أن الله ليس بينه وبين أحد قرابة يعطيه بها خيراً ولا حق يصرف به عنه سوءاً إلا بطاعته واتباع مرضاته واجتناب سخطه. أن الله، تبارك وتعالى، على أرادته ولو كره الخلق ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن. تعاونوا على البر والتقوى ولا تعانوا على الإثم والعدوان، واتقوا الله أن الله شديد العقاب.
وخطب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال في خطبته: طوبى لعبد طاب كسبه وحسنت خليقته وصلحت سريرته وأنفق الفضل من ماله، وترك الفضول من قوله، وكف عن الناس شره وأنصفهم من نفسه، إنه من عرف الله خاف الله ومن خاف الله شحت نفسه عن الدنيا.
وخطب يوماً فقال في خطبته: اذكروا الموت فإنه آخذ بنواصيكم، أن فررتم منه أدرككم وأن أقمتم أخذكم... لا خير بعده أبدا، وفرقة لا ألفة بعدها، وأن العبد لا تزول قدماه يوم القيامة حتى يسأل عن عمره فيما أفناه، وعن شبابه فيما أبلاه، وعن ماله مما اكتسبه وفيما أنفقه، وعن إمامه من هو؟ قال الله، عز وجل: يوم ندعو كل أناس بإمامهم إلى آخر الآية. وقال: من نظر في دينه إلى من هو فوقه فاقتدى به، ونظر في دنياه إلى من هو دونه فحمد الله على ما فضله به كتبه الله شاكرا وصابرا. ومن نظر في دينه إلى من هو دونه ونظر في دنياه إلى من هو فوقه فأسفه على ما فضله الله لم يكتبه الله شاكراً ولا صابراً. وقال: من أعطي قلباً شاكراً ولساناً ذاكراً وبدنا صابراً وزوجة صالحة فقد أعطي الدنيا والآخرة. وقال: الرغبة في الدنيا تورث الهم والحزن، والزهد فيها يريح القلب والبدن. وقال: السعادة في اثنتين الطاعة والتقوى. وقال: يقول الله، عز وجل: حسب عندي المؤمن حقيقة إيمانه في ضميره وصدق ورع نيته حتى أجعل نومه عملا وصمته ذكراً. وقال: من أتى الناس بما يحبون وبارز الله بما يكره لقي الله وهو عليه غضبان آسف. وقال: إن الله يرضى لكم ثلاثاً ويكره ثلاثا: يرضى لكم أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئاً، وأن تعتصموا بحبله جميعاً ولا تفرقوا، وأن تناصحوا من ولاة أمركم، ويكره لكم قالا وقيلا، ويكره السؤال وإضاعة المال. وقال: يقول ابن آدم مالي! مالي! وليس لك من مالك إلا ما أكلت فأفنيت، أو لبست فأبليت، أو أعطيت فأمضيت.
وقال: الدنيا حلوة خضرة، والله مستعملكم فيها فانظروا كيف تعملون. وقال: أن أحبكم إلي وأقربكم مني مجلسا يوم القيامة أحسنكم أخلاقا الموطؤون أكنافاً الذين يألفون ويؤلفون، وأن أبغضكم إلي وأبعدكم مني مجلسا يوم القيامة الثرثارون المتفيهقون.
وقال له رجل: أوصني يا رسول الله. فقال: أكثر ذكر الموت يسلك عن الدنيا، وعليك بالشكر تزد في النعمة، وأكثر الدعاء فإنك لا تدري متى يستجاب لك، وإياك والبغي فإن الله، عز وجل، قضى أن ينصر من بغى عليه، وإياك والمكر فإن الله قضى ألا يحيق المكر السيء إلا بأهله. وقيل له: أي الأعمال أفضل؟ فقال: اجتناب المحارم وألا يزال لسانك رطباً من ذكر الله، عز وجل، قيل: فأي الأصحاب أفضل؟ قال: الذي إذا نسيت ذكرك وإذا دعوت أعانك. قيل: أي الناس شر؟ قال: العلماء إذا فسدوا.
وقال: إذا ساد القبيل فاسقهم، وكان زعيم القوم أرذلهم، وأكرم الرجل الذي اتقي شره فانتظروا البلاء. وقال: من ذب عن لحم أخيه بظهر الغيب كان حقيقا على الله، عز وجل، أن يحرم لحمه على النار. وقال: يقول الله، تبارك وتعالى: " يا ابن آدم بمشيئتي كنت، أنت تشاء لنفسك ما تشاء، وبإرادتي كنت تريد لنفسك ما تريد، وبقوتي أديت فريضتي، وبنعمتي قويت على معصيتي، فأنا أولى بحسناتك منك، وأنت أولى بسيئاتك مني بذلك، وإني لا أسأل عما أفعل وهم يسألون " .
وقال: أن الله فرض على الأغنياء ما يكفي الفقراء، فإن جاع الفقراء كان حقيقاً على الله أن يحاسب أغنياءهم ويكبهم في نار جهنم على وجوههم. وقال: يقول الله، عز وجل: إني لم أغن الغني لكرامة به علي، ولكنه مما ابتليت به الأغنياء، ولو لا الفقراء لم يستوجب الأغنياء الجنة. وقال: أربع من أتى الله، عز وجل، بواحدة منهن وجبت له الجنة: من سقى هامة صادية أو أطعم كبدا جائعة أو كسا جلدة عارية أو أعتق رقبة عانية.
وقال: كل عين ساهرة يوم القيامة إلا ثلاث عيون: عين سهرت في سبيل الله، وعين غضت عن محارم الله، وعين فاضت من خشية الله. وقال: يقول الله، عز وجل: عبدي إذا صليت ما إفترضت عليك فأنت أعبد الناس، فإذا قنعت بما رزقتك فأنت أغنى الناس. وجمع بني عبد المطلب فقال: يا بني عبد المطلب أفشوا الإسلام وصلوا الأرحام وتهجدوا والناس نيام وأطعموا الطعام وأطيبوا الكلام تدخلوا الجنة بسلام.
وقال: أربعة من كنوز البر: كتمان الحاجة وكتمان الصدقة وكتمان الوجع وكتمان المصيبة. وقال: أقربكم مني غدا في الموقف أصدقكم في الحديث وآداكم للأمانة أوفاكم بالعهد وأحسنكم خلقاً وأقربكم من الناس.
وقال: الإبقاء على العمل أشد من العمل، أن الرجل ليعمل في السر فلا يزال به الشيطان حتى يحدث به أو يظهره فيسبح في العلانية فيكتب في الرياء. وقال: أن علامة النفاق جمود العبرة وقساوة القلب والإصرار على الذنب والحرص على الدنيا. وقال: السخي قريب من الله قريب من الناس قريب من الجنة بعيد من النار، والبخيل بعيد من الله بعيد من الناس بعيد من الجنة قريب من النار. وقال: العبد إذا استوت سريرته وعلانيته، قال الله، عز وجل: عبدي حقا. وقال: المؤمن من خلط حلمه بعلمه، ينطق ليفهم، ويجلس ليعلم، ويصمت ليسلم، ويحدث أمانته الأصدقاء، ويكتم شهادته الأعداء، ولا يعمل شيئاً من الحق رياء ولا يتركه حياء حتى إذا زكا خاف ما يقولون فاستغفر مما لا يعلمون، والمنافق لا يعبره قول من ينهى ولا ينتهي ويأمر بما لا يأتي، إذا قام إلى الصلاة... وإذا ركع ربض وإذا سجد نقر وإذا جلس سعد، يمسي وهمه الطعام وهو مفطر، ويصبح وهمه النوم ولم يسهر، أن حدثك كذبك وأن وعدك أخلفك، وأن ائتمنته خانك وأن خالفك اغتابك.
وقال: من أجهد نفسه لدنياه ضر باخرته، ومن اجتهد لأخرته كفاه الله ما همه. وقال: من رأى موضع كلامه من عمله قل كلامه إلا فيما يعنيه. وقال: إياكم وجدال المفتين، فإن كل مفت ملقن حجته إلى انقضاء مدته فإذا انقضت أحرقته فتنته بالنار. وقال: سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر، وأكل لحمه معصية لله، عز وجل، وحرمة ماله كحرمة دمه. وقال: الحياء من الإيمان والإيمان في الجنة، والبذاء من الجفاء والجفاء في النار، والله، عز وجل، يحب الحيي الحليم العفيف المتعفف، وأن الله يبغض البذي السائل الملحف. أن أسرع الخير ثواباً البر وأسرع الشر عقوبة البغي.
وقال: ألا أخبركم بشراركم؟ قالوا: بلى يا رسول الله. قال: المشاءون بالنميمة المفرقون بين الأحبة الباغون للبراء العيب، ومن كف عن أعراض الناس أقاله الله نفسه، ومن كف غضبه عن الناس كف الله عنه عذابه يوم القيامة. وقال: بئس العبد عبدا ذا الوجهين وذا اللسانين يطري أخاه في وجهه ويأكله غائباً عنه، إن أعطي حسده وإن ابتلي خذله. وقال: أن الله حرم الجنة على المنان والنمام ومدمن الخمرة.
وقال لعلي بن أبي طالب: عليك بالصدق فلا تخرجن من فيك كذبة أبدا، والورع فلا تجترئ على خيانة أبدا، والخوف من الله كأنك تراه، والبكاء من خشية الله يبن لك بكل دمعة بيتا في الجنة، والأخذ بسنتي.
وقال: السعيد من سعد في بطن أمه، والشقي من وعظ به غيره، وأكيس الكيس التقى، وأحمق الحمق الفجور، وشر الرواية الكذب، وشر الأمور محدثاتها، وشر العماء عماء القلب، وشر الندامة يوم القيامة، وأعظم الخطاء عند الله لسان كذاب، وشر المأكل أكل مال اليتيم ظلما، وأحسن زينة الرجل هدي حسن مع إيمان، وأملك أمر يديه قوله وخواتمه، من يتبع السمعة يسمع الله به، ومن ينوي الدنيا تعجز عنه، ومن يعرف الله يصير إليه، ولا تسخطوا الله برضى أحد، ولا تنفروا إلى أحد من الخلق بما يباعد من الله.
وقال: لا تستصغروا قليل الحسنان فإنه لا يصغر ما ينفع يوم القيامة، وخافوا الله في السر حتى تعطوا من أنفسكم النصف، وسارعوا إلى طاعة الله واصدقوا الحديث وأدوا الأمانة فإنما ذلك لكم، ولا تظلموا ولا تدخلوا فيما لا يحل لكم فإنما ذلك عليكم.
وقال: إذا كثر الربا كثر موت الفجاءة، وإذا طفف المكيال أخذهم الله بالسنين والنقص، وإذا منعوا الزكاة منعت الأرض من زكاتها، وإذا جاروا في الأحكام وتعاونوا وخانوا العهود سلط عليهم عدوهم، وإذا قطعوا الأرحام جعلت الأموال في أيدي الأشرار، وإذا لم يأمروا بالمعروف وينهوا عن المنكر ويتبعوا الأخيار سلط الله عليهم شرارهم فيدعو خيارهم فلا يستجاب لهم.
وأخرج الله آدم وحواء مما كانا فيه، فيما يقول أهل الكتاب، في تسع ساعات من يوم الجمعة، وهبطا إلى الأرض، وهما حزينان باكيان، وكان هبوطهما على أدنى جبل من جبال الأرض إلى الجنة، وكان ببلاد الهند، وقال قوم: على أبي قبيس، جبل بمكة، ونزل آدم في مغارة في ذلك الجبل سماها مغارة الكنز، ودعا الله أن يقدسها.
وروى بعضهم أن آدم لما هبط كثر بكاؤه، ودام حزنه على مفارقة الجنة، ثم ألهمه الله سبحانه أن قال: لا إله إلا أنت، سبحانك، وبحمدك، عملت سوءاً وظلمت نفسي، فاغفر لي إنك أنت الغفور الرحيم! فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه واجتباه، وأنزل له من الجنة، التي كان فيها، الحجر الأسود، وأمره أن يصيره إلى مكة، فيبني له بيتاً، فصار إلى مكة وبنى البيت، وطاف به، ثم أمره الله أن يضحي له، فيدعوه ويقدسه، فخرج معه جبريل حتى وقف بعرفات، فقال له جبريل: هذا الموضع أمرك ربك أن تقف له به. ثم مضى به إلى مكة، فاعترض له إبليس، فقال: ارمه! فرماه بالحصى، ثم صار إلى الأبطح، فتلقته الملائكة، فقالت له: بر حجك يا آدم! لقد حججنا هذا البيت قبلك ألفي عام.
وأنزل الله، عز وجل، الحنطة على آدم، وأمره أن يأكل من كده، فحرث وزرع، ثم حصد، ثم داس، ثم طحن، ثم عجن، ثم خبز، فلما فرغ عرق جبينه، ثم أكل، فلما امتلأ ثقل ما في بطنه، فنزل إليه جبريل، ففجه، فلما خرج ما في بطنه وجد رائحة تكره، فقال: ما هذا؟ قال له جبريل: رائحة الحنطة.
ووقع آدم على حواء، فحملت، وولدت غلاماً وجارية، فسمي الغلام قابيل، والجارية لوبذا، ثم حملت فولدت غلاماً وجارية، فسمي الغلام هابيل والجارية إقليما. فلما كبر ولده وبلغوا النكاح، قال آدم لحواء: مري قابيل، فليتزوج إقليما التي ولدت مع هابيل، ومري هابيل فليتزوج لوبذا التي ولدت مع قابيل، فحسده قابيل أن يتزوج بأخته التي ولدت معه.
وقد روى بعضهم أن الله عز وجل أنزل لهابيل حوراء من الجنة، فزوجه بها، وأخرج لقابيل جنية، فزوجه بها، فحسد قابيل أخاه على الحوراء، فقال لهما آدم: قربا قرباناً! فقرب هابيل من تين زرعه، وقرب قابيل أفضل كبش في غنمه لله، فقبل الله قربان هابيل، ولم يقبل قربان قابيل، فازداد نفاسة وحسداً، وزين له الشيطان قتل أخيه، فشدخه بالحجارة، حتى قتله، فسخط الله على قابيل ولعنه، وأنزله من الجبل المقدس إلى أرض يقال لها نود.
ومكث آدم وحواء ينوحان على هابيل دهراً طويلاً، حتى يقال إنه خرج من دموعهما كالنهر. ووقع آدم على حواء، فحملت، فولدت غلاماً، بعد أن أتى له مائة وثلاثون سنة، فسماه شيئاً، فكان أشبه ولد آدم بآدم، ثم زوج آدم شيئاً، فولد له غلام بعد أن أتت عليه مائة وخمس وستون سنة، فسماه أنوش ثم ولد لأنوش غلام، فسماه قينان، ثم ولد لقينان غلام، فسماه مهلائيل، فهؤلاء ولدوا في حياة آدم وعلى عهده.
ولما حضرت آدم الوفاة جاءه شيث ابنه وولده وولد ولده، فصلى عليهم ودعا لهم بالبركة، وجعل وصيته إلى شيث وأمره أن يحفظ جسده ويجعله، إذا مات، في مغارة الكنز، وأن يوصي بنيه وبني بنيه، ويوصي بعضهم بعضا عند وفاتهم، إذا كان هبوطهم من جبلهم، أن يأخذوا جسده حشمة، فيجعلوه وسط الأرض، وأمر شيثاً ابنه أن يقوم بعده في ولدهم، فيأمرهم بتقوى الله وحسن عبادته، وينهاهم أن يخالطوا قابيل اللعين وولده، ثم صلى على بنيه أولئك وأولادهم ونسائهم، ثم مات لست خلون من نيسان، يوم الجمعة، في الساعة التي خلق فيها، وكانت حياته تسعمائة سنة وثلاثين سنة اتفاقاً.
شيث بن آدموقام بعد موت آدم ابنه شيث، وكان يأمر قومه بتقوى الله، سبحانه، والعمل الصالح، وكانوا يسبحون الله ويقدسونه، وأبناؤهم ونساؤهم ليس بينهم عداوة، ولا تحاسد، ولا تباغض، ولا تهمة، ولا كذب، ولا خلف، وكان أحدهم إذا أراد أن يحلف قال: لا ودم هابيل.
فلما حضرت وفاة شيث أتاه بنوه وبنو بنيه، وهم يومئذ أنوش، وقينان، ومهلائيل، ويرد، وأخنوخ، ونساؤهم وأبناؤهم، فصلى عليهم، ودعا لهم بالبركة، وتقدم إليهم، وحلفهم بدم هابيل ألا يهبط أحد منهم من هذا الجبل المقدس، ولا يتركوا أحداً من أولادهم يهبط منه، ولا يختلطوا بأولاد قابيل الملعون وأوصى إلى أنوش ابنه، وأمره أن يحتفظ بجسد آدم، وأن يتقي الله، و يأمر قومه بتقوى الله وحسن العبادة، ثم توفي يوم الثلاثاء لسبع وعشرين ليلة خلت من آب على ثلاث ساعات من النهار، وكانت حياته تسعمائة واثنتي عشرة سنة.
أنوش بن شيثوقام أنوش بن شيث، بعد أبيه، بحفظ وصية أبيه وجده، وأحسن عبادة الله، وأمر قومه بحسن العبادة، وفي أيامه قتل قابيل الملعون، رماه لمك الأعمى بحجر، فشدخ رأسه، فمات. وكان قد ولد لأنوش قينان بعد أن أتت له تسعون سنة. و لما حضرت أنوش الوفاة اجتمع إليه بنوه وبنو بنيه: قينان، ومهلائيل، ويرد، وأخنوخ، ومتوشلح، ونساؤهم وأبناؤهم، فصلى عليهم، ودعا لهم بالبركة، ونهاهم أن يهبطوا من جبلهم المقدس، أو يدعوا أحداً من بنيهم أن يختلطوا بولد قابيل اللعين، وأوصى قينان بجسد آدم، وأمرهم أن يصلوا عنده ويقدسوا الله كثيراً، وتوفي لثلاث خلون من تشرين الأول، حين غابت الشمس، وكانت حياته تسعمائة وخمساً وستين سنة.
قينان بن أنوشوقام قينان بن أنوش، وكان رجلاً لطيفاً، تقياً، مقدساً، فقام في قومه بطاعة الله وحسن عبادته، واتباع وصية آدم وشيث، وكان قد ولد له مهلائيل بعد أن أتت عليه سبعون سنة. فلما دنا موته اجتمع إليه بنوه وبنو بنيه مهلائيل، ويرد، ومتوشلح، ولمك، ونساؤهم وأبناؤهم، فصلى عليهم، ودعا لهم بالبركة، فأقسم عليهم بدم هابيل أن لا يهبط أحد منهم من جبلهم المقدس إلى ولد الملعون قابيل، وجعل وصيته إلى مهلائيل، وأمره أن يحتفظ بجسد آدم. ومات قينان وكانت حياته تسعمائة سنة وعشرين سنة.
مهلائيل بن قينانثم قام بعد قينان مهلائيل بن قينان، فقام في قومه بطاعة الله تعالى، واتباع وصية أبيه، وكان قد ولد له يرد، بعد أن أتت عليه خمس وستون سنة.
فلما دنا موت مهلائيل أوصى إلى ابنه يرد وأوصاه بجسد آدم، ثم توفي مهلائيل لليلتين خلتا من نيسان، يوم الأحد، على ثلاث ساعات من النهار، وكانت حياته ثمانمائة سنة وخمساً وتسعين سنة.
يرد بن مهلائيلثم قام بعد مهلائيل يرد، وكان رجلاً مؤمناً، كامل العمل لله، سبحانه، والعبادة له، كثير الصلاة بالليل والنهار، فزاد الله في حياته، وكان قد ولد له أخنوخ، بعد أن أتت عليه اثنتان وستون سنة، وفي الأربعين ليرد تم الألف الأول.
ولما مضى من حياة يرد خمسمائة سنة نقض بنو شيث العهود والمواثيق التي كانت بينهم، فجعلوا ينزلون إلى الأرض التي فيها بنو قابيل، وكان أول نزولهم أن الشيطان اتخذ شيطانين من الإنس اسم أحدهما يوبل، والآخر توبلقين، فعلمهما أصناف الغناء والزمر، فصنع يوبل المزامير والطنابير والبرابط والصور. وصنع توبلقين الطبول والدفوف والصنوج، ولم يكن لبني قابيل عمل يشغلهم، ولا ذكر لهم إلا أمام الشيطان، وكانوا يركبون المحارم والمأثم، ويجتمعون على الفسق، وكان ذوو السن من رجالهم ونسائهم أشد في ذلك من شبانهم. فكانوا يجتمعون، فيزمرون ويضربون بالطبول والدفوف والبرابط والصنوج. ويصيحون، ويضحكون، حتى سمع أهل الجبل من بني شيث أصواتهم، فاجتمع منهم مائة رجل على أن يهبطوا إلى بني قابيل، فينظروا ما تلك الأصوات، فلما بلغ ذلك يرد أتاهم، فناشدهم الله، وذكرهم وصية آبائهم، وحلف عليهم بدم هابيل، وقام فيهم أخنوخ بن يرد، فقال اعلموا أنه من عصى منكم أبانا يرد، ونقض عهود آبائنا، وهبط من جبلنا لم ندعه يصعد أبدا، فأبوا إلا أن يهبطوا، فلما هبطوا اختلطوا ببنات قابيل، بعد أن ركبوا الفواحش.
فلما دنا موت يرد اجتمع إليه بنوه وبنو بنيه أخنوخ، ومتوشلح، ولمك، ونوح، فصلى عليهم، ودعا لهم بالبركة، ونهاهم أن يهبطوا من الجبل المقدس، وقال: إنكم لا محالة تهبطون إلى الأرض السفلى، فأيكم كان آخر هبوطاً فليهبط بجسد أبينا آدم، ثم ليجعله وسط الأرض، كما أوصانا، وأمر أخنوخ ابنه ألا يزال يصلي في مغارة الكنز، ثم توفي يوم الجمعة لليلة خلت من آذار، حين غابت الشمس، وكانت حياته تسعمائة سنة واثنتين وستين سنة.
أخنوخ بن يردثم قام بعد يرد أخنوخ بن يرد، فقام بعبادة الله، سبحانه ولما أتت له خمس وستون سنة ولد له متوشلح، وأخذ بنو شيث ونساؤهم وأبناؤهم في الهبوط، فعظم ذلك على أخنوخ فدعا ولده متوشلح ولمكاً ونوحاً، فقال لهم: إني أعلم أن الله معذب هذه الأمة عذاباً عظيماً ليس فيه رحمة.
وكان أخنوخ أول من خط بالقلم، وهو إدريس النبي، فأوصى ولده أن يخلصوا عبادة الله، ويستعملوا الصدق واليقين، ثم رفعه الله بعد أن أتت له ثلاثمائة سنة.
متوشلح بن أخنوخثم قام متوشلح بن أخنوخ بعبادة الله تعالى وطاعته وكان لما أتت عليه مائة وسبع وثمانون سنة، ولد له لمك فأوحى الله إلى نوح في عصره وأعلمه أنه باعث الطوفان على الناس وأمره أن يعمل السفينة من الخشب ولما كملت لنوح ثلاثمائة سنة وأربع وأربعون سنة تم الألف الثاني.
وتوفي متوشلح في إحدى وعشرين من أيلول يوم الخميس وكانت حياته تسعمائة وستين سنة.
لمك بن متوشلحفقام لمك بعد أبيه بعبادة الله وطاعته، وكان قد ولد له بعد أن أتت عليه مائة واثنتان وثمانون سنة وكثرت الجبابرة في عصره وذلك أنه كان لما وقع بنو شيث في بنات قابيل ولدت منهم الجبابرة.
ثم دنا موت لمك، فدعا نوحاً وساماً وحاماً ويافثاً ونساءهم ولم يكن بقي من أولاد شيث في الجبل أحد غيرهم إلا هبطوا إلى بني قابيل، فكانوا ثمانية أنفس ولم يكن لهم أولاد قبل الطوفان، فصلى عليهم ودعا لهم بالبركة، ثم بكى. وقال لهم: إنه لم يبق من جنسنا أحد إلا هؤلاء الثمانية الأنفس وأسأل الله الذي خلق آدم وحواء وحدهما ثم كثر ولدهما، أن ينجيكم من هذا الرجز الذي أعد للأمة السوء ويكثر ولدكم حتى يملأوا الأرض ويعطيكم بركة أبينا آدم، ويجعل في ولدكم الملك وأنا متوفى ولن يفلت من أهل الرجز غيرك يا نوح، فإذا أنا مت فاحملني واجعلني في مغارة الكنز، فإذا أراد الله أن تركب السفينة فاحمل جسد أبينا آدم فاهبط به معك ثم اجعله وسط البيت الأعلى من السفينة ثم كن أنت وبنوك في طرف السفينة الشرقي، ولتكن امرأتك وكنائنك في طرف السفينة الغربي وليكن جسد آدم بينكم، فلا تجوزوا إلى نسائكم ولا تجز نساؤكم إليكم ولا تأكلوا ولا تشربوا معهن، ولا تقربوهن حتى تخرجوا من السفينة، فإذا ذهب الطوفان وخرجتم من السفينة إلى الأرض، فصل أنت عند جسد آدم، ثم أوص ساماً أكبر بنيك، فليذهب بجسد آدم حتى يجعله في وسط الأرض، وليجعل معه رجلاً من أولاده يقوم عليه، وليكن حبراً لله حياته لا ينكح امرأة، ولا يبني بيتاً، ولا يهريق دماً، ولا يقرب قرباناً من الدواب، ولا الطير، فإن الله مرسل معه ملكاً من الملائكة يدله على وسط الأرض ويؤنسه.
وتوفي لمك لسبع عشرة ليلة خلت من آذار يوم الأحد، على تسع ساعات من النهار، وكانت حياته سبعمائة وسبعاً وسبعين سنة.
نوح عليه السلاموأوحى الله عز وجل إلى نوح في أيام جده أخنوخ، وهو إدريس النبي، وقبل أن يرفع الله إدريس، وأمره أن ينذر قومه، وينهاهم عن المعاصي التي كانوا يركبونها ويحذرهم العذاب، فأقام على عبادة الله تعالى والدعاء لقومه، وحبس نفسه على عبادة الله تعالى والدعاء لقومه، لا ينكح النساء خمسمائة عام، ثم أوحى الله إليه أن ينكح هيكل بنت ناموسا بن أخنوخ، وأعلمه أنه باعث الطوفان على الأرض وأمره أن يعمل السفينة التي نجاه الله وأهله فيها، وأن يجعلها ثلاثة بيوت سفلاً ووسطاً وعلواً، وأمره أن يجعل طولها ثلاثمائة ذراع بذراع نوح وعرضها خمسين ذراعاً وسمكها ثلاثين ذراعاً ويصير حواليها رفوف الخشب ويكون البيت الأسفل للدواب والوحش والسباع ويكون الأوسط للطير ويكون الأعلى لنوح وأهل بيته ويجعل في الأعلى صهاريج الماء وموضعاً للطعام فولد له بعد أن أتت عليه خمسمائة سنة.
ولما فرغ نوح من عمل السفينة وكان ولد قابيل، ومن اختلط بهم من ولد شيث، إذا رأوه يعمل الفلك سخروا منه، فلما فرغ دعاهم إلى الركوب فيها، وأعلمهم أن الله باعث الطوفان على الأرض كلها حتى يطهرها من أهل المعاصي، فلم يجبه أحد منهم فصعد هو وولده إلى مغارة الكنز فاحتملوا جسد آدم، فوضعوه في وسط البيت الأعلى من السفينة يوم الجمعة لسبع عشرة ليلة خلت من آذار، وأدخل الطير البيت الأوسط، وأدخل الدواب والسباع البيت الأسفل وأطبقها حين غابت الشمس.
وأرسل الله الماء من السماء، و فجر عيون الأرض، فالتقى الماء على أمر قد قدر وأخذ الأرض كلها والجبال وأظلمت الدنيا وذهب ضوء الشمس والقمر حتى كان الليل والنهار سواء وكان الطالع في ذلك الوقت الذي أرسل الله تعالى فيه الماء فيما يقول أصحاب الحساب: السرطان والشمس والقمر وزحل وعطارد والرأس، مجتمعة في آخر دقيقة من الحوت، فاتصل الماء من السماء والأرض أربعين يوماً حتى علا فوق كل جبل خمس عشرة ذراعاً ثم وقف بعد أن لم تبق بقعة من الأرض إلا غمرها الماء وعلاها.
ودارت السفينة الأرض كلها حتى صارت إلى مكة، فطافت حول البيت أسبوعاً ثم انكشف الماء بعد خمسة أشهر فكان ابتداؤه لسبع عشرة ليلة خلت من أيار إلى ثلاث عشرة ليلة خلت من تشرين الأول.
وروى بعضهم أن نوحاً ركب السفينة أول يوم من رجب، واستوت على الجودي في المحرم فصار أول الشهور يعده وأهل الكتاب يخالفون في هذا.
ولما استوت على الجودي وهو جبل بناحية الموصل أمر الله تعالى ماء السماء فرجع من حيث جاء وأمر الأرض فبلعت ماءها فأقام نوح بعد وقوف السفينة أربعة أشهر ثم بعث الغراب ليعرف خبر الماء فوجد الجيف طافية على الماء.
فوقع عليها ولم يرجع، ثم أرسل الحمامة فجاءت بورقة زيتون، فعلم أن الماء قد ذهب فخرج لسبع وعشرين من أيار، فكان بين دخوله السفينة وخروجه سنة كاملة وعشرة أيام، فلما صار إلى الأرض هو وأهله بنوا مدينة، فسموها ثمانين.
ولما خرج نوح من السفينة ورأى عظام الناس تلوح غمه ذلك وأحزنه وأوحى الله إليه: أني لن أرسل الطوفان على الأرض بعدها أبداً. ولما خرج نوح من السفينة أقفلها بقفل ودفع المفتاح إلى سام ابنه ثم زرع نوح وغرس كرماً وعمر الأرض.
وأن نوحاً يوماً لنائم إذ انكشف ثوبه، فرأى حام ابنه سوأته فضحك، وخبر أخويه ساماً و يافثاً فأخذا ثوباً حتى أتياه به، ووجوههما مصروفة عنه، فألقيا الثوب عليه، فلما انتبه نوح من نومه، وعلم الخبر دعا على كنعان بن حام، ولم يدع على حام، فمن ولده القبط والحبشة والهند.
وكان كنعان أول من رجع من ولد نوح إلى عمل بني قابيل، فعمل الملاهي والغناء والمزامير والطبول والبرابط والصنوج، وأطاع الشيطان في اللعب والباطل.
وقسم نوح الأرض بين ولده، فجعل لسام وسط الأرض، والحرم وما حوله واليمن وحضرموت إلى عمان إلى البحرين إلى عالج ويبرين، ووبار والدو والدهناء وجعل لحام أرض المغرب والسواحل فولد كوش ابن حام وكنعان بن حام النوبة والزنج والحبشة. ونزل يافث بن نوح ما بين المشرق والمغرب، فولد له جومر وتوبل وماش وماشج ومأجوج فولد جومر الصقالبة، وولد توبل برجان وولد ماش الترك والخزر وولد ماشج الأشبان وولد مأجوج يأجوج ومأجوج وهم في شرقي الأرض من جهة الترك وكانت منازل الصقالبة، وبرجان أرض الروم قبل أن يكون الروم فهؤلاء ولد يافث.
وعاش نوح، بعد خروجه من السفينة ثلاثمائة وستين سنة، ولما حضرت وفاة نوح اجتمع إليه بنوه الثلاثة سام و حام ويافث وبنوهم فأوصاهم وأمرهم بعبادة الله تعالى وأمر ساماً أن يدخل السفينة إذا مات ولا يشعر به أحد فيستخرج جسد آدم ويذهب معه بملكيزدق بن لمك بن سام فإن الله اختاره ليكون مع جسد آدم في وسط الأرض في المكان المقدس وقال له: يا سام إنك إذا خرجت أنت وملكيزدق بعث الله معكما ملكاً من الملائكة يدلكما على الطريق ويريكما وسط الأرض فلا تعلمن أحداً ما تصنع فإن هذا الأمر وصية آدم التي أوصى بها بنيه وأوصى بها بعضهم بعضاً حتى انتهى ذلك إليك فإذا بلغتما المكان الذي يريكما الملك فضع فيه جسد آدم ثم مر ملكيزدق ألا يفارقه ولا يكون له عمل إلا عبادة الله سبحانه وتعالى وأمره أن لا ينكح امرأة ولا يبني بنياناً ولا يهريق دماً ولا يلبس ثوباً إلا من جلود الوحش ولا يقص شعراً ولا ظفراً و ليجلس وحده وليكثر حمد الله ثم مات في أيار يوم الأربعاء وكانت حياته تسعمائة سنة وخمسين كما حكى الله تعالى ألف سنة إلا خمسين عاماً.
سام بن نوحوقام سام بن نوح، بعد أبيه، بعبادة الله تعالى وطاعته، وكان قد ولد له ارفخشد، بعد أن أتت عليه مائة سنة وسنتان، ثم انطلق، وفتح السفينة، فأخذ جسد آدم، فهبط به سراً من أخويه وأهله، ودعا أخويه يافثاً وحاماً، فقال لهما: إن أبي أوصى إلي وأمرني أن آتي البحر، فأنظر في الأرض ثم ارجع، فلا تتحركوا حتى آتيكم، واستوصوا بامرأتي وبني خيراً، فقال له أخواه: اذهب في حفظ الله، فإنك قد علمت أن الأرض خربة ونخاف عليك السباع. قال سام: إن الله تعالى يبعث ملكاً من الملائكة، فلا أخاف، إن شاء الله تعالى، شيئاً. ودعا سام ابنه لمكاً فقال له ولامرأته: يا وزدق! أرسلا معي ابنكما ملكيزدق يؤنسني في الطريق. فقالا له: اذهب راشداً! فقال سام لأخويه وأهله وولده: قد علمتم أن أبانا نوحاً قد أوصى إلي، وأمرني أن أختم السفينة، فلا أدخلها أنا، ولا أحد من الناس، فلا يقربن السفينة منكم أحد.
ثم إن ساماً خرج ومعه ابنه، فعرض لهما الملك، فلم يزل معهما حتى صار بهما إلى الموضع الذي أمروا أن يضعوا جسد آدم فيه، فيقال إنه بمسجد منى عند المنارة، ويقول أهل الكتاب: بالشأم في الأرض المقدسة، فانفتحت الأرضون، فوضعوا الجسد فيها، ثم انطبقت عليه. وقال سام لملكيزدق ابن لمك بن سام: اجلس ها هنا، وأحسن عبادة الله، فإن الله يرسل إليك في كل يوم ملكاً من الملائكة يؤنسك، ثم سلم عليه، وانصرف، فأتى أهله، فسأله ابنه لمك عن ملكيزدق. فقال: إنه قد مات في الطريق، فدفنته، فحزن عليه أبوه وأمه.
ثم حضرت ساماً الوفاة فأوصى إلى ابنه أرفخشد. ومات سام يوم الخميس لسبع خلون من أيلول. وكانت حياته ستمائة سنة.
أرفخشد بن سامثم قام أرفخشد بن سام بعبادة الله تعالى وطاعته، وكان قد ولد له شالح بعد أن أتت عليه مائة وخمس وثمانون، سنة وقد تفرق ولد نوح في البلاد، وكثرت الجبابرة والعتاة منهم، و أفسد ولد كنعان بن حام، وأظهروا المعاصي.
ولما حضرت أرفخشد الوفاة جمع إليه ولده وأهله وأوصاهم بعبادة الله تعالى ومجانبة المعاصي، وقال لشالح ابنه: أقبل وصيتي، وقم في أهلك بعدي عاملاً بطاعة الله تعالى. ومات يوم الأحد لسبع بقين من نيسان وكانت حياته أربعمائة وخمساً وستين سنة.
شالح بن أرفخشدثم قام شالح بن أرفخشد في قومه يأمرهم بطاعة الله تعالى، وينهاهم عن معاصيه، ويحذرهم ما نال أهل المعاصي من الرجز والعذاب. وكان قد ولد له عابر بعد أن أتت عليه مائة وثلاثون سنة، ثم حضرته الوفاة، فأوصى إلى ابنه عابر بن شالح، وأمره أن يتجنب فعل بني قابيل اللعين، ومات يوم الإثنين لثلاث عشرة ليلة خلت من آذار، وكانت حياته أربعمائة وثلاثين سنة.
عابر بن شالحثم قام عابر بن شالح يدعو قومه إلى طاعة الله تعالى، ويحذر بني سام بن نوح أن يختلطوا بولد كنعان بن حام، المغير دين آبائه، والمرتكب للمعاصي.
وكان قد ولد له فالغ، بعد أن أتت عليه مائة وأربع وثلاثون سنة، ثم حضرته الوفاة، فأوصى إلى ابنه فالغ، فقال له: يا بني! إن ولد قابيل اللعين، لما أكثروا العمل بمعاصي الله، سبحانه وتعالى، ودخل معهم ولد شيث بعث الله عليهم الرجز، فلا تدخل أنت ولا أهلك في ملة بني كنعان. ومات عابر يوم الخميس لثلاث وعشرين من تشرين الأول، وكانت حياته ثلاثمائة وأربعين سنة، وقيل مائة وأربعاً وستين سنة.
فالغ بن عابرثم قام بعد عابر فالغ ابنه يدعو الناس إلى طاعة الله تعالى، فكان في زمانه اجتماع ولد نوح ببابل، وذلك أن ماش بن إرم بن سام بن نوح صار إلى أرض بابل، فولد نمرود الجبار، ونبيط، وهو أبو النبط، وهو أول من استنبط الأنهار، وغرس الأشجار، وعمر الأرض، وكان لسانهم جميعا السرياني، وهو لسان آدم، فلما اجتمعوا ببابل قال بعضهم لبعض: لنبنين بنياناً أسفله الأرض وأعلاه السماء! فلما أخذوا في البنيان قالوا: نتخذه حصناً يحرزنا من الطوفان، فهدم الله حصنهم، وفرق الله ألسنهم على اثنين وسبعين لساناً، و تفرقوا على اثنتين وسبعين فرقة من موضعهم ذلك، فكان في ولد سام تسعة عشر لساناً، وفي ولد حام ستة عشر لساناً، وفي ولد يافث سبعة وثلاثون لساناً، فلما رأوا ما هم فيه اجتمعوا إلى فالغ بن عابر فقال لهم: إنه لا يسعكم أرض واحدة مع افتراق ألسنتكم فقالوا: أقسموا الأرض بيننا، فقسم لهم فصار لولد يافث بن نوح الصين والهند والسند والترك والخزر والتبت والبلغر والديلم وما والى أرض خراسان، وكان ملك بني يافث في ذلك الزمان جم شاذ.
وصار لولد حام أرض المغرب وما وراء الفرات إلى مسقط الشمس.
وصار لولد سام الحجاز واليمن وباقي الأرض.
وكان قد ولد له أرغو بعد أن أتت عليه ثلاثون سنة، وحضرت فالغ الوفاة، فأوصى إلى ابنه أرغو، ومات فالغ يوم الجمعة لاثنتي عشرة ليلة خلت من أيلول، وكانت حياته مائتي سنة و تسعاً وثلاثين سنة.
أرغو بن فالغثم قام أرغو بن فالغ بعد أبيه، وقد تفرقت الألسن على اثنتين وسبعين فرقة، لبني سام تسع عشرة فرقة، ولولد حام ست عشرة فرقة، ولولد يافث سبع وثلاثون، وكان في زمانه نمرود الجبار، وكان مسكنه ببابل، وكان الذي ابتدأ بناء الصرح، وأول من عمل التاج، وملك سبعاً وستين سنة.
وكان قد ولد لأرغو ساروغ، بعد أن أتت عليه اثنتان وثلاثون سنة، ولما أتت لأرغو أربع وسبعون سنة من عمره كمل الألف الثالث.
وحضرت أرغو الوفاة، فأوصى ابنه ساروغ، وتوفي أرغو يوم الأربعاء لأربع عشرة ليلة خلت من نيسان، وكانت حياته مائتي سنة.
ساروغ بن أرغو
وقام ساروغ بن أرغو في ولد سام، بعد موت أبيه، وقد كثرت الجبابرة، وعتت في الأرض. وكان في زمن ساروغ أول ما عبدت الأصنام. وكان أول شأن الأصنام أن الناس كان إذا مات لأحدهم الميت الذي يعز عليهم من أب أو أخ أو ولد صنع صنماً على صورته، وسماه باسمه، فلما أدرك الخلف الذي بعدهم ظنوا، وحدثهم الشيطان، أنه إنما صنعت هذه لتعبد، فعبدوها، ثم فرق الله دينهم، فمنهم من عبد الأصنام، ومنهم من عبد الشمس، ومنهم من عبد القمر، ومنهم من عبد الطير، ومنهم من عبد الحجارة، ومنهم من عبد الشجر، ومنهم من عبد الماء، ومنهم من عبد الريح ، وفتنهم الشيطان وأضلهم وأطغاهم.
وكان قد ولد له ناحور، بعد أن أتت عليه مائة وثلاثون سنة. ولما حضرت ساروغ الوفاة أوصى ابنه ناحور، وأمره بعبادة الله تعالى، ومات ساروغ لثلاث بقين من آب يوم الأحد، وكانت حياته مائتين وثلاثين سنة.
ناحور بن ساروغوكان ناحور مكان أبيه، فكثرت عبادة الأصنام في زمانه، فأمر الله سبحانه الأرض، فزلزلت عليهم زلزلة شديدة حتى سقطت تلك الأصنام، فلم يكترثوا بذلك، وأعادوا أصناماً مكانها.
وفي زمانه ظهر السحر، والكهانة، والطيرة، وذبح الناس أولادهم للشياطين، وجعلت المكاييل والموازين.
وكانت حياة ناحور مائة وثمانياً وأربعين سنة، وكانت جبابرة ذلك العصر عاد بن عوص بن إرم بن سام بن نوح، وكانوا قد انتشروا في البلاد، وكانت منازلهم بين أعالي حضرموت إلى أودية نجران، فلما عاثوا وعتوا بعث الله تبارك وتعالى هود بن عبد الله بن رباح بن الخلود بن عاد بن عوص بن إرم بن سام بن نوح، فدعاهم إلى عبادة الله تعالى، والعمل بطاعته، واجتناب المحارم، فكذبوه، فقطع الله عنهم المطر ثلاث سنين، فوجهوا وفدا لهم إلى البيت الحرام يستسقي لهم، فأقاموا يطوفون بالبيت ويسعون أربعين صباحاً.
ثم رفعت لهم سحابتان: إحداهما بيضاء فيها غيث ورحمة، والأخرى سوداء فيها عذاب ونقمة، وسمعوا صوتاً يناديهم: اختاروا أيتهما شئتم! فقالوا: اخترنا السوداء! فمرت، وهي على رؤوسهم، فلما قربت من البلاد قال لهم هود: إن هذه السحابة فيها عذاب قد أظلكم! فقالوا: بل هو عارض ممطرنا، فأقبلت ريح سوداء لا تمر بشيء إلا أحرقته، فما نجا منهم إلا هود، ويقال إنه نجا لقمان بن عاد، وعاش حتى عمر عمر سبعة نسور.
ولما مضت عاد صار في ديارهم بنو ثمود بن جازر بن ثمود بن إرم بن سام بن نوح، وكانت ملوكهم تنزل الحجر، فلما عتوا بعث الله إليهم صالح بن تالح بن صادوق بن هود نبياً، فسألوه أن يأتيهم باية، فأخرج الله لهم ناقة من الأرض معها فصيلها، فقال لهم صالح: إن لهذه الناقة يوماً ترد فيه الماء، ولكم يوماً، فاحذروا أن تصدوها عن الماء! فكذبوه، فقام رجل منهم يقال له قدار، فعقرها وضرب عرقوبها بالسيف، فارتفع فصيلها على نشز من الأرض، ثم رغا، فبعث الله عليهم العذاب، فما فلت منهم إلا امرأة يقال لها الذريعة، وضرب العرب بقدار المثل.
تارخ بن ناحوروكان تارخ بن ناحور، هو أبو إبراهيم خليل الله، في عصر نمرود الجبار، وكان نمرود أول من عبد النار و سجد لها، وذلك أنه خرجت نار من الأرض، فأتاها، فسجد لها، وكلمه منها شيطان، فبنى عليها بنية، وجعل لها سدنة.
وفي ذلك العصر تعاطى الناس علم النجوم، وحسبوا الكسوف للشمس والقمر والكواكب السائرة والراتبة، وتكلموا في الفلك والبروج.
وكان الذي علم نمرود ذلك رجلاً يقال له تبطق، وكان تارخ، وهو آزر أبو إبراهيم، مع نمرود الجبار، فحسب المنجمون لنمرود، فقالوا له: إنه يولد في مملكته مولود يعيب دينه، ويزري عليه، ويهدم أصنامه، ويفرق جمعه، فجعل لا يولد في مملكته مولود إلا شق بطنه، حتى ولد إبراهيم، فستره أبواه، وأخفيا أمره، وصيراه في مغارة حيث لا يعلم به أحد، وكان مولده بكوثا ربا، وكان مولد إبراهيم بعد أن أتت لتارخ مائة وسبعون سنة، وعاش تارخ أبوه مائتي سنة وخمس سنين.
إبراهيم عليه السلام
ونشأ إبراهيم في زمان نمرود الجبار، فلما خرج من المغارة التي كان فيها قلب طرفه في السماء، فنظر إلى الزهرة، فرأى كوكباً مضيئاً، فقال: هذا ربي، فإن له علواً وارتفاعاً، ثم غاب الكوكب، فقال: إن ربي لا يغيب، ثم رأى القمر لما طلع، فقال: هذا ربي، فلم يلبث أن غاب القمر، فقال: لئن لم يهدني ربي لأكونن من القوم الضالين، فلما جاء النهار طلعت الشمس، فقال: هذا ربي، هذا أنور وأضوأ، فلما غابت الشمس قال: غابت، وربي لا يغيب، كما قص الله خبره وأمره، فلما كملت سنة جعل يعجب إذ رأى قومه يعبدون الأصنام، ويقول: أتعبدون ما تنحتون؟ فيقولون: أبوك علمنا هذا. فيقول: إن أبي لمن الضالين! فظهر قوله في قومه، وتحدث الناس به، وأرسله الله نبياً، وبعث إليه جبريل، فعلمه دينه، فجعل يقول لقومه: إني بريء مما تشركون.
وبلغ خبره نمرود فأرسل إليه فيها، ثم جعل إبراهيم يكسر أصنامهم، فيقول: ادفعي عن نفسك، فألهب نمرود ناراً ووضعه في منجنيق ورمى به فيها، فأوحى الله إليها: أن كوني برداً وسلاماً على إبراهيم، فجلس وسط النار ما تضره، فقال نمرود: من اتخذ إلها، فليتخذه مثل إله إبراهيم، فامن معه لوط، وكان لوط ابن أخيه خاران بن تارخ.
وأمر الله، عز وجل إبراهيم أن يخرج من بلاد نمرود إلى الشام الأرض المقدسة، فخرج إبراهيم وامرأته سارة بنت خاران بن ناحور عمه، ولوط بن خاران، مهاجرين حيث أمرهم الله، فنزلوا أرض فلسطين، وكثر ماله ومال لوط، فقال إبراهيم للوط: إن الله قد كثر لنا مالنا وماشيتنا، فانتقل منا حتى تنزل مدينتي سدوم وعمورة، بالقرب من الموضع الذي كان فيه إبراهيم، فلما صار لوط إلى مدينة سدوم وعمورة ونزلها أتاه ملك تلك الناحية، فقاتله، وأخذ ماله، فمضى إبراهيم حتى استنقذ ماله.
ووسع الله، عز وجل، على إبراهيم في كثرة المال، فقال: رب ما أصنع بالمال، ولا ولد لي؟ فأوحى الله، عز وجل، إليه: إني مكثر ولدك، حتى يكونوا عدد النجوم.
وكان لسارة جارية يقال لها هاجر، فوهبتها لإبراهيم، فوقع عليها، فحملت، وولدت إسماعيل، وإبراهيم يومئذ ابن ست وثمانين سنة، وقال الله: إني مكثر ولدك وجاعل فيهم الملك الباقي مدى الدهر، حتى لا يدري أحد ما عددهم.
فلما ولدت هاجر غارت سارة، وقالت: أخرجها عني وولدها، فأخرجها، ومعها إسماعيل، حتى صار بهما إلى مكة، فأنزلهما عند البيت الحرام، وفارقهما، فقالت له هاجر: على من تدعنا؟ قال: على رب هذه البنية فقال: اللهم إني أسكنت ابني، بواد غير ذي زرع، عند بيتك المحرم.
ونفد الماء الذي كان مع هاجر، فاشتد بإسماعيل العطش فخرجت هاجر تطلب الماء، ثم صعدت إلى الصفا، فرأت بقربه طائراً واقفاً فرجعت فإذا بالطائر قد فحص برجله الأرض، فخرج الماء، فجمعته لئلا يذهب، فهي بئر زمزم.
وعمل قوم لوط المعاصي، وكانوا يأتون الذكران من العالمين، وذلك أن إبليس، لعنه الله تعالى، تراءى لهم في صورة غلام أمرد، ثم أمرهم أن ينكحوه، فاشتهوا ذلك حتى تركوا نكاح النساء، وأقبلوا على نكاح الذكران، فنهاهم لوط، فلم ينتهوا، و جاروا في الأحكام حتى ضرب بهم في الجور المثل، وقالوا: أجور من حكم سدوم! وكان الرجل منهم، إذا نال أحداً بمكروه، فضربه، أو سحه، قال له: أعطني أجراً على فعلي بك. وكان لهم حاكمان يقال لهما شقرى وشقرونى يحكمان بالجور والظلم والعدوان.
ولما كثر عمل قوم لوط وجورهم بعث الله، عز وجل، ملائكة لهلاكهم، فنزلوا بإبراهيم، وكان يضيف الأضياف، ويعمل القرى، فلما نزلوا به قرب إليهم عجلاً مشوياً، فلما رآهم لا يأكلون نكرهم، فعرفوه بأنفسهم، وقالوا: أنا رسل ربك لهلاك أهل هذه القرية، يعنون سدوم القرية التي كان فيها قوم لوط ، فقال لهم إبراهيم: إن فيها لوطاً، قالوا: نحن أعلم بمن فيها، لننجينه وأهله، إلا امرأته.
وكانت سارة امرأة إبراهيم واقفة، فعجبت من قولهم، فبشروها بإسحاق فقالت: أألد وأنا عجوز، وهذا بعلي شيخ كبير؟ وكان إبراهيم ابن مائة سنة، وهي بنت تسعين، فلما أتوا إلى لوط، ورأتهم امرأته دخنت لقومها، فجاءوا إلى لوط، فقالوا ادفع إلينا أضيافك! فقال: لا تفضحون في ضيفي: فلما أكثروا صدهم جبريل، فأعماهم، فقالوا له: أنا مهلكوهم، قال: فمتى؟ قالوا: الصبح. قال: تؤخرونهم إلى الصبح؟ قال له جبريل: أليس الصبح بقريب؟ فلما كان السحر قال له جبريل: اخرج، ثم قلبها عليهم، ويقال نزلت عليهم نار، فلم ينج منهم أحد، وكانت امرأة لوط فيهم فمسخت ملحاً، فما بقي منهم مخبر.
ووهب الله لإبراهيم إسحاق بن سارة، فعجب الناس من ذلك، وقالوا: شيخ ابن مائة سنة، وعجوز بنت تسعين سنة! فخرج إسحاق أشبه شيء بإبراهيم.
وكان إبراهيم يزور إسماعيل وأمه في كل وقت. وبلغ إسماعيل حتى صار رجلاً، ثم تزوج امرأة من جرهم، فزارة إبراهيم مرة، فلم يلقه، وكانت أمه قد ماتت، فكلم امرأته فلم يرض عقلها، وسألها عن إسماعيل، فقالت: في الرعي! فقال: إذا جاء فقولي له غير عتبة بابك! فلما انصرف إسماعيل من رعية قالت له امرأته: قد جاء هنا شيخ يسأل عنك: فقال إسماعيل: فما قال لك؟ قالت: قال لي. قولي له غير عتبة بابك. قال: أنت خلية! فطلقها، و تزوج الحيفاء بنت مضاض الجرهمية، فعاد إليهم إبراهيم من الحول، فوقف ببيت إسماعيل، فلم يجده، ووجد امرأته، فقال: كيف حالكم؟ قالت بخير! قال: هكذا فليكن! أين زوجك؟ قالت: ليس بحاضر، انزل! قال: لا يمكنني. قالت: فأعطني رأسك أقبله! ففعل ذلك، وقال: إذا جاء زوجك فأقرئيه السلام، وقولي له: تمسك بعتبة بابك. فلما انصرف جاء إسماعيل، فأخبرته امرأته بخبر إبراهيم، فوقع على موضع قدمه يقبلها.
ثم إن الله تعالى أمر إبراهيم أن يبني الكعبة، ويرفع قواعدها، ويؤذن في الناس بالحج، ويريهم، مناسكهم، فبنى إبراهيم وإسماعيل القواعد حتى انتهى إلى موضع الحجر، فنادى إبراهيم أبو قبيس: أن لك عندي وديعة! فأعطاه الحجر، فوضعه، وأذن إبراهيم في الناس بالحج، فلما كان يوم التروية قال له جبريل: ترو من الماء، فسميت التروية، ثم أتى منى، فقال له: بت بها، ثم أتى عرفات، فبنى بها مسجداً بحجارة بيض، ثم صلى به الظهر والعصر ثم عمد به إلى عرفات، فقال له: هذه عرفات فاعرفها، فسميت عرفات.
ثم أفاض به من عرفات، فلما حاذى المأزمين قال له: ازدلف، فسميت المزدلفة، وقال له: اجمع الصلاتين، فسميت جمع، وصار إلى المشعر، فنام عليه، فأمره الله أن يذبح ابنه، فالرواية تختلف في إسماعيل وإسحاق، فيقول قوم: إنه إسماعيل لأنه الذي وضع داره وبيته وإسحاق بالشام، ويقول قوم: إنه إسحاق لأنه أخرجه وأخرج أمه معه، وكان يومئذ غلاماً، وإسماعيل رجل قد ولد له.
وقد كثرت الروايات في هذا وهذا، واختلف الناس فيهما، فلما أصبح إبراهيم صار إلى منى وقال للغلام: زورني بالبيت، وقال لابنه: إن الله أمرني أن أذبحك! فقال: يا أبت افعل ما تؤمر! فأخذ السكين، وأضجعه على جمرة العقبة، وطرح تحته قرطان حمار، ثم وضع الشفرة على حلقه، وحول وجهه عنه، فقلب جبريل الشفرة، فنظر إبراهيم، فإذا الشفرة مقلوبة، ففعل ذلك ثلاث مرات، ثم نودي: يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا.
وأخذ جبريل الغلام، وانحط الكبش من قلة ثبير، فوضعه، تحته فذبحه فأهل الكتاب يقولون: إنه كان إسحاق، وإنه فعل به هذا في برية الأموريين بالشام، فلما فرغ إبراهيم من حجه وأراد أن يرتحل أوصى إلى ابنه إسماعيل أن يقيم عند البيت الحرام، وأن يقيم للناس حجهم ومناسكهم، وقال له: إن الله مكثر عدده. ومثمر نسله. وجاعل في ولده البركة والخير.
وتوفيت سارة عند مصيرهم إلى الشأم، فتزوج إبراهيم قطورة، فولدت له أولاداً كثيراً، و هم: زمرن، ويقشن، ومدن، ومدين، ويشباق، وشوح، وتوفي إبراهيم، وكانت وفاته يوم الثلاثاء لعشر خلون من آب، وكانت حياته مائة وخمساً وتسعين سنة.
إسحاق بن إبراهيمولما توفي إبراهيم بالشام قام إسحاق بعده وتزوج رفقا بنت بتوئيل، فحملت فثقل حملها، فأوحى الله، عز وجل، إلى إسحاق: أني مخرج من بطنها شعبين وأمتين، فاجعل الأصغر أعظم من الأكبر! فولدت رفقا عيصو ويعقوب توأمين، وخرج عيصو أولاً، وخرج يعقوب بعده، وعقبه مع عقب عيصو، فسمي يعقوب.
وكان إسحاق يوم ولد له ابن ستين سنة، وكان إسحاق يحب عيصو، ورفقا تحب يعقوب، وسكن إسحاق وادي جارر، وكان قد ذهب بصره، فقال لابنه عيصو: خذ سيفك وقوسك، واخرج، فصد لي صيداً حتى آكل وأبارك عليك قبل أن أموت، فسمعت رفقا أمه ذلك، فقالت ليعقوب: اصنع لأبيك طعاماً! اذهب إلى الغنم، فخذ جديين، فاصنع طعاماً، وقربه لأبيك، حتى تقع عليك البركة. فقال: أخاف أن يلعنني. فقالت: إن لعنك كانت لعنتك علي، فمضى يعقوب، وأخذ جديين، فذبحهما، وطبخهما، وقربهما إليه.
وكان عيصو مشعر الذراع، فأخذ يعقوب جلد الجديين، فوضعهما على ساعديه، فلما قرب الطعام من أبيه قال: النغمة نغمة يعقوب، والمسحة مسحة عيصو. ثم بارك عليه، ودعا له، وقال له: كن رأسا على إخوتك.
وجاء عيصو بصيده، فقال له إسحاق: من قدم إلى الطعام فباركته ومباركاً يكون؟ قال: خدعني أخي يعقوب! قال له إسحاق: قد جعلته رأسا عليك، وعلى إخوته. ثم دعا له، وقال: على سميه الأرض تنزل.
وأمر إسحاق يعقوب أن يصير إلى حران، فيكون عند لابان بن بتوئيل بن ناحور، أخي إبراهيم، وخاف إسحاق عيصو عليه، وأمره أن لا يتزوج من نساء الكنعانيين، فصار إلى حران إلى خاله لابان، فكانت حياة إسحاق مائة وخمساً وثمانين سنة.
يعقوب بن إسحاقثم إن إسحاق قال ليعقوب: إن الله قد جعلك نبياً، وجعل ولدك أنبياء، وجعل فيك الخير والبركة، وأمره أن يسير إلى الفدان، وهو موضع بالشام، فسار إلى الفدان فلما دخلها رأى امرأة معها غنم على البئر تريد أن تسقي غنمها، وعلى رأس البئر حجر لا يرفعه إلا عدة رجال، فسألها: من هي؟ فقالت: أنا بنت لابان، وكان لابان خال يعقوب، فزحزح يعقوب الحجر، وسقى لها، و سار إلى خاله، فزوجه إياها، فقال يعقوب: إن التي كانت مسماة لي راحيل أختها. فقال: هذه أكبر، وأنا أزوجك أيضاً راحيل، فتزوجهما جميعاً.
ودخل بليا أولاً، فأولدها روبيل، وشمعون، ولاوي، ويهوذا، ويشاجر، وزفولون، وجارية يقال لها ديناً، ثم زوجه خاله بابنته الأخرى، وهي راحيل، فأبطأ عليها الولد، حتى عظم ذلك عليها، ثم وهب الله، سبحانه وتعالى، يوسف، وبنيامين.
ووقع يعقوب بزلفا جارية كانت لليا، فولدت منه كاذ، وآشر، ونفتالي.
ووقع بوليدة راحيل، فولدت دان، وقال قوم إن يعقوب تزوج راحيل قبل ليا، وقال أهل الكتاب تزوجهما جميعاً في وقت واحد، فماتت راحيل، وبقيت ليا.
وكان يوسف أحب ولد يعقوب إلى يعقوب لأنه كان أجملهم وجهاً، وكانت أمه أحب نسائه إليه، فحسده إخوته ذلك، فأخرجوه معهم، وكان من خبرهم ما قصة الله، عز وجل، في كتابه العزيز، حتى بيع، واستعبد، وغاب عن أبيه أربعين سنة، ثم رده الله، سبحانه، عليه، وجمعهم ويوسف بمصر على ما قد قصة الله في كتابه.
وولد ليوسف بمصر عدة أولاد، فأقام يعقوب بمصر سبع عشرة سنة، ولما حضرته الوفاة أوصى يوسف ولده ألا يدفنه بمصر. وتوفي وله مائة وأربعون سنة.
ولد يعقوبوكان ليعقوب من الولد اثنا عشر ذكراً: روبيل، وشمعون، ولاوي، ويهوذا، ويشاجر، وزفولون، ويوسف، وبنيامين، وكاذ، وآشر، ودان، ونفتالي، فهؤلاء بنو يعقوب، وهم بنو إسرائيل، وهم الأسباط.
وكان لروبيل من الولد: خنوخ، وفلو، وحصران، وكرمي.
وكان لشمعون من الولد: نموئيل، ويامين، وشاوول وكان للاوي من الولد: جرشون، وقهث، ومراري.
وكان ليهوذا من الولد: عار، وأونان ، وشيلا، وفارص، وزارح.
وكان ليشاجر من الولد: تولع، وفوا، ويوب، وشمرون.
وكان لآشر من الولد: يمنا، وأشوا، وأشوى، وبريعا، وسارح.
وكان لزفولون من الولد: سارد، وإيلون، ويحلائيل.
وولد ليوسف بأرض مصر: إفرائيم، ومنشى.
وكان لبنيامين: بالع، وبخر، وأشبال، ونعمان، وأوخي، ومفيم، وحفيم، وأرد.
وكان لكاذ من الولد: صفيان، وشوني، وأصبون، وعاري، وأرودي، وارايلي.
وكان لنفتالي من الولد: يحصيل، وغوني، ويبصر، وشاليم.
فهؤلاء أولاد يعقوب وولد ولده، الذين اجتمعوا بمصر عند يوسف، مع ولدي يوسف اللذين ولدا بمصر، وأعطاهم أرضا، وقال: ازرعوا، فما خرج فلفرعون الخمس.
ولما حضرت يعقوب الوفاة جمع ولده وولد ولده، فبارك عليهم، ودعا لهم، وقال لكل واحد منهم قولا، وأعطى ليوسف سيفه وقوسه.
وقرب إليه يوسف ابنيه منشى وإفرائيم، فصير منشى عن يمينه وإفرائيم عن شماله، لأن منشى كان أكبر، فقلب يده اليمنى على إفرائيم ، وأوصى يوسف أن يحمله ويدفنه إلى جنب قبر إبراهيم وإسحاق.
ولما توفي يعقوب قاموا يبكون عليه سبعين يوماً، ثم حمله يوسف، وأخرج معه غلماناً من أهل مصر، وصار به إلى أرض فلسطين، فدفنه إلى جنب قبر إبراهيم وإسحاق.
ولما فرغوا من دفن يعقوب قال لإخوته: ارجعوا معي إلى أرض مصر! فخافوه، فقالوا له: قد أوصاك أبوك يعقوب أن تغفر خطيئتنا. قال: لا تخشوني! فإني أخشى الله. فاطمأنت قلوبهم، فرجعوا إلى أرض مصر، فأقاموا بها.
وعاش يوسف بمصر دهراً، ثم حضرته الوفاة، فجمع بني إسرائيل، وقال: إنكم تخرجون بعد حين من أرض مصر، إذا بعث الله رجلاً يقال له موسى بن عمران من ولد لاوي بن يعقوب، وسيذكركم الله، ويرفعكم، فأخرجوا بدني من هذه الأرض، حتى تدفنوني عند قبور آبائي.
ومات يوسف وله مائة وعشر سنين، فصير في تابوت حجارة، وصير في النيل.
وكان في ذلك العصر أيوب النبي ابن أموص بن زارح بن رعوئيل بن عيصو ابن إسحاق بن إبراهيم، وكان كثير المال، فابتلاه الله تعالى بخطيئة أخطأها، فشكر الله وصبر، ثم رفع الله عنه البلاء، ورد إليه ماله وأضعف له.
موسى بن عمرانوولد موسى بن عمران بن قهث بن لاوي بن يعقوب بمصر في زمان فرعون الجبار، وهو الوليد بن مصعب، ويقال: كان اسمه ظلمي، وبنو إسرائيل يومئذ بمصر قد أقاموا من زمان يوسف في الرق والعبودية.
وكان سحرة فرعون وكهنته قد قالوا له: يولد في هذا الوقت مولود من بني إسرائيل يفسد عليك ملكك، ويكون به هلاكك. وكان فرعون قد ملك مصر دهراً طويلاً ممتعاً بالسلامة، حتى قال: أنا ربكم الأعلى، فأمر فرعون، فوضع على كل امرأة حامل من بني إسرائيل حرساً، فكانت لا تلد منهن امرأة غلاما إلا قتل ولدها، فلما جاء أم موسى المخاض قالت لها القابلة: إني أكتم عليك! فلما ولدت قالت للحرس: إنما خرج منها دم. وأوحى الله إلى أم موسى أن اعملي تابوتاً، ثم ضعيه فيه، وأخرجيه ليلاً، فاطرحيه في نيل مصر! ففعلت ذلك، وضربته الريح، فطرحته إلى الساحل، فرأته امرأة فرعون، فدنت منه حتى أخذته، فلما فتحت التابوت ورأت موسى وقع عليه منها محبة، فقالت: لفرعون نتخذه ولداً، وطلبت له من ترضعه، فلم يأخذ من المرضعات، حتى جاءت أمه، فأخذ منها، وشب أحسن شباب، وبلغ في أسرع وقت ما لا يبلغ الصبيان.
وكان يوسف قد قال لبني إسرائيل: إنكم لن تزالوا في العذاب حتى يأتي غلام جعد، من ولد لاوي بن يعقوب، يقال له موسى بن عمران. فلما طال الأمر على بني إسرائيل ضجوا و أتوا شيخاً منهم، فقال لهم: كأنكم به! فبيناهم، ذلك إذ وقف عليهم موسى، فلما رآه الشيخ عرفه بالصفة، فقال له: ما اسمك؟ فقال: موسى قال ابن من؟ قال: ابن عمران. فقام هو والقوم و قبلوا يديه ورجليه، واتخذهم شيعة.
ودخل يوماً مدينة من مدائن مصر، فإذا رجل من شيعته ينازع رجلاً من آل فرعون، فوكزه موسى، فقتله، ونذر به فرعون وآل فرعون وأرادوا قتله، فلما علم ذلك خرج وحيداً على وجهه، حتى صار إلى مدين، وأجر نفسه من شعيب النبي ابن نويب بن عيا ابن مدين بن إبراهيم على أن ينكحه إحدى ابنتيه.
فلما قضى موسى الأجل سار بامرأته يريد بيت المقدس، على ما قص الله، عز وجل، من خبره في كتابه العزيز، فبينا موسى يسير في طريقه إذ رأى ناراً، فقصد نحوها، وخلف أهله، فلما دنا منها إذا شجرة تضطرم من أسفلها إلى أعلاها ناراً، فلما دنا منها تأخرت نفسه، ووجل واشتد رعبه، فناداه الله جل وعلا: يا موسى أقبل لا تخف! إنك من الآمنين. فسكن عنه رعبه، وأمره الله أن يلقي عصاه، فألقاها، فإذا هي حية كالجذع، فأمره الله أن يأخذها، فصارت عصا.
وبعثه الله تعالى إلى فرعون، وأمره أن يأتيه، ويدعوه إلى عبادة الله، فعظم ذلك في قلب موسى، فقال الله: إني آمرك إلى عبد من عبيدي بطر نعمتي وأمن مكري، وزعم أنه لا يعرفني، وإني أقسم بعزتي لو لا العدل والحجة التي وضعتها بيني وبين خلقي لبطشت به بطشة جبار تغضب لغضبه السموات والأرض.
فقال: اللهم اشدد عضدي بأخي هارون، وإني قتلت منهم نفسا، فأخاف أن يقتلون! فقال له الله: قد فعلت ذلك، فاذهب أنت وأخوك بآياتي، فأخرجا بني إسرائيل! هذا أوان إخراجي إياهم من الرق والعبودية. فرد موسى امرأته إلى أبيها، وصار إلى فرعون هو وأخوه هارون، وأعلمه ما بعثه الله به، وخبر بني إسرائيل، فعظم سرورهم، وعلموا أن يوسف صدقهم. ثم ساروا إلى باب فرعون، وعليه مدرعة صوف، وفي وسطه حبل ليف، وفي يده عصا، فمنع من الدخول، فضرب الباب بالعصا، فانفتحت الأبواب، ثم دخل، فقال لفرعون: أنا رسول رب العالمين، بعثني إليك لتؤمن به، وتبعث معي بني إسرائيل. فأعظم فرعون ذلك، فقال له: إيت بآية نعلم بها صدقك! فألقى عصاه، فإذا هي ثعبان عظيم قد فتح فاه، وأهوى نحو فرعون، فسأل موسى أن ينحيه عنه، ثم أدخل يده في جيبه وأخرجها بيضاء من غير سوء برص.
وكان فرعون أراد أن يصدقه، فقال له هامان: أما في عبيدك، أيها الملك، من يعمل مثل هذا؟ فأحضر السحرة من جميع البلاد، وخبروا بخبر موسى، فأقاموا حيناً يعملون من جلود البقر حبالاً مجوفة وعصياً مجوفة، ويزوقونها، ويصيرون فيها الزيبق، ثم أحموا المواضع التي أرادوا أن يلقوا فيها الحبال والعصى، ثم جلس فرعون، وأحضره، فألقى السحرة حبالهم وعصيهم، فلما حمي الزيبق تحرك، ومشت الحبال والعصى، فألقى موسى عصاه، فأكلت ذلك كله، حتى لم يبق منه شيء، ونكص السحرة، فقتل فرعون من قتل منهم.
وبعث الله موسى بآيات إلى فرعون: العصا، ثم اليد التي خرجت من جيبه بيضاء، ثم الجراد، ثم القمل، ثم الضفادع، ثم الدم وموت الأبكار، فلما اتصل بهم هذا قال له فرعون: إن كشفت عنا الرجز آمنا وأخرجنا معك بني إسرائيل. فكشف الله عنهم، ولم يؤمنوا.
وأمر الله موسى أن يخرج بني إسرائيل، فلما أرادوا الخروج طلب جسد يوسف بن يعقوب ليحمله معه، كما أوصى يوسف بني إسرائيل، فأتته شارح بنت آشر بن يعقوب، فقالت: تضمن لي البقاء حتى أدلك عليه؟ حتى ضمن ذلك لها فصارت به إلى موضع من النيل، فقالت له: هو ها هنا! فأخذ موسى أربع صفائح ذهب، فصور في واحدة صورة نسر، وأخرى صورة سبع، وأخرى صورة إنسان، وأخرى صورة ثور، وكتب في كل صفيحة اسم الله الأعظم، وألقاها في الماء، فطفا تابوت الحجارة الذي كان فيه جسد يوسف، وبقيت في يد موسى صفيحة واحدة فيها صورة ثور، فوهبها لشارح بنت آشر، و حمل التابوت.
وقفل موسى ببني إسرائيل، وهم ستمائة ألف إنسان بالغ، واتبعه فرعون وجنوده، فغرقهم الله جميعاً، وكانوا ألف ألف فارس، وقيل هبط جبريل، وفرعون وأصحابه يحاولون الدخول أثرهم، وإذ قد نزل جبريل بعد أن لم يجزع من خيل فرعون فرس واحد، وكان تحت جبريل مهره، وكان تحت فرعون فرس طويل الذنب، فدخل جبريل البحر، فنظر فرس فرعون إلى مهرة جبريل، فاقتحم أثرها البحر، وتبعه أصحابه فغرقوا كلهم، أعني فرعون وجميع أصحابه، وانطبق البحر عليهم، وصار موسى إلى التيه.
وجعل بنو إسرائيل يستعجلونه ليدخل إلى الأرض المقدسة، فأوحى الله إلى موسى أنها محرمة عليهم أربعين سنة، فأقاموا في التيه، واشتد بهم العطش، فأوحى الله إلى موسى أن يضرب بعصاه الحجر، فقام موسى مغضبا، فضرب الحجر، فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا لكل سبط عين يشربون منها، فأوحى الله إلى موسى أنك ضربت الحجر قبل أن تقدسني، ولم تذكر اسمي، وأنت أيضاً فلا تخرج من التيه، وأمره أن يبني فيه قبة الزمان، ويجعل فيها الهيكل، ويجعل في الهيكل تابوت السكينة، ويكون هارون كاهن ذلك الهيكل الذي لا يدخله غيره، فجمع غزول نساء بني إسرائيل، فنسجت، وجمع الحلي، وعمل سرادقا طوله مائة ذراع في صدره الهيكل وفي صدر الهيكل تابوت السكينة.
وكان عمله ذلك في السنة الثانية من خروجه من مصر، وجعل فيه مائدة من ذهب، وجعل للقبة أجراس ذهب، وكلل القبة بالجوهر، وجعل فيها مجمرة ذهب للدخنة، وجعل فيها منارة ذهب مكللة بالجوهر، فكان هارون وحده يدخل القبة ويقدس الله، وموسى على الستر، وسائر بني إسرائيل في السرادق. وكانت غمامة تجلل القبة، ولا تبرحها، وأمرهم الله أن يقربوا قربانهم، وقال لموسى: قل لبني إسرائيل يقربون قربانا سليماً من العيوب من البقر والغنم، ويجعلون شحم القربان، على المذبح، وينضحون الدم أيضاً عليه، وما كان من القربان فهو حل لبني هارون خاصة، حرام على غيرهم، ومن أذنب منهم ذنباً، فليقرب قرباناً لله عند المذبح على قدر ما يجد بقراً، أو غنماً، أو شفنينين، أو فرخي حمام.
فأوحى الله عز وجل إلى موسى أن يكتب العشر الآيات في لوحي زمرد، فكتبها على ما أمره الله، وهذه العشر الآيات: قال الله: إني أنا الرب الذي أخرجتك من أرض بيت الرق والعبودية، و لا يكون لك إله آخر دوني، ولا تتخذ تمثالاً، ولا صنماً مشبها بي من فوق السماء، ولا تحت الأرض، ولا تسجد لها، ولا تعبدها من أجل أنا الرب الملك القاهر قاضي ديون الآباء عن الأبناء، نقمي على الثلاث والرباع لمبغضي، وأصنع نعمي لمحبي وحافظ وصيتي إلى ألوف الآلاف من المحبين لي، الحافظين لوصيتي.
لا تحلف باسم الرب كاذبا لأن الله لا يزكي من حلف باسمه كاذباً. واذكر يوم السبت لتطهره، اعمل ستة أيام، واسع في أعمالك كلها، واليوم السابع سبت الرب إلهك لا تعمل فيه شيئاً من الأعمال أنت وابنك وابنتك وعبدك و أمتك ونعمك وبهائمك والساكن في قراك، لأنه في ستة أيام خلق الله السماء و الأرض والنجوم وجميع ما فرع في السماء، فلهذا بارك الله اليوم السابع وطهره.
وأكرم أباك وأمك لتطول أيامك في الأرض التي أعطاكها الرب إلهك. ولا تقتل.
ولا تزن.
ولا تسرق.
ولا تشهد على صاحبك شهادة كاذبة.
ولا تشته بيت صاحبك ولا زوجة صاحبك، ولا عبده، ولا أمته، ولا ثوره، ولا حماره، ولا شيئاً من مال صاحبك.
وصعد موسى طور سيناء فأقام أربعين يوماً، فكتب التوراة، فاستبطأه بنو إسرائيل. فقالوا لهارون: إن موسى قد ذهب، ولا نظنه يرجع، ثم عمدوا إلى حلي نسائهم، فعملوا منها عجلا مجوفا، وكانت الريح تدخله فتخور فيه، فقال الله لموسى: إن بني إسرائيل قد اتخذوا عجلاً وعبدوه من دوني: فدعني أهلكهم. فدعا لهم موسى، وقال يا رب! احفظ فيهم إبراهيم وإسحاق ويعقوب، ولا تشمت بهم أهل مصر.
وهبط موسى من الجبل بعد أربعين يوماً، فلما رأى العجل ورآهم عكوفاً عليه، اشتد غضبه، فألقى الألواح، فكسرها، وأخذ برأس أخيه هارون، فنظر إلى العجل يخور، فكسره وسحقه، حتى صيره كالتراب، وذرأه في الماء، وقال لبني لاوي: جردوا سيوفكم واقتلوا من قدرتم عليه ممن عبد العجل! فجرد بنو لاوي سيوفهم، وقتلوا في ساعة واحدة خلقاً عظيماً، وقال الله لهم: أبيدوا من اتخذ إلها غيري. وأمر الله موسى أن يعد بني إسرائيل، ويجعل على كل سبط رجلاً خيراً، فاضلاً، وكان عددهم ممن بلغ العشرين سنة، فما فوقها إلى الستين، ممن يحمل السلاح: ستمائة ألف وثلاثة آلاف وخمسمائة وخمسين رجلاً، وكان عدة إياهم بعد خروجهم من مصر بسنتين، فكان رئيس بني يهوذا نحشون بن عمينذاب، وعدد من معه من سبطه أربعة وسبعون ألفاً وستمائة رجل.
ورئيس بني يشاجر نثنيل بن صوعر، وعدد من معه أربعة وخمسون ألفاً وأربعمائة رجل.
ورئيس سبط زبلون الياب بن حيلون، وعدد من معه سبعة وخمسون ألفاً وأربعمائة رجل. ورئيس سبط بني روبيل اليصور بن شذياور، وعدد من معه سبعة وأربعون ألفاً وخمسمائة رجل.
ورأس بني شمعون شلوميال بن صوري شذاي، وعدد من معه تسعة وخمسون ألف رجل وثلاثمائة رجل.
ورأس بني كاذ اليسف بن دعوال، وعدد من معه خمسة وأربعون ألفاً وستمائة وخمسون رجلاً.
ورأس بني إفرائيم اليشمع بن عميهوذ، وعدد من معه أربعون ألفاً وخمسمائة رجل. ورأس بني منشا جمليال بن فداصور، وعدد من معه اثنان وثلاثون ألفاً ومائتا رجل. ورأس بني بنيامين أبيذان بن جذعوني، وعدد من معه خمسة وستون ألفاً وأربعمائة رجل. ورأس بني دان أخيعازر بن عميشذاي، وعدد من معه اثنان وثلاثون ألفاً وسبعمائة رجل.
ورأس بني آشر فجعيال بن عنحرن، وعدد من معه أحد وأربعون ألفاً وخمسمائة ورجل. ورأس سبط نفتالي أخيرع بن عينان، وعدد من معه ثلاثة وخمسون ألفاً وأربعمائة رجل. وكان بنو لاوي خدام قبة الزمان وحرسها، فلم يدخلوا معهم، وكانوا مخصوصين بالكرامة والقدس، وخدمة قبة الزمان والتطهير، فهذا عدد بني إسرائيل واسم رئيس كل سبط منهم، وما كان معه من سبط على ما في السفر الرابع من التوراة.
وأمر الله، سبحانه، موسى أن يقول لرؤساء أسباط بني إسرائيل أن يقرب كل عظيم منهم قرباناً فكان قربان، كل رجل منهم صحفة فضة من مائة وثلاثين مثقالاً، ومصفاة فضة من سبعين مثقالاً، وملء الصحفة سميذ ملتوت بدهن، ومدهن ذهب من عشرة مثاقيل مملوءاً طيباً، وثوراً، وكبشاً، وحملاً حولياً، وحولية من المعزى، وكان الذبح الكامل ثورين وخمسة أكبش وخمسة جداء وخمسة حملان حولية.
وأمر الله، عز وجل، موسى أن يقول لبني إسرائيل أن يذبحوا بقرة صفراء مسلمة لا عيب فيها، ثم يأخذ دمها فيرشه على حبال قبة الزمان، ثم يحرقها وجلدها، ثم ليأت رجل آخر، فليجمع الرماد، وليصيره في موضع، فإذا أراد أحد أن يطهر، فليجعل في الماء من ذلك الرماد، فيكون طهوراً.
وأقام موسى وبنو إسرائيل في التيه دهراً، وكان طعامهم المن، وكان المن مثل حب الكسبرة يطحنونه بالأرحاء ويجعلونه أرغفة، فيكون طعامهم طيباً أطيب من كل شيء، وكان ينزل عليهم بالليل، ويجمعونه بالنهار، فضجوا وبكوا، وجعلوا يقولون: من يطعمنا لحماً؟ أما تذكرون ما كنا نأكل بمصر من النون، والقثاء، والبطيخ، والكراث، والبصل، والفوم؟ فاشتد غم موسى لذلك، وجعلوا يقولون: أطعمنا لحماً! فقال موسى: اللهم إني لا أقوى على بني إسرائيل! فأوحى الله إليه أني مطعمكم لحما، فبعث لهم السلوى، وأعلمهم الله أنه يخرجهم إلى الشام، فبعث موسى إلى الشام بيوشع ابن نون وغيره إلى أرض بني كنعان ليأتوه بخبرها، فقالت بنو إسرائيل: لا طاقة لنا بحرب الجبابرة.
وأذن الله لموسى أن ينتقم من أهل مدين، فوجه باثني عشر ألف رجل من بني إسرائيل، فقتلوا جميع أهل مدين، وقتلوا ملوكهم، وكانوا خمسة ملوك، أوى، ورقم، وصور، وحور، وربع، وقتل بلعام بن باعور في الحرب، وكان نبياً، فأشار على ملك مدين أن يوجه بالنساء على عسكر بني إسرائيل، حتى يفسدوهم، فغضب موسى من ذلك، فأمر الله موسى أن يقسم تلك الغنائم بين بني إسرائيل، ويأخذ منهم من كل خمسين واحدا، فيجعله لله يدفعه إلى ولد هارون، ثم أمره الله أن يوجه بني إسرائيل إلى الشام يقاتلون من بها، فوجه جيشاً عظيماً، فجعلوا يسيرون قليلاً قليلاً، وينزلون، ويقولون: إنا نخاف الجبارين فأقاموا بجبل ساعير، فقال الله تعالى لموسى: إن بني إسرائيل عصوا أمري، فليشتروا الطعام بالثمن، وليخضعوا الآن لمن كان يخضع لهم.
وكان ذلك بعد أن قتل موسى سيحون ملك الأموري واستباح أرضه.
ولما كان في سنة الأربعين من مقامهم في التيه، وهي برية سينا، أوحى الله إلى موسى: إني قابض هارون إلي، فاصعد به الجبل لتأتي ملائكتي فتقبض روحه! فأخذ موسى بيد هارون أخيه، فلما صعد به الجبل لم يكن معه إلا اليعازر بن هارون، فلما صار على الجبل إذ سرير عليه ثياب، فقال له موسى: البس يا أخي هذه الثياب المطهرة، التي أعدها الله لك، لتلقاه فيها، فلبسها هارون، ثم تمدد على السرير فمات، وصلى عليه موسى. فلما لم ير بنو إسرائيل هارون. ضجوا، وقالوا: أين هارون؟ قال لهم موسى: قبضه الله إليه، فاضطربوا.
وكان هارون محبباً فيهم، لين الجانب لهم، فرفعه الله لهم على السرير، حتى رأوا وجهه، فعلموا أنه قد مات، وكانت سنو هارون يومئذ مائة وثلاثاً وعشرين سنة، وكان له من الولد أربعة: نادب، وأليهو، واليعازر، وإيتمر، وتوفي في حياته نادب، وأليهو، وبقي اليعازر، وإيتمر.
وصار اليعازر مكان هارون يقدس في قبة الزمان. ودعا موسى يوشع بن نون. وقال له: بين يدي بني إسرائيل سر، وشد قلبك فإنك تدخل ببني إسرائيل إلى أرض بني كنعان التي ورثهم الله، وهذه التوراة ادفعها إلى كهنة بني لاوي، الذين كانوا يقومون بتابوت السكينة، ووقروا مقام الله.
واحفظوا وصاياه، التي بينها لكم في التوراة، وأوصاهم أن يتبعوا ما فيها، وبرك عليهم. وكان مما أوصى الله عز وجل به لبني إسرائيل على لسان موسى أن قال لهم: اذكروا اليوم الذي قمتم فيه قدام الله إذ قال الله لي: اجمع هذا الشعب قدامي، فأسمعهم كلامي ليخشوني أيام حياتهم، فقمتم في أسفل الجبل، والجبل يتوقد ناراً إلى قلب السماء، وكلمني الله من جوف النار، فسمعتم الصوت، ولم تروا الشبه، وأوصاكم الله أن تتعلموا العشر الآيات. وأوصاني أن أعلمكم السنن والقضاء، فتعملوا بذلك في الأرض التي تصيرون إليها، فاحتفظوا بأنفسكم ولا تصنعوا أصناما مما يشبه ذكرا، ولا أنثى، ولا شيئاً مما يدب على الأرض، ولا مما يكون في البحر، ولا ترفعوا رؤوسكم إلى السماء فتعبدوا النجوم! إن الله قد أقسم لا أدخل الأرض الصالحة، فأنا ميت بهذه الأرض، ولست أعبر الأردن، ولكنكم ستعبرون وتصيرون إلى الأرض الصالحة، التي جعلها الله لكم ميراثاً، فلا تضلوا ميثاق الله ربكم الذي واثقكم به، فتصنعوا الأصنام، ولا تعملوا أعمال السوء قدام إلهكم لو قد صرتم إلى الأرض الصالحة، فتوشكوا، إن عصيتم أن تهلكوا، وتفرقوا بين الشعوب، وإن عبدتم ما تعمله أيدي البشر من خشب وحجارة لا يبصرون، وتدعون، فلا يسمع لكم دعاء، إن الله الرحيم بكم يسمع أصواتكم، وإن من سمع من الله مثل الذي سمعتم، ورأى مثل الذي رأيتم، لا ينبغي أن يعصي الله، لقد رأيتم ما صنع الله بأهل مصر، وأنتم تنظرون، فإن الله هو الرب الذي ليس غيره، الذي بصركم ناره، وأسمعكم صوته، وأحب آباءكم فاجتبى خلوفهم، وأهلك لكم قوماً كانوا أعظم وأشد منكم، وإن الله سيدخلكم الأرض الصالحة، ويجعلها ميراثاً لكم، فاحفظوا سننه التي أوصاكم بها وأمركم بها ليحسن إليكم وإلى خلفكم من بعدكم، ويكثر أيامكم في الأرض، اقبلوا وصية الله التي أمركم بها لا تزيغوا عنها يميناً ولا شمالاً، واسلكوا كل طريق أوصاكم بها ربكم ليحسن إليكم. أحبوا الله من كل قلوبكم ومن همكم ومالكم، وقصوهن على أولادكم، وأتموها، واتلوها في بيوتكم، اجعلوها علامة بين أعينكم، واكتبوها في منازلكم، إن الله سيعطيكم قرى عظاماً لم تبنوها، وبيوتاً مملوءة من الخير لم تملأوها، وآباراً مطوية لم تحفروها، وكروماً، وزيتوناً لم تغرسوها، فلا تنسوا الله، واخشوه، واعبدوه، واحلفوا باسمه، ولا تتبعوا إلهاً آخر.
احذروا غضب الله الذي يبيدكم عن وجه الأرض، ولا تخونوا الله، واقبلوا أمره، واعملوا خيراً وصدقاً.
اذكروا إذ كنتم عبيدا لفرعون، فأخرجكم الله بيد شديدة، وآيات معجزات عظام ساقت فرعون وأصحابه إلى الهلكة، وأنتم تنظرون.
إن الله يقول لكم سأعطيكم البلاد الصالحة وأقدركم على الأمم التي بين أيديكم، وأظفركم بالجبارين، والجرشيين، والأموريين، والكنعانيين، والفرازيين، والحوبيين، والنابلسيين، هؤلاء السبع الأمم الذين هم أكثر منكم وأشد، فإذا ظفركم الله بهم، فاضربوهم، وارجموهم، ولا ترحموهم، ولا تعطوهم ميثاقاً، ولا تنكحوهم بناتكم لكيلا يكونوا لكم عثرة، فيزيغون أولادكم عني، فيعبدون إلها غيري، فيشتد عليكم غضبي، فأبيدكم عاجلاً، ولكن اكسروا أصنامهم، واعقروا مذابحهم، واهدموا أنساكهم، وأوقدوها! إنكم إن سمعتم وصيتي، وعملتم بقضاياي، فسأحفظ لكم نعمكم والميثاق الذي واثقت آباءكم، وأكثركم، وأثمر زرعكم وماشيتكم.
اجعلوا لله نصيباً في أموالكم، فواسوا منه اليتيم، والأرملة، والمسكين، والضعيف، والساكن معكم الذي لا زرع له.
إذا قضيتم بين اثنين، فاعدلوا، ولا تأخذوا الرشا، فإن الرشوة تعمي عيون الحكام، ولا تغرسوا شجرة عند مذبح، ولا تذبحوا قربانا فيه عيب من ثور ولا كبش، واقتلوا من يعمل الأصنام التي تعبد من دون الله، وإذا بلغكم أن أحداً يسجد للشمس والقمر والنجوم، أو شيء من الأنوار، فافحصوا عنه، فإذا علمتم صحته، فارجموه بالحجارة حتى يموت. ولا تقبلوا في الأحكام الموجبة للقتل شهادة واحد، ولكن شهادة شاهدين، أو ثلاثة، وإذا شهد الشهود على من يجب عليه القتل، فليبد الشهود فليبسطوا أيديهم إلى الذي يقتل، فإذا أشكل عليكم الحكم، فارجعوا إلى الأحبار والكهان.
ومن قتل رجلا خطأ، ولم يرده، فليفر من ولي الدم حتى لا يدركه. ولا تسفكوا دم بريء، أيما رجل قتل رجلاً بريئاً تعمداً، فليقتل، ولا تقتلوا أحداً حتى تقوم عليه شهادة عند الحبر، والقاضي، فإن وقف القاضي على أن أحدا شهد بزور فعل بالشاهد ما أراد أن يفعله بالمشهود عليه، والنفس بالنفس، والعين بالعين، واليد باليد، والرجل بالرجل.
وإذا أردتم قتال قوم فأتيتم قريتهم، فأدعوهم إلى السلم، فإن أجابوكم، فاجعلوا عليهم ضريبة، فإن لم يسلموا قتلتم كل من يحمل السلاح، و لا تفسدوا شجرها.
وقال الله عز وجل لموسى: إذا خرجت لقتال عدوك، فأمكنك الله منهم، فرأيت في السبي امرأة، وأحببت أن تتخذها لنفسك، فأدخلها إلى بيتك، واكشف عن رأسها، وقص أظفارها، وانزع عنها ثيابها التي سبيت فيها، وأقعدها في بيتك ثلاثة أشهر تبكي على أبيها وأمها، ثم استحلها، فإن كرهتها بعد أن تمسها، فأخرجها، ولا تبعها، ولا تأخذ لها ثمنا بعد أن وقعت عليها.
وأيما ابن عصى أباه، ولم يطعه، ولم يقبل أمره، فليخرجه أبوه إلى شيوخ سبعة، فيرجموه حتى يذهب الشر والفظيعة منكم، ويحذر أمثاله من بني إسرائيل.
وإذا وجد أحد منكم ضالة قد ضلت من صاحبها من نعجة، أو ثور، أو حمار، فليردها على صاحبها، فإن لم يجده، فليحبسها في بيته حتى يحضر صاحبها.
ولا تلبسوا ثوباً منسوجاً بقطن وصوف جميعاً، واصنعوا خيوطاً في أطراف أكسيتكم.
وأيما رجل قذف امرأته ورماها بفجور، فلم يصح عليها، فليغرم مائة درهم، وتكون امرأته آخر الدهر، وإن كان ما قذفها به حقاً، فلترجم، وأيما رجل وجد يزني بامرأة لها زوج فليقتلا كلاهما.
وأيما رجل غلب امرأة على نفسها، فليقتل الرجل، وأي رجل وقع على جارية تكون في حجر أبيها، فافتضها، وأحبها، فليعط أباها خمسين مثقالاً فضة، ولتكن امرأته آخر الدهر، ولا يخل سبيلها.
ولا يحل لرجل أن يمس امرأة قد مسها أبوه، ولا ينظر إلى عورتها، ولا يدخل الرجل الجنب مسجداً من مساجد الله ولا تأكلوا ربا لفضة، ولا ذهب، وإذا نذرتم نذراً، فلا تؤخروا قضاءه، وأوفوا بالعهد، إذا عاهدتم، ولا تنقضوا العهد، فإن الله يحب من وفى بعهده.
اعتزلوا من كان به برص، وتباعدوا منه، ولا تحبسوا أجر الأجير، ولا تأخذوا أبا بذنب ابنه، ولا ابنا بذنب أبيه، وأدوا زكاة أموالكم وثمراتكم إلى الحبر قرباناً، وأعطوا الفقراء، والأرامل، واليتامى، والمساكين، وبني السبيل.
وإذا دخلتم الأرض الصالحة، فاعملوا مذبحاً للقدس من حجارة مستوية، فليقل أحبار بني إسرائيل: ملعون من يضل الأعمى عن الطريق.
ملعون من يحيف في القضاء على المساكين، واليتيم، والأرملة.
ملعون من يضاجع امرأة أبيه.
ملعون من يضاجع دابة.
ملعون من يضاجع أخته وأمه.
ملعون من يضاجع أم امرأته.
ملعون من يأكل لحم أخيه سراً.
ملعون من يأخذ رشوة في قتل نفس زكية ظلماً.
ملعون كل من لم يعمل بوصية الله.
ثم قال لهم موسى: قد بلغتكم وصايا الله، وعرفتكم أمره، فاتبعوا ذلك، واعملوا به، فقد أتت لي مائة وعشرون سنة، وقد حانت وفاتي، وهذا يوشع ابن نون القيم فيكم بعدي، فاسمعوا له وأطيعوا أمره، فإنه يقضي بينكم بالحق، وملعون من خالفه وعصاه.
وكانت بين وفاة هارون إلى أن حضرت موسى الوفاة سبعة أشهر، ثم صعد موسى إلى جبل نابون، فنظر إلى الشام، وقال الله له: هذه الأرض التي ضمنت لإبراهيم وإسحاق ويعقوب أن أعطيها خلفهم، و قد أريتكها بعينك، ولكنك لن تدخلها! فمات موسى في ذلك الموضع، فقبره يوشع بن نون، ولم يدر أين قبره.
أنبياء بني إسرائيل وملوكهم بعد موسىوكان موسى لما حضرته وفاته أمره الله، عز وجل، أن يدخل يوشع بن نون، وكان يوشع بن نون من شعب يوسف بن يعقوب، إلى قبة الزمان، فيقدس عليه، ويضع يده على جسده لتتحول فيه بركته، ويوصيه أن يقوم بعده في بني إسرائيل، ففعل موسى ذلك، فلما مات موسى قام يوشع بعده في بني إسرائيل، ثم خرج من التيه بعد وفاة موسى بيوم، وقال بعض أهل الكتاب: ثلاثين يوماً، وصار إلى الشام، و فيها الجبابرة، ولد عمليق بن لاود بن سام بن نوح، وكان أول من ملك منهم السميدع بن هوبر، فصار من أرض تهامة إلى الشام يريد غزو بني إسرائيل، فوجه إليه يوشع بن نون من قتله، ثم قام بعده من بني أبيه جماعة، فقتلهم يوشع.
وسار يوشع حتى انتهى إلى البلقاء، فلقي رجلا يقال له بالق، وبه سميت البلقاء، فجعلوا يخرجون يقاتلونه، فلا يقتل منهم رجلا واحدا، فسأل عن ذلك: فقيل له: إن في مدينته امرأة منجمة تستقبل الشمس بفرجها: ثم تحسب، فإذا فرغت عرضت عليها الحيل، فلا يخرج يومئذ من حضر أجله، فصلى يوشع ركعتين، ثم دعا أن يؤخر الله الشمس ساعة، فأخرت له ساعة، فاختلط عليها حسابها، فقالت لبالق: انظر ما كانوا يسألونك، فأعطهم، فإن حسابي قد اختلط على! قال: تصفحي آلتك، واخرجي منها، فإنه لا يكون صلح إلا بقتال! فتصفحت الحيل على غير علم منها لاختلاط الأمر عليها، فقتلوا قتلة لم يقتلها قوم، فسألوا يوشع الصلح، فأبى عليهم، حتى يدفعوا إليه المرأة، فقال بالق: لا أدفعها! فقالت: ادفعني إليه! فدفعها إليه، وصالح، فقالت له: هل تجد فيما أنزل على صاحبك قتل النساء؟ قال لا! قالت: فإني قد دخلت في دينك. قال: فاسكني في مدينة أخرى فأنزلها مدينة أخرى.
ولما افتتح يوشع بن نون البلقاء أكثر بنو إسرائيل الزنا، وشرب الخمور، ووقعوا على النساء، وكثرت فيهم الفاحشة، فعظم ذلك على يوشع بن نون وخوفهم الله، وحذرهم سطوته، فلم يحذروا، فأوحى الله، عز وجل، إلى يوشع بن نون: إن شئت سلطت عليهم عدوهم، وإن شئت أهلكتهم بالسنين، وإن شئت بموت حثيث عجلان. فقال: هم بنو إسرائيل، ولا أحب أن تسلط عليهم عدوهم، ولا يهلكوا بالسنين، ولكن بموت حثيث. فوقع فيهم الطاعون فمات في وقت واحد سبعون ألفاً.
وكانت أيام يوشع في بني إسرائيل، بعد موسى بن عمران، سبعاً وعشرين سنة.
ثم كان على بني إسرائيل بعد يوشع بن نون دوشان الكفري، فلبث فيهم ثماني سنين، ثم كان بعد دوشان عثنايل بن قنز، أخي كالب، من سبط يهوذا ابن يعقوب، أربعين سنة، وقد كان كثر ظلم بني إسرائيل وعتوهم، فسلط الله عليهم كوشان جبار مؤاب، فلما ملك عثنايل قتل كوش، وملك أربعين سنة.
ثم ارتدت بنو إسرائيل إلى الكفر، فسلط الله عليهم عقلون ملك مؤاب، خمس عشرة سنة، ثم تابوا، فبعث الله لهم رجلا يقال له أهود بن جيرا، من سبط إفرائيم، فقتل عقلون ملك مؤاب، وكان يقاتل بشماله ويمينه، فسموه ذا اليمينين، وهو أول من طبع السيوف ذوات الحدين، وكانت قبله ذوات أقفية، وفي زمانه بنيت البنية بالشام، وفي خمس وعشرين سنة من ملك أهود تم الألف الرابع.
ثم ارتدت بنو إسرائيل بعد أهود، فسلط الله عليهم يابين ملك كنعان، عشرين سنة، وكان سمحر بن عانات قد ملك على بني إسرائيل قبل، فقتل من أهل فلسطين ستمائة رجل، ثم إن الله رحمهم، فبعث إليهم رجلاً يقال له بارق بن أبينعم، من سبط نفتالي، فملكهم أربعين سنة.
ثم ارتدت بنو إسرائيل إلى الكفر، فسلط الله عليهم أهل مدين سبع سنين، ثم إن الله تعالى رحمهم، فبعث إليهم رجلا يقال له جدعان بن يواس، من سبط منشى، وكان صالحاً، وهو الذي بيت أهل مدين، فقتل منهم مائتي ألف وخمسة وثمانين ألفاً، وملكهم أربعين سنة، ثم ملك بعده ابنه ابيملك بن جدعون، وكان ابن سوء، وهو الذي قتل سبعين أخا كانوا له، فقتلته امرأة، ورمته بحجر من فوق باب المدينة، فشدخته، وكان ملكه ثلاث سنين.
ثم ملك تالع بن فواي، من سبط يشاجر، فأقام ثلاثاً وعشرين سنة، ثم ملك جلعاد من سبط منشى، وكان له ثلاثون ابناً يركبون معه على ثلاثين مهراً، وكان ملكه اثنتين وعشرين سنة، ثم ارتدت بنو إسرائيل إلى الكفر، فسلط الله عليهم بني عمون، سبع عشرة سنة، وفي زمانه بنيت مدينة صور بالشام، وسامهم سوء العذاب.
ثم إن الله تعالى رحمهم، فبعث لهم رجلاً من أهل جلعاد اسمه يفتح، فقتل من بني إسرائيل من آل إفرائيم اثنين وأربعين ألفاً، وكان من سبط منشى، وكان ملكه ست سنين، ثم كان عليهم أبيصان الذي يدعى نخشون، سبع سنين، ثم كان عليهم إيلان، من سبط زبولون، عشرين سنة، ثم كان عليهم عكران ثماني سنين، ثم كان عليهم الانكساس، فسامهم سوء العذاب، وسلط عليهم أشد التسليط، أربعين سنة، ثم كان عليهم شمسون عشرين سنة، ثم لبثوا ليس عليهم أحد اثنتي عشرة سنة، ثم كان عليهم عالي الأحباري أربعين سنة.
ثم كان عليهم شمويل النبي، وهو الذي ذكره الله تعالى إذ قالوا لنبي لهم: ابعث لنا ملكاً نقاتل في سبيل الله، فلما قالوا لشمويل النبي: سل الله أن يبعث لنا ملكاً حتى يقاتل عدوه، وقال: إنه لا وفاء لكم، ولا صدق نية، وقالوا: بلى! قال: فإن الله قد بعث لكم طالوت ملكاً، واسمه شاول، قالوا: والله ما هو من سبط الملك والنبوة، ما هو من ولد لاوي، ولا يهوذا، وإنما هو من سبط بنيامين. قال شمويل: فليس لكم أن تختاروا على الله، فدعا شمويل شاول، وهو طالوت، فقال له: إن الرب أمرني أن أبعثك ملكاً على بني إسرائيل، والله يأمرك أن تنتقم من عمليق، فأهلك عمليق وكل ما له، ولا تبق له شيئاً من رجل، ولا امرأة، ولا صبي رضيع، ولا عجل، ولا شاة، ولا بعير، ولا حمار.
وأوصى الجماعة كلها بهذا، وكان عددهم أربعمائة ألف مقاتل، فأقبل شاول إلى عمليق، فقتل أصحاب عمليق، وأسر أغاغ ملك العمالقة، فأخذه حيا، فاستبقاه، وامتنعوا من إتلاف شيء من البقر، والغنم، وأبقوا لأنفسهم، فأوحى الله تعالى إلى شمويل: أن شاول عصاني، ولم يهلك عمليق، وكل ما حواه ملكه. فقال شمويل لشاول: إن الله قد غضب من فعلك! فدعا شاول باغاغ، فقال: ما أمر الموت؟ قال: الذبح! فذبحه، ثم قال شاول لشمويل: امض معي لنسجد بين يدي الله تعالى، فامتنع، فأمسك رداء شمويل فخرقه، فقال شمويل: كذا ينخرق ملكك.
وارتفعت النصرة عن شاول، ودخلته ريح سوء، وكان يضطرب، ويتغير لونه، فقال له أصحابه: لو أتيت بإنسان حسن الصوت، من الشعارير، يقرأ عليك، إذا دخلتك هذه الريح السوء! فأرسل إلى إيشا: ابعث إلى داود ابنك، فبعث به إليه، فكان إذا خنق شاول أخذ داود قيثارة بيده، وتكلم عليها، فيذهب عنه الريح السوء. ثم اجتمع الحنفاء الذين كانوا في وقت شاول، فقاتلهم، وهم عبدة النجوم، وخرج إليهم شاول في جموعه، فخرج منهم رجل طوله خمس أذرع يقال له غلياث، وهو جالوت، فقال: يبرز لي منكم رجل واحد، فقال داود لشاول: أنا أبرز إليه! فقال لداود: انطلق، والرب يكون معك! فأخذ عصا وخمسة أحجار، وخرج إلى غلياث، فلما رآه احتقره، فقال له: إلى كلب خرجت بعصا وحجر؟ فقال له: إلى أشد من الكلب، ثم أخذ حجراً من مخلاته ورماه به حتى غاب الحجر في جبهة جالوت، وسقط، فسعى إليه داود، فأخذ سيفه، وحز رأسه، وأخذ راجعاً، فانهزم عسكر غلياث، واشتد سرور بني يهوذا، فاغتم شاول وحسد داود، فطرده عنه، وصيره رئيسا على ألف، ونفاه بمكان بني يهوذا، وتزوج ميخل بنت شاول.
وكان شاول يريد قتل داود، فكان يوجهه يقاتل الحنفاء عبدة النجوم، فيفتح الله عليه، فهم أن يقتله بغير حيلة، فهرب داود، فجاء إلى شمويل النبي، فخبره بخبر شاول، ولم يزل شاول يحاول قتل داود حتى هرب، فمر باخيش ملك جات، فلما رآه عرفه، فتحيل عليه داود حتى أطلقه، فصار إلى سارع، فنزلها. ولما علم شاول أنه قد فاته قتل الكهنة الذين كانوا يقدسون، وقال: قد علمتم به ولم تخبروني، ثم خرج شاول في طلب داود، حتى أدركه، فدخل داود مغارة، فلما صار شاول عند المغارة نزل لحاجته، فدخل المغارة، وهو لا يعلم أن داود فيها، فقام داود، فتوارى، فقال له أصحابه: يا داود أقتله! فقد أمكنك الله منه. قال: ما كنت لأفعل.
وتوفي شمويل النبي، فاجتمعت بنو إسرائيل، وأعظموا ذلك، وناحوا عليه ثلاثين يوماً. وخرج شاول يقاتل الحنفاء، والتحم القتال بينهم، فهزموا بني إسرائيل، وقتل منهم خلق عظيم، وكان داود بن إيشا يقاتل العماليق مع قومه من ولد يهوذا، فلما انهزم عن شاول جميع بني إسرائيل، قام هو وولده يحارب، ثم قال لصاحبه الذي يحمل سلاحه: خذ سيفك فاقتلني به لئلا يقتلني هؤلاء القلف، و يلعبوا بي، فلم يفعل، فأخذ شاول سيفه، فأقامه، ثم ألقى نفسه عليه، فمات، وقتل أولاده الثلاثة، وكان ملك شاول أربعين سنة.
داود
ولما مات شاول، وهو طالوت، انصرف داود من قتال عمليق إلى سقلاغ، فأقام بها يومين، ثم أتاه الخبر بموت شاول، فحزن لذلك، وأظهر جزعاً، وملك داود على بني يهوذا، وكان لداود عدة نسوة قد ولدن منه أولاداً، فكان أكبر أولاده: أمنون، وأمه شيتموم، والثاني دالويا بن إربيخايل، والثالث أباشلوم بن موخا، والرابع أرنيا بن دحات، والخامس سفاطيا بن ابيطال، والسادس ناتان بن اغلا، فهؤلاء الستة من ست نسوة، و لم تلد ميخل بنت شاول، فهربت من داود إلى أصحاب شاول.
واجتمعت بنو إسرائيل من الأسباط على تمليك داود، فملكوه بعد سبع سنين ملكها على بني يهوذا خاصة، إلى أن ملكته جميع أسباط بني إسرائيل. ونزل داود مدينة صيون، وهي بيت المقدس، وبنى بها منزلاً، وتزوج النساء، فولد له بعد أن ملك: سمون، وسوباب، ونوتان، وسلامان، ويابار، واليشوس، ونافاق، ويافيا، واليشماس، والسنايا، واليفلات، فكثر أولاد داود، وعز ملكه، وأعظمته بنو إسرائيل.
وسمع الحنفاء أن داود قد ملك على بني إسرائيل، واجتمعوا لقتاله، فقاتلهم داود، فقتل فيهم قتلا كثيراً، حتى أبادهم، فلما فرغ من قتالهم حمل تابوت السكينة على عجل، حتى أدخله مدينة بيت المقدس، وصنع طعاماً لبني إسرائيل، لرجالهم ونسائهم.
وكان في ذلك العصر ناتان النبي، فأوحى الله إلى ناتان: قل لعبدي داود: ابن لي بيتاً، فقد ملكتك على بني إسرائيل، بعد أن كنت في صيرة الغنم، و قتلت أعداءك، فقال ناتان النبي لداود، فعظم في قلب داود، ويقال: إن ناتان كان ابن داود.
وقاتل داود الحنفاء فهزمهم، وقاتل أهل مؤاب وهزمهم، وقاتل اددازار ملك سوبا فهزمه، وأخذ له ألف مركب وسبعة آلاف من الخيل.
واجتمع أهل الشام ودمشق مع اددازار ليقاتلوا داود، فقتل منهم اثنين وعشرين ألفا، واستحوذ على الأرض، فكان أهل الشأم جميعاً عبيداً له، ثم اجتمعوا جميعاً على محاربة داود، فوجه إليهم يؤاب ابن أخته، وابيشا أخاه، ثم خرج داود حتى عبر نهر الأردن، فقتل من القوم أربعين ألفاً، وقتل أشان رأس القوم ثم وجه يؤاب ابن أخته لقتال بني عمون إلى أسافل الشأم، ورجع إلى بيت المقدس، فقام يمشي على سطح له إذ نظر إلى برسبا بنت إليات، امرأة أوريا بن حنان الشطي، فسأل عنها، فأخبر بحالها، وأنها امرأة أوريا بن حنان، فوقعت في قلبه، فأرسل إلى أوريا بن حنان، فأقدمه عليه، ثم كتب إلى يؤاب ابن أخته أن قدم أوريا أمام الخيل يحارب، فقدمه يؤاب، فقاتل، فقتل.
وأرسل داود إلى امرأته، فتزوجها وأحبلها، فأرسل الله إليه الملكين، على ما قص في كتابه جل وعز، وأرسل إليه ناتان النبي فقال له، يا داود، ألم يأمرك الله أن تعدل في القضاء، وتحكم بالحق، ولا تتبع الهوى؟ قال: بلى! قال: فهذان رجلان يسكنان مدينة واحدة أحدهما غني والآخر فقير، وكان للغني مواش وبقر كثيرة، ولم يكن للفقير شيء إلا رخلة واحدة صغيرة رباها، فشبت معه ومع أولاده، فكانت تأكل من طعامه، وتشرب من كأسه، وتنام في حجره. ونزل بالغني ضيف، فلم يأخذ من بقره وغنمه شيئاً، وأخذ رخلة الفقير، فهيأها لضيفه، فغضب داود، وقال: أهل أن يموت، ويغرم بتلك الرخلة سبعة أضعاف. فقال ناتان النبي لداود: أنت الرجل الذي فعلت هذا! إن الرب إلهك يقول لك: أنا الذي جعلتك ملكاً على بني إسرائيل، بعد أن كنت راعي غنم، وأنقذتك من يدي شاول، وأعطيتك بيت إسرائيل، وبيت يهوذا، ففعلت هذا، فلأنتقمن منك بشر ولدك، ولأسلطنه عليك وعلى نسائك! فعظم ذلك على داود، فقال له ناتان: إن الله قد تجاوز عن سبيلك، فلن تموت، ولكنه ينتقم منك بشر بنيك، وأعلمه الله أن ولده الذي ولدته المرأة يموت، فجزع داود، واشتد جزعه، واشتكى الصبي، فلما اشتدت علته صام وقام ليصلي ويبكي، ويتمرغ بالشعر على الأرض، فلما توفي الصبي أعظم خول داود أن يخبروه بذلك، حتى سمع بوشوشتهم، فعلم، فغسل وجهه، ولبس ثيابه، وجلس في مجلسه، ودعا بطعامه، وقال: إنما كنت أحزن قبل أن يهلك: فأما الساعة، فإن حزني لا يرده إلي بل أنا أذهب إليه. ثم واقع برسبا، فحملت غلاماً، فسماه سليمان.
ثم إن أبيشالوم بن داود قتل أخاه أمنون، وذلك أنه اتهمه بأخت له من أمه، فقتله، وخرج على داود، وكان أبيشالوم عظيم الجسم، كثير الشعر، فبعث إليه داود من رده حتى رجع، ثم خرج عليه ثانية، فهرب منه داود ماشياً على رجليه، حتى صعد عقبة طور سينا، وبلغ منه الجوع حتى لحقه رجل معه خبز وزيت، فأكل منه، ودخل أبيشالوم مدينة أبيه، وصار إلى داره وأخذ سراري أبيه، فوطئهن، وقال: ملكني الله على بني إسرائيل، وخرج ومعه اثنا عشر ألفاً، فطلب داود ليقتله، فهرب داود حتى جاز نهر الأردن، فلما جاز اجتمع إليه جماعة من أصحابه ولفيف من القرى، فوجه يؤاب ولده ليحارب أبيشالوم، وقال له: خذه لي حياً صحيحاً! فخرجوا، وحاربوه، وكان أبيشالوم على بغل، فدخل تحت شجرة بطم، فتعلق بها، فاندقت عنقه، ورماه يؤاب بثلاثة أسهم، وطرحه في جب، فلما أتى داود الخبر جزع عليه جزعاً شديداً، ورجع داود إلى موضعه.
وخرج على داود بعد ذلك أزلا، ومعه جبابرة، فحاربهم، فقتلهم، فلما قتلهم، وأنقذه الله منهم، قام يقدس الله ويسبحه، فقال في تقديسه: إياك يا رب أعبد، ولك أخلص محبتي، فإنك قوتي وعدتي، وملجأي و مخلصي، بعد أن أحاطت بي سكرات الموت، وقربت مني، واحتوت على أحداث الهلكة، فدعوتك في ضيقي واستعنت بك يا إلهي، فسمعت صوتي فاستنقذتني من الذين اعتوروني واضطهدوني، وكنت ناصري، فأخرجتني من الضيق إلى الفرج، فما أعدلك يا رب، وأنصرك للمتوكلين عليك، لأنه لا رب غيرك، فألهمني القوة، وبصرني طريق الرشد، وثبت قدمي بين يديك، وشدد ساعدي، ولا تقدر على أعدائي، وهب لي طاعة بني إسرائيل، وصيرهم خولاً خاضعين، وألهمني شكرك.
وكان داود إذا سبح الله بهذا الكلام رفع صوتاً حسناً لم يسمع مثله، وكان إذا قرأ الزبور قال: طوبى لرجل في سبيل الأثمة لم يسلك، وفي مجالس المستهزئين لم يجلس، ولكن هواه سنة الله، وبسننه تعلم الليل والنهار، يكون كشجرة غرست على شط الماء، تؤتي أكلها كل حين، ولا يتناثر ورقها، وليس كذلك المنافقون في القضاء، ولا الخاطئون في مجمع الأبرار، من أجل أن الله يعلم سبيل الأبرار وسبيل الأئمة يبطل.
ثم يقول: سبح لله من في السماء، وليسبحه من في العلى، ولتسبحه ملائكته كلها، ولتسبحه جنوده كلها، ولتسبح له الشمس والقمر، ولتسبح له الكواكب والنور، وليسبح لاسم ربنا الماء الذي فوق السماء، وذلك بأنه قال لكل شيء: كن فكان، وهو خلق كل شيء وبرأه، وجعلهن دائمات الأبد، وقدر كل شيء منهن تقديراً، وجعل لهن حداً ومنتهى لا يجاوزنه، فليسبح الله من في الأرض، والنار، والبرد، والثلج، والجليد، فإنه خلق الريح العاصف بكلمته.
سبحوا الله تسبيحاً حديثاً في مسجد الصديقين، وليفرح إسرائيل بخالقه، وأن بني صيون يكبرون ربكم، ويسبحون اسمه بالدف، والطبل، والكبر، يكبرونه من أجل أن يسر الله بشريعته، ويعطي المساكين النصر، ليشيد الصديقون بالكرامة، ويسبحون على أسرتهم، ويكبرون الله على حناجرهم، وسيف ذو شفيرتين بأيديهم، لينتصروا على الشعوب ويتعظ الأمم فيوثقوا ملوكهم في القيود، وذوي الكرامة بسلاسل من حديد، ليفعل بهم القضاء الذي كتب، والحمد لله لكل الصديقين.
سبحوه في مقدسة، سبحوه في سماء عزته، سبحوه بحوله وقوته، سبحوه بعظمته، سبحوه بصوت العزف، سبحوه بالقيتار والكبر، سبحوه بالبرابط والزمر، سبحوه بالأوتار والكبر الطويل الخليلات، سبحوه في صلاصل السمع، سبحوه بالأصوات العلى والنداء، سبحوا ربنا تسبيحاً خالصاً، كل نفس بنفس. ثم يقول داود في آخر الزبور: إني كنت آخر إخوتي وعبد بيت أبي، وكنت راعي غنم أبي، ويدي تعمل الكبر، وأصابعي تقص المزامير، فمن ذا الذي حدث ربي عني؟ هو ربي، وهو الذي سمع مني وأرسل إلى ملائكته فأنزعني من غنم إخوتي، هم أكبر مني وأحسن، فلم يرضهم ربي، فبعثني للقاء جنود جالوت، فلما رأيته يعبد أصنامه أعطاني النصر عليه، فأخذت سيفه، فقطعت رأسه.
ثم إن بني إسرائيل وقعوا في داود، فاشتد غضب الله عليهم، فأمر الله داود أن يحصي عدد بني إسرائيل، فأحصاهم، فوجدهم ثماني مائة ألف رجل بطل، وعدد بني يهوذا خمسمائة ألف رجل، فبعث الله حيرام النبي إلى داود، وقال له: قل لداود اختر واحدة من ثلاث: إما أن يكون جوع سبع سنين، وإما أن تدفع إلى أعدائك فيعزونك ثلاثة أشهر، ويطرحونك من سلطانك، وإما أن يكون موت شديد ثلاثة أيام؟ فضاق داود لذلك، وقال: ربنا أولى بنا من خلقه! فسلط الله عليهم الموت، فمات في ساعة واحدة سبعون ألف رجل، فقال داود: يا رب! إني أنا أسأت، فما ذنب هؤلاء الذين يشبهون البهائم؟ فأوحى الله إليه: أن ابن لي هيكلاً في بيدر اليبوساني، فصعد داود الجبل، حتى اشترى البيدر بخمسين أستاراً، وابتنى هناك مذبحا، فكف الموت عن بني إسرائيل.
وكان داود قد أسن وضعف بدنه، وكان له ابن يقال له أدونياس، فاستمال يؤاب صاحب حروب داود وقوماً من قواد داود، وقال لهم: قد كبر الملك داود، وأنا أولى أن أقوم مقامه، فلما بلغ داود ذلك أرسل إلى سادوق الكاهن وناتان النبي، وقال لهم: أجمعوا أهل المملكة، واحملوا سليمان ابني على بغلتي، وأجلسوه على منبري، فقد جعله الله رأساً على بني إسرائيل، والله يعظم ملكه، ويرفع شأنه! فمضوا مع سليمان حتى علا منبر داود، واجتمع عليه أهل المملكة، فقال داود: هكذا أعلمني الله أن يملك سليمان ابني، وعيناي تنظران إليه، وكان سليمان يومئذ ابن اثنتي عشرة سنة.
ثم اشتدت على داود علته، فأوصى سليمان، وقال: أنا ماض في سبيل كل أهل الأرض، لا ثمان، فاعمل بوصايا الرب إلهك، واحفظ مواثيقه وعهوده ووصاياه التي في التوراة المنزلة على موسى بن عمران، ومات داود وله مائة وعشرون سنة، وكان ملكه أربعين سنة.
سليمان بن داودولما قبض الله، عز وجل، داود قام مكانه سليمان نبياً، وملكاً، فسخر الله له الجن والإنس، والرياح والسحاب، والطير والسباع، وآتاه ملكاً عظيماً، كما قص في كتابه العزيز.
ومال يؤاب صاحب حروب داود، وقوم من أصحابه، مع أخوه سليمان، ليفسدوا على سليمان ملكه، فقتلهم سليمان من عند آخرهم، وقتل أدونياس أخاه، فصلح الملك لسليمان، وثبت سلطانه، وتزوج بنت فرعون ملك مصر، ودخل بها في بيت داود.
وجمع سليمان بني إسرائيل ليقرب قربانا، فقرب ألف ذبيحة، فرأى سليمان في ليلة كان الرب يقول له: سل ما أحببت لأعطيك! فقال سليمان: أنت يا رب أنعمت على داود النعمة العظيمة. وصيرت عبدك سليمان ملكا بعده، فأعطني قلباً حكيماً لأحكم بين عبادك بالعدل، وأفهم الخير والشر. فقال الله: لأنك طلبت هذا الأمر، ولم تطلب مالاً، ولم تطلب أنفس أعدائك، ولم تطلب طول العمر لكنك طلبت حكمه تفهم بها الحكم والقضاء. فقد استجبت لك، وأعطيتك قلباً فهيماً، بصيراً إلى الأمر الذي لم يكن لأحد قبلك، ولا يكون بعدك مثلك، وأعطيتك ما لم تطلب من الأموال، والعتاق، والكرامة، وأنت إن سلكت في طريقي، وحفظت شرائعي ووصاياي، كما حفظ داود أبوك، أطيل عمرك، وأعظم أمرك. فكان سليمان يجلس للقضاء، ويحكم بين بني إسرائيل، فيعجبون لحكمه، وعدل قضائه، وقوله، وحسن لفظه، وكان لسليمان قواد، ووزراء، وكتاب، ووكلاء، فكان وزيره زابود بن ناتان، وعلى حروبه بنايا بن بويادع، وخازنه أبيشار، وعلى الخراج أدونيرام بن عبدا، و كان له اثنا عشر وكيلاً على نفقاته يقوم كل وكيل بنفقة شهر، وكانت نفقاته على أسباط بني إسرائيل، وكانت وظيفته كل يوم ثلاثين كراً من الدقيق السميذ، وستين كراً من دقيق الخشكار، وعشرة ثيران معلوفة، وعشرين ثورا، ومائة كبش، وكان له أربعون ألف أرى معلق عليها دوابه، وكان معجبا بالخيل، وقد قص الله من خبره فيها ما قص.
وابتدأ سليمان في بناء بيت المقدس، وقال: إن الله أمر أبي داود أن يبني بيتاً، وإن داود شغل بالحروب، فأوحى الله إليه أن ابنك سليمان يبني البيت باسمي، فأرسل سليمان في حمل خشب الصنوبر وخشب السرو، ثم بنى بيت المقدس بالحجارة، فأحكمه، ولبسه الخشب من داخل، وجعل الخشب منقوشاً، وجعل له هيكلاً مذهباً، وفيه آلة الذهب، ثم أصعد تابوت السكينة، فجعله في الهيكل، وكان في التابوت اللوحان اللذان وضعهما موسى.
ولما وضع سليمان تابوت السكينة قام بين يدي الهيكل، وقد اجتمعت جموع بني إسرائيل، فسبح الله وقدسه، وأثنى عليه بآلائه إذ ملكه على بني إسرائيل، وأجرى بناء بيت المقدس على يده، وكان يجتمع إليه بنو إسرائيل، ويقول: تبارك وتعالى الرب الذي وهب الراحة لإسرائيل، وتمت كلماته الصالحة، فلم يسقط شيء منها مما قاله لعبده موسى، ونسأل الله ربنا أن يكون معنا كما كان مع آبائنا، ولا يرفضنا، ولا يخذلنا، بل يقبل بقلوبنا إليه لنسلك الطريق التي يرضاها، ونحفظ سننه، وعهوده، ووصاياه، وأحكامه التي أمر آباءنا بها، ويجعل قولنا قريباً منه، ورضيا عنده، وقلوبنا سالمة له، حافظة لأمره.
ولما فرغ سليمان من بناء بيت المقدس عمل عيداً، وقرب فيه الذبائح فأقام أربعة عشر يوما يفعل ذلك، وقد جمع إليه بني إسرائيل، فإذا فرغ من إطعامهم قام، فقدس الله، وسبحه، فلما فرغ أوحى الله إليه: أني قد سمعت صلاتك، ورأيت قربانك، فإن دمت على طاعتي وصلت لك ملكك ولولدك بعدك، فقدست هذا البيت آخر الدهر، وإن حدتم عن أمري، أو نقض أحد منكم عهودي سلبته ملكه، وخربت هذا البيت إلى آخر الأبد.
وقدمت بلقيس ملكة سبإ على سليمان، وكان من أمرها ما قد قصة الله في كتابه العزيز، ولما قدمت عليه جاءته بجمال موقرة ذهبا وعنبرا، وقالت له، لقد بلغني من أمرك ما لم أصدق به حتى رأيته، ثم انصرفت إلى بلدها.
وكان سليمان معجباً بالنساء، فتزوج، فيما يقال، سبعمائة امرأة، فيهن بنت فرعون ملك مصر، وعدة من نساء بني عمون، وعدة من نساء أهل مؤاب جبابرة الشام، ومن أدوم، ومن الجثانيين، وهم الصيدانيون، ومن الشعوب التي قد كان الله نهى عن مخالطتهم، وكان له سبعمائة، واتخذت امرأة من نساء سليمان تمثالاً على صورة أبيها، فلما رأى ذلك غيرها من نسائه فعلن كفعلها، فعاتب الله سليمان، وقال له: تعبد الأصنام في بيتك، ولا تغضبك، لأسلبنك ملكك، ولأنزعن العز من يدك، ولأفرقن الأسباط من ولدك، ولكني أحفظ أباك داود فيك، فلا أسلبك الملك بقية عمرك، ولا أسلب جميع الأسباط، ولكني أدع في يدك سبطين لئلا يذهب ذكرك.
وإن سليمان لجالس على كرسيه المعمول من الذهب، المكلل بالجوهر، إذ انتزع خاتمه من يده، فأخذه شيطان، من الشياطين فوضعه في يده، ونحي سليمان عن كرسيه، وجلس عليه الشيطان، ونزع ثياب سليمان ولبسها، فمر سليمان على وجهه وعليه جبة صوف، وفي يده قصبة، فكان يستطعم، ويقول: أنا ملك بني إسرائيل، سلبني الله ملكي، فيسخر منه من يسمعه، وينكرون قوله، فكان يقف على الصيادين الذين على البحر، فيطلب منهم ما يطعمونه.
وأنكر آصف صاحب سليمان وغيره أمر ذلك الشيطان، ولم يروه يذكر الله، فهرب الشيطان، وطرح الخاتم في البحر، وأقام سليمان مسلوب الملك أربعين يوماً، فإنه بعد أن كملت له الأربعون يمشي على شط البحر حائراً، إذ قال له بعض الصيادين، تعال يا مجنون، فخذ هذا الحوت، فأعطاه حوتا قد تغيرت رائحته، فصار به إلى البحر، فغسله، و شق بطنه، وإذا في داخله حوت آخر، فشق بطن الحوت الآخر، فإذا خاتمه في جوفه، فلبسه، وحمد الله، ورد الله عليه ملكه.
وأقام ملكاً على بني إسرائيل، وعلى ما وصف الله، جل وعز، من ملكه، وتسخيره له الطير والجن و الإنس يعملون له أعاجيب الصنعة، ويشيدون له البنيان، ويطيعونه في كل أمره، أربعين سنة، ثم توفي، ودفن إلى جانب قبر داود، وكان لسليمان يوم ملك اثنتا عشرة سنة، فمات وله اثنتان وخمسون سنة.
رحبعم بن سليمان والملوك بعدهولما مات سليمان بن داود ملك رحبعم بن سليمان، فاجتمع إليه أسباط بني إسرائيل، و قالوا له: إن أباك قد كان غلظ علينا، واستعبدنا استعباداً شديداً، فخفف أنت الآن عنا! فقال لهم رحبعم: انصرفوا عني اليوم وجيئوني بعد ثلاثة أيام، فانصرفوا عنه، فاستشار المشيخة من أصحاب أبيه، فقال: ما ترون؟ قالوا: نرى أن تحسن إجابة بني إسرائيل، وتلين لهم القول، حتى تملكهم بعد اليوم، فترك قول مشيخة بني إسرائيل، واستشار أحداثاً نشئوا معه، فقالوا له: نرى أن تغلظ القول لهم ليستقيم لك أمرهم، كما استقام لأبيك.
فلما كان اليوم الثالث اجتمعوا إليه ليسألوه عما ذكروا له، فقال لهم: إن خنصري أثقل من إبهام أبي. فلما قال لهم هذا انصرفوا عنه، وتفرقوا في قراهم، فلم يبق معه من أسباط بني إسرائيل إلا سبط يهوذا وسبط بنيامين.
وملكت الأسباط العشرة عليهم يوربعم بن ناباط، وكان قد هرب من سليمان إلى مصر، فلما اختلفت بنو إسرائيل على رحبعم بن سليمان قدم، وجمع رحبعم ابن سليمان من سبط يهوذا، وسبط بنيامين، ألف رجل يطلب محاربة يوربعم ابن ناباط ومن معه.
وأوحى الله إلى سمعيا النبي أن قل لرحبعم ومن معه: لا تحاربوا بني إسرائيل! فسمعوا قوله، وانصرفوا، وكان ملك رحبعم سبع عشرة سنة.
وملك يوربعم بن ناباط على العشرة الأسباط من جبل فاران، فقالت بنو إسرائيل: إنا نريد أن نقرب قرابيننا إلى الله، فكره يوربعم أن يصعدوا إلى بيت المقدس، فيستميلهم آل يهوذا، فيدخلوا في ملكهم، فقال ليست بكم حاجة إلى الصعود، وأنا أعمل لكم مذبحاً، فعمل لهم مذبحاً، وصير فيه عجلاً من ذهب، وقال: هذه آلهتكم التي أصعدتكم من أرض مصر، واتخذ للعجل أحباراً، وعمل عيداً، وقرب الذبائح للعجل، فأتاه نبي بني إسرائيل، فوعظه، فمد يده إليه فيبست، فقال له: ادع الله أن يرد يدي! فدعا له النبي، فرجعت يد يوربعم، وأقام يوربعم على طريقة لم يرجع عنها، وأهلك الله يوربعم، وكل من كان معه، وقتله ودمر عليه، وكان ملكه عشرين سنة.
ثم ملك إبيام بن رحبعم، فسلك سبيل أبيه، وأظهر الفواحش، وارتكب القبيح، فبتر الله عمره، وكان ملكه ثلاث سنين، ثم ملك اسا، فأظهر العمل بطاعة الله تعالى، ومنع الزنا، وعاقب عليه وعلى الريب، وأخرج من كان يعبد الأصنام من مملكته، حتى طرد أمه لما بلغه أنها تعبد الأصنام.
وفي زمانه صار زارح ملك الحبشة، وأقبل ملك الهند إلى بيت المقدس، فبعث الله عذاباً، فأهلك زارح وملك الهند، وكان ملك اسا أربعين سنة، ويقال إن بني إسرائيل أوقدوا من خشب أسلحة أصحاب الهند، لما قتلهم اسا، سبع سنين.
ثم ملك بعده ابنه يهوشافط، فسلك سبيل أبيه، وكان ناسكاً صديقاً، فملك العشرة الأسباط، وكان مرضياً في جميع بني إسرائيل، وكان ملكه خمساً وعشرين سنة.
ثم ملك بعده يورام ابنه، فكفر، ورجع قومه إلى عبادة الأصنام، وتزوج امرأة أطغته وأضلته، وكان ملكه أربعين سنة، ثم ملك أحزيا، بعد أبيه، فسلك سبيله، وكان العشرة الأسباط قد اعتزلت، وملكت منهم ملكاً يقال له يهو، فحارب أحزيا، حتى قتل من قومه مقتلة عظيمة، ثم سلط الله عليهم ملك سورية، ففعل بهم مثل ذلك، وكان ملك أحزيا سنة واحدة.
ثم ملكت عتلايا بنت عمري، فقتلت ولد داود، حتى لم يبق من نسل داود أحد إلا غلام يقال له يواش، وأخذته امرأة من بني عمه، يقال لها يوشبع عمته وكان يرضع.
وأفسدت عتلايا، وأظهرت الفواحش، وأفسدت البلاد، واجتمعت بنو إسرائيل إلى يويدع الأحباري، فاشتكوا إليه الذي تفعل بهم، فاجتمعوا، فقتلوها، وكان ملكها سبع سنين.
وملك بعد عتلايا الغلام الذي كان بقي من بني داود، وهو يواش، وكان يوم ملك له سبع سنين، فصلحت أمور بني إسرائيل، وظهر فيهم العدل، وارتفعت الفواحش، وتركوا عبادة الأصنام، ثم ظلم في آخر عمره، واستعمل القتل، حتى قتل أولاد الأحبار، وقتل ولد يويدع الأحباري الذي ملكه، ثم مات وكان ملكه أربعين سنة، وهدم من سور بيت المقدس أربعين ذراعاً، وانتهب كل ما كان فيه.
ثم ملك بعده أمصيا، وكان يشبه مذهب يواش في أول أمره، ثم ظلم وجار، وكان ملكه سبعاً وعشرين سنة.
ثم ملك عزيا بن أمصيا، وكان في زمانه أشعيا النبي، فأحسن عبادة الله، والعمل بطاعته، غير أنه أخذ المجمر ودخل الهيكل، ولم يكن ذلك يصلح لأحد إلا للأحبار، فعاقبه الله فبرص، وعاقب أشعيا النبي لأنه لم ينهه عن ذلك، فنزع الله منه النبوة، حتى مات عزيا، وكان ملكه اثنتين وخمسين سنة.
ثم ملك يوتام لما برص أبوه، وكان ملكه ست عشرة سنة.
ثم ملك احاز ابنه، فكفر، فعبد الأصنام فسلط الله عليه تغلتفلسر ملك بابل، فسباه، واستعبده، وضرب عليه الجزية، وأخرب مدينة العشرة الأسباط بفلسطين، وهي سبسطية، وسبى أهلها، فدخل بهم إلى أرض بابل، ثم أرسل إلى المدينة قوماً من قبله، فعمروها وبنوها، فهم الذين يدعون السامرة بفلسطين والأردن، فلما سكنوها سلط الله عليهم الأسد، ثم بعث إليهم رجلاً من أحبار بني إسرائيل، من ولد هارون، يعلمهم دين بني إسرائيل، فلما دخلوا في دينهم تركهم الأسد، وصاروا سامرة فقالوا: لا نؤمن بنبي إلا بموسى، ولا نعرف إلا ما في التوراة، وجحدوا نبوة داود، وأنكروا البعث والنشور، وامتنعوا من مجالسة الناس والاختلاط بهم، ومن تناول شيء منهم، ومن حمل الموتى، ومن حمل ميتاً اعتزل سبعة أيام، يعتزل في الصحراء لا يختلط بهم، ثم يغتسل، وكذلك من تناول شيئاً لا يحل له، ولا يؤوون الحائض منازلهم، وجعلوا رئيسهم من ولد هارون يسمونه الرئيس، ويتوارثون على التوراة، فليس هم في بقعة من بقاع الأرض إلا بجند فلسطين، وكان ملك احاز ست عشرة سنة.
ثم ملك بعد احاز حزقيل ابنه، فأحسن عبادة الله تعالى، وكسر الأصنام، وهدم بيوتها، وكان في زمانه سنحاريب بن سراطم ملك بابل، فسار إلى بيت المقدس، فسبى بقية الأسباط، فرشاه حزقيل بثلاثمائة قنطار فضة، وثلاثين قنطار ذهب، على أن ينصرف، فأخذها، ثم غدر، فلما فعل ذلك دعا الله أشعيا النبي وحزقيل على سنحاريب، فأجاب الله دعاءهما، فسلط الله على أصحاب سنحاريب القتل، فقتل منهم في ساعة واحدة مائة ألف وخمسة وثمانين ألفاً، فرجع سنحاريب مهزوماً، حتى صار إلى بابل، وقتله ولده شر قتله. وأمر الله سبحانه أشعيا النبي أن يعلم حزقيل أنه ميت، فليوص، فلما أعلمه الله ذلك دعا الله أن يزيد في حياته، حتى يهب له ولدا يملك بعده، فزاد الله في حياته خمس عشرة سنة، حتى ولد له ولد.
وفي أيام حزقيل رجعت الشمس نحو مطلعها خمس درجات، وكان ملك حزقيل سبعاً وعشرين سنة.
ثم ملك بعد حزقيل منشا بن حزقيل، فكفرت بنو إسرائيل في أيامه، وكفر، وعبد الأصنام، و كان شر ملك في بني إسرائيل، وبنى للأصنام مسجداً، واتخذ صنماً له أربعة أوجه، فنهاه أشعيا، فأمر به فنشر بالمنشار من رأسه إلى رجليه، فسلط الله على منشا قسطنطين ملك الروم، فحاربه، وأسره، فأقام في الأسر، زماناً ثم تاب إلى ربه، فرده الله إلى ملكه، فكسر الصنم، وهدم بيوت الأصنام، وكان ملكه خمساً وخمسين سنة، وأيام أسره عشرين سنة.
ثم ملك أمون بن منشا، فأعاد الأصنام حتى كثرت، وكان ملكه ست عشرة سنة.
ثم ملك بعده يوشيا ابنه، فأحسن عبادة الله، وكسر الأصنام، وهدم بيوتها، وقتل سدنتها، وأحرقهم، وكان في العدل وحسن عبادة الله تعالى وجميل مذهبه يشبه داود وسليمان، وكان ملكه ثلاثين سنة.
ثم ملك يهواخز ابنه ثلاثة أشهر، ثم أسره فرعون الأعرج ملك مصر، ووضع على بلاده الخراج، وصير عليها ملكاً من قبله، وأخذ يهواخز، فذهب به إلى مصر فمات هناك.
ثم ملك بعده يويقيم أخوه، وهو أبو دانيال النبي، وفي عصره سار بخت نصر ملك بابل إلى بيت المقدس، فقتل في بني إسرائيل، وسباهم، وحملهم إلى أرض بابل، ثم صار إلى أرض مصر، فقتل فرعون الأعرج ملكها. وأخذ بخت نصر التوراة، وما كان في الهيكل من كتب الأنبياء، فصيرها في بئر وطرح عليها النار، وكبسها، وكان في ذلك العصر إرميا النبي، فلما علم بقدوم بخت نصر، أخذ تابوت السكينة، فخبأه في مغارة حيث لم يعلم به أحد، ولم ينج من بخت نصر إلا إرميا.
وكان عدة من حمل بخت نصر إلى أرض بابل ثمانية عشر ألفاً، فيهم ألف نبي، وملكهم يحنيا بن يهوياقيم، فمنهم اليهود الذين بالعراق، ويقال إن إرميا النبي قال: اللهم! إني لأعلم من عدلك ما لا يعلمه غيري، فعلام سلطت بخت نصر على بني إسرائيل؟ فأوحى الله إليه: أني إنما أنتقم من عبادي، إذا عصوني، بشرار خلقي.
ولم يزل بنو إسرائيل في الأسر تحت يد بخت نصر حتى تزوج امرأة منهم يقال لها ملحات أخت زربابل، بنت سلتائيل، فسألته أن يرد قومها إلى بلدهم، فلما رجع بنو إسرائيل إلى بلدهم ملكوا عليهم زربابل بن سلتائيل، فبنى مدينة بيت المقدس، وبني الهيكل، وأقام على بنائه ستاً وأربعين سنة، وفي زمانه مسخ الله بخت نصر بهيمة أنثى، فلم يزل ينتقل في أجناس البهائم سبع سنين، ثم يقال إنه تاب إلى الله، عز وجل، فأحياه بشراً، ثم مات.
وكان زربابل الذي أخرج التوراة وكتب الأنبياء من البئر التي دفنها فيها بخت نصر، فوجدها بحالها لم تحترق، فأعاد نسخ التوراة و كتب الأنبياء وسننهم وشرائعهم، وكان أول من رسم هذه الكتب.
وكانت شريعة بني إسرائيل توحيد الله، والإقرار بنبوة موسى وهارون ابني عمران بن قاهث بن لاوي بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم خليل الله، وكان صيامهم في كل سنة ستة أيام أولها في رأس السنة، وهم يعدون رأس السنة أول يوم من تشرين، فإذا مضى من تشرين عشرة أيام صاموا يوما واحدا، وهو اليوم الذي نزلت فيه الألواح الثانية على موسى بن عمران. ويصومون لعشر خلون من كانون الآخر يوماً واحداً، وهو يوم نجى الله بني إسرائيل من هامان.
ويصومون لسبعة عشر يوماً من تموز يوماً واحداً، وهو اليوم الذي نزل فيه موسى من الطور. ويصومون لتسعة أيام من آب يوماً واحداً، وهو اليوم الذي كان فيه خراب بيت المقدس.
ويصومون لثلاثة أيام من تشرين، وهو الذي قتل فيه قدريا بن أخيقام.
ولهم أربعة أعياد في السنة: عيد الفطير، وهو اليوم الذي خرج فيه موسى ببني إسرائيل من مصر، فحملوا عجينهم، ولم يختمر، فأكلوه فطيراً، وهو لخمسة عشر يوماً من نيسان، وأيامه سبعة أيام، ثم عيد لستة عشر يوماً يمضي من حزيران، وهو يوم أنزلت التوراة على موسى، فذلك يوم عيد عندهم معظم، ثم عيد أول يوم من تشرين، وهو رأس السنة عندهم، ثم عيد في خمسة عشر يوماً من تشرين، وهو عيد المظلة، ومعناها أن الله، عز وجل، أمر موسى أن يأمر بني إسرائيل أن يبنوا عريشا بالسعف والجريد، فهم يقيمون ثمانية أيام يتخذون في كنائسهم ظلالات من السعف والجريد.
و صلواتهم ثلاث صلوات: صلاة بالغداة، وصلاة عند غروب الشمس، وصلاة بعد الغروب، فإذا وقف أحدهم للصلاة جمع عقبيه، وجعل يده اليمنى على كتفه اليسرى، ويده اليسرى على كتفه اليمنى، وهو مطرق، يركع خمس ركعات لا يسجد فيهن، ثم يسجد في الآخرة سجدة واحدة، ويسبح بمزامير داود في أول الصلوات، ويقرأ في صلاة المغيب من التوراة، ومعتمدهم في سننهم وشرائعهم على كتب علمائهم، و هي الكتب التي يقال لها بالعبرانية، وهي اللغة التي صارت لهم لما عبروا البحر.
وسنتهم في مناكحهم ألا يتزوجوا إلا بولي وشاهدين، وأقل مهورهم للبكر مائتا درهم، وللثيب مائة درهم بهذا الوزن لا يكون أقل منه، والطلاق مباح متى كرهوا، ولا يكون إلا بشهود. وسنتهم في ذبائحهم ألا يأكلوا ما ذبحه غيرهم، وأن يكون الذي يتولى الذبائح عالماً بالشرائع، ثم يأتي بالسكين كلما أراد أن يذبح بها، إلى الكاهن، فإذا رضي حدها أطلق له الذبح بها، و إلا أمره أن يحدها، أو يأتي بغيرها، فإذا ذبح لم يقربها من حائط تضطرب عليه، فإذا فرغ منها نظر إلى الحلقوم، فإن وجده لم يرغ الغلصمة، ووجد الذبح مستوياً لم يؤكل حتى ينظر إلى الرئة، فإن وجد بها عيبا، أو علة، أو شقا، أو بثرة، أو ورماً، لم تؤكل الذبيحة، فإن سلمت الرئة نظر إلى الدماغ، فإن وجد فيه علة لم تؤكل، وإن سلم الدماغ نظر إلى القلب، فإن وجد فيه علة لم يأكله، وإن سلم ما في البطون والثرب من الشحم، فلا يأكله، ولا العروق، وأكل ما سوى ذلك.
وتاريخهم على حسابهم، من خراب بيت المقدس، فعلى هذا يحسبون، ولا بد لهم في كل يوم أن يذكروا اليوم الذي خرب فيه بيت المقدس، وكم له إلى يومه ذلك.
المسيح عيسى بن مريم وكانت حنة امرأة عمران قد نذرت إن وهب الله لها ولداً أن تجعله، لله فلما ولدت مريم دفعتها إلى زكرياء بن برخيا بن بشوا بن نحرائيل بن سهلون بن أرسوا بن شويل بن بعود بن
موسى بن عمران، وكان كاهن المذبح، فلم يزل، كذلك حتى إذا كملت سبع عشرة سنة بعث الله إليها الملك ليهب لها ولدا زكيا، فكان من خبرها ما قد قصة الله، عز وجل، حتى اشتملت على الحمل، فلما كملت أيامها طرقها المخاض، على ما قال الله، عز وجل، ووصف من حالها وحاله، وكلامه من تحتها، وكلامه في المهد.
وكان مولده بقرية يقال لها بيت لحم من قرى فلسطين، وكان ذلك يوم الثلاثاء لأربعة وعشرين يوما خلت من كانون الأول.
قال ما شاء الله المنجم: كان الطالع للسنة التي ولد فيها المسيح في الميزان ثماني عشرة درجة، والمشتري في السنبلة إحدى وثلاثين دقيقة راجعاً، وزحل في الجدي ست عشرة درجة و ثمانياً وعشرين دقيقة، والشمس في الحمل دقيقة، والزهرة في الثور أربع عشرة درجة، والمريخ في الجوزاء إحدى وعشرين درجة وأربعا وأربعين دقيقة، و عطارد في الحمل أربع درجات وسبع عشرة دقيقة.
وأما أصحاب الإنجيل فلا يقولون إنه تكلم في المهد، ويقولون: إن مريم كانت مسماة برجل يقال له يوسف من ولد داود، وإنها حملت فلما قرب وضع حملها سار بها إلى بيت لحم، فلما ولدت ردها إلى ناصرة من جبل الجليل، فلما كان في اليوم الثامن ختنه على سنة موسى بن عمران، وقد وصف الحواريون أخبار المسيح، وذكروا حاله، فأثبتنا مقالة واحد واحد منهم، وما وصفوه به، وكان الحواريون اثني عشر من أسباط يعقوب وهم: شمعون بن كنعان من سبط، ويعقوب بن زبدي، ويحيى بن حابر بن فالي من سبط زبلون، وفيلفوس من سبط اشر، ومتى من سبط أشجر بن يعقوب، وسمعي من سبط هرام بن يعقوب، ويهودا من سبط يهوذا بن يعقوب، ويعقوب من سبط يوسف بن يعقوب، ومنسي من سبط روبيل بن يعقوب، وكان دون هؤلاء سبعون رجلاً، وكان الأربعة الذين كتبوا الإنجيل: متى ومرقس ولوقا ويوحنا، اثنان من هؤلاء الاثني عشر، واثنان من غيرهم.
فأما متى فإنه قال في الإنجيل في نسب المسيح إيسوع بن داود بن إبراهيم إلى أسفل، حتى انتهى إلى يوسف بن يعقوب بن ماثن بعد اثنين وأربعين أبا، ثم قال: وكان يوسف بعل مريم، وإن المسيح ولد في بيت لحم من قرى فلسطين، وملك فلسطين يومئذ هيرودس، وإن قوماً من المجوس ساروا إلى بيت لحم، وعلى رؤوسهم نجم يهتدون به، حتى رأوه، فسجدوا له، وإن هيرودس ملك فلسطين أراد أن يقتل المسيح، وإن يوسف أخرجه وأخرج أمه إلى أرض مصر، فلما مات هيرودس رده، فأنزله ناصرة جبل الجليل، وإنه لما كمل المسيح وبلغ تسعاً وعشرين سنة صار إلى يحيى بن زكرياء ليصطنعه، فقال له يحيى بن زكرياء: أنا أحوج إليك منك إلي! فقال له المسيح: اترك هذا القول، فإن هكذا ينبغي أن يتم البر، فتركه يحيى، وإن إيسوع خرج بتأييد روح الله إلى البرية فصام أربعين يوماً، فاقترب إليه الشيطان، فقال: إن كنت الآن ابن الله فمر هذه الحجارة أن تصير خبزا! فقال إيسوع: إنه ليس بالخبز وحده يحيا البشر، ولكن بكلمة الله، فحمله، فصيره على جناح الهيكل، ثم قال له الشيطان: فألق نفسك إلى الأرض، فإنك إن كنت ابن الله تكنفتك ملائكته. فقال المسيح: إنه مكتوب لا تجرب الله بك، ثم قال للشيطان: اذهب فأنا لله أسجد وإياه أعبد. فتركه الشيطان وذهب، ثم إن ملائكة الله، جل وعز، اقتربت منه، فجعلوا يخدمونه، ثم إن تلامذته اقتربوا إليه، فجعل يكلمهم بأمثال ووحي، و بغير أمثال. وكان أول ما تكلم به من الإنجيل، على ما في إنجيل متى: طوبى للمساكين القانعة قلوبهم بما عند ربهم، بحق أن لهم ملكوت السماء، طوبى للجياع العطاش في طاعة الله، طوبى للصادقين في قولهم، التاركين للكذب، الذين هم ملح الأرض ونور العالم. لا تقتلوا، وتسخطوا أحدا، وارضوا من سخط عليكم، وصالحوا خصمكم، ولا تزنوا، ولا تنظروا إلى غير نسائكم، فإن كانت عينكم اليمنى تدعوكم إلى الخيانة، فاقلعوها حتى تنجوا بأبدانكم، ولا تطلقوا نساءكم من غير زنية، ولا تحلفوا بالله صادقين ولا كاذبين، ولا بسمائه، ولا بأرضه، ولا تقاوموا الشر، ولكن من لطمك على عارضك الأيمن، فأقبل إليه بعارضك الأيسر، ومن أراد أن ينزع قميصك، فأعطه أيضا رداءك، ومن سخرك ميلا، فانطلق معه ميلين، ومن سألك فأعطه، ومن استقرضك فأقرضه ولا تحرمه.
قد سمعتم أنه قد قيل: أحبب قريبك وأبغض عدوك! أما أنا فإني أقول لكم: أحبوا أعداءكم وصلوا من قطعكم، وافعلوا الخير إلى من بغضكم. إن كنتم تحبون الذين يحبونكم فأي أجر لكم؟ لا تظهروا صدقاتكم بين أيدي البشر، لا تعلم شمائلكم بما عملت أيمانكم، لا تراؤوا الناس بصلاتكم، وإذا صليتم فادخلوا بيوتكم، وأغلقوا أبوابكم، ولا يسمعكم أحد، وإذا صليتم فقولوا: أبانا الذي في السموات يقدس اسمك، ويأتي ملكوتك، تكون مشيئتك كما في السماء وعلى الأرض، خبزنا كفافنا أعطنا اليوم، واترك لنا الذي علينا كمثل ما نترك نحن لغرمائنا، ولا تدخلنا في تجربة يا رب! ولكن نجنا من الشرير. ولا تظهروا صيامكم للبشر، إذا صمتم لله ربكم، و لا تغيروا وجوهكم ليراكم الناس، فإن ربكم يعلم بحالكم.
لا تدخروا الذخائر حيث السوس والأرضة الأكلة يفسدن، وحيث اللصوص يحفرون، ولكي تكون ذخائركم عند ربكم الذي في السماء حيث لا سوس يعدو، ولا لص يسرق.
ولا تهتموا بمعاشكم، ولا ما تأكلون، ولا ما تشربون، ولا ما تلبسون، وانظروا إلى طير السماء لا يزرعن، و لا يحصدن، ولا يجمعن في البيوت، فإن الله يرزقهن، وأنتم أكرم على الله من الطير.
لا تهتموا لأولادكم، فإنهم مثلكم كما خلقتم خلقوا، وكما رزقتم رزقوا.
ولا تقل لأخيك أخرج القذى من عينك، وفي عينك أنت جذع، لا تنظروا في عيوب الناس وتدعوا عيوبكم، لا تعطوا القدس ولا اللؤلؤ للخنازير، فتدوسه بأرجلها! سلوا ربكم يعطكم وابتغوا إليه، فإنكم تجدونه رحيماً بكم، واقرعوا بابه يفتح لكم، أما الباب فإنه معرض، والطريق بين، وهو يبلغ الناس التلف، وما أصغر الباب، وأضيق الطريق التي تبلغ الناس النجاة.
تحفظوا من أهل الكذب الذين يشبهون الذئاب الضارية، كما لا تستطيعون وتقطفون العنبة من الشوك، ولا التين من الحنظل، هكذا لا تجدون شجرة سوء تخرج نباتاً صالحاً، ولا شجرة صالحة تخرج ثمرة سوء.
كل من يسمع كلامي ثم يفهمه، فإنه يشبه رجلاً حليماً بنى بيته في مكان صلب شديد، فجاء المطر ودرت الأنهار، وارتفعت الرياح فسقط البيت.
وفي ذلك الزمان كان الملك هيرودس قد أخذ يوحنا فسجنه، وذلك أنه كان يأتي امرأة أخيه فيلفوس، فنهاه يوحنا أن يأتي ذلك، وكان يريد أن يقتله، ويتقي لأنهم كانوا يعظمون يوحنا، فقالت له امرأة أخيه: اقتل يوحنا! فوجه إلى السجن، فقطع رأس يوحنا ووضعه على طبق، واقترب تلاميذه، وأخذوا جثته فقبروها، وجاءوا المسيح فأخبروه، فخرج إلى أرض قفر، وجعل يأمر أصحابه: لا تخبروا أحداً.
إنجيل مرقس: فأما مرقس فإنه قال في أول إنجيله: إيسوع المسيح ابن الله، كما هو مكتوب في أشعيا النبي: أني مرسل ملاكي قدام وجهك لأصلح سبيلك، وإن يحيى بن زكرياء كان يعمد المعمودية للتوبة، وكان لباسه وبر الإبل، وكان يشد حقوته بغرفة من جلود، وإن المسيح جاءه من ناصرة الجليل يعمده في الأردن، فلما عمده خرجت روح القدس على الماء كالحمامة، وصوت من السماء ينادي، أنت ابني خليلي الذي بك سررت.
وانصرف إلى جبل الجليل، فإذا قوم يصطادون السمك، فيهم شمعون وأندراوس، فقال لهما: ألحقاني أجعلكما تصطادان البشر! فمضيا معه، فدخل قرية فأبرأ مرضاها وبرصها، وفتح أعين عميان بها، فاجتمع إليه قوم وجعل يكلمهم بأمثال ووحي، ويقول: بحق أقول لكم، لا تذهب القبيلة حتى يذهب السماء والأرض، وكلامي لا يذهب.
إنجيل لوقا فأما لوقا: فإنه يقول في أول الإنجيل: من أجل أن كثيراً من الناس أحبوا أن يكتبوا القصص والأمور التي عرفناها رأيته يحق على أن أكتب شيئاً علمته بحقه.
أنه كان في أيام هيرودس الملك كاهن يسمى زكرياء من خدام آل أبيا وامرأته من بنات هارون تسمى اليسبع، وكانا جميعاً بارين قدام الله، عاملين بوصاياه، غير مقصرين في طاعته، ولم يكن لهما ولد، وكانت اليسبع عاقراً، وزكرياء عاقراً قد كبرت سنهما، فبينا زكرياء يكهن الدخنة، فدخل الهيكل، وجماعة خارج الهيكل، فتراءى لزكرياء ملك الرب قائماً عن يمين
المذبح، فارتعد زكرياء حين أبصره، وحلت عليه الخشية، فقال له الملك: لا ترهبن يا زكرياء! فإن الله قد سمع صلواتك، وأجاب دعاءك، فيهب لك ابنا تسميه يحيى، ويكون لك فيه الخير والفرح، ويكون عظيماً عند الله، ولا يشرب خمراً، ولا سكراً، ويمتلىء من روح القدس، إذ هو في بطن أمه، ويقبل إلى الله بكثير من آل إسرائيل، ويحل عليه الروح الذي حل على الياء النبي ليقبل بقلوب الآباء على أبنائهم، ويكونوا لله شعباً كاملاً.
فقال زكرياء للملك: كيف لي أن أعلم هذا، وأنا شيخ، وامرأتي كبيرة السن؟ فقال له الملك: إني أنا جبريل القائم بين يدي الله، عز وجل، أرسلني لأبشرك بهذا، فمن الآن، فكن صامتاً لا تتكلم حتى اليوم الذي يكون فيه هذا لأنك لم تصدق، ولم تؤمن بقولي الذي يتم في حينه.
وكان الشعب قياماً ينتظرون زكرياء، ويتعجبون من لبثه في الهيكل، فلما أن خرج لم يقدر أن يكلمهم، فعرفوا، وأيقنوا أنه قد رأى رؤيا في الهيكل، فكان يومىء إليهم إيماء، ولا يتكلم. فلما تمت أيام خدمته انصرف إلى بيته، وحبلت اليسبع امرأته، وأقامت تخفي نفسها أشهراً خمسة، وتقول: هذا الذي صنع إلى الرب في أيام نظره إلي ليمحو عني عاري في البشر.
ولما كان في الشهر السادس من حمل امرأة زكرياء أرسل الله جبريل الملك إلى جبل الجليل إلى مدينة تدعى ناصرة، إلى فتاة عذراء مملكة برجل يسمى يوسف من آل داود، اسمها مريم، فدخل إليها الملك، وقال لها: السلام عليك أيتها المملوءة من النعمة، أيتها المباركة في النساء! فلما رأته فزعت من كلامه، وجعلت تفكر، وتقول: ما هذا السلام؟ فقال لها الملك: لا ترهبي يا مريم! قد لاقيت ووافيت عند الله نعمة، بحق أنك تقبلين حبلى، وتلدين ابنا، وسميه إيسوع، ويكون عظيما، وابن الأعلى يدعي، ويعطيه الرب إلهه كرسي داود أبيه، ويملك على آل يعقوب إلى الدهر، و لا يكون لملكه فناء، ولا انقطاع. فقالت مريم للملك: كيف يكون هذا، ولم يمسسني رجل؟ قال لها الملك: روح القدس يحل عليك، وهذا الذي يولد منك قدوس، وابن الله يدعى، وهذه اليسبع نسيبتك، فهي أيضاً حبلى بابن، على كبرها، وهذا الشهر هو السادس لتلك التي تدعى عاقراً، لأنه لا يعجز الله شيء! فقالت مريم: إني أمة الله، فليكن لي كما قلت.
ودخلت مريم إلى بيت زكرياء، وسألت عن سلامة اليسبع، فلما سمعت امرأة زكرياء كلام مريم ارتكض الجنين في بطنها، وامتلأت من روح القدس، قالت لمريم: مباركة أنت في النساء؟ بحق أنه لما وقع صوت سلامك في مسمعي، بفرح عظيم ارتكض الجنين في بطني.
وولدت اليسبع امرأة زكرياء ابناً، وختنوه يوم الثامن، وسموه يوحنا، ومن ساعته انفتح فوه، و تكلم وبرك الله تعالى، وامتلأ زكرياء من روح القدس، وقال: تبارك الرب إله إسرائيل، الذي أبلى شعبة، وأطلقهم بالخلاص، وأقام لنا قرن الخلاص من آل داود، كالذي تكلم على السنة أنبيائه الطاهرين.
ولما كملت لمريم أيامها صعد بها يوسف إلى جبل الجليل، فولدت ابنها البكر، فلفته في الخرق، وأضجعته في الأرى من أجل أنه لم يكن لها مكان حيث كانا نازلين فأتاهم ملك الرب، ومجد الله أشرق عليهم، فخافوه خوفا شديدا، وقال لهم ملك الرب: لا تخافوا، ولا تحزنوا! بحق إني أبشركم بفرح عظيم يعم العالم.
ثم نسب المسيح من يوسف إلى آدم، وإنه لما تمت له ثمانية أيام أتوا به ليختنوه، كسنة موسى، وسموه إيسوع، وختنوه، وأتوا به إلى الهيكل، وأتوا بذبيحة زوج يمام وفرخي حمام ليقرب عنه، وكان هناك رجل يقال له شمعان من الأنبياء، فلما دنوا من المذبح ليقربوا عنه احتمله شمعان، وقال: قد أبصرت عيناي حنانك، يا رب، فمن الآن فتوفني. وكان أهله يصعدونه في كل سنة إلى أورشليم في عيد الفصح، وكان يخدم العظماء، ويعجبون به لما يرون من حكمته. وإن المسيح لما كملت له ثلاثون سنة دخل إلى الهيكل يوم السبت، وقام ليقرأ كعادته، وأعطى سفر أشعيا النبي، ففتح السفر، فوجد فيه مكتوبا: روح الرب علي من أجل ذلك اصطفاني، ومسحني لأبشر المساكين، وأرسلني لأشفى المنكسرة قلوبهم، ولأبشر المسبيين بالخلاص، والعميان بالبصر، وإن أجبر المنكسر، وأبشر المسيء بالعفو والمغفرة، وإن أبشر بالسنة المتقبلة للرب، وطوى السفر ودفعه إلى الخادم، وتنحى، فجلس، فعجب الناس لفعله، وقالوا: أليس هذا ابن يوسف؟
إنجيل يوحنا: وأما يوحنا السليح، فإنه يقول في أول إنجيله في نسبة المسيح: قبل كل شيء كانت الكلمة، وتلك الكلمة عند الله، والله كان هو الكلمة، هذه كانت قبل كل شيء وكان بها، كانت الحياة، والحياة هو نور البشر، وذلك الضياء في الظلام، والظلام لم يدركه.
كان إنسان، كان أرسله الله، اسمه يوحنا، أتى للشهادة ليشهد على النور ليهتدي الناس، ويؤمنوا على يده، ولم يكن هو النور، فإن نور الحق لم يزل يضيء ويبين في العالم، والعالم كان في يده، والعالم لم يعرفه، إلى خاصته أتى وخاصته لم تقبله، فأما الذين قبلوه، وآمنوا به، فأعطاهم الله سلطاناً ليكونوا يدعون أبناء الله، أولئك الذين يؤمنون باسمه الذي لا من الدم، ولا هو من هوى اللحم، ولا من شهوة المرء ولد، ولكن من الله ولد، والكلمة صارت لحماً وحلت فينا، ورأينا مجدها مجداً كالوحيد الذي من الأب المملوء من النعمة والقسط.
ويوحنا شهد عليه ونادى وقال: هذا قلت إنه يأتي من بعدي: وقد كان قبلي من أجل أنه أقدم مني، ومن تمامه كلما نلنا نعمة فاضلة بدل النعمة الأولى، لأن التوراة على يد موسى أنزلت، فأما الحق والنعمة فبايسوع المسيح الكلمة التي لم تزل في حضن أبيها.
فهذا قول الأربعة التلاميذ، أصحاب الإنجيل، في نسبة المسيح، ثم وصفوا بعد ذلك ما كان من أخباره، وأنه أبرأ المرضى والبرص، وأقام المقعد، وفتح عيون العميان، وإنه كان له صاحب يقال له العازر في قرية تدعى بيت عنيا، في ناحية بيت المقدس، وإنه مات، فصير في مغارة، فأقام أربعة أيام، ثم جاء المسيح إلى تلك القرية، فخرجت أختان للعازر، فقالتا له: يا سيدنا إن خليلك العازر قد مات، فحزن المسيح عليه، و قال: أين قبره؟ فأتوا به إلى المغارة وعليها حجر، فقال: نحوا الحجر! فقالوا: قد نتن منذ أربعة أيام! فدنا من المغارة، فقال: رب لك الحمد! إني أعلم أنك تعطي كل شيء، ولكني أقول من أجل الجماعة الواقفة ليؤمنوا ويصدقوا إنك أنت أرسلتني، ثم قال للعازر: قم! فقام يجر خماراً عليه، ويداه و رجلاه مشدودة، وقد كان معهم قوم من اليهود، فأمنوا به وأقبلوا ينظرون إلى العازر ويتعجبون منه.
فاجتمع عظماء اليهود وأحبارهم، فقالوا: إنا نخاف أن يفسد علينا ديننا ويتبعه الناس، فقال لهم قيافاً، رئيس الكهنة: لأن يموت رجل واحد خير من أن يذهب الشعب بأسره! فأجمعوا على قتله.
ودخل المسيح إلى أورشليم على حمار، وتلقاه أصحابه بقلوب النخل، وكان يهوذا بن شمعان من أصحاب المسيح، فقال المسيح لأصحابه: إن بعضكم يسلمني ممن يأكل ويشرب معي، يعني يهوذا بن شمعان، ثم جعل يوصي أصحابه، ويقول لهم: قد بلغت الساعة التي يتحول ابن البشر إلى أبيه، وأنا أذهب إلى حيث لا يمكنكم أن تجيئوا معي، فاحفظوا وصيتي، فسيأتيكم الفارقليط يكون معكم نبياً، فإذا أتاكم الفارقليط بروح الحق والصدق، فهو الذي يشهد علي، وإنما كلمتكم بهذا كيما تذكروه إذا أتى حينه، فإني قد قلته لكم، فأما أنا فإني ذاهب إلى من أرسلني، فإذا ما أتى روح الحق يهديكم إلى الحق كله، وينبئكم بالأمور البعيدة، ويمدحني، وعن قليل لا تروني، ثم رفع المسيح عينه إلى السماء، وقال: حضرت الساعة! إني قد مجدتك في الأرض، والعمل الذي أمرتني أن أعمله فقد تممته، ثم قال: اللهم إن كان لا بد لي من شرب هذه الكأس، فهونها علي، وليس كما أريد يكون، ولكن ما تريد يا رب.
ثم مضى المسيح مع تلاميذه إلى المكان الذي يجتمع هو وأصحابه فيه، وكان يهوذا أحد الحواريين يعرف ذلك الموضع، فلما رأى الشرط يطلبون المسيح ساقهم والذين معهم من رسل الكهنة، حتى وقف بهم على الموضع، فخرج إليهم المسيح، فقال لهم: من تريدون؟ فقالوا: إيسوع الناصري! فقال لهم إيسوع: أنا هو! فرجعوا، ثم عادوا، فقال لهم المسيح: أنا إيسوع الناصري فإن كنتم تريدوني، فانطلقوا بي لتتم الكلمة.
وكان مع شمعان الصفا سيف فاخترطه، ثم ضرب عبد سيد الكهنة، فقطع يده اليمنى، فقال المسيح: يك شمعان! رد السيف إلى غمده، فإني لا أمتنع من شرب الكأس التي أعطاني ربي. فأخذ الشرط المسيح، وأوثقوه، وجاءوا به إلى قيافا رئيس اليهود، الذي كان أشار بقتله.
وكان شمعان الصفا يمشي خلفه، فدخل مع الأعوان، فقيل له: أنت من تلاميذ هذا الناصري؟ قال: لا! ولما أدخل المسيح على رئيس اليهود جعل يكلمه، والمسيح يجيبه بما لا يفهمه، فضربه بعض الشرط على فكيه، ثم أخرجوا المسيح من عند قيافا إلى فرطورين، فقال له: أنت ملك اليهود؟ فقال له المسيح: أمن نفسك قلت هذا أم أخبرك آخرون عني؟ وجعل يكلمه، ويقول: إن ملكي ليس من هذا العالم.
ثم إن الشرط أخذوا إكليلاً من أرجوان، فوضعوه على رأسه، وجعلوا يضربونه، ثم أخرجوه وعليه ذلك الإكليل، فقال له رؤساء الكهنة: أصلبه! فقال لهم فيلاطوس: خذوه أنتم فاصلبوه، فأما أنا، فلم أجد عليه علة! فقالوا: قد وجب عليه الصلب والقتل من أجل أنه قال: إنه ابن الله، ثم أخرجه، فقال لهم: خذوه أنتم فاصلبوه! فأخذوا المسيح، وأخرجوه، وحملوه الخشبة التي صلبوه عليها.
هذا في إنجيل يوحنا، فأما متى ومرقس ولوقا فيقولون: وضعوا الخشبة التي صلب عليها المسيح على عنق رجل قرنانى، وصاروا به إلى موضع يدعى الجمجمة، ويسمى بالعبرانية ايماخاله، وهو الموضع الذي صلب فيه، وصلب معه اثنان آخران: واحد من هذا الجانب، والآخر من هذا الجانب، وكتب فيلاطوس في لوح: هذا إيسوع الناصري، ملك اليهود، فقال له رؤساء الكهنة: اكتب الذي قال إنه ملك اليهود! فقال لهم: ما كتبت، وقد كتبت.
ثم إن الشرط اقتسموا ثياب المسيح، وكانت أمه مريم، ومريم بنت قلوفا، ومريم المجدلانية قياما ينظرن إليه، فكلم أمه من فوق الخشبة.
وجعل أولئك الشرط يأخذون إسفنجة فيها خل يقربونها إلى أنفه، فيتكرهها، ثم أسلم روحه، فجاءوا إلى ذينك المصلوبين معه، وكسروا سوقهما، وأخذ واحد من الشرط حربة، فطعنه في جنبه، فخرج دم وماء، ثم كلم فيه أحد التلاميذ لفيلاطوس، حتى أنزله، وأخذ حنوطاً من مر وصبر، ولفه في ثياب كتان وطيب، فكان في ذلك الموضع جنان، وفيه قبر جديد، فوضعوا المسيح فيه، وكان ذلك يوم الجمعة.
فلما كان يوم الأحد، فيما يقول النصارى، بكرت مريم المجدلانية إلى القبر، فلم تجده، فجاءت شمعان الصفا وأصحابه، فأخبرتهم أنه ليس في القبر، فمضوا فلم يجدوه، وجاءت مريم ثانية إلى القبر، فرأت في القبر رجلين عليهما ثياب بياض، فقالا لها: لا تبكي! ثم التفتت خلفها، فرأت المسيح، وكلمها وقال لها: لا تدنين إلي لأني لم أصعد إلى أبي، ولكن انطلقي إلى إخوتي وقولي لهم إني أصعد إلى أبي وأبيكم وإلهي وإلهكم، وإنه لما كان عشية الأحد جاءهم وقال لهم: السلام معكم! كما أرسلني أبي كذلك أرسلكم، وإن غفرتم ذنوب أحد، فهي مغفورة، فقالوا: هذا الذي يكلمنا روح وخيال، قال لهم: انظروا إلى آثار المسامير بإصبعي وإلى جانبي الأيمن، ثم قال لهم: طوبى للذين لم يروني وصدقوا بي.
وجاءوه بقطعة سمك، فأكل، وقال لهم: إن أنتم صدقتم بي، وفعلتم فعلي، يحق ألا تضعوا أيديكم على مريض إلا برىء، ولا يضره الموت، ثم ارتفع عنهم، وكان له ثلاث وثلاثون سنة.
هذا ما يقول أصحاب الإنجيل وهم يختلفون في كل المعاني، قال الله، عز وجل، ما قتلوه، وما صلبوه، ولكن شبه لهم، وإن الذين اختلفوا فيه لفي شك منه ما لهم به من علم إلا إتباع الظن، وما قتلوه يقينا بل رفعه الله إليه.
ولما رفع عيسى المسيح اجتمع الحواريون إلى أورشليم، في جبل طور الزيتون، وصاروا إلى عليه كان فيها بطرس، ويعقوب، ويوحنا، وأندراوس، وفيلبس، وتوما، وبرتلموس، ومتاوس، ويعقوب فقام شمعان على الحجر، فقال: يا معشر الإخوة! قد كان ينبغي أن يتم الكتاب الذي سبق فيه روح القدس، وأرادوا أن يجعلوا رجلاً يتم به الاثنا عشر، فقدموا متى وبرسبا، وقالوا: اللهم أظهر لنا من نختاره! فوقع على متى، فأصابتهم ريح شديدة، امتلأت الغرفة التي كانوا فيها، ورأوا مثل لسان النار، فتكلموا بالسن شتى، ثم قالوا لبطرس: ما ذا تصنع؟ فقال لهم بطرس: قوموا واعمدوا كل إنسان منكم باسم المسيح، وتنحوا عن هذه القبيلة المعوجة.
وأقام بطرس ويوحنا كلما دخلا الكنيسة ذكرا أمر المسيح، ووصفا فعله، ودعوا الناس إلى عبادته، فأنكر ذلك عليهم اليهود، وأخذوهم، فحبسوهم، ثم أطلقوهم، وقالوا: نختار سبعة رجال يقدسون الله، ويذكرون حكمته ومسيحه، فاختاروا إصطفانس، وفيلبس، وأبرحورس، ونيقانور، وطيمون، وبرمنا، ونيقولاوس الأنطاكي، وأقاموهم، فصلوا عليهم، وقدسوهم، فجعلوا يصفون أمر المسيح، ويدعون الناس إلى دينهم.
وكان بولس أشد الناس عليهم، وأعظمهم إيذاء لهم، وكان يقتل من يقدر عليه منهم، ويطلبهم في كل موضع، فخرج يريد دمشق ليجمع قوماً كانوا بها، فسمع صوتاً يناديه: يا بولس، كم تضطهدني! ففزع حتى لم يبصر، ثم جاءه حنانيا، فقدس عليه حتى انصرف، وبرأت عينه، فصار يقوم في الكنائس، فيذكر المسيح، ويقدسه، فأرادت اليهود قتله، فهرب منهم، وصار مع التلامذة يدعو الناس، ويتكلم بمثل ما يتكلمون به، ويظهر الزهد في الدنيا، والتقليل منها، حتى قدمه الحواريون جميعا على أنفسهم، وصيروه رأسهم.
وكان يقوم فيتكلم، ويذكر أمر بني إسرائيل والأنبياء، ويذكر حال المسيح، ويقول: ميلوا بنا إلى الأمم، كما قال الله للمسيح: إني وضعتك نوراً للأمم، فتصير إخلاصاً إلى أقطار الأرض، فتكلم كل رجل منهم برأيه، وقالوا: ينبغي أن يحتفظ بناموس، وأن يرسل إلى كل بلد من يدعو إلى هذا الدين، وينهاهم عن الذبائح للأوثان، وعن الزنا، وعن أكل الدم.
وخرج بولس ومعه رجلان إلى أنطاكية ليقيموا دين المعمودية، ثم رجع بولس، وأخذ، فحمل إلى ملك رومية فقام فتكلم، وذكر حال المسيح، فتحالف قوم على قتله لإفساده دينهم، وذكره المسيح وتقديسه عليه.
ملوك السريانيينوكان أول الملوك بعد الطوفان بأرض بابل ملوك السريانيين، فأول من ملك منهم، وعقد التاج على رأسه: شوسان، وكان ملكه ست عشرة سنة، ثم ملك بعده بوير ابنه عشرين سنة، ثم ملك اسماشير بن ألول سبع سنين، ثم ملك بعده عمرقيم ابنه عشر سنين، ثم ملك أهريمون ابنه عشر سنين، ثم ملك سمادان ابنه عشر سنين، ثم ملك سبير ابنه ثماني سنين، ثم ملك هريمون ثماني عشرة سنة، وملك ابنه هوريا اثنتين وعشرين سنة، ثم ملك أرود وحلحابيس كلاهما اثنتي عشرة سنة.
ملوك الموصل ونينوىوكان أول من ملك منهم بالوس اثنتين وثلاثين سنة، وملك نينوس بن بالوس اثنتين وخمسين سنة، وبنى مدينة نينوى، ثم ملكت امرأة يقال لها شميرم أربعين سنة، ثم ملك لاوسنسر خمساً وأربعين سنة، ثم ملك خمسة عشر ملكاً لا تاريخ لهم، ولا قصص.
ملوك بابلفكان أول ملوك بابل، بعد السريانيين، نمرود الجبار، فملك تسعاً وستين سنة، وملك كودس ثلاثاً وأربعين سنة، وملك أرقو عشر سنين، وملك بولس اثنتين وستين سنة، ثم ملك سميرم اثنتين وأربعين سنة، وملك قوسميس تسعاً وستين سنة، وملك أنيوس ثلاثين سنة، وملك ليلاوس اثنتي عشرة سنة، وملك اطلوس اثنتين وثلاثين سنة، و ملك سفردس ثلاثين سنة، ثم ملك حازم بودس ثلاثين سنة، ثم ملك سعالوس ثلاثين سنة، وملك سبطاس أربعين سنة، وملك اسنطرس أربعين سنة، وملك دمنوطوس خمساً وأربعين سنة، وملك العروس ثلاثين سنة، وملك المقرندوس اثنتين وخمسين سنة، وملك قاربوس ثلاثين سنة، وملك باباوس خمساً وأربعين سنة، وملك شرسبا أدوموس أربعين سنة، وملك دارافوس ثمانياً وثلاثين سنة، وملك لاوبس خمساً وأربعين سنة، وملك فطريس، ثلاثين سنة، وملك فرطاوس عشرين سنة، وملك افرطا ستين سنة، وملك قولا خمساً وثلاثين سنة، وملك بعنطس خمساً وثلاثين سنة، وملك اسبعلو سرفتم أربع عشرة سنة، وملك اسرعون سبع سنين، وملك قيم حدوم ثلاث سنين، وملك فردوح سبعاً وأربعين سنة، وملك سنحاريب إحدى و ثلاثين سنة، وملك معرساً ثلاثاً وثلاثين سنة، وملك بخت نصر خمساً وأربعين سنة، وملك فرمورج سنة واحدة، وملك سط سفر ستين سنة، وملك ماسوسا ثماني سنين، وملك معوسا سبعة أشهر، وملك داريوش إحدى وثلاثين سنة، وملك كسر حوش عشرين سنة، وملك فرطنان سبعة أشهر، وملك منحسمت إحدى وأربعين سنة، وملك سعلس سبعة أشهر، وملك داريوش، وهو الذي قتله الإسكندر، تسع عشرة سنة، وملك أرطحشاست سبعاً وعشرين سنة.
هؤلاء الملوك ملوك الدنيا، وهم الذين شيدوا البنيان، واتخذوا المدن، وعملوا الحصون، وشرفوا القصور، وحفروا الأنهار، وغرسوا الأشجار، واستنبطوا المياه، وأثاروا الأرضين، واستخرجوا المعادن، وضربوا الدنانير، وصاغوا وكللوا التيجان، وطبعوا السيوف، واتخذوا السلاح، وعملوا آلات الحديد، وصنعوا النحاس والرصاص، واتخذوا المكاييل والموازين، واختطوا البلدان، وقلموا الأقاليم، وأسروا الأعداء، واستعبدوا الأسراء، واتخذوا السجون، ووصفوا الأزمنة، وسموا الشهور، وتكلموا في الأفلاك والبروج والكواكب، وحسبوا، وقضوا بما يدل عليه الاجتماع والافتراق، والتثليث والتربيع، والمجاسدات.
ملوك الهندقال أهل العلم: إن أول ملوك الهند الذي اجتمعت عليه كلمتهم: برهمن الملك الذي في زمانه كان البدء الأول، وهو أول من تكلم في النجوم، وأخذ عنه علمها، والكتاب الأول، الذي تسميه الهند: السند هند، وتفسيره دهر الدهور، ومنه اختصر الأرجبهر والمجسطي، ثم اختصروا من الأرجبهر الأركند، ومن المجسطي كتاب بطليموس، ثم عملوا من ذلك المختصرات والزيجات وما أشبهها من الحساب، ووضع التسعة الأحرف الهندية التي يخرج منها جميع الحساب والتي لا تدرك معرفتها، وهي 1 2 3 4 5 6 7 8 9، فالأول منها واحد، وهو عشرة ومائة، وهو ألف، وهو مائة ألف ، وهو ألف ألف، وهو عشرة آلاف ألف، وهو مائة ألف ألف، وعلى هذا الحساب أبدا فصاعدا، والثاني، وهو اثنان، وهو عشرون، وهو مائتان، وهو ألفان، وهو عشرون ألفاً، وهو مائتا ألف، وهو ألفا ألف، وعلى هذا الحساب يجري التسعة الأحرف، فصاعدا، غير أن بيت الواحد معروف من العشرة، وكذلك بيت العشرة معروف من المائة، وكذلك كل بيت، وإذا خلا بيت منها يجعل فيه صفر، ويكون الصفر داره صغيرة.
وجعلوا الدنيا سبعة أقاليم: فالإقليم الأول الهند، وحده مما يلي المشرق: البحر، وناحية الصين إلى الديبل مما يلي أرض العراق، إلى خليج البحر مما يلي أرض الهند، إلى أرض الحجاز.
والإقليم الثاني: الحجاز، حده: هذا الخليج إلى عدن إلى أرض الحبشة مما يلي أرض مصر، إلى الثعلبية مما يلي أرض العراق.
والإقليم الثالث: مصر، حده: مما يلي أرض الحبشة إلى أرض الحجاز، إلى البحر الأخضر مما يلي الجنوب، إلى المغرب، إلى الخليج الذي يلي الروم، إلى نصيبين مما يلي أرض العراق.
والإقليم الرابع: وهو العراق، حده مما يلي الهند: الديبل، ومما يلي الحجاز: الثعلبية، ومما يلي أرض مصر والروم: نصيبين، ومما يلي أرض خراسان: نهر بلخ.
والإقليم الخامس: الروم، حده مما يلي أرض مصر: الخليج، ومما يلي المغرب: البحر، ومما يلي الترك: يأجوج ومأجوج، ومما يلي أرض العراق: نصيبين.
والإقليم السادس: يأجوج ومأجوج، حده مما يلي أرض المغرب: الترك، ومما يلي الخزر: البحر، ومفاوز بينه وبين بحور الشمال، ومما يلي المشرق: أرض نصيبين، ومما يلي خراسان: نهر بلخ.
والإقليم السابع: الصين، حده مما يلي المغرب: يأجوج ومأجوج، ومما يلي المشرق: البحر، ومما يلي الهند: أرض قشمير، ومما يلي خراسان: نهر بلخ، وقالوا كل إقليم من هذه الأقاليم يسع مائة فرسخ في مثلها.
وذكروا أن قطر الأرض ألفان ومائة فرسخ، ومدها ستة آلاف وثلاثمائة فرسخ، وانهم قدروا هذا الفرسخ على ستة عشر ألف ذراع. وذكروا أن الذراع الذي يحيط بأسفل دائرة النجوم، وهو فلك القمر، مائة ألف فرسخ وخمسة وعشرون ألفا وستمائة وأربعة وستون فرسخاً، وأن قطرة من حد رأس الحمل إلى حد رأس الميزان أربعون ألف فرسخ، بتقدير هذه الفراسخ التي قدروا بها الأرض فساعات طول النهار في الإقليم الأول: ثلاث عشرة ساعة، وفي الثاني: ثلاث عشرة ساعة ونصف، وفي الثالث: أربع عشرة ساعة، وفي الرابع: أربع عشرة ساعة ونصف، وفي الخامس: خمس عشرة ساعة، وفي السادس: خمس عشرة ساعة ونصف، وفي السابع: ست عشرة ساعة.
و كل مدينة كانت في مقادير طول نهارها في هذا القدر، فهي متوسطة الإقليم الذي هي فيه، وما كان فيما بين هذه الأقدار، فهي من الإقليم الذي هي إليه أقرب في مقدار الساعات، فصار وسط الإقليم الأول، على مسيرة نحو من ثلاثين ليلة من خط الاستواء، بأرض اليمن مدينة سبإ وما والاها إلى المشرق والمغرب، وذلك، فيما دون عدن، أبين بقدر عشرة أيام، ووسط الإقليم الثاني مكة وما والاها من المشرق إلى المغرب، ووسط الإقليم الثالث الإسكندرية وما والاها من ناحية الكوفة والبصرة من المشرق والمغرب، ووسط الإقليم الرابع أصفهان وما والاها مما هو في مثل عرضها من المشرق إلى المغرب، ووسط الإقليم الخامس في أداني أرض مرو وما والاها مما هو في مثل عرضها من المشرق إلى المغرب، ووسط الإقليم السادس برذعة وما والاها مما هو في مثل عرضها ما بين المشرق إلى المغرب، ووسط الإقليم السابع بجبال الترك وما والاها مما هو في مثل عرضها مما بين المشرق والمغرب.
وقالت الهند إن الله، عز وجل، خلق الكواكب في أول دقيقة من الحمل، وهو أول يوم من الدنيا، ثم سيرها من ذلك الموضع في أسرع من طرفة العين، فجعل لكل كوكب منها سيراً معلوماً حتى يوافي جميعها، في عدة أيام السند هند، إلى ذلك الموضع الذي خلقت فيه كما كانت كهيئتها الأولى، ثم يقضي الله، تبارك وتعالى، ما أحب، فقالوا: إن جميع أيام الدنيا من السند هند، منذ أول ما دارت الكواكب إلى أن تجتمع جميعاً في دقيقة الحمل، كما كانت يوم خلقت: ألف ألف ألف ألف، وخمسمائة ألف ألف ألف، وسبعة وسبعون ألف ألف ألف، وسبعمائة ألف ألف، وستة عشر ألف ألف، وأربعمائة ألف، وخمسون ألف يوم، يكون ذلك شهوراً ستين ألف ألف ألف، وثماني مائة ألف ألف، وأربعين ألف ألف شهر، ويكون من السنين أربعة آلاف ألف ألف، وثلاثمائة ألف ألف، وعشرين ألف ألف سنة كاملة بسني الشمس على مدارها، والسنة ثلاثمائة وخمسة وستون يوماً وربع يوم و خمس ساعات، وجزء من أربعمائة جزء من ساعة.
ثم اضطرب أمر الملك بالهند، فأقام زماناً طويلاً وهو ممالك مفترقة في البلاد، لكل طائفة مملكة، حتى غزتهم الملوك فخافوا أن يدخل عليهم الوهن، وكانوا أهل حكمة ومعرفة وعقول، مجاوزين بها مقدار غيرهم من الأمم فأجمعوا على تمليك رجل واحد، فملكوا زارح، وكان عظيم الشأن، جليل القدر، فعظم ملكه، و جل سلطانه، حتى سار إلى أرض بابل، ثم تجاوزها إلى ملوك بني إسرائيل، وهو الذي غزا بني إسرائيل، بعد أن مات سليمان ابن داود بعشرين سنة، وملك إسرائيل يومئذ رحبعم بن سليمان، فضجت بنو إسرائيل إلى الله تعالى، فسلط الله على زارح وجيشه الموت، فانصرف إلى بلاده.
ومن ملوكهم فور، وهو الذي غزا بلاده الإسكندر لما قتل ملك الفرس، وغلب على أرض العراق وما والاها مما كان في مملكة داريوش، وذلك أنه كتب إليه يأمره بالدخول في طاعته، وكتب إليه فور أنه يزحف إليه بالجيوش، بدر الإسكندر، فصار إلى بلاده، وخرج إليه فور، فحاربه، وأخرج فور الفيلة وكان العلو على الإسكندر، فكانت لا يقف لها شيء، فعمل الإسكندر تماثيل من نحاس، ثم حشاها بالنفط والكبريت، وأشعل النار في داخلها، ثم صيرها على عجل، وألبسها السلاح، ثم قدمها أمام الصفوف، فلما تلاقوا دفعتها الرجال إلى الفيلة، فلما قربت حملت عليها الفيلة بخراطيمها، فكانت تلف الخراطيم على ذلك النحاس وهو يلهب فتشتوي، وتنصرف منهزمة، فتفل كراديس الهند، وتهلكهم، ثم دعا الإسكندر فور ملك الهند إلى أن يبارزه، فبرز له، فقتله الإسكندر مبارزة بعدله، واستباح عسكره.
ومن ملوكهم كيهن، وكان رجلا حكيما، ذكيا، أديبا، فملكه الإسكندر بعد فور على جميع أرض الهند، وكان كيهن قد استعمل الفكر، فكان أول من قال بالتوهم، وإن الطبيعة تنصرف إلى ما تتوهمه، فما توهمت أنه ينفعها نفعها وإن كان ضاراً، وكان كيهن يأكل البيش، وهو السم القاتل، ثم يتوهم أن على قلبه أحمال ثلج، فلا يضره ذلك البيش، حتى احترقت رطوبته، وكان من أصح خلق الله ذهنا، وأحفظه وأذكاه.
ومن ملوكهم دبشليم، وهو الذي وضع في عصره كتاب كليلة ودمنة، وكان الذي وضعه بيدبا حكيم من حكمائهم، وجعله أمثالاً يعتبر بها، ويتفهمها ذوو العقول، ويتأدبون بها، فكان أول باب منها باب السلطان الذي سعى إليه البغاة بخاصته وأصحابه المقدمين عنده، وكيف ينبغي أن يستعمل الأناة والتثبيت، ولا يعجل بقول السعاية، وهو باب الأسد والثور.
الباب الثاني باب الفحص عن الأمور، وكيف تكون العواقب فيها، وما يؤدى إليه البغي و التهور والكيد من سوء العاقبة، وهو باب الفحص عن خبر دمنة.
الباب الثالث باب الأعداء والتحرز منهم والحيلة لهم، والكلام الذي يكسب العداوة، وما يجب من مداراة الأعداء، وانتهاز الفرصة فيهم عند إمكان الأمر، والتضرع لهم حتى يمكن الانتقام منهم، وهو باب البوم والغربان.
الباب الرابع باب المشاورة للعلماء والاستعانة بأهل الحزم والأمانة، وإفشاء الأمور إلى أهل العقل، وهو باب بلاذ.
الباب الخامس باب المعروف وإلى من ينبغي أن يصطنع وكيف يفسده سوء الشكر إذا وضع غير موضعه، وحمله من لا يستحقه، وكيف يعرف موضعه عند أهله الذين يشكرونه، وهو باب السلحفاة والببر والقرد والنجار.
الباب السادس باب الظفر بالأمر، وإضاعته بعد إمكانه، والعجز عن حفظه بعد القدرة عليه، وهو باب القرد والغيلم.
الباب السابع باب المداراة ومصانعة أهل الشأن، واحتراز مودتهم، واستماله أهل الانحراف حتى يتخلص من السوء، وهو باب السنور والجرذ.
الباب الثامن باب معرفة السلطان بأعوانه وأقربائه وأهل دخلته، واستصلاحه من نالته جفوته منهم، واجتلاب ردئه، والاستعانة على أموره بأهل العفاف والمودة، وتفقد أحوال أعوانه وحاشيته، ومكافأة المحسن، ومعاقبة المسيء على الإساءة، وهو باب الأسد وابن آوى.
الباب التاسع باب الإخوان والمتصادقين على صحة موداتهم، ومقدار الإخوان، وعظم النفع بهم، ومعاونتهم على أمور الشدة والرخاء، وهو باب الحمامة المطوقة.
الباب العاشر باب طلب نفع الناس بضر النفس، والتفكر في العاقبة، وهو باب اللبؤة والأسوار. وقال بعض علماء الهند إن أهل بلاد الهند تواتر عليهم الموت، حتى ذهب علماؤهم، وضعف الملك، وإنه لما ملك هشران طلب من يحيى له شرائع دين آبائه، فأتاه قفلان، وكان داهية، فقال له: إن الناس جزء من الحيوان، وإن الحيوان جزء من النامي، وإن النامي من الطبائع الأربع التي هي: النار والهواء والأرض والماء، وإن النامي ينقسم على ثلاثة أقسام: أحدها النبات، وله النمو فقط، والثاني ما يكون في البحر من الأصداف وما أشبهها، وله نمو وحس، والثالث الحيوان البري، وله نمو وحس وحركة، وإن الحيوان أقل وأحقر من أن يدبرهم الخالق، وإنما يدبرهم ويصرفهم الفلك.
فقال له الملك: أرني صورة ما تقول وبرهانه! فوضع النرد، وقال: اتفق الناس على أن دور الزمان سنة، ومعناها اثنا عشر شهراً، ومعناها البروج الاثنا عشر، وعلى أن أيام الشهر ثلاثون يوماً، ومعناها لكل برج ثلاثون درجة، وعلى أن الأيام سبعة، ومعناها الكواكب السبعة السيارة، ثم جعل تشبيها لذلك، فوضع عرصة شبيهة بالسنة، وصير فيها أربعة وعشرين بيتاً عدد ساعات الليل والنهار، في كل ناحية اثنا عشر بيتاً تشبيها بشهور السنة والبروج، وصير لها ثلاثين كلباً تشبيها بأيام الشهر ودرج البروج، وصير الفصين تشبيها بالليل والنهار، وفي كل فص ست جهات لأنه عدد تام له نصف وثلث وسدس، في كل فص، إذا سقط من أعلاه وأسفله، سبع نقط: تحت الست واحدة، وتحت الخمس اثنتان، وتحت الأربع ثلاث، تشبيهاً بعدد الأيام والكواكب السبعة السيارة، وهي: الشمس، والقمر، وزحل، والمشتري، والمريخ، وعطارد، والزهرة، ثم جعلها محنة بين رجلين، وأعطى كل واحد فصاً، وقال: من أعطيته هذه السبع النقط من أعلاها أكثر من صاحبه بدا، فاجتمع له الفصان، فضرب، وما ظهر من الفصين تقلب الكلاب عليه، وجعل ذلك تمثيلاً للحظ الذي يناله العاجز بما جرى له الفلك، والحرمان الذي يبتلي به الحازم، على حسب ما يجري له الفلك، فلما ظهر ذلك قبله الملك، وفشا في أهل المملكة، وصار أهل الهند تجري أمورها بما تدبره الكواكب السبعة السيارة.
وملك بلهيت وقد غلب على أهل المملكة هذا الدين، وكان له عقل ومعرفة، فلما رأى ما عليه أهل مملكته ساءه ذلك، وبلغ منه، ثم سأل: هل بقي رجل على دين البرهمية؟ فدل على رجل له عقل ودين، فأرسل إليه، فلما أتاه أكرمه، ورفع درجته، ثم ذكر له ما قد فشا في أهل مملكته، فقال: أيها الملك! أنا أقيم برهاناً اضطر به، ويعرف به فضل الحازم، وموضع تقصير العاجز، واجعلها صورة بين اثنين ليبين فضل الحازم على العاجز، والمجتهد على المقصر، والمحتاط على المضيع، والعالم على الجاهل، فوضع الشطرنج، وتفسيرها بالفارسية هشت رنج، وهشت ثمانية، ورنج صفح، وصيرها ثمانية في ثمانية، فصارت أربعة وستين بيتاً، وصيرها اثنين وثلاثين كلباً، مقسومة بين لونين، كل لون ستة عشر كلباً، وقسم الستة عشر على ست صور فالشاة صورة، والفرز صورة والفيلان صورة، والرخان صورة، والفرسان صورة، والبيادق صورة، فاشتق ذلك من زوج الزوج، وهو أحسن ما يكون من الحساب لأن الأربعة والستين، إذا قسمتها، كان لها نصف، وهو اثنان وثلاثون، وهي عدة جميع الكلاب، وإذا نصفت الاثنين والثلاثين كان لها نصف، وهو ستة عشر، وهو ما لكل واحد من الكلاب، وإذا نصفت الستة عشر كان لها نصف، وهو ثمانية، وهي عدة بيادق كل واحد، فإذا نصفت الثمانية كان لها نصف، وهو أربعة، وهو الرخان والفرسان من كل واحد فإذا نصفت الأربعة كان لها نصف، وهو اثنان، فقد انقسمت أزواجاً ولم يبق في القسم بعد الأزواج إلا الواحد الذي يقسمها كلها آحاداً، وهو ليس بعدد، ولا معدود، ولا زوج، ولا فرد، لأن أول أعداد الفرد ثلاثة.
ثم قال الحكيم: ليس شيء أجل من الحرب، لأنه يبين فيها فضل التدبير، وفضل الرأي، وفضل الحزم، وفضل الاحتياط، وفضل التعبية، وفضل المكيدة، وفضل الاحتراس، وفضل النجدة، وفضل البأس، وفضل القوة، وفضل الجلد، وفضل الشجاعة، فمن عدم منه شيء من هذا عرف موضع تقصيره لأن خطأها لا يستقال، والعجز فيها متلف للمهج، والجهل مبيح للحمى، وترك الحزم ذهاب الملك، وضعف الرأي جلب للعطب، والتقصير سبب الهزيمة، وقلة العلم بالتعبية داعية الانكشاف، وقلة المعرفة بالمكيدة تهور إلى الهلكة، وترك الاحتراس نهزه للعدو، وجعلها على مثال الحرب، فإن أصاب ظفر وإن أخطأ هلك.
فلما رأى الملك صحة البرهان، وتبين فضل حكمة الحكيم، وعلم أن قد أصاب وأحسن التمثيل، وأبان عما قد عمي عنه، جمع أهل مملكته، فعرفهم ما كشف الله عنهم من الغم، وأمرهم أن يقيموها ويتأملوها، وقال لهم، قد علمنا أن ليس في العالم حي ناطق، مفكر، ضاحك عاقل إلا الإنسان، فالإنسان عليه مدار جميع ما في العالم، لأن الفلك بجميع ما فيه خلقه الخالق للإنسان ليعرف به ما يحتاج إليه من زمانه وأوقاته، وكذلك ذلل له جميع ما في الأرض، وكل ما خلق الله مما في قعر البحر، وجو السماء ورؤوس الجبال فلما ملك الإنسان جميع ما خلق قسم ذلك الإنسان ثلاثة أقسام فأكل ثلاثاً، وسخر ثلاثاً، وقتل ثلاثاً: فأكل الطير والسمك وما شاء من النعم والإبل، وسخر البقر والحمير والدواب، وقتل السباع والحيات والهوام، ثم جعل فيه آلات يعلم بها، ويعقل بها، ويدرك بها، ويفهم، ففضل الناس بعضهم بعضا بالعلم والعقل والفهم.
وقد زعم علماء من علماء الهند أنه لما ملكت حوسر بنت بلهيت خرج عليها خارجي، وكانت جارية عاقلة، فوجهت ابناً لها، وكان لها أربعة أولاد، فقتل ذلك الخارجي ابنها، فعظم ذلك أهل مملكتها، وأشفقوا من أخبارها، فاجتمعوا على حكيم من حكمائهم يقال له قفلان، وكان ذا حكمة وفطنة ورأي، فذكروا ذلك له، فقال: أنظروني ثلاثاً! ففعلوا ذلك، وخلاً مفكراً، ثم قال لتلميذ له، أحضرني نجاراً وخشباً من لونين مختلفين، أبيض وأسود، فأحضره نجاراً فارها، وخشباً من لونين مختلفين، أبيض وأسود، فصور صورة الشطرنج، وأمر النجار، فنجرها، ثم قال له: أحضرني جلداً مدبوغاً! فأمره أن يخط فيه أربعة وستين بيتاً، ففعل ذلك، فنصب ناحية، ثم تجاولا حتى فهماها وأحكماها، ثم قال لتلميذه: هذه حرب بلا ذهاب أنفس.
ثم حضره أهل المملكة، فأخرجها لهم، فلما رأوها علموا أنها حكمة لا يهتدي لها أحد، وجعل يجاول تلميذه، فيقع شاة مات، وشاة غلب، فأخبرت الملكة بخبر قفلان، فأحضرته، وأمرته أن يريها حكمته، فأحضر تلميذه، ومعه الشطرنج، فنصبها بينه وبينه، فلعبا فغلب أحدهما صاحبه، فقال، شاه مات! فانتبهت، وعلمت ما أراداه، وقالت لقفلان: أقتل ابني؟ قال: أنت قلت! فقالت لحاجبها: أدخل الناس، يعزوني فلما فرغت أحضرت قفلان وقالت له: سل حاجتك! فقال: أسأل أن أعطى قمحاً بعدد بيوت الشطرنج، أعطى في البيت الأول حبة وفي الثاني اثنتين، ثم يضعف ذلك لي في البيت الثالث على الثاني، ثم على هذا الحساب إلى آخرها.
قالت: وما مقدار هذا؟ ثم أمرت بالحنطة أن تحضر، فلم يقم لذلك شيء حتى أنفدت قموح البلد، ثم قوم القمح بالمال حتى فنى المال، فلما كثر ذلك قال: لا حاجة لي به! إن قليل الدنيا يكفيني. ثم سألته عن عدد الحب الذي سال، فقال لها: يكون ذلك عدداً، وهذا ما في الشطرنج من العدد: السطر الأول مائتان وخمسة وخمسون.
الثاني اثنان وثلاثون ألفاً وسبعمائة وثمانية وستون.
الثالث ثمانية آلاف ألف وثلاثمائة وثمانية وثمانون ألفا وستمائة وثمانية.
الرابع ألفاً ألف ألف، ومائة وسبعة وأربعون ألف ألف، وأربعمائة وثلاثة وثمانون ألفاً، وستمائة وثمانية وأربعون.
الخامس خمسمائة وتسعة وأربعون ألف ألف ألف، وسبعمائة وخمسة وخمسون ألف ألف، وثماني مائة ألف، وثلاثة عشر ألفاً، وثماني مائة وثمانية وثمانون.
السادس مائة وأربعون ألف ألف ألف، و سبعمائة وسبعة وثلاثون ألف ألف ألف، وأربعمائة وثمانية وثمانون ألف ألف، وثلاثمائة وخمسة وخمسون ألفاً، وثلاثمائة وثمانية وعشرون. السابع ستة وثلاثون ألف ألف ألف ألف ألف، وثمانية وعشرون ألف ألف ألف ألف، وسبعمائة وسبعة وتسعون ألف ألف ألف، وثمانية عشر ألف ألف، وتسعمائة وثلاثة وستون ألفاً، وتسعمائة وثمانية وستون.
الثامن تسعة آلاف ألف ألف ألف ألف ألف، ومائتان وثلاثة وعشرون ألف ألف ألف ألف ألف، وثلاثمائة واثنان و سبعون ألف ألف ألف ألف، وستة وثلاثون ألف ألف ألف، وثماني مائة وأربعة و خمسون ألف ألف، وسبعمائة وخمسة وسبعون ألفاً، وثماني مائة وثمانية، يكون جميع ذلك في الشطرنج الثمانية ثمانية عشر ألف ألف ألف ألف ألف ألف، وأربعمائة وستة وأربعين ألف ألف ألف ألف ألف، وسبعمائة وأربعة وأربعين ألف ألف ألف ألف، وثلاثة وسبعين ألف ألف ألف، وسبعمائة وتسعة آلاف ألف وخمسمائة وواحداً وخمسين ألفاً وستمائة وخمسة عشر. ومنهم كوش الملك الذي كان في زمان سندباذ الحكيم، وكوش هذا وضع كتاب مكر النساء. والهند أصحاب حكمة ونظر، وهم يفوقون الناس في كل حكمة، فقولهم في النجوم أصح الأقاويل، وكتابهم فيه كتاب السند هند الذي منه اشتق كل علم من العلوم مما تكلم فيه اليونانيون والفرس وغيرهم، وقولهم في الطب المقدم، ولهم فيه الكتاب الذي يسمى سسرد فيه علامات الأدواء، ومعرفة علاجها وأدويتها، وكتاب شرك، وكتاب ندان في علامات أربعمائة وأربعة أدواء ومعرفتها بغير علاج، وكتاب سند هشان، وتفسيره صورة النجح، وكتاب فيما اختلفت فيه الهند والروم من الحار والبارد و قوي الأدوية وتفصيل السنة، وكتاب أسماء العقاقير كل عقار بأسماء عشرة، ولهم غير ذلك من الكتب في الطب، ولهم في المنطق والفلسفة كتب كثيرة في أصول العلم منها: كتاب طوفا في علم حدود المنطق، وكتاب ما تفاوت فيه فلاسفة الهند والروم، ولهم كتب كثيرة يطول ذكرها ويبعد عرضها.
ودين أهل الهند البرهمية، وفيهم عبدة الأصنام، ولهم ممالك مختلفة وملوك متفرقة لسعة البلد في طوله وعرضه، فأول ملوكهم مما يتاخم البلاد التي هي اليوم في دار الإسلام: دانق، وهو ملك عظيم القدر، واسع المملكة، كثير العدة، ثم من بعده رهمي، وهو أعظم قدراً وأعز بلاداً، وهو على بحر من البحور، وفي بلده الذهب وما أشبهه، ثم مملكة بلهري، ثم الكمكم ومن عندهم يأتي الساج، ولهم اتساع في البلاد، ثم مملكة الطافن، وهم قوم بيض الوجوه، ثم مملكة
كنباية، ومملكة الطرسول، ومملكة الموسة، ومملكة المايد، وهذه الممالك تتاخم الصين، وهم يحاربون الصين، ثم مملكة سرنديب، ثم مملكة قمار، وهي مملكة جليلة القدر، عظيمة الأمر، يتقدم لملكهم الملوك، ثم مملكة الديبل، ثم الفاريط، ثم مملكة الصيلمان، ولهم بعض ممالك يليها النساء.
اليونانيونوكان لليونانيين حكماء متفلسفون، وفلاسفة متكورون، ومنهم من تكلم في الطب، ومنهم من تكلم في حقائق الأمور، ومنهم من تكلم في الحساب والأعداد، ومنهم من تكلم في الأفلاك و النجوم، ومنهم من تكلم في الحساب والقسمة، ومنهم من قال في الهندسة والفلاحة، ومنهم من قال في الصنعة والإكسيرات، ومنهم من قال في الفراسة، ومنهم من قال في الطلسمات والآلات فيقال إن أول حكيم وضع كتاباً، ودون علماً، أبقراط مقليدس بن أبقراط، فبفلسفته يتفلسف الحكماء في الطب، وإليه يرجعون في المعرفة، وله من الكتب: كتاب الفصول، وكتاب البلدان والمياه و الأهوية، وكتاب ماء الشعير، وكتاب تقدمة المعرفة، وكتاب الجنين، وكتاب الأركان، وكتاب الغذاء، وكتاب الأسابيع، وكتاب أوجاع النساء، وكتاب أبيذيميا، فهذه مشهورات من كتبه، وله بعد ذلك كتب كثيرة، فالكتب التي لا بد للمتطببين من معرفتها من كتب أبقراط أربعة، وهي: كتاب الفصول، و كتاب تقدمة المعرفة، وكتاب الأهوية والأزمنة، وكتاب ماء الشعير.
فأما كتاب الفصول، فإنه قال في كل وجه من العلم قولا جامعا، في سبعة وخمسين باباً، وهي التي تسمى التعليمات: فالتعليم الأول في الصنعة وصنفها قال أبقراط: العمر قصير، والصناعة طويلة، والزمان حديد، والتجربة خطرة، والقضاء عسر.
التعليم الثاني في أصناف الطعام للمرضى وتقديره قال أبقراط: الأطعمة اللطيفة دقيقة جداً ليست في الأمراض المزمنة، ولا في الحادة، والأطعمة أيضاً التي على أقصى حد اللطافة ردية مثلما أن الماء الذي على الحد الأقصى ردي.
التعليم الثالث في اهتياج الحمى قال أبقراط: ينبغي أن يتحفظ في الطعام، وإن الزيادة منه مضرة، وكل ما يعرض من الأمراض في الحين بعد الحين، فينبغي التحفظ عند اهتياجها. التعليم الرابع في علامات الأمراض قال أبقراط: الدليل على حال الأمراض ما يظهر من لفظ الجسد فيها: مثل من به ذات الجنب، إن ظهر منه نفث عاجل من أول المرض قصر مرضه، وإن ظهر ذلك متأخراً طال مرضه، وفي مثل البول والبراز والعرق، إذا ظهر على الوجه الذي يجري عليه القضاء بالفرج، أو على خلاف ذلك على قصر الأمراض وطولها.
التعليم الخامس قال أبقراط: كلما نشت، يعني ذوات الأرواح، فهو كثير الحرارة الغريزية، ولذلك يحتاج إلى كثرة الطعام وإلا بلي جسده.
التعليم السادس فيما ينبغي أن يطعم للمحمومين من الطعام، قال أبقراط: التدبيرات الرطبة بجميع المحمومين أمثل، ولا سيما للصبيان ولغيرهم من الذين اعتادوا ذلك التدبير، لبعض مرة، ولبعض اثنتين وأكثر وأقل، ومرة بعد مرة، وأعطوا الساعة والعادة والبلاد والسن حقها.
التعليم السابع في معرفة الموقت قال أبقراط فيما يتفرج وما قد تفرج: ينبغي أن لا يحرك، ولا يحدث به حدث لا بأدوية، ولا بغيرها، مما يهيج ذلك.
التعليم الثامن في النوم قال أبقراط: في أي مرض كان إن جاءه النوم بوجع، فذلك يموت، وإن نفع النوم، فليس بميت، وإن رد النوم ذهاب العقل، فذلك صالح.
التعليم التاسع في سقي الدواء قال أبقراط: ينبغي لمن أراد تنقية الأجساد أن ينقيها قبل ذلك أي إذابة ما فيها من الكيميوس الغليظ.
التعليم العاشر في البراز قال أبقراط: إن وقع في الجسد وجع، أو خرجت في الجسد خراجات، فعند ذلك ينبغي أن ينظر في البراز، فإن كانت مرة صفراء فالجسد كله مريض، وإن كان شبيها ببراز الأصحاء فالطعام الحشد.
التعليم الحادي عشر قال أبقراط في الأمراض الحادة لأنها ربما أسرعت إلى الدماغ، أو إلى القلب، أو الكبد، فتهلك، وربما أسرع انحطاطها فتبرأ. التعليم الثاني عشر في القضاء في الفرج قال أبقراط: الأمراض الحادة يقضي عليها بالفرج في أربعة عشر يوماً.
التعليم الثالث عشر قال أبقراط: عند ابتداء الأمراض إن رأيت أن تحرك شيئاً، فحرك، و
إن صعدت العلة، فلزوم الكف أفضل، أي إن رأيت موضعا للعلاج، فقبل أن تصعد العلة. التعليم الرابع عشر في معرفة صالح الأمراض وطالحها قال أبقراط: في كل مرض صحة عقل المريض حسن، وقبوله ما يقضي خير، وخلاف ذلك شر أي ما يجد العليل في الدماغ والمعدة. التعليم الخامس عشر في المخنوقين قال أبقراط: الذين يخنقون ويخلون قبل أن يموتوا إن ظهر في أفواههم زبد لم يسلموا.
التعليم السادس عشر في إضمار الجسد والعناء قال أبقراط: في كل تحريك الجسد، إذا بدا بتعب، ثم ودعته مكانك لم يضر التعب.
التعليم السابع عشر في انقلاب الساعات قال أبقراط: انقلاب الساعات عن عظم البرد والحر وغير ذلك مما يجري مجراه أي انقلاب ساعات الزمان من أجزاء السنة.
التعليم الثامن عشر في العرق قال أبقراط: إذا كان الزمان شبيها بالصيف يعني الربيع فعند ذلك ينبغي أن يتوقع كثرة العرق مع كل حمى تعرض. التعليم التاسع عشر في الساعات قال أبقراط: إن كان الشتاء يابساً بلا رطوبة، وكانت رياحاً شمالاً، كان الصيف، يعني الربيع، ممطوراً، وكانت رياحة يمانية، فلا بد أن يكون في القيظ حميات حادة، ووجع العين واختلاف من الأعفاج، وعامة ذلك في النساء والذين في طبيعتهم رطوبة.
التعليم العشرون في تدبير السنين قال أبقراط: السنة اليابسة أوبأ من الممطورة الرطبة، عامتها حميات طويلة، وسيلان البطون، وخروج متماشية، وجنون، وفالج، وذبحه، وأما أمراض السنة اليابسة، فقرح في الرئة، ووجع العيون والمفاصل، وتقطير البول، واختلاف من خراج الأعفاج.
التعليم الواحد والعشرون في أمراض الساعات والأسنان قال أبقراط: في الساعات على ما يكون من الأمراض في الصيف وأول القيظ: الغلمان والذين يتلونهم في السن أصحاء، وحسن حالهم أفضل من غيرهم، وفي القيظ، وبعض الربيع: الشيوخ أحسن حالاً، وفي سائر الربيع والشتاء: أهل النصفة في السن أفضل حالاً.
التعليم الثاني والعشرون في الأمراض التي تصيب الإنسان فيبدأ بالولدان قال أبقراط: الأمراض التي تصيب الولدان الصغار قرح وسعال، وسهر وفزع، وورم في السرر، ورطوبات الأذنين. التعليم الثالث والعشرون قال أبقراط: والأمراض التي تصيب الصبيان، إذا كبروا: وجع اللوزتين، وبهر، و حصاة، ودود عراض، ودود طوال، ودود مثل دود الخل، وثاليل، وغلظ في أبشارهم، وخنازير وخراجات أخر، والذين أكبر منهم ممن قد راهق الاحتلام: يصيبهم أمر آخر، ويقضي عليهم بالفرج إلى أربعين يوماً، بعضها إلى سبعة أشهر، ومنها إلى سبعين يوماً، ومنها إذا راهقوا الاحتلام.
وكل أمراض لا تنجلي عن الصبيان إلى الاحتلام، وعن الجواري إلى أن يطمثن، فتلك أمراض تثوي زماناً طويلاً.
التعليم الرابع والعشرون في معرفة ما تداوي به النساء الحوامل، قال أبقراط: النساء الحوامل يداوين لأربعة أشهر فما دون ذلك من صغر الولد، وأما ما زاد من كبره، فينبغي أن يحذر علاجهن.
التعليم الخامس والعشرون قال أبقراط: ينبغي أن يداوي ما فوق في الصيف و ما أسفل في الشتاء، يعني ما كان فوق الرأس والمعدة، وما كان أسفل من المرة الصفراء، وما أسفل من الخام وما أشبهه.
التعليم السادس والعشرون في ذي المشي قال أبقراط: عند شرب الأدوية والخربق ينبغي أن يرطب أجساد الذين لا تخف التنقية عليهم من فوق قبل الدواء بكثرة الطعام.
التعليم السابع والعشرون في الاختلافات طوعاً قال أبقراط: إذا جاء الاختلاف طوعاً كأنه دم أسود مع حمى، أو غير حمى، فذلك اختلاف سوء، وإن كان اختلاف كثير الألوان منتقل من ألوان صالحة إلى ألوان ردية، فذلك اختلاف سوء أيضاً، وإن جاء الأول بدواء، فهو أمثل، والكثير الألوان فلا بأس به.
التعليم الثامن والعشرون في الفراغ من حيث كان قال أبقراط: كل محموم يعرض له اختلاف لأن كثرة إفراغ الدم ترخي الكبد ثم تسقم النضج.
التعليم التاسع والعشرون في العرق قال أبقراط: العرق في المحمومين خير إن جاء في اليوم
الثالث، أو الخامس أو السابع عشر، أو الواحد والعشرين، أو الواحد والثلاثين، أو الرابع والثلاثين، لأن هذا يفرج عن المريض، فأما الذي يكون في غير هذه الأيام، فذلك عرق مؤذن بوجع وطول مرض ونكسه. التعليم الثلاثون في الحميات اللازمة قال أبقراط: الحميات اللازمة التي لا تقلع بل تشتد في اليوم الثالث، فتلك أقرب إلى الهلاك، والتي تقلع إلى أي وجه كان من الأقلاع، فتلك أبعد إلى الهلاك.
التعليم الحادي والثلاثون في علامات الموت قال أبقراط: الحميات اللازمة التي لا تقلع، إن كان ظاهر الجسد باردا وداخله يحترق، وكان بصاحبه عطش، فتلك علامات موت.
التعليم الثاني والثلاثون في الانقباض والكزاز قال أبقراط: من أصابه انقباض، أو كزاز، فتبعت ذلك الحمى انحل مرضه. التعليم الثالث والثلاثون قال أبقراط: من كانت به حمى، فأصابه حر شديد في جوفه ووجع في قلبه فذلك شر. التعليم الرابع والثلاثون قال أبقراط: من كانت به حمى، فورمت شراسيفه، وأشرفت وظهرت به قرقرة في جوفه، فأصابه مع ذلك وجع صلبه، فلم يتفرج بأرواح تخرج منه، أو ببول كثير، أو يتفرج باختلاف هلك.
التعليم الخامس والثلاثون في شرب الخربق قال أبقراط: من أصابه انقباض من كثرة الاختلاف على شرب الخربق فذلك ميت.
التعليم السادس والثلاثون في القروح في الرئة، والضمر في الرئة، يكون ذلك في ثمانية عشر إلى خمسة وثلاثين.
التعليم السابع والثلاثون في الماء الحار والبارد قال أبقراط: الماء الحار، إذا أدمنت عليه يرخي اللحم، ويذهب بشدة العصب، ويخدر العضل، ويهيج الرعاف، ويضعف النفس، وإن دام ذلك مات، والبارد يأتي بكزاز وتسود، ويأتي بنافض وحمى.
التعليم الثامن والثلاثون في معرفة المياه قال أبقراط: الماء الحار ينضج المدة، وليس في كل جرح، ولنضج المدة علامات كثيرة، وهي لين الجلد، وضم الورم، وإذا كان الماء الحار يفعل ذلك يذهب الوجع، ويسكن النافض والانقباض والكزاز، ويحل وجع الرأس.
التعليم التاسع والثلاثون في أمور النساء قال أبقراط: البخور بالطيب جلاب لطمث النساء، نافع لذلك، ولأشياء كثيرة غير ذلك، إلا أنه يهيج وجعا في الرأس وصداعاً.
التعليم الأربعون قال أبقراط: أيما امرأة ليست بحبلى، ولا مرضعة، وتجد في ثدييها لبناً، فذلك دليل على أن دم طمثها قد انقطع.
التعليم الحادي والأربعون قال أبقراط: إن الأولاد الذكور أكثر ما يكونون في يمين الأرحام، والإناث في يسراها.
التعليم الثاني والأربعون قال أبقراط: النساء الحبالى اللاتي تصيبهن الحمى، فتصلب عليهن فأولئك من غير علة معروفة تبين، فإن ذلك دال على هلاك، ويسقطن، فيهلكن.
التعليم الثالث والأربعون قال أبقراط: أعط اللبن لمن يشتكي رأسه ولمن به عطش، وأيضاً لمن به اختلاف من مرة صفراء وحمى حادة، ولمن اختلف دما كثيراً، وهو موافق أن يعطي لمن به ضمر وقرح في رئته، إذا لم يكن محموما جداً، ويعطي لمن كانت حماه لينة، فاترة، مزمنة، من غير أن يكون به شيء من العلامات التي ذكرنا ويكون جسده ناحلاً جداً.
التعليم الرابع والأربعون في إزلاق الأمعاء قال أبقراط: من أصابه زلق الأمعاء وطال به، ثم تبع ذلك، جشاء حامض لم يكن به قبل ذلك فذلك علامة خير، وهو مرض يكون له ثلاثة أسباب: من قبل ضعف المعدة، أو من قبل بلغم بل المعدة، أو من قبل قرح يكون في المعدة. التعليم الخامس والأربعون قال أبقراط: من أصابه وجع في رأسه وضربان شديد، فذلك إن سال من أنفه، أو من أذنيه، أو من فمه قيح، أو ماء، حل وجعه.
التعليم السادس والأربعون قال أبقراط: من أصابه انقطاع في مثانة، أو دماغ، أو قلب، أو صفاق، أو شيء من الأمعاء الدقاق، أو في معدة، أو في كبد، فذلك كله مميت.
التعليم السابع والأربعون قال أبقراط: من أصابه فزع، أو خبث نفس زماناً كثيراً دائماً، فذلك يصير إلى المرة السوداء.
التعليم الثامن والأربعون قال أبقراط: شرب الخمر صرفا، والكماد الحار، وقطع العروق، وشرب الدواء يحل وجع العينين.
التعليم التاسع والأربعون قال أبقراط: ترك كل خراج سرطاني لا يعالج أفضل، فإن أصحابه إن عولجوا هلكوا سريعاً، فإن لم يعالجوا بقوا زماناً.
التعليم الخمسون قال أبقراط: الخراج الذي ينتأ سنة، وأكثر من ذلك، فلا بد من أن يقلع منه عظام، ويبقى آثارها كالجرب.
التعليم الحادي والخمسون قال أبقراط: ذهاب العقل الذي يأتي الضحك معه يؤثر به، وذهاب العقل مع الحزن والعبوس لا يؤثر به.
التعليم الثاني والخمسون قال أبقراط: في الأمراض الحادة، إذا بردت الأطراف، فذلك شر. التعليم الثالث والخمسون قال أبقراط: من خرج في كبده خراج، ثم تبعه فواق، فذلك شر.
التعليم الرابع والخمسون قال أبقراط: من كانت به حمى، وكان ببوله ثفل غليظ شبيه بدشيش الطحين، فذلك دليل على أن مرضه يطول. التعليم الخامس والخمسون قال أبقراط: من قاء دماً من غير أن تصيبه غلبة، فهو يتخلص، فإن أخذته غلبة حمى، فهو خبيث، وينبغي أن يعالج بكل دبوغ، أي من الأدوية الدابغة. التعليم السادس و الخمسون قال أبقراط: من كان يتقيأ القيح، فكوى، وخرج القيح أبيض نقياً سلم صاحبه، وإن خرج منتناً وسخاً هلك صاحبه، وإن كان بكبده خراج قد قيح، وكوى، وخرج القيح نقياً أبيض سلم لأن القيح في صفاق الكبد، وإن خرج القيح شبه ماء الزيتون هلك صاحبه.
التعليم السابع والخمسون قال أبقراط: العطاس يكون من قبل الرأس، إذا سخن الدماغ، أو برد، أو ترطب ما بين الدماغ وصفاقه، وامتلأ فيفرغ ذلك الهواء، ويكون له نغنغة لأن مخرجه من ضيق، فهذه أبواب كتاب الفصول. و أما كتابه في تقدمة المعرفة فهو ثلاثة فصول وعشرون تعليماً: الأول يخبر أبقراط كيف ينبغي للطبيب أن ينتحل تقدمه المعرفة ، فإنه الذي يخبر المرضى بما بهم، وما أصابهم قبل ذلك، وما هو آت مما يصيبهم، وما أغفل المرضى ذكره، وإن قوتها وأسبابها، وإن كانت من اختلاط الجسد، أو غيره، ونحو هذا.
التعليم الثاني يخبر فيه كيف ينبغي للطبيب أن يحسن النظر في الأمراض الحادة، وكيف ينظر في وجوه المرضى إن كانت تشبه وجوه الأصحاء، وعلامات الوجوه الدالة على الموت ونحو هذا. التعليم الثالث يقول فيه: إن كان للمرضى ثلاثة أيام، وأربعة والوجوه على حال وجوه الأصحاء، وغير ذلك ينبغي أن يحسن الفكر في الآيات والعلامات على ما تقدم ذكره، وفي علامات العينين وأشفارهما، والأنف، وانضجاع المريض، وكيف ينبغي أن يعمل وما المهلك من علاماته.
التعليم الرابع يصف رجلي المريض وأحوالهما، وانضجاعه، وحك الأسنان بعضها ببعض مع الحمى، والدلائل في ذلك، وإن كان بالمريض خراج أصابه في مرضه، أو قبل مرضه، وما يدل عليه، ويصف اليدين واضطرابهما، وما تدلان في ذلك.
التعليم الخامس يذكر النفس الكثير السريع، وما يدل عليه، ويذكر أفضل العرق في الأمراض الحادة، والعرق الفاضل، والعرق البارد، والعرق المتخبث، ويذكر أن العرق يكون إما من ضعف الأجساد، وإما من دوام خراج. التعليم السادس يذكر صحة الشراسيف، وإذا لم تكن صحيحة، وضربان عروقها، وما يدل في ذلك، والأورام التي بجنب الشراسيف، ويخبر عن الأورام وما يصيبها. التعليم السابع يذكر فيه الخراجات، وإذا أزمنت كيف ينبغي أن ينظر فيها وينعت مقاديرها وما يخرج منها، وكيف ينبغي أن يخرج.
التعليم الثامن يذكر فيه الحبن الذي يكون مع الأمراض الحادة، والذي يكون من البزاق، والذي من الكبد، وما يصيب أصحاب الحبن من الأعراض اللاحقة بهم من أجله، وعلامات تدل على الموت من اسوداد الأصابع والأرجل ونحو هذا. التعليم التاسع يذكر فيه تقابض الخصيتين و الذكر، ويذكر السبات والنوم وكيف ينبغي أن يكون، والبراز وكيف ينبغي أن يكون.
التعليم العاشر يذكر فيه البراز كيف يجب خروجه وأسبابه، وكيف ينبغي أن يكون البطن في كل مرض، وألوان البراز الدالة على الموت وغير ذلك، ويصف الرياح والقراقر ونحو ذلك. التعليم الحادي عشر يخبر عن البول الصحيح ثم عن البول إذا تغير وأصناف أثفال الأبوال من جهة المثانة.
التعليم الثاني عشر يذكر فيه القيء وأسبابه، والنخمة، وكيف تنفث، ومما تختلط، و لونها، ويذكر العطاس في جميع الأمراض التي تلي الرئة، وما الميمت في ذلك، وما المؤذن بانحلال المرض.
التعليم الثالث عشر يصف فيه النخامة في أمراض الرئة ولونها وألوان النخامات، ويذكر فيه البول والبراز والعرق وما يدل كل واحد من هذا عليه. التعليم الرابع عشر يذكر الخراجات المقيحة وأوقاتها التي تنفجر فيها، ويصف كل ما يخرج منها، وكونها في كل إنسان.
التعليم الخامس عشر يذكر الخراجات الثابتة فيما يلي الآذان وما يحدث ذلك في الذين بهم أمراض الرئة، وكيف الدلائل على ذلك، والخراجات التي في سوق الذين بهم أمراض وما يلحقهم في ذلك.
التعليم السادس عشر يذكر الأوجاع الردية الذاهبة بالعقل، ويذكر الحميات وأسبابها في أيامها.
التعليم السابع عشر يذكر تقدمة المعرفة في الأمراض الحادة العسرة المزمنة، و يذكر حميات الربع، وما يلحق أصحابها من أجلها، والأيام التي تكون فيها، ويذكر أوجاعاً تكون في الصدغين والجبهة، ووجع الآذان وما يلحق المرضى.
التعليم الثامن عشر يذكر أوجاع الحلق المخنقة، والحمرة في الرقبة والصدر، والثقب، وما يلحق المريض من علامات الهلاك في ذلك، ويذكر أسباب الغرغرة وخراجات تكون ووجع مؤلم في المفاصل، وذكر الخراجات الثابتة في الشباب، وشيئا من أسباب الحمى.
التعليم التاسع عشر يذكر فيه الحمى ووجع الفؤاد والأيام التي تطول فيها الحمى مع أوجاع تكون في الحمى.
التعليم العشرون يخبر كيف ينبغي لمن أراد أن يحكم تقدمه المعرفة أن يعرف ما ينجلب من الأمراض التي لا تزال مؤلمة، وكيف يعلم، وخبر الأركان والعلامات وأجزاء السنة وأسباب البلدان، فهذه تعليمات كتاب تقدمة المعرفة لابقراط. فأما كتابه في الأهوية والأزمنة والمياه والأمصار، فإنه يخبر بما يعتري أهلها من الأمراض الخاصة والعامة، والمؤتلفة والمختلفة، بحدود ثابتة ومعالم بينة: فالباب الأول يقول: إنه ينبغي لمن أراد طلب الطب طلباً صادقاً أن يفحص أولاً عن أزمنة السنة، وما يحدث فيها، لأن بعضها لا يشبه بعضاً بل بعضها مخالف لبعض، وقد تختلف أيضا في انقلابها بذاتها.
الباب الثاني يقول: إن السنين اللاتي تحفظ أزمنتها على اعتدالها ومراجعها، فإن الأمراض التي تحدث فيها تكون شبيها وعلى استوائها، غير مخالفة ولا مشبهة، أما الأزمنة الكثيرة الانتقال، فإن الأمراض تعرض غير مستوية، ولا متواتية، وانحلالها عسر شاق.
الباب الثالث يقول: إن الرياح الحارة والباردة العامة فيها تغير الأبدان.
الباب الرابع يقول: ينبغي للطبيب أن يفكر في قوى المياه لأنها متخالفة في المذاقة والوزن، وكذلك تختلف في القوة اختلافا شديداً.
الباب الخامس يقول في المياه: كيف هي؟ أ راكدة أو لينة، أو خاشنة سائلة أم نواحي مشرفة صخرية أم صالحة رطبة النضج.
الباب السادس يقول: إنه ينبغي للطبيب أن يفكر في الأرضين إن كانت جرداء، عديمة الماء، أو شعراء، كثيرة الماء، أو عامرة، أو غامرة، أو مشرفة باردة.
الباب السابع قال: ينبغي أن يذكر غذاء الناس في أي شيء لذاتهم أفي كثرة الشرب والأكل وحب الدعة أم حب العمل والأكل؟ وأن يفحص عن كل واحد من هذه الأشياء في كل بلد. الباب الثامن قال: إن مضى شيء من الزمان والسنة، فإن الطبيب سيخبر بكل مرض عام يعرض لكل واحد من أهلها من قبل تغير أغذيتهم.
الباب التاسع قال: إذا لم تكن الأمراض من فساد الهواء فإنه لا ينزل بأهل المدينة عامة، ولكنه يكون متفرقاً، فإذا فكر الطبيب في هذا النوع وفي هذه الأشياء، فعلم علماً شافياً كيف تكون الأزمنة، كان حرياً أن يكون علمه صوابا، فإن علم النجوم ليس بجزء صغير من علم الطب. وأما كتابه في الأهوية والبلدان، فإنه وصف البلدان ومياهها وخواصها: فالقول الأول في المدن، وهي أربع مدائن: فالأولى على سمت الاستواء، والثانية على سمت الفرقدين، والثالثة بإزاء المشرق، والرابعة بإزاء المغرب.
فالأولى قال: كل مدينة موضوعة بإزاء الرياح الحارة هي التي وسط شرق الشمس الشتوي وغربة، فإنها تهب إليها هبوباً دائماً، وتكون في كن من إزاء الفرقدين، ومياه هذه المدينة كثيرة حارة تسخن في القيظ وتبرد في الشتاء، ورؤوس سكان هذه المدينة رطبة بلغمية، وبطونهم
كثيرة الاختلاف دائمة، و نساء هؤلاء الناس مرضى، ذوات أسقام أبداً بكثرة طمثهن، ولا يسقطن، وليس ذلك من طبيعتهن، ولكن من قبل أمراضهن، فإن حبلن أسقطن أكثر ذلك، وأما الصبيان فيصيبهم الكزاز، والربو، والسقم، ورجالهم يعرض لهم البطن، واختلاف الدم، والسقم الذي يدعى ابيالوس، وحمى طويلة شتوية وليليه، وبواسير في المقاعد، وتعرض لهم الحمى المتلهبة، والأمراض الحادة، والرمد الطويل، فإذا أتت لهم خمسون سنة عرضت لهم النزلات من الدماغ، فهيج بهم الفالج العارض في جميع البلدان.
والمدينة التي ناحية الشمال قال: إن كل مدينة موضوعة بإزاء ناحية الرياح الباردة مما يلي ناحية المغرب والمشرق والقطبين، فإن هذه الرياح رياحها البلادية، وتكون مستورة من الرياح الحارة، ومياهها يابسة بطيئة النضح حلوة أكثر ما تكون، وسكان هذه المدينة أكثرهم أشداء أقوياء، سوقهم إلى الدقة اضطراراً، وبطونهم خاشنة، ورؤوسهم صلبة يابسة شديدة، وينالهم الفتق، وأسقامهم ذات الجنب، والعلل الحادة، وكثرة القيح، وعروقهم تنقطع، ويأكلون كثيراً، ولا يعرض الرمد سريعاً، فإذا مرضوا تصدعت أعينهم، ويصيبهم إذا بلغوا ثلاثين سنة رعاف كثير، ولا تعرض لهم الأسقام الكاهنية، فإن عرضت كانت شديدة وتطول أعمارهم، وأخلاقهم وحشية غير ساكنة ولا هادنة، ونساؤهم يكن عواقر لبرد الماء ويبسه، وذلك أن الطمث ربما لم يكن على ما ينبغي، فإذا حبلن اشتد عليهن الولاد، ولا يسقطن، ويقل غذاء أولادهن لبرد الألبان، ويعرض لهن الكزاز، ووجع الرئة، ويعرض للصبيان الماء الأصفر في الأنثيين، فإذا كبروا ذهب، ويبطىء احتلامهم.
والمدينة الموضوعة سمت الرياح التي من المطلع القيظي والشتوي قال أبقراط: كل مدينة موضوعة ناحية شرق الشمس تكون أصح من المدينة الموضوعة ناحية الفرقدين ومن الموضوعة ناحية الرياح الحارة، والحرارة والبرودة فيها أقل وأيسر، وأمراض أهلها قليلة، والمياه الكائنة سمت طلوع الشمس نيرة مضيئة، صافية، طيبة المشم، لينة، لأن الهواء لا يكون فيها غليظا، فالشمس تحول بينه وبين أن يغلظ، وصورة سكان هذه المدينة حسنة الألوان، نيرة ضوية، وأصوات رجالهم صافية حديدة، يغضبون سريعاً، ونباتها وأعشابها أقوى وأصح، وهي في ذاتها وهيئتها تشبه فصل الربيع في قلة الحر والبرد، وأسقامها قليلة ضعيفة، ونساؤها يعلقن كثيراً، ويلدن بغير مشقة.
والمدينة الرابعة سمت المغرب هي في كن من الرياح الشرقية، وتهب إليها الرياح الحارة والباردة من ناحية الفرقدين، فتكون كثيرة الأمراض، ومياهها غير نقية، ولا صافية، وأن علتها الهواء الكائن عند الأسحار، وذلك أن أسحار هذه المدينة تطول جداً، والشمس لا تشرق فيها أول ما تشرق، حتى ترتفع وتعلو، وتهب فيها رياح باردة في القيظ، ويكون رجالها مصفارين، مرضى تضيرهم الأمراض كلها، وأصواتهم بح ونهارهم ردي في أيام الخريف لكثرة تغيره، فهذا الباب الأول في المدن الأربع.
والقول الثاني في المياه، وهي أربعة أصناف: أولها المياه الراكدة، مثل البطائح التي لا تجري، والثاني العيون النابعة، والثالث المياه التي تكون من الأمطار، والرابع المياه التي تكون من الثلوج.
قال أبقراط: المياه الظاهرة المستوية على وجه الأرض، التي لا تجري، والأمطار تمطر عليها، وتقوم معها ولا تنزع، والشمس دائمة الإشراق عليها، والاحتراق بها، فتكون ردية لا لون لها، تولد المرة، وتكون في الشتاء باردة جامدة، كدرة بلغمية، تورث من يشرب منها البحوحة والطحال وتكون بطونهم خاشنة، وتهزل التراقي والوجوه وتنقحها، ويكثر أهلها الطعم، ويدفع ظمأهم وعطشهم، ويلزمهم المرض في الشتاء والصيف، ويعرض لهم الماء الأصفر، ويعرض لهم في القيظ اختلاف الأغراس، وحمى ربع طويلة مزمنة.
وشباب هؤلاء القوم تعرض لهم أوجاع الرئة وأسقام تخثر عقولهم، وأما الشيوخ، فإنه تعرض لهم حمى اللهبية يدل على تحرقهم يبس بطونهم، وأما نساؤهم، فيعرض لهن أنواع الورم من قبل بلغم أبيض، فلا يحبلن إلا بعد عسر، ولا يلدن إلا بمشقة، ويكون أولادهن عظاماً، وكلما عزلوا هزلوا ودقوا، ويعرض للصبيان أدرة، وللرجال سقم وقروح في سوقهم، ولا تكون الأعمار فيها طويلة، ويدخل عليهم الكبر سريعاً في ضمن الأزمان، وربما أصاب النساء ما يتوهمن أنه حبل ثم يبطل.
ومياه العيون النابعة من بعض الصخور ردية لأنها خاشنة، والعيون النابعة من أرض حارة، ومن أرض معادن الحديد والنحاس والفضة والذهب والكبريت والشب والزفت والنطرون، فإن هذه كلها إنما تكون من شدة الحرارة، فلا تكون من هذه الأرضين مياه نافعة مصلحة بل تكون عامتها خاشنة، يعرض منها ومن شربها عسر البول، وشدة الاختلاف.
والمياه التي تنصب عن مواضع مشرفة، ومن تلال ترابية، أفضل المياه وأصحها، وهي حلوة لا تحتاج لكثرة مزاج الشراب، وتكون في الشتاء حارة، وفي الصيف باردة، فهذه حالة المياه النابعة من العيون الغائرة.
وخير هذه المياه السائلة من أفق الشمس، ولا سيما الشرق الصيفي، لأنها بيضاء براقة، طيبة الريح، وكل ما كان من المياه مالحاً، بطيء النضح، خاشناً، فإن الذين يشربون منه بلا حاجة إليه ليس بنافع لهم، وإن بعض الطبائع والأسقام ربما انتفعت به، وكلما كان طعم المياه إلى الملوحة، فكلها ردية مفسدة، وكل عين تكون سمت شرق الشمس، فماؤها خير المياه.
ثم بعدها العيون التي بين أفق الشمس القيظي والغرب القيظي، وأفضلها المائلة إلى الشرق ثم التي بين مغرب الشمس الشتوي والقيظي، وأرداها العيون التي في ناحية الجنوب، فأما العيون التي تنزل أفق الشرق الشتوي والغرب الشتوي، فما كان منها ناحية الجنوب، فهي ردية جداً، وما كان منها ناحية الشمال، فهو خير، فمن كان خاشن البطن، فإن المياه الخفيفة الصافية له نافعة، ولمن كان بطنه ليناً لدنا بلغمياً ضاره، فإن المياه المالحة تسهل البطن، فقد أخطأ ومياه الأمطار خفيفة عذبة، والشمس تخطف من الماء رقيقة وخفيفة، وتصعد الماء من الأنهار والبحور والمواضع الرطبة، ولذلك صارت مياه الأمطار تعفن وتنشر رائحة ردية لأنها اجتمعت من رياح شتى، فصارت أسرع عفناً وتغيراً، فإن الرطوبة التي تنشفها الشمس متفرقة لا تزال معلقة في الهواء، فإذا اجتمعت كلها، والتفت بالرياح المتضادة اللاقية بعضها بعضاً، أنصبت حينئذ، ولا سيما إذا كانت المقايسة كما ينبغي، وأكثر ما يكون هذا إذا استحكم اجتماع السحاب، واستقبلته ريح أخرى، فمزقته، وإذا تزاحمت سحابة أخرى على السحابة الأولى، وقطعتها، انحدرت حينئذ الرطوبة من ثقلها، وتمزقها الرياح، فتكون الأمطار السابغة، فهذه المياه، أفضل المياه إلا أنه ينبغي أن تكون رائحتها ردية، ويعرض لمن شرب منها البحة والسعال، وثقل الصوت، وإذا طبخت لم يغن عنها الطبخ شيئاً.
وأما المياه التي تكون من الثلوج والجليد، فكلها ردية لأنها، إذا جمدت مرة، لم ترجع إلى طبيعتها الأولى لأن ما كان من الماء خفيفا، عذباً، صافياً، نقياً، أفلت من الجمود، وطار، وما كان من الماء كدراً بقي على حاله، ويعرف ذلك بأنه لو صير في إناء في أيام الشتاء، وكيل بكيل معلوم، ووضع تحت السماء جمد، فإن وضع في الشمس حتى ينحل ثم كيل ذلك الماء، وجد وقد نقص نقصاناً بيناً، فذلك العلامة أن لطيف الماء يتنفس، ولا يقع عليه الجمود، ولا يتنفس، ولا يبرح وماء الثلوج أردأ المياه، وإذا شرب الناس المياه المختلفة عرض لهم الأسر والحصاة في المثانة، ووجع الخاصرة، ووجع الوركين، وفي الأنثيين أدرة، ولا سيما إذا شربوا من مياه أنهار تنصب من أنهار واسعة، أو من بحيرة ينصب فيها من سيول شتى مختلفة، لأن منها العذب، والمالح، والشبي، ومنها ماء السيل من مواضع حارة، فإذا شربت عرضت الأسقام، واللبن الردي يولد الحجارة في مثانات المرضعين، والنساء لا تصيبهن الحصاة لأن مبالهن واسع.
والقول الثالث في الأزمنة، إذا كانت سقيمة، أو سليمة قال أبقراط: إنه إن كان طلوع الكواكب وغيرها على ما ينبغي، وكانت مياه كثيرة في الخريف، وفي الشتاء يسيرة، ولا يكون الصحو كثيراً، ولا البرد فوق المقدار، فكانت مياهها معتدلة في الربيع وفي القيظ، كانت سليمة صحيحة، ويصح الهواء.
وإذا كان الشتاء يابساً شمالياً، والربيع كثير الأمطار جنوبياً، عرض للناس في الصيف الحمى و
الرمد، واختلاف الأغراس لكل ذي طبيعة رطبة، وإذا كان في وقت طلوع الكوكب الذي يدعى الكلب، وهو الشعري، مطر كثير، وشتاء، وهبت الرياح على أنواثها، كفت الأسقام، ورجى أن يكون الخريف صحيحاً، فإن لم يكن ذلك كان الموت في الصبيان وفي النساء، وقل في المشيخة، فمن نجا عرضت له الحمى الربع، وربما آل إلى جمع الماء الأصفر.
وإذا كان الشتاء جنوبياً كثير الأمطار، والربيع يابساً شمالياً، فإن النساء الحوامل يسقطن في فصل الربيع فإن ولدن كان أولادهن مسقومين، إما يموتون من ساعتهم، وإما يعيشون مهازيل، وأما سائر الناس، فمنهم من يعرض له الاختلاف ورمد يابس، ومنهم من يعرض له النزلات من رأسه إلى رئته، فأما المبلغمون والنساء فيعرض لهم اختلاف الأغراس، وأما أصحاب المرة الصفراء فتعرض لهم النوازل لسخافة جلودهم، وذبولة عصبهم، وربما ماتوا فجأة، وربما يبس جانبهم الأيمن.
وما كان من الأمصار يقابل شرق الشمس، ورياحة سليمة، ومياهه غائرة، فقل ما يضيره تغير الهواء، وكل مدينة يشرب أهلها ماء ساخناً، بطاحياً، وليست موضوعة سمت الشرق، وليست رياحها سليمة، ضير بأهلها تغير الهواء، وإن كان الصيف يابساً عاماً ذهبت الأمراض سريعاً، وإن كان كثير الأمطار طالت الأمراض وإن عرض لأحد من الناس قرحة في هذه الأسقام، أو البطن، أو الماء الأصفر، هلك.
وإذا كان الصيف كثير الأمطار، وكان جنوبياً، والخريف، كمثل ما كان الشتاء، يابساً سقيماً، فتعرض للمبلغمين والشيوخ أبناء أربعين سنة حمى تسمى القوسوس، وأما أصحاب المرة الصفراء، فيعرض لهم ذات الجنب، ووجع الرئة.
وإذا كان الصيف يابساً جنوبياً، وكان الخريف كثير الأمطار شمالياً، عرض للناس وجع الرأس، وسعال، وبحوحة، وزكام، وعرض لبعضهم السل.
وإذا كان الصيف يابساً شمالياً ولم يمطر عند طلوع الشعري نفع أصحاب البلغم والرطوبات، وأضر بأصحاب المرة الصفراء، وربما نقلهم إلى المرة السوداء، والتغير الكثير يكون في تصرف الشمس، والتصرف الصيفي أكثر تغيراً من الشتوي، والخريفي أكثر تغيراً من الربيعي، وكل بلد يكثر تغير زمانه لا يكون مستوياً، ويكون فيه جبال طوال، سامية شامخة، وكل بلد يقل تغير زمانه فهو مستو.
ثم يذكر أبقراط اختلاف صور الناس في أحوالهم واعتدال خلقهم، والسبب الذي أشبه بعضهم بعضاً، وإن ذلك باتفاق الزمان والمطالع، ويذكر حال الرجال والنساء في كثرة الأولاد و قلتهم، وما يوجب النسل ويقطعه، ويقولون: إن سكان البلاد الشاهقة، المستوية، الكثيرة المياه، تكون صورهم حسنة وأجسامهم جسيمة، وتكون غرائزهم إلى اللين والتؤدة، وليسوا بأهل بأس وشجاعة، ومن سكن أرضاً رقيقة قليلة المياه، جرداء، وكان مزاج هوائها غير معتدل، كانت صورهم خاشنة، وألوانهم إلى الصفرة، أو إلى السواد، وأخلاقهم ردية، وغضبهم شديد، و طباعهم مخالفة بعضها بعضاً، لأن باختلاف الأزمان يكون اختلاف الطبائع، ثم بعد الأزمان والبلاد الغذاء بالمياه لأن غذاء الإنسان، من بعد البلاد بالمياه.
ثم يتكلم أبقراط بعد ذلك في الرياح وهبوبها، والتي تهب من موضع إلى موضع، و قسمها أربعة أقسام، ويقول: إن الريح من تخلل الهواء، وإنما نشوءها من اصطكاك أجرام الهواء، فهذه أغراض كتاب أبقراط في الأهوية والأزمنة، الذي فسره جالينوس، وشرح ما ذهب إليه أبقراط في فصل فصل ومعنى معنى.
فهذه كتب أبقراط التي عليها يعتمد وإليها يرجع، وهذه أغراضها، وقد فسرها جالينوس وشرح كل ما فصله له، وذهب إليه، وأبان عن قوله، وترجم معانيه وأوضحها.
فأما كتاب ماء الشعير، فإنه يذكر فيه الأمراض الحادة التي تسمى: وجع الجنب والرئة، والبرسام، والحمى المحرقة، وأخبر كيف يشرب ماء الشعير، والأيام التي يكون شربه فيها، وكيف يدبر، ومتى الأوقات التي ينبغي أن يشرب فيها، والأوقات التي يمنع منها، وما يكون الطعام عليه، وذكر صنوفاً من العلل الحادة والأمراض المحرقة، وقال في كل صنف منها. وأما كتابه الذي يسميه كتاب الأركان فإن معنى الأركان، أي الطبائع الأربع: الحرارة و الرطوبة، والبرودة واليبوسة، وأركان البدن وهي العصب والعروق، والعظام، والجلد، والدم، فهذه أركان بها قوام العالم.
قال أبقراط: إن الأجسام لو كانت شيئاً واحداً لم تصل الأوجاع إليها أبداً، ولكنها من أشياء مختلفة وطبائع متباعدة، مضر بعضها ببعض، وطبيعة الإنسان وسائر الحيوان، إذا صارت على هذه الصفة، فمن الضرورة ألا يكون الإنسان شيئاً واحداً بعينه، وكذلك سائر الطبائع، إنما قوامها بالرطوبة واليبس، والحر و البرد، ويتكلم في هذا بكلام واضح.
وكان لأبقراط تلاميذ ترجموا كتبه، وبعضهم عمل كتبا ونسبها إليه إقرارا له بالعلم والفضل، فمنهم دياسقوريدس صاحب كتاب الأشجار والعقاقير، فإنه وضع كتاباً في منافع الأشجار، وصور كل شجرة بصورتها، وذكر ما تنفع له تلك الشجرة، ومنهم أرسجانس صاحب الكناش الذي فيه صفة البدن.
فكان أحكم حكيم بعده، وأهم عالم بالطب، وأفهمه، لما فسر من كتاب أبقراط، هو جالينوس، على تباعد ما بينهما من السنين، فإن بينهما زماناً طويلاً، غير أنه كالذي تلا أبقراط في الحكمة، ولحق به في العلم، وفسر كتبه، وعمل كتباً كثيرة من كتب الطب التي عليها المعول، وإليها يرجع، وكان رجلاً فيلسوفاً، منطقياً، حكيماً.
فأول كتب جالينوس: كتاب في فرق الطب المخالفة بعضها بعضاً في الجنس، وهي فرقة الرأي والفكر والقياس، والفرقة الثانية فرقة التجارب، والثالثة فرقة الحيل.
وكتاب في الطعام.
وكتاب في نبض العروق.
وكتاب في تشريح العصب.
وكتاب في تشريح العروق والأوراد.
ومقالتان في علل النفس.
وأربع مقالات في الصوت.
وكتاب في منافع الأعضاء سبع عشرة مقالة.
وكتاب في تشريح الرحم.
وكتاب في علامات العين.
وكتاب في طب أصحاب التجارب.
وثلاث مقالات في ركة الرئة والصدر.
وكتاب التشريح الكبير في خمس عشرة مقالة فالمقالة: الأولى في العضل والرطوبات التي في اليدين.
والثانية في العضل الذي في الرجلين. والثالثة في العصب والعروق والأوراد التي في اليدين والرجلين.
والرابعة في العضل الذي يحرك الخدين والشفتين، والعضل الذي يحرك اللحي الأسفل إلى ناحية الرأس، وإلى ناحية الرقبة، وإلى ناحية الكتفين.
والمقالة الخامسة في عضل الصدر، والعضل الذي على المتنين، وعضل عظم الصلب. والمقالة السادسة في آلات الغذاء، وهي الأمعاء، والبطن، والكبد، والطحال، والكلي، والمثانة، والمرارة، وما أشبه ذلك. والمقالة السابعة في تشريح الفؤاد.
المقالة الثامنة في أجزاء الصدر.
المقالة التاسعة في تشريح الفؤاد.
المقالة العاشرة في تشريح العينين واللسان والمريء وما يتصل به.
المقالة الحادية عشرة في الحنجرة والعظم الذي يتصل بها، والعصب الذي تحتها.
المقالة الثانية عشرة في تشريح آلات التوليد يعني آلات المنى، والرحم، والمذاكير.
المقالة الثالثة عشرة في تشريح العروق النابضة، وهي الشريانان والعروق التي لا تنبض.
المقالة الرابعة عشرة في العصب المنبت من الدماغ.
المقالة الخامسة عشرة في العصب المنبت في الصلب.
وله كتاب التشريح غير هذا في عدة مقالات قد ذكر فيها الجلد، والشعر، و الأظفار، واللحم، والشحم، ولحم الوجه، والأغشية التي تغشى بعض الأعضاء مثل غشاء القلب، والمعدة، و الكلي، والكبد، والصفاقات، والعضلة الفاصلة بين الصدر والبطن، والمجاري، والعروق النابضة، وفصد العروق، ومن أين تبتدىء العروق، ومجاري البول فيما بين الكليتين، والمثانة إلى الذكر، ومجراه من المثانة إلى السرة في الطفل، وأوعية المرة الصفراء والمسام، والمنخرين والمجاري الخارجة من الأذنين، وقصبة الرئة، وما ينبت فيها وينبت في الرئة و الأوعية التي في الثديين، التي فيها اللبن، وباقي الأشياء المفرعة التي في البدن، التي تحويها الأوعية من أي شيء من الرطوبات، والأشياء المفرغة في أي شيء من الأوعية، وما في الرأس من الشؤون والالتحام، وغير ذلك والشؤون التي في الوجه واللحي الأسفل، وما فيه من النقب والالتحام، والأسنان، والعظم الذي على رأس قصبة الرئة، وما يتصل به من جنبتي الموضع، والعظم العريض الذي في البطن، والورك، والأضلاع، والكتفين، والمنكبين، وعظم
الترقوتين، والعضد، وعظم الساق، وعظام الكف والأصابع، وعظم الفخذ، والقصر، والذي على الركبة، وعظم الساق، وعظام القدم، واشتراك قحف الرأس بالأغشية التي على الدماغ، والعصب الذي ينبت في الوجه كله، والعضل الذي في الصدغين، والعضل الذي به يكون المضغ، والعضل الذي يحرك الخدين والشفتين واللسان، وما يحركه من العضل، والعضل الذي يحرك العينين، ويذكر الفم والشفتين، واللسان، واللثة، واللهاة، وطبق الحلقوم، والنغانغ، والأنف، والمنخرين، والأذنين، والرقبة، والعضل الذي فيها، والعضلة التي على الأصابع، والعضلة التي تحت الترقوة، وطبيعة الرقبة، وعضل الحجاب والساعد، ويقول في التشريح قولا هذا غرضه فيه.
ومقالتان في علل النفس.
وكتاب القوى الطبيعية في الأفعال النفسانية.
ومقالة في البول من الدم.
ومقالة في الأدوية المسهلة.
وكتاب يسميه آراء أبقراط وأفلاطون في قوى النفس الناطقة وهي التخيل، والفكر، والحفظ، ويقول: إن الدماغ مبتدأ العصب، والقلب مبتدأ العروق النابضة، والكبد مبتدأ العروق التي لا تنبض، والقوى التي يقوم بها البدن في عشر مقالات، ومنافع الأعضاء في سبع عشرة مقالة.
كتاب العناصر يخبر فيه أن الحار والبارد، والرطب واليابس، عناصر عامية لجميع الأجسام التي تقبل الكون، والفساد، والعناصر: الأرض والنار و الهواء والماء، وعناصر بدن الإنسان: دم وبلغم، والمرتان الصفراء والسوداء، والعنصر هو أقصى جزء في الشيء الذي هو له عنصر.
وكتاب الأمزجة، وهو ثلاث مقالات في تصنيف أمزجة أبدان الناس، وتركيب البدن الفاضل، وخصب البدن، والمزاج الردي الذي ليس يستوي، وقوى الأدوية المركبة والأدوية التي يسهل وجودها.
وكتاب حفظ الأصحاء.
وكتاب في الأطعمة.
وكتاب في الكيموس الجيد والردي.
وكتاب في التدبير الملطف.
ومقالة في تصنيف الأمراض.
ومقالة في علل الأمراض.
ومقالة في تصنيف الأمراض.
ومقالة في الغلظ الخارج من الطبيعة.
ومقالة في الامتلاء.
ومقالتان في تصنيف الحميات والأمراض الباطنة.
وكتاب في إزمان الأمراض.
وكتاب في عسر النفس.
وكتاب في البحرانات.
وكتاب في نبض العروق ومعرفة كل واحد من أجناس النبض.
والأسباب الفاعلة لأصناف النبض. وتقدمه معرفة في ست عشرة مقالة.
وكتاب حيلة البرء، وهو كتاب بين فيه طريق شفاء جميع الأمراض، واتبع ذلك في هذا الفن. ومقالة في العلل الواصلة، وهي العلل القريبة التي تصل ما بين العلة البعيدة والمريض.
ومقالة في البول من الدم في البدن.
وكتاب في فرقة أصحاب الحيل.
ومقالة في السل.
ومقالة في علاج صبي يرضع.
ومقالة في تدبير أبقراط للأمراض الحادة.
ومقالة في فصد العروق، وفسر كتب أبقراط، في فصل فصل، وقول قول، وبين الحال الحال فيه.
والذي تلا أبقراط من رؤساء الحكماء سقراط، رأس الحكماء، وأول من لفظ بحكمته ما حفظ عنه وسمع منه.
وحكي أن طيماوس قال له: أيها المعلم! لم لا تدون لنا حكمتك في المصاحف؟ قال له: يا طيماوس، ما أوثقك بجلود البهائم الميتة، وأشد تهمتك للجواهر الحية الخالدة، وكيف وجود العلم من معدن الجهل، والسبب منه من عنصر العقل؟ فقال له إيعطبطش تلميذه: لو أمليت على كتاباً يخلد عنك؟ فقال: الحكمة لا تحتاج إلى جلود الضأن.
وقال بعض تلامذته: لو زودتنا كتاباً من حكمتك تسبر به عقولنا؟ قال له سقراط: لا ترغبن في تدوين حكمه في جلود الشاء، حتى يكون ذلك أبلغ عندك من علمك ولسانك.
فلما حضرته الوفاة سأله تلاميذه أن يزودهم حكمة يرجعون إليها، فتكلم في أخلاق النفس، ثم تكلم في الفلك، وقال إنه كري، وكان قد سقي سماً فمات.
وبعده فيثاغورس، وهو أول من نطق في الأعداد والحساب والهندسة، ووضع الألحان، وعمل العود، وكان في زمن ملك يقال له أغسطس، فهرب منه، فتبعه، وركب فيثاغورس البحر حتى صار إلى هيكل في جزيرة، فأحرقه الملك عليه بالنار.
وكان لفيثاغورس تلميذ يقال له أرشميدس، فعمل المرايا المحرقة، فأحرقت مراكب العدو في البحر.
ومنهم بلينوس النجار الذي يقال له اليتيم، وهو صاحب الطلسمات، وهو الذي جعل لكل شيء طلسماً.
ومنهم أوجانس صاحب الهندسة والقسمة، وأنواع الفلسفة، وكان يقال له ديوجانس الكلب، وقيل له: لأي شيء سميت الكلب؟ قال: لأني أهر على الأشرار، وأبصبص للأخيار، وآوي الأسواق. ومنهم افليمون صاحب مخانيقاً، وهي الحركات التي تكون بالماء مثل الصورة تعمل، فيحركها الماء من غير أن يحرك شيء منها، ويخرجها من موضع، ويحطها في موضع، والآلات التي تحرك بالماء من غير أن تحرك، فتخرج فيبتلعها، وتخرج أيضاً، وترتحل محققة، وله أشكال في ذلك تعمل فتصح.
ومنهم افليمون صاحب الفراسة، وكتاب بين فيه ما تدل عليه الفراسة في الخلقة والأصوات، والشمائل، وبرهن ذلك.
ومنهم ديمقراطيس، وهو الذي يزعم أن العالم مركب من هباء، وله كتاب في طبائع الحيوان، وما يوافق منها طبائع الإنسان.
ومنهم أفلاطون، وكان تلميذاً لسقراط، وهو الذي تكلم في النفس وصفاتها مثل ما تكلم به أبقراط في الجسد وصفاته فقال: إن للنفس ثلاث قوى: إحداها في الدماغ، وبه يكون الفكر و الروية، والثاني في القلب، وبه يكون الغضب والشجاعة، والثالث في الكبد، وبه تكون الشهوة والمحبة، ثم اطرد الكلام في الروح النفسانية حتى وصف الأعضاء كلها، ثم ذكر ما يصلح النفس وما يفسدها، فقال: إن كل عيب مضاد خلاص النفس، فلا ينبغي أن نعد الحياة صالحة فقط، ولكن موتاً صالحاً، وينبغي أن نعد الحياة والموت صالحين.
ومنهم إقليدس صاحب كتاب إقليدس في الحساب، وتفسير إقليدس: المفتاح، على ما قال بطليموس، إنه تقدمه لمعرفة الحساب، ومفتاح علم كتاب المجسطي في النجوم، ومعرفة الأوتار التي تقع على قسي قطع الدوائر التي هي أفلاك الكواكب، التي يسميها المنجمون الكردجات، لتعديل مسير الكواكب في الطول والعرض، وسرعتها، وإبطائها، واستقامتها، ورجوعها، و تشريقها، وتغريبها، ومساقط شعاعها، وعلم ساعات الليل والنهار، ومطالع البروج، واختلاف ذلك في أقاليم الأرض، وحساب القران والاستقبال، وكسوف الشمس والقمر، واختلاف النظر من آفاق الأرض في جميع نواحي السماء.
وكتاب إقليدس ثلاث عشرة مقالة، ولها من الأشكال في هذه الثلاث عشرة مقالة أربعمائة واثنان وخمسون شكلاً بالبرهان والشرح الذي، إذا فهمه من يطلب علم الحساب، سهل عليه كل باب من الحساب، وانفتح له. فيبتدىء بذكر الأسباب التي منها يزلف العلم، وبمعرفتها يحاط بالمعلوم، وهي: الخبر، والمثال، والخلف، والترتيب، والفصل، والبرهان، والتمام، فأما الخبر، فهو خبر المقدم على الجملة، قبل التفسير، وأما المثال، فهو صورة الأشكال المخبر عنها، المدلول بصفتها على معنى الخبر، وأما الخلف، فهو خلاف المثال، وصرف الخبر إلى ما لا يمكن، وأما الترتيب، فهو تأليف العمل المتفق على مراتبه في العلم، وأما الفصل، فهو الفصل بين الخبر الممكن وغير الممكن، وأما البرهان، فهو الحجة على تحقيق الخبر، وأما التمام، فهو تمام العلم بالمعلوم. والمقالة الأولى في النقطة التي لا جزء لها، والخط الذي هو طول بلا عرض، وهو سبعة وأربعون شكلاً.
المقالة الثانية في كل سطح متوازي الأضلاع، قائم الزوايا، يحيط به الخطان المحيطان بالزاوية القائمة، وهي أربعة وأربعون شكلاً.
المقالة الثالثة في الدوائر المتساوية التي أقطارها متساوية، والخطوط التي تخرج من مراكزها إلى الخطوط المحيطة بها، والخط المماس الدائرة الذي يجوزها، ولا يقطعها، وهي خمسة وثلاثون شكلاً.
المقالة الرابعة إذا كان شكل في شكل، وكانت زوايا الشكل الداخل تماس أضلاع الشكل الخارج وهي ستة عشر شكلاً.
المقالة الخامسة في الجزء الذي هو مقدار الأكبر من المقدار الأصغر من الأعظم، إذا كان يعده، وهي خمسة وعشرون شكلاً.
المقالة السادسة في السطوح المتساوية التي زوايا كل سطح منها مساوية لزوايا السطح الآخر، والأضلاع التي تكون تحيط بالزوايا المتساوية متناسبة، والسطوح المتكافية الأضلاع التي تكون أضلاعها متناسبة، وهي اثنان وثلاثون شكلاً.
المقالة السابعة في الواحد والعدد الزوج الذي ينقسم بقسمين متساويين.
والعدد الفرد الذي لا ينقسم بقسمين متساويين، ويزيد على الزوج بواحد.
والعدد الذي يسمى زوج الزوج، وهو الذي كل زوج يعده بعدة مرات عددها زوج.
والعدد الذي يسمى زوج الفرد، وهو الذي كل زوج يعده بعدة مرات عددها فرد.
والعدد الذي يسمى فرد الفرد، وهو الذي كل فرد يعده بعدة مرات عددها فرد.
والعدد الذي يسمى أول هو الذي يعده الواحد فقط.
والأعداد التي كل واحد منها أول عند الآخر، هي التي ليس بها عدد مشترك يعدها جميعاً إلا الواحد فقط. والعدد المركب هو الذي يعده عدد آخر.
و الأعداد التي كل واحد منها مركب عند الآخر هي التي يعدها عدد آخر مشترك لها.
والعدد المضروب في عدد آخر هو الذي يضاعف بعده ما في المضروب فيه من الآحاد، ويكون ما اجتمع عدداً آخر.
والعدد المربع هو المجتمع من ضرب عدد في نفسه، ويحيط به عددان متساويان.
والعدد المكعب هو المجتمع من ضرب عدد في نفسه، ثم في نفسه، ويحيط به ثلاثة أعداد متساوية.
والعدد المسطح هو الذي يحيط به عددان. والعدد المصمت هو الذي يحيط به ثلاثة أعداد. والعدد التام هو المساوي لجميع أجزائه.
والأعداد المتناسبة هي التي يكون في الأول منها من أضعاف الثاني مثل ما في الثالث من أضعاف الرابع.
والأعداد المسطحة والمصمتة المتشابهة هي التي أضلاعها متناسبة، وهذه المقالة تسعة وثلاثون شكلاً.
المقالة الثامنة في الأعداد التي تلي بعضها بعضاً والطرفين اللذين كل واحد منهما أول عند الآخر، وهي خمسة وعشرون شكلاً.
المقالة التاسعة في ضرب الأعداد المسطحة المتشابهة، وما يكون من ضرب العدد في العدد المربع.
والأعداد التي يعد بعضها بعضاً.
والعدد المكعب في العدد المكعب، وما يكون من ضرب المكعب في عدد غير مكعب، وما يكون من الأعداد المؤلفة على نسب يتلو بعضها بعضاً من المربع، وكيف يكون المكعب وما يكون في الأعداد المتناسبات من المصمت المكعب والمسطح.
والأعداد التي يعد بعضها بعضاً وكيف تنتقض الأزواج من الأزواج، والأفراد من الأفراد، والأزواج من الأفراد، والأفراد من الأزواج، وهي ثمانية وثلاثون شكلاً.
المقالة العاشرة في الخطوط التي يكون لها مقدار واحد مشترك يقدرها جميعاً، يقال لها المتقادرات، والخطوط المتباينات التي ليس لها مقدار واحد مشترك يقدرها جميعاً، والخطوط المتقادرات التي يكون لمربعاتها سطح واحد يكون مقداراً لها يقدرها، وهي مائة وأربعة أشكال. المقالة الحادية عشرة في المصمت الذي له طول وسمك وسطح، وهي أحد وأربعون شكلاً. المقالة الثانية عشرة في السطح الكثير الزوايا المتشابهة التي قدر بعضها عند بعض في الدوائر، كعدد المربعات التي تكون من أقطار الدوائر، وهي خمسة عشر شكلاً.
المقالة الثالثة عشرة وهي آخر مقالات إقليدس في خط يقسم على ذات وسط وطرفين، وهي واحد وعشرون شكلاً.
ولأقليدس هذا كتاب في المناظر، واختلافها من مخارج العيون والشعاع، يقول فيه: إن الشعاع يخرج من العين على خطوط مستقيمة، وتحدث بعد سموت لا نهاية لكثرتها، فإن الأشياء التي يقع عليها الشعاع تبصر، والتي لا يقع عليها الشعاع لا تبصر، ويمثل في ذلك أشكالاً مختلفة يبين بها مخرج النظر، وكيف تختلف عدة الأشكال التي يبين بها ذلك وهي أربعة وستون شكلاً.
ومنهم نيقوماخس الحكيم الفيثاغوري، وهو الذي يسمى القاهر عند المفاضلة، وهو أبو أرسطاطاليس، وله كتاب الأرثماطيقي الذي قصد فيه لإبانة الأعداد، وذكر ما تقدمت به الفلاسفة.
فقال نيقوماخس: إن القدماء الأولين الذين أظهروا العلم ونفذوا فيه، وكان أولهم فيثاغورس، حدوا بأن قالوا: إن الفلسفة معناها الحكمة، وإن اسمها مشتق منها، فقالوا: الحكمة حقيقة العلم بالأشياء الدائمة، وأفتن في صدر الكتاب في ذكر الحكمة وفضلها، وما قالته الحكماء في فضيلة العلم، ثم افتتح كتابه فقال:
إن جميع ما في الدنيا من الأشياء المحكم في الطبيعة تقديرها، إنما هو بالعدد، وقد يحقق القياس قولنا: إن العدد بمنزلة المثال الذي يحتذي عليه، وهو كله بكماله معقول، وهذه الأشياء التي تلحقها كلمة الكمية، وهي أشياء مختلفة، فمن الاضطرار أن يكون هذا العدد اللازم بهذه الأشياء مؤلفاً مقدراً على حدته لا من أجل غيره، فإن كل مؤلف إنما هو من أشياء مختلفة لا محالة، ومن أشياء موجودة، فإن التي ليست بموجودة لا يقدر على تأليفها، وما كان منها موجوداً، إلا أنها غير متشاكلة، يمكن تأليفها، والأشياء المؤتلفة إنما تألفت من أشياء موجودة مختلفة متشاكلة، لأنه إن لم يكن مختلفاً، فهو واحد لا يحتاج إلى ائتلاف، فإن لم يكن متشاكلا فليس بمتجانس، وإن ليس متجانساً، فإنما هو متضاد لا يقع به ائتلاف.
والعدد هو من هذه الأشياء، فإن فيه نوعين مختلفين، متشاكلين، متجانسين، وهو الزوج والفرد فإن ائتلافهما على حسب اختلافهما يعد تألفا مشتبكاً لا انقضاء له.
فالقول الأول من الأرثماطيقي في أبواب أحدها حدود العدد، وهو ينقسم قسمين يقال لأحدهما الفرد، والآخر الزوج، فالفرد ينقسم ثلاثة أقسام: منه أول غير مركب، وهو الذي لا يعده عدد مثل سبعة، وأحد عشر.
ومنه ثان مركب، وهو الذي له عدد مثل: تسعة، وخمسة عشر.
ومنه ثالث مركب بطبعه، وعند الإضافة إلى مركب آخر أول، وهما اللذان لكل واحد منهما عدد يعده، وليس لهما عند المقايسة عدد مشترك مثل: تسعة إلى خمسة وعشرين.
والزوج ينقسم ثلاثة أقسام منه زوج الزوج، وهو المنقسم أزواجاً إلى الوحدانية، مثل: أربعة وستين.
ومنه زوج الفرد، وهو المنقسم مرة واحدة بنصفين، ثم يقف مثل: أربع عشرة وثماني عشرة. ومنه زوج الزوج والفرد، وهو الذي لا ينقسم نصفين أكثر من مرة، ولا ينتهي إلى الوحدانية، وتكلم في هذا بكلام مشروح.
والقول الثاني في الكمية المفردة، وهو العدد الزائد والعدد المعتدل والناقص، فأما الزائد، فهو الذي تزيد جملة أجزائه على جملته إذا اجتمعت الأجزاء مثل: اثني عشر، وأربعة وعشرين، فإن الاثني عشر لها نصف وثلث وربع وسدس، وجزء من اثني عشر، فإذا جمعتها زاد العدد و المعتدل الذي تعادل جملة أجزائه جملته مثل: ستة، وثمانية وعشرين، فإن لستة نصفاً وثلثاً وسدساً، فيكون مبلغه، إذا جمع، ستة سواء، والناقص الذي تنقص جملة أجزائه من جملته مثل ثمانية، وأربعة وعشرين، فإن الثمانية لها نصف وربع وثمن، فإذا اجتمع كان سبعة ونقص واحداً وجعل في ذلك أشكالاً.
وأصح القول القول الثالث في الكمية المضافة، وهي تنقسم قسمين: أحدهما المعادلة لما أضيف إليها مثل المائة المعادلة للمائة، والعشرة المعادلة للعشرة، ومنه الخروج عن الاعتدال، وينقسم قسمين: أحدهما كبير والآخر صغير، فالكبير ينقسم خمسة أقسام، فمنه: المتضاعف مثل اثنين من أربعة، وأربعة من ثمانية، ومنه الزائد جزءا مثل ثلاثة عند أربعة، فإن الأربعة مثلها و مثل ثلثها، ومنه الزائد جزءين مثل ثلاثة، وهي أول الأفراد، إلى الخمسة، وهي الثانية من الأفراد، فتحدث زيادة جزءين، ثم على هذا الترتيب تحدث زيادة أجزاء، ومنه المضاعف الزائد جزءا، وهو يظهر بين عددين: أحدهما مثل الآخر ومثل جزء منه كالخمسة، إذا أضيفت إلى الاثنين، فإنه مثل مضاعف الاثنين و زيادة جزء، ومنه المضاعف الزائد جزءين مثل أربعة عند واحد، والصغير ينقسم على خمسة أقسام: منه تحت المضاعف، ومنه تحت الزائد جزء، ومنه تحت الزائد أجزاء، ومنه تحت المضاعف أجزاء.
ثم يقول في الأعداد الثلاثة التي أحدها كبير والآخر وسط والثالث صغير، فإذا طلب اعتدالها ألقي من الأوسط مثل الأصغر، ومن الأعظم مثل ما بقي من الأوسط، ومثل الأصغر، فإذا تعادلت الأعداد فقد تمت إضافتها.
ثم يقول فيما يزيد من الأعداد وينقص في المضاعفات، ويجعل لذلك شكلاً مثلياً بركنين، وفي الشكل واحد وعشرون بيتاً: فالأول ستة أبيات، و أوله واحد، ثم يضعفه إلى اثنين وثلاثين، والثاني خمسة أبيات، وأوله ثلاثة، ثم يضعفه إلى ثمانية وأربعين، والثالث أربعة أبيات، وأوله تسعة، ثم يضعفه إلى اثنين وسبعين، والرابع ثلاثة أبيات، وأوله سبعة وعشرون، ثم يضعفه إلى مائة وثمانية، والخامس بيتان أوله واحد وثمانون، ويضعفه فيصير مائة واثنين وستين، والسادس بيت، وهو آخره، مائتان وثلاثة وأربعون.
ثم يقول في العدد المربع الذي يزيد عليه ضعفه، ثم يتكلم في السطوح والخطوط والنقط، ويصف السطوح المثلثة والمربعة والمسدسة، والأضلاع التي يقوم بها السطوح ومسائحها.
ثم يقول في العدد المخمس ذي الأضلاع المعتدلة المخمسة، وكيف نموها، ثم المسدسة، ثم المسبعة، ثم المثمنة، ثم يصف كيف تركيبها، ويضرب لها جدولاً خمسة في تسعة، ويتكلم في أجزاء من المثلثات والمربعات والمخمسات والمسدسات مما له جرم بلا سطح، وما له جرم وسطح.
ثم يقول في تركيب الأشياء التي تركب من أخلاط شتى.
ثم يقول في الوسائط التي هي ثلاثة أنواع: واحد للحساب، والثاني للمساحة، والثالث لتأليف اللحون، ويقول إن بعض الأولين جعلوها عشراً، وبين وسائط الحساب، ووسائط المساحة، ووسائط اللحون، ويتكلم في كل نوع منها بكلام مشروح وبرهان بين.
ومنهم اراطس الذي عمل صورة الفلك كهيئة البيضة، فحكى بها الفلك، وصور فيها البروج.
ومنهم أرسطاطاليس بن نيقوماخس الجهراسيني، وكان تلميذاً لأفلاطون، فتكلم في العالم العلوي والسفلى، في صلاح العالم وفساده، وفي أخلاق النفس، وفي حقيقة المنطق، ووضع أصول الحكمة وانقسامها وتشعبها، فأول كتبه: كتاب المدخل إلى علم الفلسفة، وهو الذي يسمى باليونانية إيساغوجي، فأوله ذكر الحد، وما قوام الحد، ومن أين اشتق اسم الحد، وما فضيلة الحد، وما فيه فساد الحد، والفرقة بين الحد والمحدود.
والثاني ذكر الفلسفة، وكيف اشتقت. والثالث كتاب قوى النفس التي هي بالفكر والغضب والشهوة، فما خرج عن هذا الاعتدال كان فاسداً.
والكتاب الرابع في المنطق الذي هو أصل الفلسفة.
والكتاب الخامس يذكر فيه انقسام الأشياء ضربين: ما لا بد منه، كالغذاء، وما منه بد، كتنظيف الثوب.
والكتاب السادس في الأمور، وهي ثلاثة: واجبة كقولك: النار حارة، وممكنة كقولك: زيد كاتب، وممتنعة كقولك: النار باردة.
والكتاب السابع في الجنس، وهو ثلاثة أقسام: جنس العادة، وجنس الطبيعة والكتاب الثامن يذكر فيه ما لا يتجزأ، وهو ينقسم على أربعة: إما لأنه لا أجزاء له كالنقطة، و إما لصغره كحبة الخردل، وإما لصلابته كالحجر، وإما أنه لا على أجزاء.
والكتاب التاسع في المناسبة، وهو على أربعة: إما طبيعة كمناسبة الأب لابنه، وإما مهنة كمناسبة التلميذ معلمة، وإما مشيئة كمناسبة الصديق صديقه، وإما عرضية كمناسبة العبد سيده. ثم كتبه بعد ذلك في أربعة أنواع: أحدها المنطقيات، والثاني في الطبائع، والثالث فيما يوجد مع الأجسام ويواصلها، و الرابع فيما لا يوجد مع الأجسام ولا يواصلها.
وكتبه في المنطق ثمانية: فالأول سمي بقاطيغورياس، وغرضه فيه القول على المقولات المفردة العشر، ورسمها بما يميز به كل واحد منها من غيره، وما يعمها ويعم العدة منها، و ما يخص كل واحد منها، فحد الأشياء التي تقدمها في الوصف والشبه منها: أن جوهراً محمولاً، وجوهراً حاملاً ليس بجوهري فيه بل عرضي، وأن عرضاً حاملاً وعرضاً محمولاً عليه أي منقولاً عليه ليبين أن جواهر محسوسة، وأعراضاً ثواني غير محسوسة مقولة على المحسوسة، وأعراضاً محسوسة، وأعراضاً ثواني غير محسوسة مقولة على المحسوسة، ويبين عن العشرة بأعيانها، وبرسومها، وعوامها، وخواصها، وهذه العشرة: الجوهر، ثم الكمية، ثم الكيفية، ثم المضاف، ثم الأين، ثم المتى، ثم الفاعل، ثم المفعول، ثم الوضع، ثم الجد.
وإنما سمي كتاب المقولات لأن هذه الأسماء أجناس، وهي مقولة من الأنواع، والواحد
بمنزلة الجوهر، فإنه مقول على الجسم، والجسم مقول على المتنفس وغير المتنفس، والمتنفس مقول على الحيوان والنبات، والحيوان مقول على الإنسان والفرس والأسد، والإنسان مقول على زيد وعمرو وخالد التي هي غير متجزئة، والفرس على هذا الفرس بالإشارة، وذلك الفرس بالشبه والكمية مقولة على المتصلة والمنفصلة وسائر أجزائها، وكذلك سائر الأجناس. والثاني هو المسمى بكتاب التفسير، وغرضه فيه القول على التفسير للقضايا المقدمات للمقاييس العلمية، أعني الجوامع التي هي أخبار موجبة أو سالبة أو ما في أوله، فبين عما منه تكون القضايا من الاسم، والحرف، والقول، والتصريف، والمخبر عن القول، وعن القضايا المؤلفة من اسم وحرف، وثالث ورابع كقولنا: النار هي حارة، وما يعرض في ذلك، وفي الفحص عن أي القضايا أشد تناسباً الموجبة لسالبها أم الموجبة للموجبة المضادة لها.
وإنما سماه كتاب التفسير لأنه أراد المقالة على الجزم، والبسيط المقول، الذي ليس فيه اشتراك اسم، وأراد أن يفصل بينه وبين القول الذي ليس بجازم، الذي يكذب ولا يصدق، وهو تسعة: الاستخبار كقولك: من أين جئت؟ والدعاء كقولك: يا فلان أقبل! والراغب كقولك في الأمر: إني أطلب إليك أن تفعل كذا وكذا، والتعجب كقولك في الأمر: ما الذي يكون من هذا؟ والقسم كقولك: أقسمت بالله لتذهبن، والشك كقولك: لعل الأمر على ما قيل، والوضع كقولك: تكون هذه الضيعة وقفاً على المساكين، والمجازي كقولك: إن فعلت كذا وكذا أجزتك بكذا. والمقالة قد تلقب ألقاباً شتى في جهات مختلفة، فإذا كان القول يوجب شيئاً لشيء سمي موجبة، وإذا كان يفلت شيئاً من شيء سمي سالبة، وإذا كان مقدما ليستخرج منه شيء سمي مقدمه، فإذا كان مستخرجاً من مقدمات قبله سمي نتيجة، وإذا كانت مقدمات ونتيجتها معها سمي صيغة.
والثالث المسمى أنوليطيقا ومعناه النقائض، وغرضه فيه الإبانة عن الجوامع المرسلة، أعني ما هي، وكيف هي، ولم هي، وغرضه النوع الجامع للمعاني الثلاثة، وما قيل على الجامعة المرسلة، ووجود الجامعة، وكيف تركيب الجوامع، ولكم نوع يكون، وما الذي يظهر من صوادقها بذاته، وما الذي يظهر من الحركة. والكتاب الرابع المسمى أبودقطيقا ومعناه الإصلاح، وغرضه فيه الإبانة عن الأمور المتضحة البرهانية، وكيف هي، وما ذا ينبغي أن يؤلف، ويسمى هذا الكتاب البيان والبرهان، لأنه يصف فيه التمييز الذي يميز به الحق من الباطل، والصدق من الكذب، فيقول: إن المقدمات على جهة المقدمة المجتمعة عليها، المعروفة عند العامة، المركبة من الجزئين السابقين في العلم، بمنزلة قول القائل: كل إنسان حي.
والثانية الموجبة للمجادلة، فإنها، وإن كانت صحيحة في نفسها، مجهولة عند العامة، وهي تحتاج إلى وساطة يعرف بها صحتها، بمنزلة قولنا: كل إنسان جوهر.
فأما كتابه الخامس المسمى طوبيقا فغرضه فيه الإبانة عن الأسماء الخمسة التي هي: الجنس، والنوع، والفصل، والخاصة، والعرض، عن الحد، فتعرف ماهية الجنس، وماهية النوع، لئلا يذهب عن أحدها الجنس والنوع، فإنما يعرف هذا بالفصل الذي يفصل بين النوع و الجنس، وما خاصية كل واحد منهما، أو ما الأعراض من الجواهر.
وأما كتابه السادس، وهو المسمى سوفسطيقا، فغرضه فيه القول على المغالطة، ويقول كم نوعا تكون المغالطة، ويخبر كيف الاحتراس من قبول تلك الأغاليط، وهو الذي رد فيه على السوفسطائية.
وأما كتابه السابع، وهو المسمى ريطوريقا، ومعناه البلاغة، فغرضه فيه القول في الأنواع الثلاثة: في الحكومة، وفي المشورة، وفي الحمد، وفي الذم، والجامع لها التقريظ.
وأما كتابه الثامن، وهو المسمى فوايطيقا، فغرضه فيه القول على صناعة الشعر، وما يجوز فيه الشعر، وما يستعمل من الأوزان، وكل نوع فهذه أغراضه في كتبه المنطقيات الأربعة المقدمة، والأربعة الثانية.
فأما كتبه الطبيعية فالأول كتاب سمع الكيان، وهو الخبر الطبيعي بين فيه عن الأشياء الطبيعية، وهي خمسة، المشتملة على الطبائع كلها التي لا وجود لشيء من الطبائع دونها، وهي:
العنصر، والصورة، والمكان، والحركة، والزمان، فإنه لا وجود لزمان إلا بحركة، ولا وجود لحركة إلا بمكان، ولا وجود لمكان إلا بصورة، ولا وجود لصورة إلا بعنصر، وهذه الخمسة منها اثنان جوهران، وهما: العنصر والصورة، وثلاثة أعراض جوهرية.
والثاني هو المسمى كتاب السماء والعالم، وغرضه فيه الإبانة عن الأشياء الفلكية غير ذوات الفساد، وهي صنفان: أحدهما صنف مستدير الصنعة، وحركته الاستدارة، وهو الفلك المحيط بالأشياء، وهو ركن خامس لا يلزمه الكون، ولا الفساد، والصنف الثاني الفلكي المستدير بالتكوين، وإن لم يكن مستديراً بالحركة، وهي الأربعة الأركان: النار والهواء والأرض والماء، فإن هذه ليست بمستديرة الحركة بل مستقيمة الحركة، مستديرة بالكون، والمستديرة الكون هي التي يكون بعضها من بعض، بالانقلاب، بمنزلة الشيء الذي يستدير وينقلب، بمنزلة النار التي تستدير وتنقلب فتكون من الهواء، والهواء من الماء، والماء من الأرض، وكل واحد من هذه الأركان يستدير بالكون بعضه على بعض، فالنار والهواء إلى فوق، والماء والأرض إلى أسفل. وكتابه الثالث هو المسمى كتاب الكون والفساد، وغرضه فيه الإبانة عن ماهية الكون والفساد، ككون الماء هواء، والهواء ماء، وكيف يكون، وكيف يفسد بالطبيعة.
والكتاب الرابع في الشرائع، وهو كتاب المنطق في الآثار العلوية، وغرضه فيه الإبانة عن عرض الكون والفساد، وكون كل كائن وفساده، مما بين نهاية فلك القمر إلى مركز الأرض، فيما بين الجو وما على الأرض، وما في بطنها، وعن الآثار العارضة فيها: كالسحاب، والضباب، والرعد، والبرق، والريح، والثلج، والمطر، وغير ذلك.
وكتاب في المعادن، وهو الخامس، وغرضه فيه الإبانة عن كون الأجرام المتكونة في باطن الأرض، وكيفياتها، وخواصها، وعوامها، والمواضع الخاصة بها.
والكتاب السادس في الإبانة عن علل النبات، وكيفياته، وخواصه، وعوامه، وعلل أعضائه، والمواضع الخاصة به، وحركاته، فهذه أغراضه في كتبه الطبيعية.
فأما كتبه النفسانية، فهما كتابان: فكتابه الأول منهما كتاب النفس، وغرضه فيه الإبانة عن ماهية النفس، وقوامها، وفصولها، وتفصيل الحس، وتعديد أنواعه، وفضائل النفس وعاداتها، والأمور المحمودة منها، والأمور المذمومة منها، فالمحمودة: المنطق، والعدل، والحكمة، والحكم، والحلم، والشجاعة، والقوة، والجرأة، وشرف النفس، والتحرج، والأمور المذمومة منها: الجور، والفسق، والنفاق، والغش، والكذب، والنميمة، والخيانة.
والكتاب الثاني في الحس والمحسوس والإبانة عن علل الحس للمحسوس، وغرضه فيه أن يخبر ما الحس والمحسوس، وكيف يقبل الحس الأشياء المحسوسة، وكيف يكون الحس والمحسوس شيئاً واحدا، وهما مختلفان في الأدوات، وهل الأشياء بذواتها وأجرامها أم بذواتها دون أجرامها.
ثم كتابه في الكلام الروحاني، وغرضه فيه ذكر الصورة المجردة من الهيولى، التي في العالم الأعلى، والقوى الروحانية، ومعرفة اتصال قوى تلك الصور بالقوى الطبيعية، وهل هي بحركة، أو بلا حركة، وكيف تدير تلك القوى هذه القوى، وأن كل واحد من القوى الجرمية الغليظة جزء من تلك الأشياء الشريفة، وبين ما العقل، وما المعقول، وما النفس الكلية، وما هبوطها وطلوعها.
ثم كتابه في التوحيد، فقال: إن العلية الثانية علة العلل، والدهر تحتها، وهي مبدعة الأشياء، والإبداع لها، وقال في هذا قولا بين فيه التوحيد.
فأما كتبه في الخلق والإبانة عن أخلاق النفس، والسعادة في النفس والبدن، وتدبير العامة و الخاصة، وتدبير الرجل امرأته، والسياسة، و تدبير المدن، وقصص أهل التدبير للمدن، فهذه أغراض كتب أرسطاطاليس الحكيم المذكورة الشريفة، وما بعدها من الكتب فتبع لها.
ومن حكماء اليونانيين بطليموس وهو الذي وضع كتاب المجسطي، وكتاب ذات الحلق، وذات الصفائح، وهي الأسطرلاب والقانون، فأما كتاب المجسطي، ففي علم النجوم، والحركات، وتفسير المجسطي الكتاب الأكبر، وهو ثلاث عشرة مقالة، فابتدأ المقالة الأولى من المجسطي بذكر الشمس، لأنها الأس لا يوصل إلى علم شيء من حركات الفلك إلا بها، فقال في الباب الأول: إن الشمس فلك خارج المركز عن مركز العالم قد سمت ناحية منه، مصعدة نحو ما يحاذي بها من فلك البروج، متباعدة عن مركز الأرض، ودنت الناحية الأخرى منه، منحدرة نحو الأرض، متباعدة عما يحاذي بها من فلك البروج، فموضع السمو هو الموضع الذي فيه تبطىء الشمس، وموضع الدنو هو الذي فيه تسرع، ثم تكلم في ذلك بقول واضح.
والباب الثاني في قدر كلية الأرض عند كلية السماء ووضعت وضع الفلك المائل، وموضع عمران الأرض، ومقادير ساعاتها فيما بين خط الاستواء إلى القطب الشمالي، واختلاف ما بين هذين الموضعين، وقدر ذلك الاختلاف في نواحي الأفق من قبل اختلاف مواضع أهل الأرض، وحركة الشمس والقمر.
والباب الثالث في الكرة المستقيمة مع قسي فلك البروج المفروضة.
والمقالة الثانية ثلاثة عشر باباً: الباب الأول في المواضع المسكونة من الأرض.
الباب الثاني في معرفة مقدار ما بين الفلك المستقيم وبين مطلع الفلك المائل من تقويس دائر أفق المطلع، ومقادير النهار في كل يوم في طوله وقصره.
الباب الثالث في معرفة ارتفاع القطب وانخفاض الأخرى التي هي مقابلته، وهو عرض الإقليم من الصفة والرسوم قبل ارتفاع القطب، وما بقي إلى منتهى سمت الرءوس التي في تدوير وسط السماء.
الباب الرابع في معرفة مر الشمس في سمت رؤوس أهل البلاد أين يكون ذلك، ومتى يكون، وفي أي موضع من أجزاء البروج تكون الشمس يومئذ فوق رؤوسهم.
الباب الخامس في مقدار الظل نصف النهار في برجي الاستواء، وبرجي التغير.
الباب السادس في خواص المواضع من طريق ما بين المشرق والمغرب، والخطوط التي يوازي بعضها بعضاً في استواء ما بينها من العرض.
الباب السابع في اختلاف مطالع الفلك المائل عن طلوع الفلك المستقيم. الباب الثامن في جدوله مطالع خطوط أقاليم الأرض ومطلع طريقه خطاً خطاً.
الباب التاسع في معرفة طول الليل والنهار من أزمان ساعات الأقاليم، ومعرفة مطالع أجزاء البروج، والجزء الطالع، والجزء المتوسط السماء.
الباب العاشر في الزوايا التي تقع فيما بين الفلك المائل، وبين تدوير منتصف النهار الذي في وسط السماء.
الباب الحادي عشر في الزوايا التي تقع بين الفلك المائل، وتدوير أفق المطلع إلى حد الجنوب من ربع الدوائر في كل إقليم من الأقاليم.
الباب الثاني عشر في الزوايا والتقاويس التي تكون في دائرة الأفق التي تدور على قطب دائرة الأفق، في مواضع الأقاليم.
الباب الثالث عشر في وضع جداول القسي والزوايا التي في أقاليم الأرض، فهذه أبواب المقالة الثانية.
المقالة الثالثة من المجسطي عشرة أبواب، فالباب الأول في معرفة مقدار طول السنة، وعدد أيامها.
الباب الثاني في وضع الجداول لحركة الشمس الوسطى.
الباب الثالث في معرفة جهات الحركة المستديرة المتفقة.
الباب الرابع في معرفة ما يظهر من اختلاف حركة الشمس في المنظر والرؤية.
الباب الخامس في الأبحاث الجزئية عن الاختلاف.
الباب السادس في صنعة فصول جداول القطع الجزئية الاختلاف.
الباب السابع في وضع جداول اختلاف حركة الشمس.
الباب الثامن في معرفة موضع الشمس في مسيرها الأوسط.
الباب التاسع في حساب الشمس ومعرفة حقيقة موضعها.
الباب العاشر في معرفة اختلاف الأيام ما بين نهار يوم وليلته وبين نهار يوم آخر وليلته. المقالة الرابعة من المجسطي أحد عشر باباً، فالباب الأول: من أي الأرصاد ينبغي أن يكون البحث عن القمر.
الباب الثاني في معرفة أزمان أدوار القمر.
الباب الثالث في معرفة تقسيم حركات القمر الوسطى.
الباب الرابع في وضع جداول تكون فيها حركات القمر الوسطى.
الباب الخامس في أن الجهتين جهة مركز الخارج وجهة فلك التدوير، في حركات القمر، تدلان على أمر واحد.
الباب السادس في برهان اختلاف حركة القمر الأولى المفردة.
الباب السابع في تقويم مسير القمر في الطول والاختلاف.
الباب الثامن في معرفة موضع حركات القمر الوسطى في الطول والاختلاف.
الباب التاسع في تقويم مسير القمر الأوسط في العرض وفي ابتدائه.
الباب العاشر في وضع جداول اختلاف القمر المفرد.
الباب الحادي عشر في أي مقدار يكون اختلاف القمر.
فهذه الأربع المقالات تجزي عن جميع ما يحتاج إليه من كتاب المجسطي، وتسع مقالات بعدها في صفة المراكز، وتقديم حركة التدوير، وصنعة جداول الحركة، وجداول طول الكواكب.
وأما كتاب: في ذات الحلق، فإنه ابتدأ بذكر عمل ذات الحلق، وهي تسع حلقات، بعضها في جوف بعض، إحداهن ذات علاقة، والثانية المعترضة فيها من المشرق والمغرب، والثالثة الحلقة التي تدور بهاتين الحلقتين على ما بين أسفلها إلى أعلاها، والرابعة الجارية تحت الحلقة ذات العلاقة، والخامسة حاملة نطاق البروج، وفيها تركيب المحور، والسادسة حاملة نطاق البروج الاثني عشر، والسابعة تحت حلقتي الفلك، وهي حلقة مركبة في المحور ليؤخذ بها عرض الكواكب الثابتة، الجارية فيما بين أرباع الفلك، والحلقة الثامنة جارية في حجري المحور، والحلقة التاسعة مركبة في الحلقة الثانية لمجرى الفلك المستقيم يحط في الجنوب، ويرفع السماء على قدر انتقال الفلك المستقيم، ويذكر فيه كيف يبتدأ بعملها، وكيف يكتب عليها، وكيف تركب كل واحدة في الأخرى، وكيف تجزى وتخطط وتسمر حتى لا تزول، وكيف تنصب.
ثم يذكر العمل بها في تسعة وثلاثين باباً، فالباب الأول من أبواب مواضع العمل في ذات الحلق والتداوير التي فيها. الباب الثاني في امتحانها.
الباب الثالث في أخذ ظل الشمس بها.
الباب الرابع إذا أردت أن تأخذ بها عرض إقليم، أو مدينة، أو موضع.
الباب الخامس إذا أردت أن تأخذ بها عرض كل إقليم ما هو.
الباب السادس إذا أردت أن تعرف النهار كيف يقصر ويطول في السرطان.
الباب السابع إذا أردت معرفة مقدار كل يوم من أيام السنة.
الباب الثامن إذا أردت معرفة استواء الليل والنهار في الإقليم الأول.
الباب التاسع إذا أردت أن تعلم كيف تطلع البروج في الأقاليم بأقل من ثلاثين جزءاً أو أكثر. الباب العاشر علم رد أجزاء البروج إلى جزء الفلك المستقيم.
الباب الحادي عشر في معرفة كل برج، وكيف يغيب بمطلع نظيره، ويطلع بمغيبه في الأجزاء. الباب الثاني عشر إذا أردت أن تعلم كيف تطلع البروج وسط السماء على اختلاف من أجزائها. الباب الثالث عشر إذا أردت معرفة كل برج منها.
الباب الرابع عشر إذا أردت معرفة الطالع والأوتاد الأربعة بالنهار من قبل الشمس.
الباب الخامس عشر إذا أردت معرفة الطالع بالليل من القمر والكواكب.
الباب السادس عشر إذا أردت أن تعلم كم ساعة مضت من النهار.
الباب السابع عشر إذا أردت أن تعلم أي ساعة يظهر القمر، أو كوكب من الكواكب الثابتة. الباب الثامن عشر إذا أردت أن تعلم ساعات القرانات.
الباب التاسع عشر إذا أردت أن تعرف مقدار المشرقين والمغربين في كل بلد.
الباب العشرون إذا أردت أن تعلم لكل برج مقدار مطلعه من المشرق، ومغربه من المغرب.
الباب الحادي والعشرون إذا أردت أن تعلم الكواكب التي تغيب في كل بلد.
الباب الثاني والعشرون إذا أردت أن تعلم الطرائق الخمس التي ذكرها الحكماء في الفلك في كل بلد.
الباب الثالث والعشرون إذا أردت أن تعرف الأقاليم السبعة.
الباب الرابع والعشرون إذا أردت معرفة كل إقليم منها.
الباب الخامس والعشرون إذا أردت أن تعرف كيف يكون النهار الأقصر، إذا صارت الشمس في الجدي، في الموضع الذي يكون عرضه ثلاثة وستين جزءاً، وذلك أقصى ما يسكن من ناحية الشمال، ويكون النهار أربع ساعات ونحوها، وليلة عشرين ساعة، ويكون النهار الأطول فيه عشرين ساعة، وليلة أربع ساعات، وهي جزيرة يقال لها جزيرة تولى من أرض أوريبا، وهي شمالي أرض الروم.
الباب السادس والعشرون إذا أردت أن تعرف المواضع التي تغيب عنها الشمس ستة أشهر، فيكون ظلمة راتبة، وتطلع عليه الشمس ستة أشهر، فيكون ضوءاً راتباً، وهو الموضع الذي يحاذي محور الشمال.
الباب السابع والعشرون إذا أردت أن تعلم كل كوكب من الكواكب الثابتة من أي جزء من أجزاء البروج التي تطلع في كل موضع تريد من الأرض.
الباب الثامن والعشرون إذا أردت أن تعلم كم جزءاً بين رأس الحمل والطالع من أجزاء المطالع في كل بلد.
الباب التاسع والعشرون إذا أردت أن تعلم لكل مدينة وبلد من أي الأقاليم هي.
الباب الثلاثون إذا أردت أن تعلم عرض القمر، أو كوكب من الكواكب.
الباب الحادي والثلاثون إذا أردت أن تقوم خط وسط السماء في موضعه من سمت كل بلد. الباب الثاني والثلاثون إذا أردت أن تعرف طول الكواكب وعرضها بعد معرفتك بجري وسط السماء.
الباب الثالث والثلاثون إذا أردت أن تعرف موضع رأس التنين وذنبه، وهل تلتقي بفلكي الشمس والقمر.
الباب الرابع والثلاثون إذا أردت أن تعرف المطالع من قبل ساعات الما.
الباب الخامس والثلاثون إذا أردت أن تعرف مجرى الفلك الذي فيه الكواكب الثابتة.
الباب السادس والثلاثون إذا أردت أن تعرف تشريق الكواكب وتغريبها.
الباب السابع والثلاثون إذا أردت أن تعرف طول مدينة من المدن.
الباب الثامن والثلاثون في معرفة أجزاء طول المدن.
الباب التاسع والثلاثون في استخراج القوس من حساب الجبر، فهذه أبواب ذات الحلق.
وأما كتاب في ذات الصفائح، وهي الأسطرلاب، فإنه يبتدىء بذكر عملها وكيف تعمل، وحدودها، ومقاديرها، وتركيب حجرها، وصفائحها، وعنكبوتها، وعضادتها، وكيف تجزأ وتقسم وتحفظ على قسمة أجزائها، ومقنطراتها، وميلها، ويشرح ذلك، ويصفه صفيحة إقليم إقليم، وطول كل إقليم وعرضه، ومواضع الكواكب والساعات فيها، والطالع والغارب والمائل، والجنوبي والشمالي، ورأس الجدي، ورأس السرطان، ورأس الحمل، ورأس الميزان، ثم يذكر العمل بها.
فالباب الأول امتحانها حتى تصح. الباب الثاني في امتحان طرفي العضادة.
الباب الثالث في علم ما مضى من النهار من ساعة وأي برج ودرجة الطالع.
الباب الرابع في علم ما مضى من ساعات الليل، وما الطالع من البروج والدرج.
الباب الخامس في معرفة موضع الشمس من البروج والدرج.
الباب السادس في علم مواضع القمر في أي برج ودرجة هو، وأين الكواكب السبعة.
الباب السابع في علم عرض القمر.
الباب الثامن في علم مطالع البروج الاثني عشر في الأقاليم السبعة، ومعرفة كل برج منها. الباب التاسع في قطع المطالع للفلك المستقيم، وما يصيب كل درجة من درج السواء.
الباب العاشر في علم ساعات الليل والنهار كم تكون في كل زمان، في كل إقليم.
الباب الحادي عشر في علم مقدار نهار كل كوكب من الكواكب الثابتة، وما يجري في الفلك من حين طلوع الكواكب إلى حين غروبها.
الباب الثاني عشر في معرفة طول الكواكب وعرضها.
الباب الثامن عشر في معرفة زوال الكواكب الثابتة، فإنها تزول في كل سنة من سني القمر درجة.
الباب الرابع عشر في معرفة ميل البروج عن خط الاستواء الذي هو مدار الحمل والميزان. الباب الخامس عشر في معرفة المدائن أيها أقرب إلى الشمال وإلى الجنوب.
الباب السادس عشر في معرفة أقرب المدائن من المشرق وأقربها إلى المغرب.
الباب السابع عشر في معرفة عرض كل إقليم.
الباب الثامن عشر في علم أي إقليم أنت فيه.
الباب التاسع عشر في علم عرض الإقليم وأي المدائن أردت.
الباب العشرون في علم تقدير الطرائق، وهي خمس، وكيف مجاريها، ويشرح في كل باب من هذه الأبواب شرحاً طويلاً بين فيه ما يحتاج إليه وإلى معرفته.
فهذه أغراضه في ذات الصفائح.
وأما كتابه القانون في علم النجوم وحسابها، وقسمة أجزائها، وتعديلها، فمن أتم كتب النجوم وأوضحها، وكان أول ما ابتدأ به في ذكر دور السماء التي تدور فيها هذه الكواكب.
باب في علم مسير الكواكب في كل يوم، فيقول: إن مسير الشمس في كل يوم يكون تسعاً وخمسين دقيقة، ومسير أوج القمر سبع دقائق، ومسير رأس التنين، وهو الجوزهر، ثلاث دقائق، ومسير زحل دقيقتان، ومسير المشتري خمس دقائق، ومسير المريخ إحدى وثلاثون دقيقة، ومسير الزهرة درجة وست وثلاثون دقيقة، ومسير عطارد أربع درج وخمس دقائق، و مسير قلب الأسد ست ثوان.
باب في علم أوساط الكواكب، وتقويمها، وتعديلها، إذا كانت لا تمكن أن تقوم إلا بأوساطها. باب في تحريك أرباع الفلك على ما ذكر أصحاب الطلسمات، أن أرباع الفلك تتحرك ثمانية أجزاء مقبلة، وثمانية أجزاء مدبرة، والجزء درجة فتقبل في كل ثمانين سنة، وتدبر على كل ثمانين سنة جزءاً.
باب في ميل الشمس وعرض الكواكب الستة، وتباعدها من خط الاستواء إلى الشمال، وإلى الجنوب، ووضع لكل كوكب منها في ذلك جدولاً، أما ميل الشمس، فميلها عن خط الاستواء، وأما ميل عرض الكواكب فتباعدها من مسير الشمس.
باب في مقام الكواكب السبعة ورجوعها، وكيف يلتمس على ذلك من زحل والمشتري والمريخ، إذا كان بين كل واحد منها وبين الشمس مائة وعشرون، أو مائتان وأربعون درجة، ومن الزهرة وعطارد إذا تباعدا من الشمس تباعدهما الأكبر، فكان بين الزهرة وبينها ست وأربعون درجة، وبين عطارد ثلاث وعشرون درجة.
باب في طلوع الكواكب السبعة من تحت شعاع الشمس، ومغيبها من بين يديها ومن خلفها.
باب في تقويم الساعات وتعديلها، وإخراجها من الساعات المعوجة إلى الساعات المستوية.
باب في علم عرض المدائن وطولها، وقسم مدائن العالم بين الأقاليم السبعة، فجعل لكل مدينة طولاً وعرضاً، وجعلها في جدول سماه جدول المدائن، ووضعه على ثلاثة أبواب: فالباب الأول فيه تسمية المدائن.
والباب الثاني طول كل مدينة. والباب الثالث عرض كل مدينة، وهو انحرافها عن حد رأس الجدي، والميزان إلى الشمال، ووضع لكل إقليم عرضه، وهو انحراف وسطه عن رأس الحمل، والميزان إلى الشمال، وأثبته على رأس جدول مطالعه، فإذا أردت عرض مدينة من مدائن العالم، وكانت مما قد أثبته في تسمية المدائن، وإلا نظر إلى عرض أي إقليم هي أقرب، فأي إقليم وجد عرض تلك المدينة أقرب إلى عرضه، فتلك المدينة من ذلك الإقليم.
باب فيه عرض كل إقليم، فقال الأول: ست عشرة درجة ودقيقة، والثاني ثلاث وعشرون درجة وإحدى عشرة دقيقة، والثالث ثلاثون درجة واثنتان وعشرون دقيقة، والرابع ست وثلاثون درجة، والخامس أربعون درجة وست وخمسون دقيقة، والسادس خمس وأربعون درجة واثنتان وثلاثون دقيقة، والسابع ثمان وأربعون درجة واثنتان و ثلاثون دقيقة.
وباب ذكر فيه انحراف القمر، وهو الذي يسمى البراكفيس، وأخبر أنه رؤية القمر، وذلك أن للقمر موضعين مختلفين: أحدهما موضع رؤيته، والآخر منزلته المعتدلة.
وباب في اجتماع الشمس والقمر والاستقبال، وكيف يحسب لذلك حتى يصح.
وباب في كسوف القمر ونواحيه.
وباب في كسوف الشمس، وكيف يحسب في وقت الاجتماع.
وباب في تعديل ما يوجد بجداول الكواكب والطالع وغير ذلك.
وباب من التعديل في استخراج الطالع وفيه مائة وثمانون جدولاً، وبين كل قول بالأشكال. وتسمية ملوك اليونانيين والروم وما ملك كل ملك على ما بينا من أسمائهم آخر هذا الفصل.
ملوك اليونانيين والروموكان أول ملوك اليونانيين، وهم أولاد يونان بن يافث بن نوح، وهو أول من سماه بطليموس في القانون من ملوكهم: فيلفوس، وكان جباراً عاتياً، وكان ملكه سبع سنين.
ثم ملك ابنه الإسكندر، وهو الذي يقال له ذو القرنين، واسم أمه ألومفيدا، وكان معلمه أرسطاطاليس الحكيم، فجل قدر الإسكندر، وعظم ملكه، واشتد سلطانه، وأعانته الحكمة والعقل والمعرفة، وكان معه نجدة وبأس، وهمة عالية، دعته إلى أن كتب إلى ملوك الأقاليم والآفاق يدعوهم إلى طاعته، وكان من كان قبله من ملوك اليونانيين يؤدي إلى ملوك أرض بابل من الفرس خرجاً، لجلالة تلك المملكة، وعظم قدرها، وصغر الممالك في جنبها، فلما كتب إلى ملك فارس يدعوه إلى طاعته عظم عليه، فسار الإسكندر حتى أتى أرض بابل، وملك الفرس يومئذ دارا بن دارا، فحاربه حتى قتله، وحوى خزائن ملكه، وتزوج ابنته.
ثم صار إلى أرض فارس، وقتل من بها من المرازبة والرؤساء، وافتتح البلاد.
ثم صار إلى أرض الهند، فزحف إليه فور ملك الهند، فحاربه حتى قتله، ثم صير الإسكندر على الهند ملكاً من قبله من أهل الهند يقال له كيهن، و انصرف، فشرق، وغرب، ثم رجع إلى أرض بابل بعد أن دوخ الأرض.
فلما صار في أداني العراق، مما يلي الجزيرة، اعتل، فاشتدت علته، فلما يئس من نفسه، وعلم أن الموت قد نزل به، كتب إلى أمه كتاباً يعزيها عن نفسه، وقال لها في آخره: اصنعي طعاماً، واجمعي من قدرت عليه من نساء أهل المملكة، ولا يأكل من طعامك من أصيب بمصيبة قط! فعملت طعاماً، وجمعت الناس، ثم أمرتهم ألا يأكل من أصيب بمصيبة قط، فلم يأكل أحد، فعلمت ما أراد.
ومات الإسكندر بموضعه الذي كاتب منه، فاجتمع أصحابه، فكفنوه، وحنطوه، وصيروه في تابوت من ذهب، ثم وقف عليه عظيم من الفلاسفة، فقال: هذا يوم عظيم كشف الملك عنه، وأقبل من شره ما كان مدبراً، وأدبر من خيره ما كان مقبلاً، فمن كان باكياً على ملك، فعلى هذا الملك فليبك، ومن كان متعجباً من حادث، فمن مثل هذا الحادث فليتعجب.
ثم أقبل على من حضره من الفلاسفة، فقال: يا معاشر الحكماء! ليقل كل امرىء منكم قولاً يكون للخاصة معزياً، وللعامة واعظاً. فقام كل واحد من تلامذة أرسطاطاليس، فضرب بيده على التابوت، ثم قال: أيها المنطيق ما أخرسك! أيها العزيز ما أذلك! أيها القانص إني وقعت موضع الصيد في الشرك من هذا الذي يقنصك؟ ثم قام آخر فقال: هذا القوي الذي أصبح اليوم ضعيفاً، والعزيز الذي أصبح اليوم ذليلاً.
وقام آخر فقال: قد كانت سيوفك لا تجف، ونقماتك لا تؤمن، وكانت مدائنك لا ترام، وكانت عطاياك لا تبرح، وكان ضياؤك لا يكسف، فأصبح ضوءك قد خمد، ونقماتك لا تخشى، وأصبحت عطاياك لا ترجى، وأصبحت سيوفك لا تنتضى، وأصبحت مدائنك لا تمنع.
ثم قام آخر فقال: هذا الذي كان للملوك قاهراً، فقد أصبح اليوم للسوقة مقهوراً.
وقام آخر فقال: قد كان صوتك مرهوباً، وكان ملكك غالباً، فأصبح الصوت قد انقطع، والملك قد اتضع.
وقام آخر فقال: لا امتنعت من الموت إذ كنت من الملوك ممتنعاً، وهلا ملكت عليه إذ كنت عليهم مملكاً.
وقام آخر فقال: حركنا الإسكندر بسكونه، وأنطقنا بصمته.
وتكلموا بنحو هذا الكلام، ثم أطبق التابوت، وحمل إلى الإسكندرية، فتلقته أمه بعظماء أهل المملكة، فلما رأته قالت: يا ذا الذي بلغت السماء حكمته، وحاز أقطار الأرض ملكه، ودانت الملوك عنوة له! ما لك اليوم نائماً لا تستيقظ، وساكتاً لا تتكلم؟ من يبلغك عني أنك قد وعظتني فاتعظت، وعزيتني فتعزيت؟ فعليك السلام حياً وهالكاً، فنعم الحي كنت، ونعم الهالك أنت.
ثم أمرت به، فدفن، وكان ملك الإسكندر مع ما نال من الدنيا اثنتي عشرة سنة.
ثم ملك بعد ذي القرنين بطليموس خليفة الإسكندر، وكان حكيماً عالماً، وكان ملكه عشرين سنة، ثم ملك فيلفوس، وكان جبارا، فاشتد سلطانه، وعتا في ملكه، وفي أيامه عملت الطلسمات، وكان ملكه ثمانياً وثلاثين سنة، ثم ملك هورحيطوب الأول خمساً وعشرين سنة، ثم ملك فيلوبطور سبع عشرة سنة، ثم ملك فيفانس أربعاً وعشرين سنة، ثم ملك فيلوبطور الثاني خمساً وعشرين سنة، ثم ملك هورحيطوب الثاني سبعاً وعشرين سنة.
ملوك الرومثم صار الملك من بعد اليونانيين، أولاد يونان بن يافث بن نوح، إلى الروم، وهم ولد روم بن سماحير بن هوبا بن علقا بن عيصو بن إسحاق بن إبراهيم، فغلبوا على البلد، وتكلموا بلغه القوم، وانتسبوا إلى الرومية، ودرست اليونانية إلا ما بقي في أيدي هؤلاء من فضل حكمهم، وكان أول من ملك من الروم بعد اليونانيين فهاساطق، وهو جاليوس الأصغر، ابن روم، وكان ملكه اثنتين وعشرين سنة.
ثم ملك أغسطس، فلما أتى لملكه سنة، ولد المسيح، واتصل ملك أغسطس ثلاثا وأربعين سنة. ثم ملك طباريس اثنتين وعشرين سنة.
ثم ملك جايس أربع سنين.
ثم ملك قلوديس أربع عشرة سنة.
ثم ملك أسفسيانوس عشر سنين، وكان أهل مملكته يسمونه الإله، ووجه ابنا له يقال له ططوس إلى بيت المقدس، فحصرها أربعة أشهر، وكان قد اجتمع إليها في عيد من أعياد اليهود خلق عظيم، فاشتد عليهم الحصار، حتى أكلوا الصبيان، ومات أكثرهم من الجوع، ثم افتتحها، فقتل وسبى وأحرق الهيكل بالنار.
ثم ملك ططوس ثلاث سنين، وانشق في زمانه جبل يقال له أبرمور، وخرجت منه نار أحرقت مدناً كثيرة.
ثم ملك دومطيانوس خمس عشرة سنة، وفي زمانه ظهر أبولوس صاحب الطلسمات من أهل طوانة، ووثب بدومطيانوس أهل مملكته، فقتلوه.
ثم ملك يهودس سنة واحدة.
ثم ملك طريانوس تسع عشرة سنة.
ثم ملك ادريانوس إحدى وعشرين سنة، ووثب به يهود بيت المقدس، فامتنعوا أن يؤدوا إليه الخراج، فوجه إليهم من قتلهم، وأمر بقتل من بقي منهم ببيت المقدس.
ثم ملك هيلوس أنطونينوس ثلاثاً وثلاثين سنة.
ثم ملك مرقس أنطونينوس خمساً وعشرين سنة.
ثم ملك الإسكندر بن ماميا ثلاث عشرة سنة.
ثم ملك مكسيميانوس ثلاث سنين.
ثم ملك جورديانوس ثلاث سنين.
ثم ملك فيلفوس سنتين.
ثم ملك ديقيوس سنة واحدة.
ثم ملك جالوس ثلاث سنين.
ثم ملك ولريانوس ست سنين.
ثم ملك قروس سبع سنين.
ثم ملك دقليطيانوس عشرين سنة.
ثم ملك قسطنطين ومكنيوس عشر سنين.
وكانت ملوك اليونانيين، ومن ملك بعدهم من الروم، مختلفة، فطائفة منهم على دين الصابئين، وكانوا يسمون الحنفاء، وهم الذين يقرون ويعترفون بخالق، ويزعمون أن لهم نبياً مثل اوراني، وعابيديمون، وهرمس، وهو المثلث بالنعمة، ويقال إنه إدريس النبي، وهو أول من خط بالقلم، وعلم علم النجوم، ويقولون في الخالق، جل وعز، على قول هرمس: أما أن يعقل الله، فعسر، وأن ينطق به، فلا يمكن، وإن الله علة العلل، المكون للعالم جملة واحدة.
وطائفة منهم أصحاب زينون، وهم السوفسطائية، وتفسير هذا الاسم باليونانية المغالطة، وبالعربية التناقضية، يقولون: لا علم ولا معلوم، واحتجوا باختلاف الناس وانتصاف بعضهم من بعض، وقالوا: نظرنا في قول الناس المختلفين، فوجدناها مختلفة غير متفقة، وأصبناهم في اختلافهم مجتمعين على أن الحق مؤتلف غير مختلف، وأن الباطل مختلف غير مؤتلف، وكان في اجتماعهم شاهد لهم انهم لم يعملوا بالصواب، فلما أقروا بهذا لم يبق للحق موضع يطمع في إصابته إلا في الخاصة منهم، فعلمنا أن ذلك لا يوجد إلا بأحد وجهين: إما بالتسليم للمدعي، وإما بالكشف لدعواه، فنظرنا في الدعوى فأصبنا بما يعمهم، فلم نجز تصديقهم لخلتين: إحداهما أن يكذب بعضهم بعضا، والأخرى إجماعهم على انهم لم يعلموا بالصواب. فلم يبق إلا كشف الدعوى، ففعلنا، فأصبناهم أهل تكافؤ وتجار بدور الغلبة عليهم جميعاً بالاستواء بينهم، تقوى هذه مرة، ومخالفتها أخرى، فلم نصب عند طائفة منهم فضلاً، ولا تشارك فيه، ولا حجة، ولا تساوي بها، ولا تجارى فيها، فلما أعوز وجود الحق في عامتها وخاصتها بالدعوى بالمناظرة لم يبق للعلم موضع يوجد فيه، ولا للحق مذهب يصاب منه، فقضينا أنه لا علم، ولا معرفة، لأن الشيء إذا كان ثابتاً لا محالة، فلا بد من الإحاطة في الاتفاق، أو في الاختلاف، فلا يذكر ذاكر، وهو غائب، فقال: فلان غائب، فأصابه، فلو قال هو أو غيره: فلان حاضر، وليس بحاضر، فخرج من الصدق، ثم خالفه مخالف، فقال: بل هو غائب، فكان أحدهما صادقاً لا محالة، لأنه لا يعدو إذا كان الشيء ثابتاً حقاً أن يكون حاضراً أو غائباً، فإذا لم يكن شيئاً، فكلاهما كاذب فيما قال من أنه حاضر أو غائب، لأن الحاضر شيء، والغائب شيء، فإن لم يكن شيئاً، فليس بحاضر ولا غائب.
واحتجوا بنحو هذا آخر فقالوا: إن كانت الأشياء كلها تدرك بالعلم والعلم بالعلم فإلى نهاية أو إلى لا نهاية، فإن تناهى، فإلى غير معلوم، وما لم يكن معلوماً، فهو مجهول، فإني تعلم الأشياء بمجهول، فإن لم تتناه، ولم تكن لذلك غاية، فلا إحاطة به، وما لم يحط به، فمجهول أيضاً، فكان الوجهان في هذا القياس مجهولين غير معلومين، فأنى يعلم شيء مجهول دون أن يعلم جميع الأشياء، وذلك أبعد.
وشققوا في هذين النوعين، وكثر سعيهم، وعظمت مؤنتهم، وقالت طائفة تسمى الدهرية: لا دين، ولا رب، ولا رسول، ولا كتاب، ولا معاد، ولا جزاء بخير، ولا بشر، و لا ابتداء لشيء، ولا انقضاء له، ولا حدوث، ولا عطب، وإنما حدوث ما سمي حدثاً تركيبه بعد الافتراق، وعطبه تفريقه بعد الاجتماع، وجميع الوجهين في الحقيقة حضور غائب ومغيب حاضر.
وإنما سميت الدهرية لزعمها أن الإنسان لم يزل، ولن يزول، وأن الدهر دائر لا أول له، ولا آخر، واحتجوا فيما ادعوا بأن قالوا: إنما يعرف في وجود الشيء وفقده حالان لا ثالث لهما: حال الشيء فيها موجود، فأنى يحدث ما قد كان ووجد، وحال لا شيء فيها، فأنى يكون الشيء في حال لا تشبيه لها، وذلك أبعد.
وكذلك القول في المدعي العطب فهو لا يعرف غير حالين: حال الشيء فيها قائم، فمحال قول من ادعى العطب للشيء في حال كونه وقيامه، وحال لا شيء فيها، فأنى يكون العطب الأدنى، وذلك محال، فإن أقر مخالفونا بصدقنا دخلوا في قولنا ونقضوا قولهم، وإن أنكروا قولنا ادعوا حالاً ثالثة لا عدم فيها ولا وجود، فذلك أقبح الثلاثة حالة.
وقالت فرقة منهم: إن أصل الأشياء في الأزلية حبة كانت، فانفلقت، فبدأ منها العالم على
ما ترى من اختلافه في ألوانه وإحساسه، وزعم بعضهم أنه غير مختلف في معانيه، وإنما ختلف معانيه من جهة إحساسه، وأنكر بعضهم ذلك، وأثبتوا له اختلافاً في معانيه وتحقيقه، وقالت المنكرة لتحقيق الاختلاف: الأشياء إنما تختلف باختلاف الإحساس لها، وإنه لا حقيقة لشيء منها تبين بها دون غيرها.
وادعوا من الدلالات في ذلك أن أهل المرض الحادث من الصفراء مثل أصحاب اليرقان، إذا ذاق أحد منهم العسل وجده مراً، وأهل السلامة من هذا الداء يجدونه حلواً، وإن الخفاش يغشيه ضوء النهار، ويذكي بصره الليل، فإن كان النور يزيد الأبصار نوراً، والظلمة مغشية لها، وجب أن يكون نور النهار الظلمة للخفاش وغيره، تغشى بصره النار، وقد يوجد ذلك في بعض الناس وغيرهم من الحيوان والطير وغيره، وإن الليل إذا كان مذكياً للأبصار على ما وصفنا، فليلها نور، كما أن النهار نور لمن خالفها، والليل ظلمة لها، فإن قلتم: إن ذلك لآفة دخلت على هذه الأصناف، قلنا لكم: عند من خالفهم أو عند من وافقهم؟ فإن قلتم: عند من خالفهم، قلنا: بل الآفة دخلت على من وافقهم، فإن قلتم: عند من وافقهم، قلنا: بل الآفة دخلت على من خالفهم عندهم، فلا فضل لأحد الصنفين على أحد.
وقالوا: ألا ترون الكاتب يكتب الكتاب عدلاً مستقيماً، فيراه كذلك من قبل وجهه، فإن نظر إليه من خلفه رآه بخلاف ما كان يعرف، وإن أزور عنه معوجاً أو خالفه رآه مخالفاً، كما تكتب الألف في صورة تميز من جميع الحروف، فإذا استقبلتها رأيتها ألفاً، وإذا استدبرتها رأيتها كالباء، وإذا انحرفت عنها رأيتها كالنون، أو كالباء، وإن الغائب عن موضعه حاضر موضعاً آخر.
وكذلك القول في الألوان والأصوات والطعوم والأعيان والملابس، كما ترى الشخص من قرب كبيراً، وصغيراً من بعد، كلما قرب الداني منه ازداد كبراً، وكلما بعد منه ازداد صغراً في عينه.
وكذلك الصوت يسمع من قريب قوياً ومن بعيد خفياً.
وكذلك الطعم تذوق الشيء قليلاً، فتجده قليل الحلاوة، فإذا زدت منه كان طعمه كثير الحلاوة. وكذلك اللمس تحس الشيء قليلا، فتجده فاتراً، وتلمسه شديداً، فتجده حاراً، وترى الصورة من قريب ثابتة مختلفة، فيزداد الرائي لها بعداً، فيرى أنها مستوية غير مختلفة.
وزعموا أن جميع الأشياء تدور على التكافؤ والتجاري، وكادوا أن يحلفوا بالسوفسطائية.
وقالت طائفة أخرى: إن الأشياء فروع لأصول أربعة لم تزل ولا تزول، فولدت وظهر العالم منها، وهي: الأفراد السواذج: الحر والبرد، والرطوبة واليبس، تنبت بأنفسها لا باعتماد، ولا إرادة، ولا مشيئة.
وقالت طائفة أخرى: إن الأصول أربعة، وهي أمهات ما في العالم، ومعها خامس لم يزل ولا يزول يدبرها ويؤلف بينها بإرادة، ومشيئة، وحكمة، ويؤلف بين زوجاتها وتتولد نتائجها عنه، لا يمنع أضدادها من القرب بعضها من بعض، وهو العلم.
وقالت طائفة، وهم أصحاب الجوهر، وهم الأرسطاطاليسية: إن الأشياء شيئاًن: جوهر وعرض، والجوهر ينقسم قسمين: حي ولا حي، وحده: القائم بنفسه، وافتراقه في الخاصة لا في الحد، والعرض تسعة فمنها: الكمية، وهو العدد، وصورها أربع: الكيل، والمساحة، والوزن، والقول.
ثم الكيفية، وصورها ثمان: الكون، والفساد، والهيئة، والحيلة، والقوة، والضعف، والإلف، والمألوف.
ثم الإضافة، وصورها أربع: طبيعي، وصناعي، واستحسان، ومودة.
ثم متى، وهي الواقعة على الوقت، يعني بالوقت الزمان، وصور الزمان ثلاث: الماضي، والمستقبل، والدائم.
ثم إني، وهي الواقعة على المكان وهو الست جهات يعني: أمام، وخلف، وأعلى، وأسفل، ويمين، ويسار.
ثم الجدة، وهي الملك، وصورة الملك قسمان: إما خارج، وإما داخل، فمعنى خارج مثل المملوك والدار والأثاث ونحوه، ومعنى داخل مثل العلم والحكمة.
ثم النصبة، ومعنى النصبة هيئة الشيء كقول القائل: فلان قائم، وفلان قاعد، وفلان ذاهب، وفلان جاء.
ثم الفاعل وهو قسمان: إما أن يفعل بالاختيار، وإما أن يفعل بالطبع، فالمختار مثل الحي، الباقي، الآكل، الشارب، والفاعل بالطبع كحركة العناصر الأربعة مثل النار تسمو من الوسط إلى العلو تكرر وإن كان دون النار، وكالأرض من العلو إلى الوسط، إلى مركزها الأخص بها، والماء من العلو إلى دون الأرض.
ثم المنفعل، وهو القابل للتأثير الفاعل فيه حال طينته المحتملة لأن يديرها ويربعها في جميع الأشكال، فهذه مقالات اليونانيين ومن تلاهم من الروم، ومذاهب متكلميهم وفلاسفتهم وحكمائهم وأهل النظر منهم.
ملوك الروم المتنصرةوكان أول من ملك من ملوك الروم، فخرج من مقالة اليونانية إلى النصرانية: قسطنطين، وكان سبب ذلك أنه كان يحارب قوماً، فرأى في منامه كان رماحاً نزل بها من السماء عليها صلبان، فلما أصبح حمل على رماحه الصلبان. ثم حارب، فظفر، وكان ذلك سبب تنصره، فقام بدين النصرانية، وبنى الكنائس، وجمع الأساقفة من كل بلد لإقامة دين النصرانية، فكان أول اجتماع لهم واجتمع بنيقيه ثلاثمائة وثمانية عشر أسقفاً، وأربعة بطارخة: بطرخ الإسكندرية، وبطرخ رومية، وبطرخ أنطاكية، وبطرخ القسطنطينية.
وكان سبب جمع قسطنطين هؤلاء أنه لما تنصر، وحلت النصرانية بقلبه، أراد أن يستقصي علمها، فأحصى مقالات أهلها، فوجد ثلاث عشرة مقالة، فمنها قول من قال إن المسيح وأمه كانا الهين، ومنها قول من قال إنه من الأب بمنزلة شعلة نار انفصلت من شعلة نار، فلم ينقص الأولى انفصال الثانية، ومنها مقالة من قال بتألهه، ومنها مقالة من قال بتعبيده، ومنها مقالة من قال: إن جسده كان خيالاً مثل متى وأصحابه، ومنها مقالة من قال: هو الكلمة، ومنها قول من قال: هو الابن، ومنها مقالة من قال: هو روح قديمه، ومنها مقالة من قال: هو ابن يوسف، ومنها مقالة من قال: هو نبي من الأنبياء، ومنها مقالة من قال: هو لاهوتي وناسوتي، فجمع قسطنطين ثلاثمائة وثمانية عشر أسقفاً وأربعة بطارخة ولم يكن في ذلك العصر غيرهم.
وكان بطرخ الإسكندرية يقول: إن المسيح مألوه مخلوق، فلما اجتمعوا ناظروه في ذلك، فأجمع مقالة القوم جميعاً أن قالوا: إن المسيح ولد من الأب قبل كون الخلائق، وهو من طبيعة الأب، ولم يذكروا روح القدس، ولا أثبتوه خالقاً ولا مخلوقاً، ولكن وافقوا على أن الأب الإله والابن إله منه، وخرجوا من نيقية، وكان ملك قسطنطين خمساً وخمسين سنة.
ثم ملك يوليانوس سنة واحدة، ثم ملك دسيوس سنة واحدة، وفي أيامه ظهر أصحاب الكهف بعد أن كانوا قد ماتوا بعد دهر طويل، وكانوا عدة نفر وراع، ومعهم كلب الراعي، وأسماؤهم: مكسلمينا، ومراطوس، وشاه بونبوش، وبطريوش، ودواس، ويوالس، وكنيفرطو، وسوطر، والراعي مليخا، وهو صاحب الكلب، واسم الكلب قطمير، فخرجوا بعد مائة سنة، ويقال: ثلاثمائة سنة وتسع سنين، وبعثوا بعضهم ومعه دراهم يمتار لهم طعاماً، فأنكرت السوقة ضرب دراهمه، ثم اتبعوه حتى صاروا إلى المغارة، فعمى أمرهم على القوم، وبني على المغارة مسجد يصلى فيه. ثم ملك والنطيانوس أربع سنين، ثم ملك تيدوسوس الأكبر، وكان في عصره الاجتماع الثاني للنصرانية، فاجتمع له بالقسطنطينية مائة وخمسون أسقفاً وثلاثة بطارخة، ولم يحضرها بطرخ رومية، فوضعوا صحيفة الأمانة، وأثبتوا روح القدس، وكانت صحيفة الأمانة التي وضعوها: أومن بالله الواحد الأب، ملك كل شيء، خالق السماوات والأرض، وما يرى وما لا يرى، وبالرب المسيح ابن الله الذي ولد قبل الدهر، نور من نور، إله حق من إله حق، مولود ليس بمخلوق، ومن سوس الأب، به كان كل شيء، من أجلنا البشر، ومن أجل خلاصنا، نزل من السماء وتجسد بروح القدس ومن مريم العذراء، فصار بشراً، وصلب من أجلنا على عهد بلاطس البنطي، وأصيب، وقبر، وقام لثلاثة أيام، كما هو في الكتب، وصعد إلى السماء، وجلس عن يمين الأب الذي ليس لملكه فناء، وبروح القدس الرب الذي من الأب اشتق الذي تكلم فيه الأنبياء، وبواحدة القدسية الكنيسة السليحية للحواريين، أومن بمعمودية واحدة، بمغفرة الخطايا وقيام الأموات، وحرموا من قال بعد هذا شيئاً، وافترقوا من القسطنطينية، وكان ملك تيدوسوس سبع عشرة سنة.
ثم ملك بعده ابن أخيه تيدوسوس الأصغر ووالنطيانوس، وكان الجمع الثالث للنصرانية، فاجتمع بافسس، وحضر مائتا أسقف، وخالف نسطور على القوم جميعاً، وقال: إن المسيح جوهران وكيانان، إله تام بجوهره وكيانه، فالأب ولد الإله، ولم يلد إنساناً، والأم ولدت إنساناً، ولم تلد الإله، فقال له قريلس: إن كان الأمر كما قلت، فمن عبد المسيح، فهو مسيء، لأنه قد يكون عبد قديماً ومحدثاً، ومن ترك عبادته، فقد كفر، لأنه يكون قد ترك عبادة القديم كما ترك عبادة المحدث، ومن عبد الإله دون الإنسان، فلم يعبد المسيح، إذ كان لا يستحق أن يقال مسيحاً من إحدى جهتيه دون الأخرى، فأوجب ذلك على من حضر، وخالفه بطرخ أنطاكية، فقال نسطور: بطرخ أنطاكية يقول بمثل قولي.
وهرب نسطور إلى أرض العراق، فصارت النسطورية بالعراق، وصيروا رئيسهم، مكان البطرخ، جاثليق، فافترقوا على هذا، وكان ملك تيدوسوس الأصغر سبعاً وعشرين سنة.
ثم ملك مرقيانوس، وكان في عهده الاجتماع الرابع، وكان سبب ذلك أن طرسيوس، صاحب اليعقوبية، قال: إن المسيح جوهر واحد وطبيعة واحدة، فأنكرته النصارى، فاجتمع ستمائة وثلاثون أسقفاً بالقسطنطينية، وناظروا طرسيوس، فقالوا له: إن كان المسيح، كما زعمت، طبيعة واحدة، فالطبيعة القديمة هي الطبيعة المحدثة، وإن كان القديم من المحدث، فالذي لم يزل هو الذي لم يكن، فلم يرجع عن مقالته، فحرموه، فصار إلى أرض مصر والإسكندرية، وكان طبيبا، فأقام بها. وكان ملك مرقيانوس خمس سنين.
ثم ملك بعده أليون وأنيموس سبع عشرة سنة، ثم ملك زينون ثماني عشرة سنة، ثم ملك أنسطاسيوس، وكان الجمع الخامس للنصرانية في عصره، وذلك أن قوماً من رؤساء النصارى قالوا: إن جسد المسيح كان خيالاً على غير حقيقة، فاجتمعوا لذلك وقالوا: إن كان جسده خيالاً، فيجب أن يكون فعله خيالاً على غير حقيقة، وهذا بقول السوفسطائية أشبه منه بقول النصارى، ولعن أولئك الذين قالوا هذا، وبرئت النصارى منهم. وكان ملك أنسطاسيوس سبعاً وعشرين سنة.
ثم ملك يوسطوس الثاني تسعاً وعشرين سنة، وفي عصره ولد محمد رسول الله، ثم ملك يوسطوس الثالث عشرين سنة، ثم ملك طيبريوس أربع سنين، ثم ملك هرقل وقسطنطين ابنه، وكان في أيامه الجمع السادس للنصرانية، وذلك أن قورس الإسكندراني زعم أن المسيح مشيئة واحدة وفعل واحد فقال: وهذا شبيه بقول اليعقوبية، فاجتمعوا لذلك، ورضوا ببطرخ رومية، وكتب كتاباً ولم يحضر، ولم يكن للنصرانية جمع بعدها. وكان ملك هرقل وقسطنطين ابنه اثنتين وثلاثين سنة.
ثم ملك قسطنطينوس ثماني عشرة سنة، ثم ملك بطرخ رومية ثلاث سنين، ثم ملك فلسعرربى أربع سنين، ثم ملك أليون وقسطنطين ابنه تسعاً وعشرين سنة.
وكانت شهور الروم التي يجرون عليها حسابهم وتاريخاتهم اثني عشر شهراً، أولها: كانون الآخر، وهو الشهر الذي يسمونه بالرومية ينوارس، وهو رأس السنة عندهم. وهذه أسماء شهورهم: ينوارس، وهو كانون الآخر، ويلياس، وهو شباط، ونرلس وهو آذار، وأبرلس، وهو نيسان، ومايس، وهو أيار، ويولس، وهو حزيران، وأغسطس، وهو تموز، وستنبرس، وهو آب، وأقطبرس، وهو أيلول، ونونبرس، وهو تشرين الأول، وأكبرس وهو تشرين الآخر، ومورس، وهو كانون الأول.
وكانت مملكتهم من حد الفرات إلى حد الإسكندرية، مما صار في أرض الإسلام، سوى ما بأرض الروم، مما هو في أيديهم إلى هذه الغاية.
وكانت أعظم مدائنهم: الرها من أرض الجزيرة، وهي من ديار مضر، ثم أنطاكية، وبها كرسي بطرس وكف يحيى بن زكرياء في كنيسة القسيان، وهي الكرسي الرابع، والبطرك الكبير. فما كان في مملكة الروم، وصار في الإسلام: أرض الجزيرة من حران والرها وسائر كورها، وبالس، وسميساط، وملطية، وأذنة، وطرسوس، وجند قنسرين، والعواصم وسائر كورها، وجند حمص، ومدينة حمص إحدى المدن المعدودة في مملكة الروم، ثم اللاذقية، وهي من حمص أيضا، وجند دمشق، وكان عمال ملك الروم بها آل جفنة من غسان، وجند الأردن، وكانت إليهم أيضا، وعمالها من قبل ملك الروم من آل جفنة الغسانيين، وجند فلسطين بكورة، وتنيس، ودمياط، والإسكندرية، فهذه مملكة الروم الخالصة مما صارت في أرض الإسلام.
ثم لهم ما خلف الدرب إلى بلاد الصقالبة والألان والأفرنج، ومن المدن التي في بلاد الروم المشهورة المعروفة مثل: رومية، ونيقية، وقسطنطينية، وأماسية، وخرشنة، وقرة، وعمورية، وصملة، والقلمة، وسلندوا، وهرقلة، وصقلية، وفلطنة، وأنطاكية المحترقة، ودهبرناطة، وملوية، وسلوقية، وأمربه، وقونية، وجنوس، وبلوس، وبراوعس، وسلنيقة.
ملوك فارسفارس تدعي لملوكها أموراً كثيرة، مما لا يقبل مثلها، من الزيادة في الخلقة، حتى يكون للواحد عدة أفواه وعيون، ويكون للآخر وجه من نحاس، ويكون على كتفي آخر حيتان تطعمان أدمغة الرجال، وطول المدة في العمر، ودفع الموت عن الناس، وأشباه ذلك مما تدفعه العقول ويجري فيه مجرى اللعبات والهزل، ومما لا حقيقة له ولم يزل أهل العقول والمعرفة من العجم، ومن له شرف، والبيت الرفيع من أبناء ملوكهم ودهاقينهم، وذوي الرواية والأدب، لا يحققون هذا، ولا يصححونه، ولا يقولونه.
ووجدناهم إنما يحسبون ملك فارس من لدن أردشير بابكان، فمن كان عندهم من أول ملوكهم والمملكة الأولى قبل أردشير: شيومرث سبعين سنة، أوشهنج فيشداد أربعين سنة، طهمورث ثلاثين سنة، جمشاد سبعمائة سنة، الضحاك ألف سنة، أفريدون خمسمائة سنة، منوجهر مائة وعشرين سنة، أفراسياب، ملك الترك، مائة وعشرين سنة، زوطهماسب خمس سنين، كيقباذ مائة سنة، كي كاووس مائة وعشرين سنة، كي خسرو ستين سنة، كي لهراسب مائة وعشرين سنة، كي بشتاسب مائة واثنتي عشرة سنة، كي أردشير مائة واثنتي عشرة سنة، خماني بنت جهرزاد ثلاثين سنة، دارا بن جهرزاد اثنتي عشرة سنة، ثم قتله الإسكندر الذي يقال له ذو القرنين، فافترق ملك فارس، وملك ملوك يسمون ملوك الطوائف، وهؤلاء كان ملكهم ببلخ. ويزعم النسابون انهم من ولد عامورا بن يافث بن نوح، و كانوا على دين الصابئين، يعظمون الشمس والقمر والنار والنجوم السبعة، و لم يكونوا مجوساً، و لكنهم كانوا على شرائع الصابئين، وكان كلامهم السرياني، به يتكلمون، وبه يكتبون، وهذا رسم خط السرياني، ولهم أخبار قد أثبتت رأينا أكثر الناس ينكرونها ويستبشعونها، فتركناها، لأن مذهبنا حذف كل مستبشع.
المملكة الثانية من أردشير بابكانوملك أردشير، وهو أول ملوك الفرس المتمجسة، وكان ملكه بإصطخر، وامتنع عليه بعض كور فارس، فحاربهم حتى فتحها، ثم صار إلى أصبهان، ثم صار إلى الأهواز، ثم إلى ميسان، ثم رجع إلى فارس، فحارب ملكا يقال له أردوان، فقتله، وسمى أردشير شاهنشاه، وبنى بيت نار بأردشير خره، ثم صار إلى الجزيرة وأرمينية واذربيجان، ثم صار إلى سواد العراق، فسكنه، وصار إلى خراسان، فافتتح كوراً منها، ولما دوخ البلاد عقد لابنه سابور الملك بعده، وتوجه، وسماه الملك. وتوفي أردشير، وكان ملكه أربع عشرة سنة.
وملك سابور بن أردشير، فغزا بلاد الروم، وفتح منها عدة بلدان، وأسر خلقا من الروم، فبنى مدينة جنديسابور، وأسكنها سبي الروم، وهندس له رئيس الروم القنطرة التي على نهر تستر، وعرضه ألف ذراع.
وفي أيام سابور بن أردشير ظهر ماني بن حماد الزنديق، فدعا سابور إلى الثنوية، وعاب مذهبه، فمال سابور إليه، وقال ماني: إن مدبر العالم اثنان، وهما شيئان قديمان: نور وظلمة، خالقان، فخالق خير، وخالق شر، فالظلمة والنور كل واحد منهما في نفسه اسم لخمسة معان: اللون، والطعم، و الرائحة، والمجسة، والصوت، وإنهما سميعان بصيران عالمان، وإنه ما كان من خير ومنفعة، فهو من قبل النور، وما كان من ضرر وبلاء، فهو من قبل الظلمة، وإنهما كانا غير ممتزجين، ثم امتزجا، والدليل على ذلك أنه لم تكن صورة ثم حدثت، وإن الظلمة هي بدأت للنور بالممازجة، وإنهما كانا متماسين على مثال الظل والشمس، والدليل على ذلك استحالة كون شيء لا من شيء، الدليل على أن الظلمة بدأت للنور بالممازجة، أنه لما كانت مخالطة الظلام للنور مفسدة له كان محالاً أن يكون النور بدأها لأن النور من شأنه الخير. والدليل على أنهما اثنان قديمان خير وشر أنه لما وجدت المادة الواحدة لا يكون منها فعلان مختلفان مثل النار الحارة المحرقة لا يكون منها التبريد، والذي يكون منه التبريد لا يكون منه التسخين، فذلك الذي يكون منه الخير لا يكون منه الشر، والذي يكون منه الشر لا يكون منه الخير.
والدليل على أنهما حيان فاعلان أن الخير تثبت له فعلاً، والشر تثبت له فعلاً.
فأجابه سابور إلى هذه المقالة، وأخذ بها أهل مملكته، فعظم ذلك عليهم، فاجتمع حكماء أهل مملكته ليصدوه عن ذلك، فلم يفعل.
ووضع ماني كتباً يثبت بها الاثنين، ومما وضع كتابه الذي يسميه كنز الإحياء يصف ما في النفس من الخلاص النوري والفساد الظلمي، وينسب الأفعال الردية إلى الظلمة.
وكتاب يسميه الشابرقان يصف فيه النفس الخالصة والمختلطة بالشياطين، والعلل، ويجعل الفلك مسطوحاً، ويقول: إن العلم على جبل مائل يدور عليه الفلك العلوي.
وكتاب يسميه كتاب الهدى والتدبير، واثنا عشر إنجيلاً يسمى كل انجيل منها بحرف من الحروف، ويذكر الصلاة وما ينبغي أن يستعمل لخلاص الروح.
وكتاب سفر الأسرار الذي يطعن فيه على آيات الأنبياء.
وكتاب سفر الجبابرة، وله كتب كثيرة ورسائل.
فأقام سابور على هذه المقالة بضع عشرة سنة، ثم أتاه الموبذ، فقال: إن هذا قد أفسد عليك دينك، فاجمع بيني وبينه لأناظره! فجمع بينهما، فظهر عليه الموبذ بالحجة، فرجع سابور عن الثنوية إلى المجوسية، وهم بقتل ماني، فهرب، فأتى إلى بلاد الهند، فأقام بها حتى مات سابور. ثم ملك بعد سابور هرمز بن سابور، وكان رجلاً شجاعاً، وهو الذي بنى مدينة رامهرمز، ولم تطل أيامه، وكان ملكه سنة واحدة.
ثم ملك بهرام بن هرمز وكان مشغوفاً بالعبيد والملاهي، وكتب تلاميذ ماني إليه: أن قد ملك ملك حديث السن، كثير التشاغل، فقدم إلى أرض فارس، واشتهر أمره، وظهر موضعه، فأحضره بهرام، فسأله عن أمره، فذكر له حاله، فجمع بينه وبين الموبذ، فناظره، ثم قال له الموبذ: يذاب لي ولك رصاص يصب على معدتي ومعدتك، فأينا لم يضره ذلك، فهو على الحق. فقال: هذا فعل الظلمة! فأمر به بهرام فحبس، وقال له: إذا أصبحت دعوت بك، فقتلتك قتلة ما قتل بها أحد قبلك، فلم يزل ماني ليلة يسلح حتى خرجت نفسه، وأصبح بهرام، فدعا به، فوجدوه قد مات، فأمر بحز رأسه، وحشا جسده بالتبن، وتتبع أصحابه، فقتل منهم خلقاً عظيماً. وكان ملك بهرام بن هرمز ثلاث سنين.
ثم ملك بهرام بن بهرام، وكان ملكه سبع عشرة سنة، ثم ملك بعده ابنه بهرام بن بهرام بن بهرام، فكان ملكه أربع سنين، ثم ملك أخوه نرسى بن بهرام تسع سنين.
ثم ملك هرمز بن نرسى تسع سنين، وولد له ابن سماه سابور، وعقد له الملك، ومات هرمز وسابور صبي في المهد، فأقام أهل مملكته متلومين عليه، حتى ترعرع وشب، ثم ظهر منه عتو وجبرية، فغزا بلاد العرب، وغور عليهم المياه، وغزاه ملك الروم، وهو اليانوس، فأعانته العرب من جميع القبائل، ثم تسرعت قبائل العرب إلى سابور، فأوقعت به في دار ملكه، حتى هرب، وخلا ملكه فانتهبت مدينته وخزائنه، ثم جاء سهم غرب فقتل اليانوس ملك الروم، فملكت الروم يوبنيانوس، فصالح سابور.
وأقام سابور على معاداة العرب لا يظفر بأحد منهم إلا خلع كتفه، فلذلك سمي سابور ذا الأكتاف. وكان ملكه اثنتين وسبعين سنة.
ثم ملك أردشير بن هرمز أخو سابور، فساءت سيرته، وقتل الأشراف والعظماء منهم، فخلع بعد أن ملك أربع سنين. وملكت الفرس سابور بن سابور، فخضع له أردشير المخلوع ومنحه الطاعة، وسقط على سابور فسطاط فقتله، وكان ملكه خمس سنين.
وملك بعد سابور بهرام بن سابور، وكتب إلى الآفاق يعدهم العدل، والنصفة، والإحسان، وأقام على ملكه إحدى عشرة سنة، ثم ثار عليه قوم فقتلوه.
ثم ملك يزدجرد بن سابور، وكان فظاً، غليظاً، مستطيلاً، سيء السيرة، قليل الخير، كثير الشر، فسامهم سوء العذاب، ثم رمحه فرس، فقتله. وكان ملكه إحدى وعشرين سنة.
ثم ملك بهرام جور بن يزدجرد، وكان قد نشأ بأرض العرب، وكان أبوه قد دفعه إلى النعمان، فأرضعته نساء العرب، ونشأ على أخلاق جميلة.
وقد كان لما مات يزدجرد كرهت الفرس أن تولي ابنا له لسوء مذهبه، وقالوا: بهرام ابنه قد نشأ بأرض العرب، لا علم له بالملك! وأجمعوا على أن يملكوا رجلاً غيره ، فسار بهرام في العرب، فلما لقي الفرس هابته، فأخذوا تاج الملك والزينة التي تلبسها الملوك، فوضعوهما بين أسدين، وقالوا لبهرام ولكسرى: أيكما أخذ التاج والزينة من بين هذين الأسدين، فهو الملك. فقالوا لبهرام، فأخذ جرزاً، وتقدم، فضرب الأسدين حتى قتلهما، وأخذ التاج والزينة، فأذعنوا له، وأعطوه الطاعة، فوعدهم من نفسه خيراً، وكتب إلى الآفاق يعدهم بذلك، ويعلمهم ما هو عليه من العدل، وتوخي عمارة البلاد، وقدم المنذر بن النعمان عليه، فرفع منزلته.
وكان بهرام رجلاً مؤثراً للهو، متشاغلاً عن الرعية، ثم صار لطلب الصيد واللهو، واستخلف أخاه نرسى على المملكة، فلما بلغ خاقان ملك الترك حال بهرام طمع فيه، فأراد أن يسير نحوه، فبلغ بهرام ذلك، فسار إليه حتى قتله، وكتب إلى رعيته بالفتح، ثم خرج يوما يتصيد، فأمعن في طلب عير، ثم طرحه فرسه في موضع حماة، فمات، فكان ملكه تسع عشرة سنة.
ثم ملك يزدجرد بن بهرام، وكان ملكه سبع عشرة سنة، وكان ليزدجرد هذا ابنان يقال لأحدهما هرمز والآخر فيروز، فغلب هرمز على الملك بعد أبيه، فهرب فيروز، ولحق ببلاد الهياطلة، وأخبر ملكها بقصته، وبمذاهب أخيه وجوره، فأمده بجيش، فأقبل بهم، وقاتل أخاه فقتله، وشتت جمعه. وملك فيروز، فنال الناس في أيامه جدب وقحط، ومجاعة شديدة، وغاضت الأنهار والعيون، فلم يزل على تلك حالهم ثلاث سنين، ثم خصبت البلاد.
وسار فيروز إلى بلاد الترك ليحارب ملكها، وقد كان الصلح وقع بين الفرس والترك، فلما قرب من البلاد أرسل إليه ملك الترك يسأله الرجوع، ويعظم عليه ترك الوفاء، فلم يقبل، فحفر له خندقاً عميقاً، ثم عماه، فلما قرب منه عبا عسكره واقتحمه، فسقط وجميع جنده في ذلك الخندق، فمات، وحوى ملك الترك أمواله، وأخذ أختاً له. وكان ملكه سبعاً وعشرين سنة.
فلما بلغ الفرس مقتل فيروز أعظموه، فسار رئيس من رؤسائهم يقال له سوخرا في جمع وعدة، حتى لقي ملك الترك، فحاربه، ونال منه، فدعاه ملك الترك إلى الصلح على أن يدفع إليه كل ما حواه من خزائن فيروز، ويرد أخته، ومن في يده من أصحابه، ففعل ذلك، وانصرف عنه. وملك بلاش بن فيروز، وكانت مدته أربع سنين، ثم ملك أخوه قباذ بن فيروز، وكان صغير السن، فترك لسوخرا تدبير المملكة، فلما بلغ وصار في حد الرجال لم يرض بتدبير سوخرا، فقتله، وقدم مهران، ثم إن الفرس أزالت قباذ عن ملكه، وحبسته، وملكت أخاه جامسب بن فيروز، فأقام قباذ في الحبس، وأخوه الملك.
ثم إن أختاً لقباذ دخلت الحبس، فتعرض لها صاحب الحبس، وأطمعته في نفسها، وقالت إنها طامث، ثم دخلت، فأقامت عند قباذ يوماً، ثم لفته في بساط، وأخرجته على عنق غلام جلد، فهرب قباذ يريد ملك الهياطلة، فلما صار بأبر شهر نزل برجل، فأقام عنده، ثم سأله أن يطلب له امرأة، فأتاه بجارية، فوقع عليها، وأعجبه حسنها وجمالها، ثم مضى إلى ملك الهياطلة، فأقام عنده سنة، ثم بعث معه جيشاً، فلما رجع بأبر شهر قال للرجل الذي نزل عنده: ما فعلت تلك الجارية؟ فأتى بها، وقد ولدت صبياً كأحسن ما يكون من الصبيان، فسماه كسرى أنوشروان. وزحف قباذ إلى بلاده، فغلب على الملك، وقوي أمره، واشتدت شوكته، وغزا بلاد الروم، و كور الكور والطساسيج، وعقد لابنه أنوشروان الملك، ودعاه، فأوصاه بأحسن الوصية وعرفه كل ما يحتاج إليه. وكان ملك قباذ ثلاثا وأربعين سنة.
ثم ملك أنوشروان بن قباذ، فكتب إلى أهل مملكته يذكر لهم وفاة قباذ، ويعدهم من نفسه خيراً، ويأمرهم بما لهم فيه الحظ، ويوعز إليهم في الطاعة والمناصحة، وعفا عن قوم كانوا يتحملون عليه، وقتل مزدق الذي كان أمر الناس بأن يتساووا في الأموال والحرم، وقتل زراذشت بن خركان لما ابتدع في المجوسية، وقتل أصحابهما، وقدم أهل المملكة والشرف، وغزا بلدانا عدة مما لم يكن في مملكة الفرس، فضمها إلى ملكه.
وجرى بينه وبين يخطيانوس ملك الروم، فغزا أنوشروان بلاد الروم، فقتل وسبى، وغلب على مدن كثيرة من الجزيرة والشام منها: الرها، ومنبج، وقنسرين، والعواصم، وحلب، وأنطاكية، وأفامية، وحمص وغيرها، وأعجبته أنطاكية، فبنى مدينة مثلها لم يخرم منها شيئاً، ثم جاء بسبي أنطاكية، فأرسلهم فيها، فلم ينكروا شيئاً.
ومسح أنوشروان البلاد، ووضع عليها الخراج، وألزم كل جريب من الغلات بقدر احتماله، فلم تزل السنة جارية على ذلك، والبلاد عامرة.
ورتب لديوان المقاتلة رجلاً رضي حزمه وعزمه، وأخذ مقاتلته مما يحتاج إليه من السلاح، و جعل ديوان العطاء، ودفاتر الأسماء والحلي، وسمات الدواب، وديوان العرض على مثل ذلك. وكان أنوشروان نبيلاً، كريماً، ظاهر العدل، لا يسأله إنسان شيئاً إلا أجابه، فسار إليه سيف بن ذي يزن، فأعلمه أن الحبشة قدمت بلاد اليمن، وغلبت عليها، وأنه صار إلى هرقل ملك الروم، فلم يجد عنده ما يحب، فبعث معه بأهل السجون في البحر، وقود عليهم رجلاً من مشيخة قواده شجاعاً مجرباً يقال له وهرز، فصار إلى بلاد اليمن، حتى قتل الحبشة، وأفناهم، ورمى ملكهم أبرهة فقتله، وأقام في البلد وملك سيف بن ذي يزن.
وعقد أنوشروان لابنه هرمز الملك من بعده، وكانت أم هرمز بنت خاقان ملك الترك. وكتب له في ذلك كتاباً بالعهد، وأمره فيه بما يأمر به مثله، وأوصاه أحسن الوصايا، وامتحنه، فوجده بحيث يحب، وأجابه على كل ما قال له بجواب سديد، وتنكر، ولا يأتيه إلا بقول حسن لطيف، وهلك أنوشروان، وكان ملكه ثمانياً وأربعين سنة .
ثم ملك هرمز بن أنوشروان، فقرأ على الناس كتاباً عاماً يعد فيه بالعدل والإنصاف، والعفو والإحسان، ويأمرهم بما فيه الصالح، ونال ظفراً وعزاً، ففتح عدة مدائن، ثم اجترأ أعاديه عليه، وغزوا بلاده، وكان أغلظ الأعداء عليه شابه ملك الترك، فإنه زحف في خلق عظيم حتى دخل بلاد خراسان، وكاد أن يحتوي عليها.
وأقبل ملك الخزر في جموع حتى نزل آذربيجان، فعظم ذلك عليه، وخاف ألا يكون له طاقة بصاحب الترك، فأتاه رجل من قواده يقال له بهزاد، فأعلمه أن عنده رجلاً يقال له مهران ستاد عالماً، وأن خاتون امرأته سألت عما قبلهم، فأخبرها أن ابنتها تلد من ملك الفرس ابنا يلي الملك بعد أبيه، وإنه يزحف إليه ملك الترك في خلق عظيم، فيوجه إليه بإنسان ليس بالنبيه يقال له: بهرام شوبين، في شرذمة من الجند، ويقتل ذلك الملك، ويصطلم ملكه.
فلما سمع هرمز ذلك سره، ثم طلب بهرام شوبين، فقيل له: ما نعرف هذا إلا رجلاً من أهل الري هو باذربيجان! فوجه إليه، فأقدمه، ثم وجهه إلى شابه ملك الترك في اثني عشر ألف مقاتل، فقال موبذان موبذ لهرمز: ما أخلقه أن ينال ظفراً، غير أن في قرنه حاجبه دليلا على ثلمة يثلمها في ملكك.
وقال له زاجر، كان له، مثل ذلك، فكتب هرمز إلى بهرام أن يرجع، فلم يرجع، ووافاه بهرام بهراة، وشابه مغتر، وكان عند شابه رجل وجه به هرمز ليخدعه يقال له هرمز جرابزين، حتى فر منه، ثم ارتحل عنه، فأرسل شابه من عرف خبر بهرام، فانصرف إليه، فأعلمه حاله، فأرسل إليه شابه في الرجوع، فأجابه بهرام بجواب غليظ شديد، ثم لقيه وقد عبا جنده، وقد كان مع شابه قوم عرافون وسحرة، وكانوا يلبسون على أصحاب بهرام، ثم التحمت الحرب، فاستحر القتل في أصحاب شابه، حتى قتل منهم خلق عظيم، فولوا منهزمين، وقتل بهرام منهم مقتلة عظيمة، ولحق شابه، فرماه بحربة طويلة، فقتله، وأخذ ساحراً كان مع صاحب الترك، فأراد بهرام أن يستبقيه، فيكون عدة له في حروبه، ثم رأى أن قتله أصلح، فكتب بالفتح إلى هرمز، فسر به، و كتب به إلى الآفاق.
ثم خرج برموذة بن شابه، فلقي بهرام، فحاربه وبيته، وكانت بينهما حرب شديدة، ثم بيته
بهرام، فهزمه، ولحقه، فحصره في حصن، فطلب برموذة بن شابه الأمان على أن يكون ذلك من هرمز الملك، فكتب بهرام إلى هرمز، فأجابه، وكتب له كتاب أمان، وكتب إلى بهرام أن يسرحه إليه، فخرج برموذة بن شابه من الحصن، وكان هرمز قد وجه ناساً إلى بهرام شوبين، فصار برموذة إلى هرمز، فأكرمه هرمز، وبره، وأجلسه معه على السرير، وأخبره برموذة بما صار إلى بهرام من الأموال العظام والكنوز، وأنه قد كتم ذلك عن أمنائه، وأخبر أمناؤه بمثل ذلك، وأن الذي بعث به قليل من كثير، فكتب هرمز إلى بهرام يأمره أن يحمل إليه ما في يده من الأموال، فغلظ ذلك على بهرام، وأخبر به جنده، فذكروا هرمز أقبح ذكر، وخلعه هو وجميع جنده.
فلما بلغ ذلك هرمز اغتم له، وكتب إلى بهرام يعتذر إليه وإلى جنده من مثل ذلك، فلم يقبل بهرام ولا جنده قول هرمز، وبعث بهرام إلى هرمز بسفط فيه سكاكين معوجة الرءوس، فلما رآها هرمز علم أنه قد عصى، فقطع أطراف السكاكين، وردها إليه، فعلم بهرام ما أراد، فأرسل إلى خاقان ملك الترك يطلب صلحه على أن يرد عليه كل أرض حازها من بلاده. وسار بهرام حتى صار إلى الري، ثم دبر أن يوقع بين هرمز وبين ابنه كسرى أبرويز شراً وكان هرمز متهما لابنه، وكان قد بلغه أن قوما قد حملوه على أن يثب بأبيه، فضرب دراهم كثيرة، وصير عليها اسم كسرى أبرويز، وبعث بها إلى مدينة هرمز، فكثرت في أيدي الناس، ولما بلغ هرمز خبرها اشتد غمه، فأراد أن يحبس ابنه كسرى أبرويز، فلما بلغ أبرويز الخبر هرب إلى آذربيجان، فاجتمع إليه من بها من مرازبتها ورؤسائها، وعاقدوه، وبايعوه.
ووجه هرمز إلى بهرام بجيش مع رجل يقال له آذينجشنس، فلما صار في بعض الطريق قتله رجل حواري كان آذينجشنس أخرجه من الحبس، وضمه إلى نفسه، وافترق أصحابه، فلما قتل آذينجشنس ضعف أمر هرمز، واجترأ عليه جنده، وكانوا متغضبين له كارهين لولايته. فكتبوا إلى ابنه أبرويز، فقدم بجيش من آذربيجان، فخلعوا هرمز، وملكوا أبرويز، وأخذ هرمز فحبس، وسملت عيناه، فأقام في الحبس أياما، ثم دخل إليه ابنه، فكلمه فقال له هرمز: اقتل من صنع بي هذا. وكان قد احتوى على تدبير الملك بندي وبسطام خالا أبرويز، وكان ملك هرمز اثنتي عشرة سنة.
فلما استقام أمر أبرويز، وبلغه مسير بهرام شوبين إليه، خرج في جيشه، ومعه بندي وبسطام، حتى وقف على بهرام بالنهروان، وكلمه وعظم عليه الأمر، فأجابه بهرام بجواب غليظ شديد، وكان كردويه أخو بهرام مع كسرى أبرويز، وألحقه بهرام، وانكشف عن كسرى جنده، وأسلمه أصحابه، فمر هاربا، فلما كان في بعض الطريق، رجع بندي وبسطام خالاه، فقتلا هرمز أباه، ولحقاه في بعض الطريق، واستمر به الهرب حتى ساءت حالته، واشتد بؤسه وجزعه، فطلب طعاما فلم يجد إلا خبز شعير.
ولحقته خيل بهرام، فاحتال له خاله بندي حتى نجاه، فمضى حتى صار إلى الرها، فأخذ بندي، فأتى به بهرام، فحبسه، ثم أفلت من الحبس، فصار إلى آذربيجان، وصار كسرى إلى الرها يريد مورق ملك الروم، فحبسه صاحب الرها، وكتب إلى مورق ملك الروم يخبره أنه أتاه لينصره، فاستشار ملك الروم أصحابه في أمره، فأشار بعضهم بأن لا يجاب، وأشار بعضهم بأن يجاب، فأجابه ملك الروم، وزوجه ابنته، ووجه معه بجيش عظيم، وشرط عليه الشروط، إذا تم له نصره، ووجه إليه كسرى بثلاثة نفر من أصحابه، فشرط عليهم كل ما أراد، ووجه بابنته وبالجيش وعليهم أخ له يقال له ثيادوس، ومعه رجل يجري مجرى ألف رجل، فسار كسرى بجيشه، بعد ابتنائه بابنة ملك الروم، إلى ناحية آذربيجان، وكان بندي خاله قد صار إليها، فلما علم بمكانه لقيه في جيش عظيم.
ولما علم بهرام شوبين بما اجتمع لكسرى كتب إلى وجوه أصحابه يخبرهم بسوء مذهب آل
ساسان، ويصف سيرة ملك ملك، ويدعوهم إلى نفسه، ووقعت الكتب في يد كسرى قبل أن تصل إلى القوم، فكتب إليه بأغلظ الجواب عن القوم، ورد إليه الرسول، فزحف إليهم بهرام حتى صار إلى آذربيجان، فحاربه محاربة شديدة، وأخذت الحرب من الفريقين، وخرج الرومي الذي كان يجري مجرى ألف رجل. فقال لكسرى: أين عبدك هذا الذي غصبك ملكك، حتى أقتله؟ فقال: هو صاحب الأبلق، فحمل عليه وتراجع بهرام إلى ورائه، ثم تراجع عليه. فضربه بسيفه فقده نصفين، فضحك كسرى، وقال: زه، فغضب أخو ملك الروم، وقال: سررت أن قتل رجلنا وصاحبنا؟ فقال: لا ولكن صاحبكم قال لي: أين العبد الذي غصبك وغلبك ملكك، فأردت أن تعلم أن العبد يضرب في كل يوم عدة ضربات كلا مثل هذه.
واشتدت الحرب حتى انهزم كسرى، وصعد في جبل، فكاد يهلك، ثم ثاب جند كسرى، وانهزم بهرام شوبين، فمضى منصرفاً لا يلوي على شيء، متوجها إلى ملك الترك.
واستقام الأمر لكسرى أبرويز، فكتب إلى صاحب الروم بذلك، وأهدى له ملك الروم ثوبين فيهما الصلب، فلبسهما، فقال الفرس: قد تنصر، ثم كتب في النصارى أن يكرموا، ويقدموا، ويبرزوا، ويخبر بما قد جرى بينه وبين الرومي من العصمة، واللحمة، والموادعة، وأنه لم يقل هذا ملك من الملوك قبله.
ووثب بندي خال كسرى بثيادوس أخي ملك الروم، فصمه، فوقع الشر، وقال أخو ملك الروم: إما أن تدفع إلى بندي، وإما أن يعود الشر، فسكنه كسرى.
وورد بهرام شوبين بلاد الترك، فأكرمه خاقان وبره، وكان لخاقان أخ يقال له بفارس يداريه خاقان، فرآه بهرام، فقال لخاقان: كيف اجترأ هذا عليك هذه الجرأة؟ فسمع أخو خاقان الكلام، فتوعده، فقال بهرام: متى شئت فابرز، فدفع خاقان ملك الترك إلى أخيه نشابة وإلى بهرام نشابة، ثم أخرجهما إلى الصحراء، فرمى أخو خاقان بهرام، فأصابه، فشك سلاحه، ورماه بهرام، فقتله، فسر خاقان بقتل أخيه لمعاندته له، ولما كان يخافه منه.
وكان كسرى يرهب مكان بهرام شوبين مع خاقان، ولا يأمن أن يجري عليه شراً، فوجه برجل من وجوه الفرس يقال له بهرام جرابزين، وكان كبيراً في الفرس، ووجه معه إلى خاقان بهدايا ويسأله أن يبعث إليه بهرام شوبين، وأمر جرابزين أن يتلطف في أمره، فقدم على خاقان بالهدايا، وذكر له أمر بهرام، فلم يجد عنده الذي يحب، فتلطف بخاتون امرأة خاقان، وأهدى لها جوهراً ومتاعاً، وسألها في أمر بهرام، فوجهت برجل من أصحابها له إقدام وجرأة قلب، وقالت له: ادخل إلى بهرام شوبين فاقتله! فانطلق حتى استأذن عليه، وكان نوم بهرام، فلم يأذن له، فقال: أن الملك خاقان وجهني في أمر مهم، فأذن له، فلما دخل عليه قال: أن الملك حملني رسالة أخبرك بها سراً من غير حضور أحد. فقام من مجلسه، ودنا منه كأنه يساره، ووجاه بخنجر معه تحت إبطه، وخرج التركي مسرعا، فركب دابته.
ودخل أصحاب بهرام، فرأوه بتلك الحال، فقالوا: أيها الليث الضرغام! من أقصدك؟ وأيها الجبل المنيف! من هدك؟ فقص عليهم القصة، وكتب إلى خاقان يعلمه أنه لا وفاء له، ولا شكر، و مات بهرام، فحمل إلى الناووس، ولما علم جرابزين بموته ارتحل إلى كسرى، فأخبره، فسر به، وأظهره في مملكته، وكتب به إلى آفاقه. ولما مات بهرام بعث ملك الترك إلى كردية امرأة بهرام وأصحابه يخبرهم بغمه، وأنه قد قتل كل من شرك في قتله، ووجه بأخيه نطرا إليهم، وكتب إلى كردية امرأة بهرام شوبين أنه يرغب فيها، ويأمرها أن تتزوج نطرا، فحملت كردية امرأة بهرام جند أخيها، وارتحلت بأصحابها ومن معها تريد بلاد الفرس، فلحقها نطرا أخو خاقان، فبرزت إليه في السلاح، وقالت: لا أتزوج إلا من كان في الشجاعة والقوة مثل بهرام، فابرز إلي! فبرز إليها أخو خاقان، فقتلته، ومضت لوجهها.
وكان كسرى قد غضب على خاله بندي، فسمل عينيه، وقطع يديه ورجليه وصلبه حياً لما فعل بأبيه، فلما علم بسطام أخو بندي ما فعل كسرى بأخيه خلع كسرى، وصار إلى الري وجمع
وبلغه أن كردية أخت بهرام وامرأته قد أقبلت من بلاد الترك، فتلقاها ومن معها، فذم إليها كسرى، وخبرها بغدره وفجوره، وسألها أن تقيم عنده بمن معها، وأن تزوجه نفسها، ففعلت، وكتبت إلى أخيها كردي تعلمه ذلك، وتسأله أن يأخذ لها ولمن معها أمانا من كسرى، فأخبر كسرى بمصير كردية، بمن معها من جند بهرام وأصحابه، إلى الري، وتزوج بسطام خاله بها، ومقامها معه، فعلم ذلك كسرى، ودعا كردي أخاها، فسأله أن يتلطف بها حتى تقتل بسطام وتقدم فيتزوجها. فوجه كردي أبرخة امرأته إلى كردية أخته بما ذكر له الملك، وأنفذ إليها كتب الأمانات لها ولمن معها بأوثق ما يكون من العهود، فقبل أصحابها، ووثبوا على بسطام فقتلوه. وقدمت كردية على كسرى، فتزوجها، وأحلها محلاً رفيعاً، فاستقامت لكسرى أموره، ودانت له بلاده. ثم وثبت الروم بمورق ملكها، فقتلوه، وملكوا غيره، وصار إليه ابن مورق، فوجه معه جيشاً، ثم قتل ابن مورق، وملك هرقل، فغزا أصحاب كسرى، فقتلهم وشردهم، وزحف إليهم حتى هزم شهربراز صاحب كسرى.
وكان كسرى لما اشتد ملكه قد طغى، وبغى، وعتا، وظلم، وجار، وأخذ أموال الناس، وسفك الدم، فمقته الناس لما نال منهم ولاحتقاره إياهم، وإن عظماء الفرس لما رأوا ما هم فيه من الذل والبلاء والمكروه من كسرى خلعوه، وجاءوا بابن له يقال له شيرويه، فملكوه، وأدخلوه المدينة، ونادوا شيرويه شاهنشاه، وأخرجوا من في السجون ممن كان كسرى يريد قتلهم، فهرب كسرى، حتى دخل بستاناً له، فأخذوه، فحبسوه ، ثم قالوا لشيرويه: إنه لا يستقيم الملك، وأن يكون أبرويز حياً، فاقتله وإلا خلعناك! فوجه شيرويه إلى أبيه برسالة غليظة يعنفه فيها على فعله، ويذكر له ما نال من أهل مملكته، وما كان من سوء سيرته، فأجابه بجواب تفنيد و تجهيل له، فوجه إليه برجل كان كسرى أبرويز قطع يد أبيه بغير سبب ولا جرم، إلا أنه قيل له إن ابن هذا يقتلك، فقطع يده، وكان من خاصته، فلما دخل عليه سأله عن اسمه قال له: شأنك وما أمرت به، فضربه، حتى قتله، ثم إن شيرويه حمل أباه إلى الناووس، وقتل قاتله. وكان ملك كسرى أبرويز ثمانياً وثلاثين سنة.
ولما ملك شيرويه بن أبرويز أطلق من في المحابس، وتزوج بنساء أبيه، وقتل سبعة عشر أخاً له ظلماً واعتداء، فلم يستقم ملكه، ولم يصلح حاله، فاشتد سقمه، ومات بعد ثمانية أشهر، وملكت الفرس ابنا لشيرويه طفلاً يقال له أردشير، واختاروا له رجلاً يقال له مه آذرجشنس، فحضنوه إياه ليقوم بتدبير الملك، فأحسن التدبير، وقام بالأمر قياماً محموداً، وجرت أمور المملكة.
وكان شهربراز الموجه لحرب الروم، قد عظم أمره، فكره موضع مه آذرجشنس، وكتب إلى الفرس أن يوجهوا إليه برجال سماهم، وإلا أقبل إليهم حتى يحاربهم، فلم يفعلوا، فأقبل شهربراز في ستة آلاف إلى جانب مدينة المملكة، وحاصر من فيها، وقاتلهم، ثم فكر، فاحتال حتى دخل المدينة، فأخذ عظماء الفرس، فقتلهم، وفضح نساءهم، وقتل أردشير الملك. وكان ملك أردشير سنة وستة أشهر.
وجلس شهربراز على سرير الملك، ودعا نفسه ملكاً، فلما رأت الفرس فعل شهربراز أعظمته، وقالت: مثل هذا لا يملك علينا! فوثبوا به، وقتلوه، وجروا برجله.
ولما قتلت الفرس شهربراز طلبوا رجلاً من أهل الملك، فلم يجدوه، فملكوا بوران بنت كسرى، فأحسنت السيرة، وبسطت العدل والإحسان، وكتبت إلى آفاقها كتاباً تعد فيه بالعدل والإحسان، و تأمرهم بجميل المذهب والقصد والسداد، ووادعت ملك الروم، وكان ملكها سنة وأربعة أشهر. ثم ملكت آزرميدخت بنت كسرى، واستقام أمرها، فقال فرخهرمزد أصبهبذ خراسان: أنا اليوم قريع الناس، وعماد مملكة فارس، فزوجيني نفسك! فقالت: لا يجوز لملكة أن تزوج نفسها، ولكن إذا أردت أن تصل إلي، فأتني بالليل! فرضي بذلك، فأمرت صاحب حرسها أن يرصده حتى يدخل، ثم يقتله، فلما كان الليل أتى، فدخل وبصر به صاحب الحرس، فقال: من أنت؟ فقال: أنا فرخهرمزد! فقال: وما تصنع في مثل هذا الوقت في موضع لا يدخله مثلك؟ فضربه حتى قتله، وطرحه في الرحبة، فلما غدا الناس رأوه قتيلاً، فرفعوا خبره، وكان ابنه رستم، الذي لقي سعد بن أبي وقاص بالقادسية، بخراسان، فقدم، فقتل آزرميدخت، وكان ملكها ستة أشهر.
ثم ملك رجل من عقب أردشير بن بابك يقال له كسرى بن مهرجشنس، وقد كان دعي إلى الملك قبل ذلك، فامتنع منه، وكان مقامه بالأهواز، فلما ملك لبس التاج، وجلس على السرير، فقتلوه بعد أيام، فلم يتم له شهر، فأعوز عظماء الفرس من يملكونه من أهل بيت المملكة، ثم وجدوا رجلاً يقال له فيروز قد أولده أنوشروان من قبل أمه فملكوه ضرورة، فلما أجلس ليتوج، وكان ضخم الرأس، قال: ما أضيق هذا التاج! فتطيرت عظماء الفرس من قوله، فقتلوه.
وأقبل ابن لكسرى كان قد هرب إلى نصيبين لما قتل شيرويه يقال له فرخزاد خسرو، فتوج وملك، وكان نبيلاً، فملك سنة، ثم وجدوا يزدجرد بن كسرى، وكانت أمه حجامة وقع عليها كسرى، فجاءت بيزدجرد، فتطيروا منه، فغيبوه، ثم اضطروا إليه، فجاءوا به وأمورهم مضطربة، وأهل مملكته مجترئون عليه، ولما أتى لملكه أربع سنين قدم سعد بن أبي وقاص القادسية، فبعث إليه برستم، ثم صار المسلمون إلى المدائن، وهي مدينة الملك، يوم النوروز، وقد استعدت الفرس بصنوف الأطعمة، واستعدت أحسن الزينة، فانهزمت الفرس، وهرب يزدجرد، فلم يزل المسلمون يتبعونه، حتى صاروا إلى مرو، فدخل طاحونة، وقتله صاحب الطاحونة، وكان ملكه إلى أن قتل عشرين سنة.
وكانت الفرس تعظم النيران، ولا تستنجي بالماء، إنما تستنجي بالدهن، ولا تتخذ لقصورها أبوابا، إنما كانت أبوابها عليها الستور، يحفظها الحرس من الرجال، ولا تأكل إلا بزمزمة، وهو الكلام الخفي، وتنكح الأمهات والأخوات والبنات، وتذهب إلى أنها صلة لهن، وبر بهن، وتقرب إلى الله فيهن.
ولم تكن لها حمامات ولا كنف، وكانت تعظم الماء والنار والشمس والقمر والأنوار كلها. وكانت تعد الأزمنة على شهورها وأيام أعيادها، وكان الخريف عندهم شهريور ماه، ومهر ماه، وآبان ماه، والشتاء آذر ماه، و دي ماه، وبهمن ماه، والربيع إسفندارمذ ماه، وفروردين ماه، و أرديبهشت ماه، والقيظ خرداذ ماه، وتير ماه، ومرداذ ماه، وكانت تزيد في الخريف خمسة أيام تسميها أيام الأندركاه، فتكون السنة ثلاثمائة وخمسة وستين يوماً، وشهورهم ثلاثين يوماً، ورأس سنتهم يوم النوروز، وهو أول يوم من فروردين، ويكون ذلك في نيسان وآذار، وقد مرت الشمس في الحمل، وهو يوم عيدهم المعظم عندهم، ويوم المهرجان، وهو لستة عشر يوما يمضي من مهر ماه، ثم يكون بين النوروز والمهرجان مائة وخمسة وسبعون يوماً، وذلك خمسة أشهر وخمسة وعشرون يوماً، والمهرجان في تشرين الآخر.
وكانت الفرس تسمى كل يوم من أيام شهورهم باسم، وهي: الروزات، فأولها هرمز، بهمن، أرديبهشت، شهريور، إسفندارمذ، خرداذ، مرداذ، دي باذر، آذر آبان، خور ماه، تير، جوش، دي بهمر، مهر سروش، رشن، فروردين، بهرام، رام باذ، دي بدين، دين، أرد، أشتاذ، اسمان، زامياذ، مارسفند، أنيران.
وكان من قول الجماعة منهم فيما يقولونه من زراذشت الذي يدعون أنه نبيهم: أن يكون النور قديما لم يزل، وهم يسمونه زروان، وإنه فكر في الشر لهفوة كانت منه علمهم منها لأن الحسن مستحيل إلى قبح، والطيب الريح إلى نتن، وإن القديم عندهم غير ممتنع من أن يلزمه التغيير والفساد في بعضه لا في كله.
فلما فكر القديم في الشر، تنفس الصعداء، فخرج ذلك الغم من جوفه، فامتثل بين يديه، ويسمون ذلك الغم الممتثل بين يدي القديم: أهرمن، ويسمونه أيضاً: زروان هرمز.
قالوا: فأراد أهرمن محاربة هرمز، فكره ذلك هرمز لئلا يفعل شراً، فصالحه على أن يصير إليه خلق كل ضار فاسد.
وزعموا أنهما جسمان وروحان، وبينهما فرجة للحنق لأنهما ليسا بملتقيين، وقالوا: إن هرمز النور الفاعل الأجرام وأزواجها، وإن أهرمن إنما يفعل المضار في هذه الجواهر، كالسم في الهوام، والغيظ، والغضب، والضجر، والشرور، والتعادي، والحنق، والخوف في الحيوان، فإن الله هو فاعل الأعيان وأعراضها الراتبة.
وكانت منازل ملوك الفرس في أول ملك أردشير بن بابكان بإصطخر من كور فارس، ثم لم تزل الملوك تنتقل، حتى ملك أنوشروان بن قباذ، فنزل المدائن من أرض العراق، فصارت دار الملك، وأجمع العلماء من المنجمين والمتطببين أنه ليس في المملكة بلد أصح، ولا أفضل، ولا أعدل من تلك البقعة، وما قرب منها من إقليم بابل.
وكانت البلاد التي تملكها الفرس، ويحوز سلطانها فيها، من كور خراسان: نيسابور، وهراة، ومرو، ومرو الروذ، والفارياب، والطالقان، وبلخ، وبخارى، وباذغيس، وبأورد، وغرشستان، وطوس، وسرخس، وجرجان، وكان على هذه الكور عامل تسميه أصبهبذ خراسان.
ومن كور الجبل: طبرستان والري، وقزوين، وزنجان، وقم، وأصبهان، وهمذان، ونهاوند، والدينور، وحلوان، وماسبذان، ومهر جانقذق، وشهرزور، والصامغان، وآذربيجان، وكان لهذه الكور أصبهبذ يقال له أصبهبذ آذربيجان، وكرمان. وفارس، وكورها: إصطخر، وشيراز، والرجان، والنوبندجان، وجور، وكازرون، وفسا، ودارابجرد، وأردشيرخره، وسابور. والأهواز، وكورها: جنديسابور، والسوس، ونهر تيري، ومناذر، وتستر، وإيذج، ورامهرمز، وعلى هذه أصبهبذ يقال له أصبهبذ فارس.
وكور العراق، ولها ثمانية وأربعون طسوجا على الفرات ودجلة، فسقى الفرات: بادوريا، والأنبار، وبهرسير، والرومقان، والزاب الأعلى، والزاب الأسفل، والزاب الأوسط، وزندورد، وميسان، وكوثى، ونهر درقيط، ونهر جوبر، والفلوجة العليا، والفلوجة السفلى، وبابل، وخطرنية، والجبة، والبداة، والسيلحين، وفرات بادقلى، وسورا، وبربسما، ونهر الملك، وباروسما، ونستر.
وسقى دجلة: نهر بوق، ونهر بين، وبزرجسابور، والراذان الأعلى، والراذان الأسفل، والزابيين، والدسكرة، وبرازروز، وسلسل، ومهروذ، وجلولاء، والنهروان الأعلى، والنهروان الأوسط، والنهروان الأسفل، و جازر، والمدائن، والبندنجين، ورستقباذ، وأبزقباذ، والمبارك، وبادرايا، وباكسايا، ولهم أصبهبذ رابع يسمى أصبهبذ المغرب.
وكانت آخر مسالح الفرس مما يلي الفرات: الأنبار، ثم تصير إلى مسالح الروم، ومما يلي دجلة ثم تصير إلى مسالح الروم، إلا أن يتعاور القوم، فيدخل الفرس بلاد الروم على المخالبة، وربما دخل الروم بلاد الفرس. وكل الاسم الواقع على كل ملك للفرس: كسرى، وكانوا إن سموه و ذكروه قالوا: كسرى شاهنشاه، معناه ملك الملوك، وكانت تسمى الوزير: بزرجفرمذار، معناه متقلد الأمور، وكانت تسمى العالم القيم بشرائع دينهم: موبذ موبذان، ومعناه عالم العلماء، وأول من رفع عليه منها الاسم: زراذشت، وكانت تسمى قيم النار: الهربذ، وكانت تسمى الكاتب: دبيربذ، وكانت تسمى العظيم منهم: الإصبهبذ، ومعناه الرئيس، والذي دونه: الفادوسبان، و معناه دافع الأعداء، وتسمى رئيس البلد: المرزبان، وتسمى رئيس الكور: الشهريج، وتسمى أصحاب الحروب وقواد الجيوش: الأساورة، وتسمى صاحب المظالم: شاهريشت، وتسمى صاحب الديوان: المردمارعد.
ممالك الجربىوكان ولد عامور بن توبل بن يافث بن نوح لما قسم فالغ بن عابر بن أرفخشد بن سام بن نوح الأرض بين ولد نوح خرجوا في يسرة المشرق، فقطع قوم منهم ولد ناعوما ناحية الجربى على سمت الشمال، فانتشروا في البلاد، فصاروا عدة ممالك، وهم: البرجان، والديلم، والتبر، والطيلسان، وجيلان، وفيلان، واللان، والخزر، والدودانية، والأرمن، وكانت الخزر المتغلبة على عامة بلاد أرمينية، وعليها ملك يقال له خاقان، وله خليفة يقال له يزيد بلاش على الران، وجرزان، والبسفرجان، والسيسجان، وكانت هذه الكور تسمى أرمينية الرابعة التي افتتحها قباذ ملك الفرس، فصارت إلى أنوشروان، إلى باب اللان، مائة فرسخ، وفيها ثلاثمائة وستون مدينة. وغلب ملك الفرس على الباب والأبواب، وطبرسران، والبلنجر، و بنى مدينة قاليقلا، ومدناً كثيرة، فأسكنها قوماً من أهل فارس، ثم غلبت الخزر على ما كانت فارس غلبتهم عليه، فأقام في أيديهم حيناً، ثم غلبتهم الروم، فملكت على أرمينية الرابعة ملكاً يقال له الموريان، وافترقوا عدة رياسات كل رئيس منهم في قلعته وحصنه، فهي لهم ممالك معروفة.
وقطع قوم من ولد عامور ما وراء النهر، ثم افترقوا في البلاد، فصارت ممالك مفترقة وأمم كثيرة، فمنهم: الختل، والقواديان، والأشروسنة، والسغد، والفرغانة، والشاش، والترك، والخرلخية، والتغزغز، والترك الكيماكية، والتبت، وفي الترك قوم أصحاب مدر ومدن وحصون، وفيهم قوم في رؤوس الجبال والصحاري كالبدو، ولهم شعور طوال، ومنازلهم خيام اللبود، فإذا غزوا كان في الخيمة الواحدة عشرون مقاتلاً، ويرمون فلا يخطئون، وبيوتهم متصلة من أول كور خراسان إلى جبال التبت وجبال الصين. //////
={مجلد 2.}}}}}}}}}
مجلد 2. من كتاب : تاريخ اليعقوبي
المؤلف : اليعقوبي
وأما التبت، فبلد واسع أعظم من الصين، ومملكتهم جليلة، وهم أصحاب منعه وحكمة يضاهون صنعة الصين، وفي بلادهم غزلان سررها المسك، وهم عبدة أصنام، ولهم بيوت نيران، وشوكتهم شديدة، فليس يحاربهم أحد.
ملوك الصينذكرت الرواة وأهل العلم ومن صار إلى بلاد الصين، فأقام بها الدهر الطويل، حتى فهم أمرهم، وقرأ كتبهم، وعرف أخبار المتقدمين منهم، ورأوه في كتبهم، وسمعوه من أخبارهم، ومكتوب على أبواب مدنهم وبيوت أصنامهم، ومنقور في الحجارة قد أجرى فيه الذهب: إن أول من ملك الصين صاين بن باعور بن يرج بن عامور بن يافث بن نوح بن لمك، فإنه كان عمل فلكاً حكى به فلك نوح، فركب فيه، ومعه جماعة من ولده وأهله، حتى قطع البحر، فصار إلى موضع استحسنه، وأقام به، فسمي ذلك الموضع الصين باسمه، فكثر ولده، وتناسلت ذريته، فكانت ذريته على دين قومه، واتصل ملكه ثلاثمائة سنة.
ومنهم عرون الذي شيد البنيان، وعمل الصنعة، واتخذ الهياكل المذهبة، وعمل فيها صورة أبيه، وجعلها في صدر الهيكل، فكان إذا دخل سجد لتلك الصورة تعظيماً لصورة أبيه، وكان لصاين اسم تفسيره بالعربية ابن السماء، فمن ذلك الزمان صارت الأوثان تعبد في بلاد الصين، وكان ملك عرون مائة وأربعين سنة.
ومنهم عير الذي سار في بلاد الصين طولاً وعرضاً، وبنى المدن العظام، وشيد القباب من الجزلان والنحاس المذهب، وعمل صورة أبيه من ذهب مكلل بالجوهر والرصاص والنحاس المزوق، فاتخذها أهل مملكته جميعاً في مدنهم وبلدانهم، وقالوا: ينبغي للرعية أن تعمل صورة ملك قد ملكها من السماء، وعدل فيها، واتصل ملك عير مائة وثلاثين سنة.
ومنهم عينان الذي سام أهل مملكته سوء العذاب، ونفاهم إلى جزائر البحر، فكانوا يصيرون من تلك الجزائر إلى مواضع فيها الثمار ليأكلوا منها، فيجدون بها الوحوش، ولم يزالوا كذلك حتى أنسوا بالوحوش، وأنست بهم، وكانوا ينزون عليها، وربما نزت تلك على نسائهم فتأتي بينهم الخلق المشوهة.
وباد القرن الأول وأتى قرن بعد قرن، فذهبت عنهم لغاتهم، وصاروا يتكلمون ما لا يفهم، ففي الجزائر التي تجتاز منها إلى أرض الصين أمر عظيم من هذا الضرب، وأمم كثيرة، وكان يسمى عينان اسماً تفسيره بالعربية خلقة الشر.
وكان ملكه مائة سنة.
ومنهم خرابات الذي ملك وهو حدث السن، ثم احتنكت سنة، فعلا أمره، وحسن تدبيره، ووجه بوفد من قبله إلى أرض بابل وما اتصل بها من بلاد الروم يتعرفون ما فيها من الحكمة و الصنعة، وحمل معهم من صنعة الصين وما يعمل بها من ثياب الحرير وغيره، وما يؤتى به من تلك البلاد من الآلات وغيرها، وأمرهم أن يحملوا إليه كل صنعة وظريفة من أرض بابل وبلاد الروم، وأن يتعرفوا شرائع دين القوم، فكان ذلك أول ما دخل من متاع الصين إلى أرض العراق وما اتصل بها، وركب التجار بحر الصين للتجارة، وذلك أن الملوك استظرفت ما أتاهم من متاع الصين، فعملوا المراكب، وحملوا فيها التجارة، فكان ذلك أول دخول التجار إلى الصين. وكان ملك خرابات ستين سنة.
ومنهم توتال، وأهل الصين يقولون إنهم وجدوا مكتوباً على أبواب مدنهم: أنه لم يملكهم ملك قط مثله، ورضوا به رضا لم يرضوا مثله بأحد قط، وهو الذي سن لهم كل سنة هم عليها في أديانهم، وأفعالهم، وصناعاتهم، وشرائعهم وأحكامهم. وكان ملكه ثمانياً وسبعين سنة، فلما مات أقاموا يبكون عليه زماناً طويلًا، ويحملونه على أسره الذهب وعجل الفضة، ثم جمعوا له العود والعنبر والصندل وسائر الطيب، وألهبوه بالنار، وطرحوه فيها، وجعل خاصته يلقون أنفسهم في تلك النار أسفاً عليه ووفاء له، وصار هذا سنة فيهم، وجعلوا صورته على دنانيرهم، وهم يسمون الدنانير الكونح، وعلى أبواب منازلهم الصور.
وبلاد الصين بلاد واسعة، فمن أراد الصين في البحر قطع سبعة أبحر، كل بحر منها له لون وريح وسمك ونسيم ليس هو في البحر الذي يليه، فأولها بحر فارس الذي يركب فيه من سيراف، وآخره رأس الجمحة، وهو ضيق فيه مغائص اللؤلؤ.
والبحر الثاني الذي مبتدأه من رأس الجمحة يقال له لاروي، وهو بحر عظيم، وفيه جزائر الوقواق، وغيرهم من الزنج، وفي تلك الجزائر ملوك، وإنما يسار في هذا البحر بالنجوم، وله سمك عظيم، وفيه عجائب كثيرة وأمور لا توصف.
ثم البحر الثالث الذي يقال له هركند، وفيه جزيرة سرنديب، وفيه الجوهر والياقوت وغيره، ولها جزائر فيها ملوك، ولهم ملك عليهم، وفي جزائر هذا البحر الخيزران والقنا.
والبحر الرابع يقال له كلاهبار، وهو بحر قليل الماء، وفيه حيات عظام، وربما ركبت الريح فيه، فقطعت المراكب، وفيه جزائر فيها شجر الكافور.
والبحر الخامس يقال له سلاهط، وهو بحر عظيم كثير العجائب.
والبحر السادس يقال له كردنج، وهو كثير الأمطار. والبحر السابع يقال له بحر صنجي، و يقال له أيضاً كنجلى، وهو بحر الصين، وإنما يسار فيه بريح الجنوب، حتى يصيروا إلى بحر عذب عليه المسالح والعمران، حتى ينتهوا إلى مدينة خانفو.
ومن أراد الصين على البر سار في نهر بلخ، وقطع بلاد السغد، وفرغانة، والشاش، والتبت، حتى يصير إليها، والملك في حصن له منفرد، وصاحب شرطته خادم، وصاحب خراجه خادم، وصاحب حرسه خادم، وصاحب أخباره خادم، وأكثر أعوانه الخدم، وهم ثقاته، وخراجهم من رؤوس الرجال يوجبون على كل رجل بالغ جزية، لأنهم لا يدعون رجلاً بغير صناعة، فإذا تعطل عن العمل بعلة، أو هرم، أنفقوا عليه من مال الملك.
وهم يعظمون أمواتهم، ويطول حزنهم عليهم، وأكثر عقوباتهم القتل، فهم يقتلون على الكذب، ويقتلون على السرقة، ويقتلون على الزنا إلا قوماً معروفين، ومن تظلم من عامل الأعمال، فصحت مظلمته، قتل ذلك العامل، وإلا قتل المتظلم منه إن كان كاذباً مبطلاً.
وحدود الصين من البر ثلاثة حدود، ومن البحر حد واحد، فالحد الأول: الترك، والتغزغز، ولم تزل بينهم حروب متصلة، ثم اصطلحوا، وتصاهروا. والحد الثاني: التبت، وبين التبت والصين جبل عليه مسالح للصين يحترسون من التبت، ومسالح للتبت يحترسون من الصين، وهم ما بين حد البلدين.
والحد الثالث: إلى قوم يقال لهم المانساس، لهم مملكة منفردة، وهم في بلاد واسعة، ويقال إن سعة بلادهم طول عدة سنين في عرض مثل ذلك لا يعرف أحد من وراءهم، وهم قوم يقاربون أهل الصين.
والحد الواحد الذي يلي البحر، فمنه يأتي المسلمون، على ما ذكرنا من عدد البحور.
وديانتهم عبادة الأوثان والشمس والقمر، ولهم أعياد لأصنامهم، أعظمها عيد في أول السنة يقال له الزارار، يخرجون إلى مجمع، ويعدون فيه الأطعمة والأشربة، ثم يأتون برجل قد حبس نفسه على ذلك الصنم العظيم، وعلى جميع شهواته، وتمكن من كل ما يريد، فتقدم إلى ذلك الصنم، وقد صير على أصابع يده شيئاً يشعل بالنار، ثم يحرق أصابعه بالنار ويسرجها بين يدي ذلك الصنم، حتى يحترق، ويقع منها ميتاً، فيقطع، فمن نال منه شظية، أو خرقة من ثيابه، فقد فاز، ثم يأتون برجل آخر يريد أن يحبس نفسه للصنم للسنة المجدودة، فيقف موضعه، ويلبس الثياب، ويضرب عليه بالصنوج، ثم يفترقون، فيأكلون ويشربون، ويقيمون أسبوعاً، وينصرفون.
وهذا الشهر الذي هذا العيد فيه تسميه جناح، وهو أول يوم من حزيران، وللصين حساب أيضاً، وتسمى الشهور بأسماء مختلفة على حساب قد فهموه، فأولها: جناح، ورداح، ورايح، ومالح، وكسران، وبارد، ونمرود، وكنعان، وزاغ، وهراة، وهرهر، وباهر.
ملوك مصرمن القبط وغيرهم وكان بيصر بن حام بن نوح، لما خرج من بابل بولده وأهل بيته، وكانوا ثلاثين نفساً، أربعة أولاد له، وهم: مصر، وفارق، وماح، وياح، ونساؤهم، وأولادهم قد سار بهم إلى منف، وكان بيصر قد كبر وضعف، وكان مصر أكبر ولده وأحبهم إليه، فاستخلفه، وأوصاه بإخوته، واقتطع مصر لنفسه وولده، مسيرة شهرين من أربعة أوجه، وكان منتهى ذلك من الشجرتين بين رفح والعريش إلى أسوان طولاً، ومن برقة إلى أيلة عرضاً.
وأقام مصر متملكاً بعد أبيه دهراً، وكان له أربعة أولاد، وهم: قفط، وأشمن، واتريب، وصا، فقسم لهم شط النيل، وقطع لكل واحد قطيعة يحوزها هو وولده.
ثم ملك بعد مصر قفط بن مصر، ثم ملك أشمن بن مصر، ثم ملك اتريب بن مصر، ثم ملك صا بن مصر، ثم ملك تدارس بن صا، ثم ملك ماليق ابن تدارس، ثم ملك حرايا بن ماليق، ثم ملك أخوه ماليا بن حرايا، ثم ملك لوطس بن ماليا، فلما حضرت لوطس الوفاة ملكت ابنته حوريا، فلما حضرت حوريا الوفاة ملكت بنت عم لها يقال لها زالفا بنت مأموم.
وكان أولاد بيصر قد كثروا وامتلأت البلاد منهم، فلما ملكوا النساء طمعت فيهم العمالقة ملوك
الشام، فغزاهم ملك العمالقة، وهو يومئذ الوليد ابن دومع، ووطىء البلاد، فرضوا أن يملكوه عليهم، فأقام دهراً طويلاً. ثم ملك بعده آخر من العمالقة يقال له الريان بن الوليد، وهو فرعون يوسف.
ثم ملك آخر من العمالقة يقال له دارم بن الريان.
ثم ملك بعده كاسم بن معدان.
ثم ملك فرعون موسى، وهو الوليد بن مصعب، فاختلفت الرواة في نسبه، فقالوا: هو رجل من لخم، وقالوا من غيرها من قبائل اليمن، وقالوا من العمالقة، وقالوا من قبط مصر يقال له ظلماً، وهو الذي كان من أمره مع موسى ما قد قصة الله جل وعز، فعاش عمراً طويلاً، وعتا وبغى، حتى قال: أنا ربكم الأعلى، ثم غرقه الله وجنوده في بحر القلزم، فلما غرق الله فرعون ومن معه لم يبق في البلد إلا الذرية والعبيد والنساء، فاجتمع رأيهم على أن يملكوا امرأة يقال لها دلوكة، فخافت أن يتخطى إليها ملوك الأرض، فبنت حائطاً يحيط بأرض مصر من القرى والمزارع والمدن، وعملت أعمالا كثيرة، وكان ملكها عشرين سنة.
ثم ملكت دركون بن بلوطس.
ثم ملك بودس بن دركون.
ثم ملك لقاس بن بودس.
ثم ملك دنيا بن بودس.
ثم نمادس بن مرينا، فطغى وعتا، فقتلوه.
ثم ملك بلوطس بن مناكيل.
ثم ملك ماليس بن بلوطس.
ثم ملك نولة بن مناكيل، وهو فرعون الأعرج الذي سبى ملك بيت المقدس، وصنع ببني إسرائيل ما لم يصنعه أحد، وعتا، وبلغ مبلغاً لم يبلغه أحد قبله بعد فرعون، فصرعته دابته، فدقت عنقه.
ثم ملك مرينوس.
ثم ملك نقاس بن مرينوس.
ثم ملك قومس بن نقاس.
ثم ملك مناكيل اددامه الأعرج، وهو لحسابرسر الذي غزاه بخت نصر، فهزمه، وخرب مصر، وسبى أهلها، فأقاموا بعد ذلك يملكهم الروم، فتنصروا في ذلك الوقت.
ثم غلبت فارس على الشام في أيام أنوشروان، فملكوهم عشر سنين، ثم ظهرت الروم، فكان أهل مصر يؤدون إلى الروم خراجاً وإلى فارس خراجاً، يدفعون شر الفريقين.
ثم خرجت فارس عن الشام، وصار أمرهم إلى الروم، فدانوا بدين النصرانية.
وكان حكيم القبط هرمس القبطي، وهم أصحاب البرابي الذين يكتبون بخط البرابي، وهو ذا الخط الموجود وفي دهرنا قد عدم الناس معرفة قراءته، والسبب في ذلك أنه لم يكن يكتب به منهم إلا الخواص، وكانوا يمنعون العوام، والذين يقومون به منهم حكماؤهم وكهانهم، وكانت فيه أسرار دينهم وأصول مقالتهم التي لا يطلعون عليها إلا كهانهم، ولا يعلمون بها أحداً إلا أن يأمر الملك بتعليمه.
فلما قهرتهم الروم، وملكتهم بسطوه شديدة وسلطان، أبطلوا ما كانوا يقومون به من سعيهم وأعمالهم، وحملوهم في بدء أمورهم على شرائع اليونانيين، حتى فسدت لغتهم، ومازج كلامهم كلام الروم، ثم تنصرت الروم، فحملوهم على التنصر، فدرس جميع ما كانوا فيه من أمر دينهم وسنتهم، وقتل الروم كهانهم وعلماءهم، فهلك من كان يفهم ذلك الكتاب، ومنع من بقي منهم من تعليمه والنظر فيه، فلذلك ليس يوجد أحد يقرأه منهم ولا غيرهم. وكانت ديانتهم عبادة الكواكب، والقول بأنها مدبرة مختارة، وهم أصحاب القضايا بالنجوم، وإنها تسعد وتنحس، لأنهم زعموا أنها آلهتهم التي تحييهم، وتميتهم، وترزقهم، وتسقيهم.
وكان من قولهم: إن الأرواح قديمة كانت في الفردوس الأعلى، وإنه في كل ستة وثلاثين ألف سنة يفني جميع ما في العالم إما من تراب، يريدون الأرض وزلزلتها وخسوفها، أو من نار وإحراق، وسموم مهلك، وإما من ريح هواء ردي فاسد، غليظ عام، يسد الأنفاس لغلظه، فيهلك الحيوان، ويتلف الحرث والنسل، ثم يحيي الطبيعة من كل جنس من أجناس الحرث والنسل، ويرجع العالم بعد فساده.
وكانت عندهم من هذه الأرواح آلهة تنزل، فتصير في الأصنام، فتتكلم الأصنام لذلك، وإنما كانوا يخدعون عوامهم بذلك، ويسترون العلة التي بها كانت تتكلم أصنامهم، وهي بصنعة كان كهانهم يصنعونها، وعقاقير يستعملونها، وحيل يحتالونها، حتى تصفر، وتصيح بصنعة يحكون بها من خلقة الصنم كخلقة الطير، أو البهيمة، فيكون صوت ذلك الصنم مثل صوت جنسه من الحيوان، ثم يترجم كهانهم ذلك الصوت من الصنم على ما يريدون القضاء به، مما قد اتفقوا به من حساب النجوم، وعلم الفراسة.
ويخبرون أن الأرواح، إذا خرجت، صارت إلى هذه الآلهة، التي هي الكواكب، فتغسلها، وتطهرها إن كانت لها ذنوب، ثم تصعد إلى الفردوس حيث كانت.
ويقولون إن أنبياءهم كانت تكلمهم الكواكب وتعلمهم أن الأرواح تنزل إلى الأصنام، فتسكن فيها، وتخبر بالحادث قبل أن يحدث.
وكانت لهم فطنة عجيبة دقيقة يوهمون بها العوام انهم يكلمون الكواكب، وأنها تنبئهم بما يحدث، ولم يكن ذلك إلا لجودة علمهم بالأسرار التي للطوالع، وصحة الفراسة، فلم يكونوا يخطئون إلا القليل، وادعوا علم ذلك عن الكواكب، وأنها تنبئهم بما يحدث، وهذا باطل غير معقول، ثم ملكهم اليونانيون، فدخلوا في ملتهم، ثم ملكهم الروم، فتنصروا.
وكانت مملكة القبط أرض مصر من كور الصعيد: منف، ووسيم، والشرقية، والقيس، والبهنسا، وأهناس، ودلاص، والفيوم، وأشمون، وطحا، وأبشاية، وهو، وقفط، والأقصر، وأرمنت، ومن كور أسفل الأرض: اتريب، وعين شمس، وتنوا، وتمي، وبنا، وبوصير، وسمنود، ونوسا، والأوسية، والبجوم، وبسطة، وطرابية، وقربيط، وصان، وإبليل، وسخا، وتيدة، والأفراحون، ونقيزة، والبشرود، وطوة، ومنوف العليا، ومنوف السفلى، ودمسيس، وصا، وشباس، والبذقون وأخنا، ورشيد، وقرطسا، وخربتا، وترنوط، ومصيل، ومليدش.
والقبط تحسب سنيها على ثلاثمائة وخمسة وستين يوماً، وشهورها اثنا عشر شهراً، كل شهر ثلاثون يوماً، ولها خمسة أيام تسميها النسيء، فأول شهور القبط الذي يجعلونه رأس سنتهم: توت، ويسمون أول يوم منه نيروز، ويقولون إن فيه ابتداء عمارة الأرض، وهذه أسماء شهورهم: توت، بابه هتور، كيهك، طوبة، إمشير، برمهات، برموذة، بشنش، بونه، ابيب، مسري، وكانت الخمسة الأيام التي ينسئونها بين مسري وتوت. والخط الذي تكتب به القبط بين اليوناني والرومي، وهو على هذا الرسم.
ممالك البربر والأفارقةوكانت البربر والأفارقة، وهم أولاد فارق بن بيصر بن حام بن نوح، لما ملك إخوتهم بأرض مصر، فأخذوا من العريش إلى أسوان طولاً، ومن أيلة إلى برقة عرضاً، خرجوا نحو المغرب، فلما جازوا أرض برقة أخذوا البلاد، فغلب كل قوم منهم على بلد، حتى انتشروا بأرض المغرب.
فأول من ملك منهم: لوانة في أرض يقال لها أجدابية من جبال برقة، وملكت مزاتة في أرض يقال لها ودان، فنسب هؤلاء القوم إلى أبيهم، وجاز قوم منهم إلى بلد يقال له تورغه، فملكوا هناك، وهم هواره، وسار آخرون إلى بلاد أرميك، وهم بذرعه، وسار قوم إلى طرابلس يقال لهم المصالين، وجاز قوم إلى غربي طرابلس يقال لهم وهيله.
ثم استعلت بهم الطريق، فأخذ قوم إلى القيروان يقال لهم برقشانه، وأخذ آخرون ذات الشمال، فصاروا إلى تاهرت، وهم الذين يقال لهم كتامة وعجيسة، وأخذ قوم آخرون إلى سجلماسة، و هم الذين يقال لهم نفوسه ولماية، وأخذ قوم إلى جبال هكان، وهم الذين يقال لهم لمطة، ويسمون العيالات، وهم في بادية، في غير مساكن، وأخذ قوم إلى طنجة يقال لهم مكناسة، وأخذ قوم إلى السوس الأقصى، وهم الذين يقال لهم مداسه.
وقد ذكر قوم من البربر والأفارقة انهم من ولد بربر بن عيلان بن نزار، وقال آخرون: انهم من جذام ولحم، وكانت مساكنهم فلسطين، فأخرجهم بعض الملوك، ولما صاروا إلى مصر منعتهم ملوك مصر النزول، فعبروا النيل، ثم غربوا، فانتشروا في البلاد، وقال آخرون: إنهم من اليمن نفاهم بعض الملوك من بلد اليمن إلى أقاصي المغرب، وكل قوم ينصرون رواياتهم، والله أعلم بالحق في ذلك.
ممالك الحبشة والسودانوكان ولد حام بن نوح قصدوا عند تفرق ولد نوح من أرض بابل إلى المغرب، فجازوا من عبر الفرات إلى مسقط الشمس، وافترق ولد كوش بن حام، وهم الحبشة والسودان، لما عبروا نيل مصر فرقتين، فقصدت فرقة منهم التيمن بين المشرق والمغرب، وهم النوبة، والبجة، والحبشة، والزنج، وقصدت فرقة الغرب، وهم زغاوه، والحسن، والقاقو، والمرويون، ومرندة، والكوكو، وغانه.
فأما النوبة فإنها لما صارت في الجانب الغربي من النيل جاورت مملكة القبط، وهم ولد بيصر بن حام بن نوح تملكوا هناك، فصارت النوبة مملكتين، فإحداهما: مملكة الذين يقال لهم مقرة، وهم في شرق النيل وغربه، ومدينة مملكتهم دنقلة، وهم الذين سالموا المسلمين، وأدوا إليهم البقط، وبلادهم بلاد نخل وكرم وزرع، واتساع المملكة شبيه بشهرين.
والمملكة الثانية من النوبة الذين يقال لهم علوة، أعظم خطرا من مقرة، ومدينة مملكتهم يقال لها سوبة، ولهم بلاد واسعة شبيهة بثلاثة أشهر، والنيل متشعب عندهم في عدة خلجان.
مملكة البجةوهم بين النيل والبحر، ولهم عدة ممالك، في كل بلد ملك منفرد. فأول مملكة البجة من حد أسوان، وهي آخر عمل المسلمين من التيمن بين المشرق والمغرب إلى حد بركات، وهم الجنس الذي يقال له: نقيس، ومدينة المملكة يقال لها: هجر، ولهم قبائل وبطون كما تكون للعرب، فمنهم: الحدرات، وحجاب، والعماعر وكوير، ومناسة، ورسفة، وعربرتعة، والزنافج، وفي بلادهم المعادن من التبر والجوهر، والزمرد، وهم مسالمون للمسلمين، والمسلمون يعملون في بلادهم في المعادن.
والمملكة الثانية من البجة، مملكة يقال لها: بقلين، كثيرة المدن، واسعة يضارعون في دينهم المجوس والثنوية، فيسمون الله، عز وجل، الزنجير الأعلى، ويسمون الشيطان صحي حراقة، وهم الذين ينتفون لحاهم، ويقلعون ثناياهم، ويختتنون، وبلادهم بلاد مطر.
ثم المملكة الثالثة يقال لها: بازين، وهم يتاخمون مملكة علوة من النوبة، ويتاخمون بقلين من البجة، ويحاربون هؤلاء، وزرعهم الذي يأكلونه، وهو طعامهم واللبن.
والمملكة الرابعة يقال لها: جارين، ولهم ملك خطير، وملكه ما بين بلد يقال له: باضع، وهو ساحل البحر الأعظم إلى حد بركات من مملكة بقلين، إلى موضع يقال له: حل الدجاج، وهم قوم يقلعون ثناياهم من فوق وأسفل، ويقولون: لا يكون لنا أسنان كأسنان الحمير، وينتفون لحاهم.
والمملكة الخامسة يقال لها: قطعة، وهي آخر ممالك البجة، ومملكتهم واسعة من حد موضع يقال له: باضع، إلى موضع يقال له: فيكون، ولهم حد شديد، وشوكة صعبة، ولهم دار مقاتلة يقال لها دار السوا، فيها أحداث شباب، جلد، مستعدون للحرب والقتال.
ثم المملكة السادسة، وهي مملكة النجاشي، وهو بلد واسع، عظيم الشأن، ومدينة المملكة كعبر، ولم تزل العرب تأتي إليها للتجارات، ولهم مدن عظام، وساحلهم دهلك، ومن في بلاد الحبشة من الملوك، فهم من تحت يد الملك الأعظم يعطونه الطاعة، ويؤدون إليه الخراج، والنجاشي على دين النصرانية اليعقوبية، وآخر مملكة الحبشة الزنج، وهم يتصلون بالسند وما ضارع هذه البلدان، ويتصل أيضاً بما دون الزنج مما يتاخم السند والكرك، وهم قوم لهم حساب، واجتماع قلوب.
وأما السودان الذين غربوا وسلكوا نحو المغرب فإنهم قطعوا البلاد، فصارت لهم عدة ممالك، فأول ممالكهم: الزغاوة، وهم النازلون بالموضع الذي يقال له: كانم، ومنازلهم أخصاص القصب، وليسوا بأصحاب مدن، ويسمى ملكهم كاكرة. ومن الزغاوة صنف يقال لهم: الحوضن، ولهم ملك هو من الزغاوه.
ثم مملكة أخرى يقال لهم: ملل، وهم يبادون صاحب كانم، ويسمى ملكهم: ميوسي.
ثم مملكة الحشة، ولهم مدينة يقال لها: ثبير، ويسمى ملك هذه المدينة مرح، ويتصل بهم القاقو، إلا انهم معولون، وملكهم ملك ثبير.
ثم مملكة الكوكو، وهي أعظم ممالك السودان، وأجلها قدراً، وأعظمها أمراً، و كل الممالك تعطي لملكها الطاعة، والكوكو اسم المدينة، ودون هذا عدة ممالك يعطونه الطاعة، ويقرون له بالرئاسة على انهم ملوك بلدانهم، فمنهم مملكة المرو، وهي مملكة واسعة، وللملك مدينة يقال لها: الحيا، ومملكة مردية، ومملكة الهربر، ومملكة صنهاجة، ومملكة تذكرير، ومملكة الزيانير، ومملكة أرور، ومملكة بقاروت، فهذه كلها تنسب إلى مملكة الكوكو.
ثم مملكة غانة، وملكها أيضا عظيم الشأن، وفي بلاده معادن الذهب، وتحت يده عدة ملوك، فمنهم مملكة: عام، ومملكة: سامة، وفي هذه البلاد كلها الذهب.
ملوك اليمنذكرت الرواة، ومن يدعي العلم بالأخبار وأحوال الأمم والقبائل: أن أول من ملك من ولد قحطان بن هود النبي: ابن عابر بن شالح بن أرفخشد ابن سام بن نوح سبا بن يعرب بن قحطان، وكان اسم سبا عبد شمس، لأنه كان أول من ملك من ملوك العرب، وسار في الأرض، وسبى السبايا، وكان يعرب ابن قحطان أول من حيي: بأنعم صباحا وأبيت اللعن.
ثم ملك بعد سبا حمير بن سبا، واسم حمير زيد، وكان أول ملك لبس التاج من الذهب مفصصاً بالياقوت الأحمر.
ثم ملك بعد حمير أخوه كهلان بن سبا، فطال عمره حتى هرم.
ثم ملك بعد كهلان أبو مالك بن عميكرب بن سبا، فدام ملكه ثلاثمائة سنة.
ثم ملك بعد أبي مالك حنادة بن غالب بن زيد بن كهلان، وكان أول من صنع السيوف المشرفية، وكان يصنع الطعام للجن بالليل، وملك مائة وعشرين سنة.
وملك بعد حنادة الحارث بن مالك بن إفريقيس بن صيفي بن يشجب بن سبا مائة وأربعين سنة. ثم ملك بعد الحارث بن مالك الرائش، وهو الحارث بن شداد بن ملطاط بن عمرو بن ذي أبين بن ذي يقدم بن الصوار بن عبد شمس بن وائل بن الغوث ابن حيدان بن قطن بن عريب بن أيمن بن الهميسع بن حمير بن سبا، وهو أول من غزا وأصاب الأموال وأدخل اليمن الغنائم من غيرها فسمي الرائش فغلب اسمه، وكان ملكه مائة وخمساً وعشرين سنة.
ثم ملك بعد الرائش ابنه أبرهة بن الرائش، وهو أبرهة ذو منار، وذلك أنه صار إلى ناحية المغرب، وكان إذا غلب على بلد ضرب عليها النار، وكان ملكه مائة وثمانين سنة.
ثم ملك بعد أبرهة ابنه إفريقيس بن أبرهة، فسلك سبيل أبيه، وكان ملكه مائة وأربعاً وستين سنة.
ثم ملك بعد إفريقيس أخوه العبد بن أبرهة، وكان يسمى ذا الأذعار لأنه ذعر العدو، وكان يأتي بقوم عجيبة خلقهم، وكان ملكه خمساً وعشرين سنة.
ثم ملك بعد ذي الأذعار الهدهاد بن شرحبيل بن عمرو بن الرائش، وكان ملكه سنة واحدة.
ثم ملك بعد الهدهاد زيد، وهو تبع الأول بن نيكف، فطال عمره، وطغى، وبغى، وعتا، فيزعم الرواة أنه ملك أربعمائة سنة، ثم قتلته بلقيس.
وملكت بلقيس بنت الهدهاد بن شرحبيل، فكان ملكها مائة وعشرين سنة، ثم كان من أمرها مع سليمان ما كان، فصار ملك اليمن لسليمان بن داود ثلاثمائة وعشرين سنة، ثم ملك رحبعم بن سليمان بن داود عشر سنين، ثم رجع الأمر إلى حمير، فملك ياسر ينعم بن عمرو بن يعفر بن عمرو بن شرحبيل، واشتد سلطانه، فكان ملكه خمساً وثمانين سنة.
ثم ملك شمر بن إفريقيس بن أبرهة ثلاثاً وخمسين سنة.
ثم ملك تبع الأقرن بن شمر بن عميد، فغزا الهند، وأراد أن يغزو الصين، وكان ملكه مائة وثلاثاً وستين سنة.
ثم ملك ملكيكرب بن تبع، فغزا البلاد، ففرق قومه في أقاصي الأرض، ونقلهم إلى سجستان وخراسان، واجتمعوا عليه، فقتلوه، وكان ملكه ثلاثمائة وعشرين سنة.
ثم ملك حسان بن تبع، فأقام زماناً لا يغزو، ثم وقع بين طسم وجديس ما وقع، فسار إليهم تبع، فلما قرب منهم قال له رجل من طسم كان معه: إن معهم امرأة يقال لها اليمامة تنظر فلا تخطىء، فأخاف أن تنذرهم، فأمر أصحابه، فقطعوا من شجر الزيتون وقال: ليحمل كل واحد منكم غصناً عظيماً من الزيتون خلفه! فحمل كل رجل غصناً عظيماً، فلما نظرت قالت: أرى شجراً تمشي! قالوا: وهل تمشي الشجر؟ قالت: نعم ورب كل حجر ومدر، وإنها لخلف رجال حمير! فكذبوها، وصبحهم حسان، فقتلهم.
وملة قومه، وثقلت عليهم وطأته، فواطئوا أخاه عمرو بن تبع على قتله خلا ذا رعين، فإنه نهى عن ذلك، فقتله، وكان ملكه خمساً وعشرين سنة.
ثم ملك عمرو بن تبع بعد أن قتل أخاه، فذهب عنه النوم، وتنغص عيشه، فقتل كل من أشار بقتل أخيه، حتى بلغ إلى ذي رعين، فقال: قد أشرت عليك أن لا تفعل، فكتبت بيتي شعر هما عندك، وكان قد دفع إليه رقعة فيها:
ألا من يشتري سهراً بنوم ... سعيد من يبيت قرير عين
فإما حمير غدرت وخانت ... فمعذرة الإله لذي رعين
وكان ملك عمرو أربعاً وستين سنة.
ثم ملك تبع بن حسان بن بحيلة بن ملكيكرب بن تبع الأقرن، وهو أسعد أبو كرب، وهو الذي سار من اليمن إلى يثرب، وكان الفطيون قد تملك على الأوس والخزرج، فسامهم سوء العذاب، فخرج مالك بن العجلان الخزرجي، فشكا ذلك إلى تبع، فأعلمه غلبة قريظة والنضير عليهم، فسار تبع إليهم، فقتل قوما من اليهود، وكان تبع خلف ابنا له بين أظهرهم، فقتلوه، فزحف إليهم، وحاربهم.
وكان رئيس الأنصار عمرو بن طلحة الخزرجي من بني النجار، وكانوا يحاربونه بالنهار، ويقرونه بالليل، فيقول: إن قومنا لكرام. وجمع عظماء اليهود وقال: إني مخرب هذه البلدة، يعني المدينة، فقالت الأحبار وعظماء اليهود: إنك لا تقدر على ذلك! قال: ولم؟ قالوا: لأنها لنبي من بني إسماعيل يكون مخرجه من عند البيت المحرم، فخرج، وأخرج معه قوماً من أحبار اليهود، فلما قرب من مكة أتاه نفر من هذيل، فقالوا له: إن هذا البيت الذي بمكة فيه أموال وكنوز وجوهر، فلو أتيته فأخذت ما فيه. وإنما أرادوا أن يفعل، فيهلكه الله. وقيل: إنما أشار عليه قوم أن يهدمه، ويحول حجارته إلى اليمن، فيبني بها هناك بيتا تعظمه العرب، فدعا تبع أحبار اليهود، فذكر ذلك لهم، فقالوا: ما نعلم لله بيتاً في الأرض غير هذا البيت، وما أراده أحد بسوء إلا أهلكه الله.
واعترضته علة في ليلته، فقال له الأحبار: إن كنت أضمرت لهذا البيت مكروها، فارجع عنه، وعظمه، فرجع عما كان أضمر، فأذهب الله عنه العلة، فقتل من أشار عليه بهدمه، وطاف به وعظمه، ونحر، وحلق رأسه، ورأى في النوم أن أكسه، فكساه الخصف، فتجافى، فرأى في نومه أن أكسه، فكساه الملاء المعضد، وقال شعراً فيه:
وكسونا البيت الذي حرم الل ... ه ملاءً معضداً، وبرودا
ونحرنا بالشعب ستة آلا ... ف ترى الناس نحوهن ورودا
وأمرنا أن لا تقرب للكع ... بة ميتاً، ولا دماً مصفوداً
ثم طفنا بالبيت سبعاً وسبعاً ... وسجدنا عند المقام سجودا
وأقمنا فيه من الشهر سبعاً ... وجعلنا لبابه إقليدا
ثم رجع إلى اليمن ومعه الأحبار من اليهود، فتهود هو وقومه، وكان ملكه ثمانياً وسبعين سنة. ثم تفرقت ملوك قحطان، وملكوا أقواماً متفرقين منهم: عمرو بن تبع، ثم نزعوه، وملكوا مرثد بن عبد كلال أخاً تبع لأمه، فأقام أربعين سنة.
ثم ملك وليعة بن مرثد تسعاً وثلاثين سنة.
ثم ملك أبرهة بن الصباح، وكان من أحكم ملوك اليمن وأغلظهم، وكان ملكه ثلاثاً وتسعين سنة.
ثم ملك عمرو بن ذي قيقان.
ثم ملك ذو الكلاع.
ثم ملك لخيعة ذو شناتر، فكان من أخبث ملوك حمير وأرداها، وكان يعمل عمل قوم لوط، يبعث إلى الغلام من أبناء الملوك، فيلعب به، ثم يتطلع في غرفة له، وفي فمه السواك، حتى بعث إلى ذي نواس بن أسعد ليلعب به، فدخل، ومعه سكين، فلما خلا به، وثب عليه ذو نواس، وقتله، وحز رأسه، وصيره في الموضع الذي يتطلع منه، فلما خرج صاح به من بالباب من الجيش: يا ذا نواس، لا بأس! فقال: البأس على صاحب الرأس! فنظروا، فإذا به قد قتله، فملكوا ذا نواس. وكان ملك ذي شناتر سبعاً وعشرين سنة.
وملك ذو نواس بن أسعد، وكان اسمه زرعة، فعتا، وهو صاحب الأخدود، وذلك أنه كان على دين اليهودية، وقدم اليمن رجل يقال له عبد الله بن الثامر، وكان على دين المسيح، فأظهر دينه باليمن، وكان إذا رأى العليل والسقيم قال: أدعو الله لك حتى يشفيك، وترجع عن دين قومك! فيفعل ذلك، فكثر من اتبعه.
وبلغ ذا نواس، فجعل يطلب من قال بهذا الدين، ويحفر لهم في الأرض الأخدود، ويحرق بالنار، ويقتل بالسيف، حتى أتى عليهم، فسار رجل منهم إلى النجاشي، وهو على دين النصرانية، فوجه النجاشي إلى اليمن بجيش عليهم رجل يقال له أرياط، وهم في سبعين ألفاً، ومع أرياط في جيشه أبرهة الأشرم، فسار إليه ذو نواس، فلما التقوا انهزم ذو نواس فلما رأى ذو نواس افتراق قومه وانهزامهم ضرب فرسه، واقتحم به البحر، فكان آخر العهد به. وكان ملك ذي نواس ثمانياً وستين سنة.
ودخل أرياط الحبشي اليمن، فأقام بها عدة سنين، ثم نازعه أبرهة الأشرم الأمر، فافترقت الحبشة مع أرياط طائفة، ومع أبرهة طائفة، وخرجا للحرب، وسار كل واحد إلى صاحبه، فلما التقوا قال أبرهة لأرياط: ما نصنع يا أرياط بأن نقتل الناس بيني وبينك؟ ابرز إلي وأبرز إليك، فأينا أصاب صاحبه انصرف إليه جنده عنه! فبرز كل واحد إلى صاحبه، فضربه أرياط بالحربة، فشرم عينيه، وضربه غلام لأبرهة، فقتله، واجتمعت الحبشة باليمن على أبرهة
فلما بلغ النجاشي غضب، وحلف ليطأن أرضه برجله، أو ليجزن ناصيته! فحلق أبرهة رأسه، وبعث بها إليه، وبجراب من تراب أرضه، وقال: إنما أنا عبدك، وأرياط عبدك، اختلفنا في أمرك، وكل طاعته لك، فرضي عنه.
وخرج سيف بن ذي يزن إلى قيصر يستجيش على الحبشة، فأقام قبله سبع سنين، ثم رده، وقال: هم قوم على دين النصرانية لا أحاربهم! فسار إلى كسرى، فوجه بأهل السجون، ووجه معهم رئيساً يقال له وهرز، فلما قدم البلد حارب الحبشة، فقتل أبرهة الحبشي، وغلب على البلد، ثم ملك سيف بن ذي يزن بن ذي أصبح، وسيف الذي يقول فيه أمية بن أبي الصلت:
لا يطلب الثأر إلا ابن ذي يزن ... أقام في البحر للأعداء أحوالا
أتى هرقل، وقد شالت نعامته ... فلم يجد عنده الأمر الذي قالا
ثم انتحى نحو كسرى بعد سابعةٍ ... من السنين، لقد أبعدت إيغالا
حتى أتى ببني الأحرار يقدمهم ... اذهب إليك، لقد أسرعت قلقالا
وكانت ملوك اليمن يدينون بعبادة الأصنام في صدر من ملكهم، ثم دانوا بدين اليهود.
وتلوا التوراة، وذلك أن أحباراً من اليهود صاروا إليهم، فعلموهم دين اليهودية، ولم يكونوا يتجاوزون اليمن إلا أن يغيروا على البلاد، ثم يرجعون إلى دار ملكهم.
وكور بلاد اليمن تسمى مخاليف، وهي أربعة وثمانون مخلافاً، وهذه أسماؤها: اليحضبين، ويكلا، وذمار، وطمؤ، وعيان، وطمام، وهمل، وقدم، وخيوان، وسنحان، وريحان، وجرش، وصعدة، والأخروج، ومجيح، وحراز، وهوزن، وقفاعة، والوزيرة، والحجر، والمعافر، وعنه، والشوافي، وجبلان، ووصاب، والسكون، وشرعب، والجند، ومسور، والثجة، والمزدرع، وحيران، ومأرب، وحضور، وعلقان، وريشان، وجيشان، والنهم، وبيش، وضنكان، وقربى، وقنونا، ورنية، وزنيف، والعرش، والخصوف، والساعد، وبلجة، والمهجم، والكدراء، والمعقر، وزبيد، ورمع، والركب، وبني مجيد، ولحج، وأبين، والواديين، والهان، وحضرموت، ومقرى، وحيس، وحرض، والحقلين، وعنس، وبني عامر، وماذن، وحملان، وذي جرة، وخولان، و السرو، والدثينة، وكبيبة، وتبالة.
ومن السواحل: عدن، وهي: ساحل صنعاء، والمندب، وغلافقة، والحزدة، والشرجة، وعثر، والحمضة، والسرين، وجدة.
هذه بلاد مملكة اليمن وبلدانها، وكانوا ربما أغاروا على البلدان، فيرجعون إلى بلادهم. واليمن قبائل كثيرة، إذا دخلت فيهم قضاعة، فقد روي أن رجلاً سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله! أيما أكثر نزار أو قحطان؟ قال: ما شاب قضاعة، وقضاعة في هذا الوقت مقيمة على أنها ولد ملك بن حمير.
وهذه جماهير قبائل اليمن مع ما دخل فيهم من نزار من قضاعة، وجذام، ولخم، وبجيلة، وخثعم. وكان أول من ذكر اسمه وعرف قدره: سبا بن يشجب بن يعرب بن قحطان، فمن ولده كهلان بن سبا، وحمير بن سبا.
فمن قبائل كهلان طيء بن أدد بن زيد بن عريب بن كهلان، والأشعر بن أدد بن زيد، وعنس ابن قيس بن الحارث بن مرة بن أدد، وجذام، ولخم، وعاملة، وهم بنو عمرو بن عدي بن الحارث بن مرة بن أدد بن زيد، ومذحج ابن أدد بن زيد بن عريب بن كهلان.
فمن قبائل مذحج سعد العشيرة بن مذحج، ومراد بن مذحج، والنخع ابن عمرو بن علة بن جلد بن مذحج، وحكم وجعفي ابنا سعد العشيرة بن مذحج، وخولان بن عمرو بن سعد العشيرة بن مذحج، وزبيد بن الصعب بن سعد العشيرة بن مذحج. وهمدان، واسمه أوسلة بن خيار بن ربيعة بن مالك بن زيد بن كهلان.
وخثعم وبجيلة ابنا أنمار بن نزار بن عمرو بن الحبار بن الغوث بن نبت بن مالك بن زيد بن كهلان.
والأزد بن الغوث بن نبت بن مالك بن زيد بن كهلان. فمن قبائل الأزد: عك بن عدنان بن الذنب بن عبد الله بن الأزد، على أن عكا تنسب إلى عدنان ابن أدد، والعتيك بن أسد بن عمرو ابن الأزد، وغسان، وهو مازن ابن الأزد.
فمن قبائل غسان خزاعة، وهو ربيعة بن حارثة بن عمرو بن عامر بن حارثة بن امرىء القيس بن ثعلبة بن غسان بن وادعه بن عمران بن عامر بن حارثة بن امرىء القيس، و الأوس والخزرج ابنا حارثة بن ثعلبة بن غسان، قال حسان بن ثابت الأنصاري:
ونحن بنو الغوث بن نبت بن مالك ب ... ن زيد بن كهلان وأهل المفاخر
ومن قبائل حمير قضاعة، وقضاعة، فيما يزعم النسابون، ابن نزار بن معد بن عدنان، وكان
نزار يكنى أبا قضاعة.
فمن قبائل قضاعة: نهد بن زيد بن ليث بن سود بن أسلم بن الحاف بن قضاعة، وجهينة بن زيد بن ليث بن سود بن أسلم بن الحاف بن قضاعة، وعذرة بن سعد بن زيد بن ليث بن سود ابن أسلم بن الحاف بن قضاعة، وسليح ابن حلوان بن عمران بن الحاف بن قضاعة، وكلب بن وبرة بن تغلب بن حلوان ابن عمران بن الحاف بن قضاعة، والقين بن جسر بن الأسد بن وبرة بن تغلب ابن حلوان، وتنوخ، وهو مالك بن فهم بن تيم الله بن الأسد بن وبرة بن تغلب بن حلوان، فهذه جماهير قضاعة.
ومن حمير بن سبا: الصدف بن سهل بن عمرو بن قيس بن معاوية بن جشم بن وائل بن عبد شمس بن الغوث بن قطن بن عريب بن زهير بن الهميسع ابن حمير بن سبا بن يشجب بن يعرب بن قحطان.
والناس في حضرموت مختلفون، وقد ذكر قوم انهم من الأمم الخالية التي تقطعت مثل طسم، وجديس، وعملاق، وعاد، وثمود، وعبس الأولى، وأوبار، وجرهم.
وكان تفرق أهل اليمن في البلاد وخروجهم عن ديارهم بسبب سيل العرم، وكان أول ذلك، على ما حملته الرواة: أن عمرو بن عامر بن حارثة بن امرىء القيس بن ثعلبة بن مازن بن الأزد كان رئيس القوم، وكان كاهناً، فرأى أن بلاد اليمن تغرق، فأظهر غضبه على بعض ولده، وباع مرباعه، وخرج هو وأهل بيته ، فصار إلى بلاد عك، ثم ارتحلوا إلى نجران، فحاربتهم مذحج، ثم ارتحلوا عن نجران، فمروا بمكة، وبها يومئذ جرهم، فحاربوهم حتى أخرجوهم عن البلد، فصاروا إلى الجحفة، ثم ارتحلوا إلى يثرب، فتخلف بها الأوس والخزرج ابنا حارثة بن ثعلبة بن عمرو بن عامر، ولحق بهم جماعة من الأزد غير ابني حارثة، فصار بعضهم حلفاء، ودخل بعضهم معهم.
وتفرقت الأزد بيثرب، وكانت يثرب منازل اليهود، فنازعتهم، وغلبتهم اليهود بكثرتهم، وقهروهم، حتى كان الرجل من اليهود ليأتي منزل الأنصاري، فلا يمكنه دفعه عن أهله وماله، حتى دخل رجل منهم يقال له الفطيون إلى دار مالك بن العجلان، فوثب عليه، فقتله، ثم صار إلى بعض ملوك اليمن فشكا إليه ما يلقون من اليهود، فسار ذلك الملك إليهم بجيشه حتى قتل من اليهود مقتلة عظيمة، فصلحت حال الأوس والخزرج وغرس النخل، وأنشأوا المنازل. وسار باقي القوم يؤمون الشام، حتى صاروا إلى أرض السراة، فأقام أزد شنوءة بالسراة وما حولها، وخرج منهم قبائل إلى عمان، فكان أول من صار منهم إلى عمان: مالك بن فهم بن غنم ابن دوس بن عدثان بن عبد الله بن زهران ابن كعب بن الحارث بن كعب بن عبد الله بن مالك بن نصر بن الأزد، وتزوج مالك بامرأة من عبد القيس، فولدت له عدة أولاد، فيقال إن أصغر ولده قتله إذ كان معه في إبل له، فقام مالك بن فهم يطوف في الإبل، فرفع رأسه، فتوهمه ابنه سارقاً، فرماه فقتله، وكان يقال لأمه سليمة، فيقال إن مالك ابن فهم قال:
أعلمه الرماية كل يومٍ ... فلما استد ساعده رماني
ثم لحق بعد مالك بن فهم جماعة من بطون الأزد منهم: الربيعة وعمران بنو عمرو بن عدي ابن حارثة بن عمرو بن عامر، وهم: بارق، وغالب، ويشكر بن قيس بن صعب بن دهمان، وقوم من عامر، وقوم من حوالة بعمان، فلما صاروا بعمان انتشروا بالبحرين وهجر.
وكان بأرض تهامة من الأزد الجدرة وهم من ولد عمرو بن خزيمة بن جعثمة بن يشكر بن مبشر بن صعب بن دهمان بن نصر بن زهران بن كعب بن الحارث بن كعب بن مالك بن نصر بن الأزد، وذلك أن عمرا بنى جدار الكعبة، فسمي الجادر، وسار منهم نفر إلى هراة من أرض خراسان.
وسارت غسان إلى الشام، حتى نزلت بأرض البلقاء، وكان بالشام قوم من سليح قد دخلوا ذمة الروم، وتنصروا، فسألتهم غسان أن تدخل معهم في ذلك، فكتبوا إلى ملك الروم، فأجابهم ملك الروم إلى ذلك، ثم ساء مجاورتهم عامله على دمشق، فحمل عليهم صاحب الروم بجماعة من العرب من قضاعة من قبل ملك الروم ثم إن غسان طلبت الصلح، فأجابهم ملك الروم، وكان رئيس غسان يومئذ جفنة بن علية بن عمرو بن عامر، فتنصرت غسان، فأقامت بالشام مملكة من قبل صاحب الروم وسار ولد حوالة بن الهنو بن الأزد إلى الموصل، فنزلوها، وكان أهل اليمن يرون أن بلدهم يغرق من سد مأرب ، فحصنوه، وحرسوه، فلما بعث الله عليهم سيل العرم دخل عليهم الماء من جحر لجرذ كان يحفر في السد، فغرقهم.
ملوك الشأم
وكانت الشام دار ملك بني إسرائيل، فيقال إن أول من ملك بدمشق بالغ بن بعور.
ثم ملك يوباب، وهو أيوب بن زارح الصديق، وكان من خبره ما قد قصة الله، عز وجل.
ثم ملك مينسوس، وكانت بنو إسرائيل تحاربهم.
ثم ملك هوسير من أهل لد.
ثم انقطعت الممالك، فكانت ملوك بني إسرائيل، حتى انقرضوا.
وغلبت الروم على ملكها، فخرج القوم عن البلاد، فكانت قضاعة أول من قدم الشأم من العرب، فصارت إلى ملوك الروم فملكوهم، فكان أول الملك لتنوخ بن مالك بن فهم بن تيم الله ابن الأسد بن وبرة بن تغلب بن حلوان ابن عمران بن الحاف بن قضاعة، فدخلوا في دين النصرانية، فملكهم ملك الروم على من ببلاد الشام من العرب، فكان أول من ملك منهم: النعمان بن عمرو بن مالك.
ثم غلبت بنو سليح، وهم بنو سليح بن حلوان بن عمران بن الحاف بن قضاعة، وأقامت بنو سليح زماناً على ذلك، فلما تفرقت الأزد، وصار من صار منهم إلى تهامة، ومن صار إلى يثرب، ومن صار إلى عمان وغير ذلك من البلدان، فصارت غسان إلى الشأم، فقدموا أرض البلقاء، فسألوا سليحاً أن يدخلوا معهم فيما دخلوا فيه من طاعة ملك الروم، وأن يقيموا في البلاد، لهم ما لهم وعليهم ما عليهم، فكتب رئيس سليح، وهو يومئذ دهمان بن العملق، إلى ملك الروم، وهو يومئذ نوشر، وكان منزله أنطاكية، فأجابهم إلى ذلك، وشرط عليهم شروطاً، فأقاموا.
ثم جرى بينهم وبين ملك الروم مشاجرة بسبب الإتاوة التي يقبضها ملك الروم، حتى أن رجلاً من غسان يقال له جذع ضرب رجلاً من أصحاب ملك الروم بسيفه، فقتله، فقال بعضهم: خذ من جذع ما أعطاك! فذهب مثلاً، فحاربهم صاحب الروم، فأقاموا ملياً يحاربونه ببصري من أرض دمشق، ثم صاروا إلى المخفف، فلما رأى ملك الروم صبرهم على الحرب، ومقاومتهم جيوشه، كره أن تكون ثلمة عليهم، وطلب القوم الصلح على أن لا يكون عليهم ملك من غيرهم، فأجابهم ملك الروم إلى ذلك، فملك عليهم جفنة ابن علية بن عمرو بن عامر، واستقام الذي بينهم وبين الروم، وصارت أمورهم واحدة.
وكان أول ملك جل قدره وعلا ذكره من غسان، بعد جفنة بن علية: الحارث بن مالك بن الحارث بن غضب بن جشم بن الخزرج بن حارثة بن ثعلبة بن عمرو بن عامر بن ثعلبة بن حارثة بن عدي بن امرىء القيس بن مازن بن الأزد.
وملك بعده الحارث الأكبر بن كعب بن علية بن عمرو بن عامر وكعب هو جفنة، وهو ابن مارية، وأمه مارية بنت عاديا بن عامر.
ثم ملك أخوه الحارث الأعرج فنزل الجولان.
ثم ملك أخوه الحارث الأصغر.
ثم ملك جبلة بن المنذر.
ثم ملك الحارث بن جبلة.
ثم ملك الأيهم بن جبلة.
ثم جبلة بن الأيهم.
وكان الحارث بن أبي شمر بن الأيهم مملكاً بالأردن، وكان منزل جبلة دمشق، وفي جبلة بن الأيهم وأهله يقول حسان بن ثابت:
لله در عصابةٍ نادمتهم ... يوماً بجلق، في الزمان الأول
بيض الوجوه كريمة أحسابهم ... شم الأنوف من الطراز الأول
أولاد جفنة حول قبر أبيهم ... قبر ابن مارية الكريم المفضل
يغشون حتى ما تهر كلابهم ... لا يسألون عن السواد المقبل
يسقون من ورد البريص عليهم ... بردى يصفق بالرحيق السلسل
ملوك الحيرة من اليمنقالت الرواة، وأهل العلم: إنه لما تفرق أهل اليمن قدم مالك بن فهم بن غنم بن دوس، حتى نزل أرض العراق في أيام ملوك الطوائف، فأصاب قوماً من العرب من معد وغيرهم بالجزيرة فملكوه عشرين سنة.
ثم أقبل جذيمة الأبرش، فتكهن، وعمل صنمين يقال لهما الضيزنان، فاستهوى أحياء من أحياء العرب، حتى صار بهم إلى أرض العراق، وبها دار اياد بن نزار، وكانت ديارهم بين أرض الجزيرة إلى أرض البصرة، فحاربوه، حتى إذا صار إلى ناحية يقال لها بقة على شط الفرات، بالقرب من الأنبار، وكان يملك الناحية امرأة يقال لها الزباء، وكانت شديدة الزهادة في الرجال، فلما صار جذيمة إلى أرض الأنبار، واجتمع له من أجناده ما اجتمع، قال لأصحابه: إني قد عزمت على أن أرسل إلى الزباء، فأتزوجها، وأجمع ملكها إلى ملكي! فقال غلام له يقال له قصير: إن الزباء لو كانت ممن تنكح الرجال لسبقت إليها! فكتب إليها، فكتبت إليه: أن أقبل إلى أزوجك نفسي فارتحل إليها، فقال له قصير: لم أر رجلاً يزف إلى امرأة قبلك، وهذه فرسك العصا قد صنعتها، فاركبها، وأنج بنفسك! فلم يفعل، فلما دخل عليها كشفت عن فخذها، فقالت: أدأب عروس ترى؟ قال: دأب فاجرة، بظراء، غادرة. فقطعته الزباء، وركب قصير الفرس العصا ونجا.
ولما قتل جذيمة ملك مكانه ابن أخته عمرو بن عدي بن نصر بن ربيعة بن عمرو بن الحارث ابن مالك بن عمم بن نمارة بن لخم، فقال قصير لعمرو: لا تعصني أنت! قال: قل ما بدا لك! قال: أجدع أنفي، واقطع أذني، وخلني! ففعل ذلك، فصار إلى الزباء، وقال: إني كنت من النصح لجذيمة على ما رأيت، ولعمرو ابن أخته، حتى ملكته، فكان جزائي عنده أن فعل بي ما ترين، فجئتك لأكون في خدمتك، ولعل الله أن يجري قتل عمرو على يدك.
ولم يزل يحتال لها حتى وجهته في تجارة فأتاها بأموال كثيرة مرةً بعد مرة، فأعجبها ذلك، فوثقت به، فلما استحكمت ثقتها به صار إلى عمرو، فقال: أقعد الرجال في الصناديق! فحمل أربعة آلاف رجل على ألفي جمل، معهم السيوف، ثم أدخلهم مدينتها، وفيهم عمرو، وفرق الصناديق في منازل أصحابها، وأدخل عدة منها دارها، فلما كان الليل خرجوا، وقتلوا الزباء وخلقاً من أهل مملكتها. وملك عمرو بن عدي خمساً وخمسين سنة.
ثم ملك امرؤ القيس بن عمرو خمساً وثلاثين سنة.
ثم ملك أخوه الحارث بن عمرو سبعاً وثمانين سنة.
ثم ملك عمرو بن امرىء القيس بن عمرو بن عدي أربعين سنة.
ثم ملك المنذر بن امرىء القيس، وهو محرق، وإنما سمي محرقاً لأنه أخذ قوماً حاربوه، فحرقهم، فسمي لذلك محرقاً.
ثم ملك النعمان، وهو الذي بنى الخورنق، فبينما هو جالس ينظر منه إلى ما بين يديه من الفرات وما عليه من النخل والأجنة والأشجار، إذ ذكر الموت، فقال: وما ينفع هذا مع نزول الموت وفراق الدنيا! فتنسك، واعتزل الملك، وإياه عنى عدي بن زيد حيث يقول:
وتفكر رب الخورنق إذ أش ... رف يوماً وللهدى تفكير
سره حاله، وكثرة ما يم ... لك، والبحر معرض، والسدير
فارعوى قلبه، وقال: وما غب ... طة حيٍ إلى الممات يصير؟
وملك بعده المنذر بن النعمان ثلاثين سنة.
ثم ملك عمرو بن المنذر، وهو الذي قتل الحارث بن ظالم عنده خالد بن جعفر بن كلاب، فنذر دمه، وطلبه، فطلب الحارث ابنه، وكان مسترضعاً في آل سنان، فقتله.
ثم ملك عمرو بن المنذر الثاني، وهو ابن هند، وكان يلقب مضرط الحجارة، وكان قد جعل الدهر يومين: يوماً يصيد فيه، ويوماً يشرب، فإذا جلس لشربه أخذ الناس بالوقوف على بابه، حتى يرتفع مجلس شرابه، فقال فيه طرفة بن العبد:
فليت لنا مكان الملك عمرو ... رغوثاً، حول حجرتنا تخور
قسمت الدهر في زمنٍ رخيٍ ... كذاك الدهر يعدل، أو يجور
من الزمرات أسبل قادماها ... فضرتها مركنة درور
لعمرك! إن قابوس بن هندٍ ... ليخلط ملكه نوك كثير
لنا يوم، وللكروان يوم ... تطير البائسات، ولا نطير
فأما يومهن، فيوم سوءٍ ... تطاردهن بالخسف الصقور
وأما يومنا، فنظل ركباً ... وقوفاً لا نحل، ولا نسير
ولم يزل طرفة يهجوه ويهجو أخاه قابوساً، ويذكرهما بالقبيح، ويشبب بأخت عمرو، ويذكرها بالعظيم، فكان مما قال فيه:
إن شرار الملوك قد علموا ... طراً، وأدناهم من الدنس
عمرو، وقابوس، وابن أمهما ... من يأتهم للخنا بمحتبس
يأت الذي لا تخاف سبته ... عمرو وقابوس قينتا عرس
يصبح عمرو على الأمور ... وقد خضخض ما للرجال كالفرس
وكان المتلمس حليفاً لطرفة، فكان يساعده على هجائه، فقال لهما عمرو: قد طال ثواكما، ولا مال قبلي، ولكن قد كتبت لكما إلى عاملي بالبحرين يدفع لكل واحد منكما مائة ألف درهم، فأخذ كل واحد منهما صحيفة، فاستراب المتلمس بأمره، فلما صارا عند نهر الحيرة لقيا غلاماً عبادياً فقال له المتلمس: أ تحسن أن تقرأ؟ قال: نعم! قال: اقرأ هذه الصحيفة! فإذا فيها: إذا أتاك المتلمس، فاقطع يديه ورجليه، فطرح الصحيفة، وقال لطرفة: في صحيفتك مثل هذا، قال: ليس يجترىء على قومي بهذا، وأنا بذلك البلد أعز منه. فمضى طرفة إلى عامل البحرين، فلما قرأ صحيفته قطع يديه ورجليه، وصلبه.
ثم ملك أخوه قابوس بن المنذر.
ثم ملك المنذر بن المنذر أربع سنين، وكان هؤلاء الملوك من قبل الأكاسرة يؤدون إليهم الطاعة، ويحملون الخراج.
وكانت قبائل معد مجتمعة عليهم، وكان أشدها امتناعاً غطفان وأسد بن خزيمة، وكان يأتيهم الرجل من معد على جهة الزيارة، فيحيونه ويكرمونه، وكان ضمن إياهم من رؤساء القبائل الربيع بن زياد العبسي، والحارث بن ظالم المري، وسنان بن أبي حارثة والنابغة الذبياني الشاعر، وكانت الملوك تعظم الشعراء، وترفع أقدارهم لما يبقون لهم من المدح والذكر، فكان النابغة مقدماً عند ملوكهم، ثم شبب بامرأة المنذر في قصيدته التي يقول فيها:
سقط النصيف، ولم ترد إسقاطه ... فتناولته واتقتنا باليد
فنذر المنذر دمه، فهرب إلى الشام إلى ملوك غسان ثم اعتذر إلى المنذر يشعره الذي يقول فيه:
فإنك كالليل الذي هو مدركي ... وإن خلت أن المنتأى عنك واسع
ويقول:
نبئت أن أبا قابوس أوعدني ... ولا قرار على زأرٍ من الأسد
وكان مع المنذر أهل بيت من بني امرىء القيس بن زيد مناة بن تميم، وكان من أهل ذلك البيت عدي بن زيد العبادي، وكان خطيباً شاعراً قد كتب العربية والفارسية، وكان المنذر قد جعل عندهم ابنه النعمان، فأرضعوه، وكان في حجورهم، فكتب كسرى إلى المنذر أن يبعث له بقوم من العرب يترجمون الكتب له، فبعث بعدي بن زيد وأخوين له، فكانوا في كتابه يترجمون له، فلما مات المنذر قال كسرى لعدي بن زيد: هل بقي أحد من أهل هذا البيت يصلح للملك؟ قال: نعم! إن للمنذر ثلاثة عشر ولداً، كلهم يصلح لما يريد الملك، فبعث، فأقدمهم، وكانوا من أجمل أهل بيت المنذر، إلا ما كان من النعمان، فإنه كان أحمر أبرش قصيراً، فكان أهل بيت عدي بن زيد الذين ربوه، وأمه سبية يقال لها سلمى، يقال إنها من كلب فأنزلهم عدي بن زيد كل واحد على حدته، وكان يفضل أخوه النعمان عليه في النزل، ويريهم أنه لا يرجوه، ويخلو بهم رجلاً رجلاً، ويقول لهم: إن سألكم الملك هل تكفوني العرب؟ فقولوا له: لن نكفيكهم، إلا النعمان.
وقال للنعمان: إن سألك الملك عن إخوتك، فقل: إن عجزت عنهم، فأنا عن العرب أعجز.
وكان من بني المنذر رجل يقال له الأسود، وكانت أمه من بني الرباب، وكان من الرجال، وكان يحضنه أهل بيت من الحيرة يقال لهم بنو مرينا، كانوا أشرافاً، وكان منهم رجل يقال له عدي بن أوس بن مرينا، كان مارداً شاعراً، وكان يقول للأسود بن المنذر: أخي النعمان، إنك قد عرفت أني لك راج، وأن طلبتي إليك ورغبتي أن تخالف عدي بن زيد، فإنه والله ما ينصحك أبداً! فلم يلتفت إلى قوله، فلما أمر كسرى عدي بن زيد أن يدخلهم عليه، جعل يدخلهم رجلاً رجلاً، فكان يرى رجالاً ما رأى مثلهم، فإذا سألهم: هل تكفوني ما كنتم تكفون؟ قالوا: لن نكفيك العرب، إلا النعمان. فلما دخل عليه النعمان رأى رجلاً وسيماً، فكلمه فقال: هل تستطيع أن تكفيني العرب؟ قال: نعم! قال: فكيف تصنع بإخوتك؟ قال: إن عجزت عنهم، فأنا عن غيرهم أعجز! فملكه، وكساه وألبسه اللؤلؤ، فلما خرج وقد ملك قال عدي بن أوس بن مرينا للأسود: دونك قد خالفت الرأي.
ومضى النعمان مملكاً على عدي بن مرينا، فأمر قوماً من خاصة النعمان وأصحابه أن يذكروا عدي بن زيد عنده، ويقولوا: إنه يزعم أن الملك عامله، وأنه هو ولاه، ولولاه ما ولي، وكلاماً
نحو هذا، فلم يزالوا يتكلمون بحضرة النعمان، حتى احفظوه واغضبوه على عدي بن زيد، فكتب النعمان إلى عدي: عزمت عليك إلا زرتني! فاستأذن كسرى، وقدم عليه فلما صار إلى النعمان أمر بحبسه في حبس لا يصل إليه فيه أحد.
وكان له مع كسرى أخوان يقال لأحدهما أبي والآخر سمي، وكانا عند كسرى، وكان أحدهما يسره هلاكه، والآخر يحب صلاحه، فجعل عدي يقول الشعر في محبسه، ويستعطف النعمان، ويذكر له حرمته، ويغظه بذكر الملوك المتقدمين، فلم ينفعه ذلك، وجعل أعداؤه من آل مرينا يحملون عليه النعمان، ويقولون له: إن أفلت قتلك، وكان سبب هلاكك، فلما يئس عدي أن يجد عند النعمان خيراً كتب إلى أخيه:
أبلغ أبياً على نأيه ... وهل ينفع المرء ما قد علم
بان أخاك شقيق الفؤا ... د وكنت به والهاً ما سلم
لدى ملك موثق بالحدي ... د إما بحق، وأما ظلم
فلا تلفين كذاك الغلا ... م ألا تجد عارماً يعتزم
فأرضك أرضك إن تأتنا ... تنم نومةً ليس فيها حلم
وكتب إلى ابنه عمرو بن عدي، وكانت له ناحية من كسرى:
لمن ليل بذي حبس طويل ... عظيم شقه، حزن، دخيل
وما ظلم امرىء في الجيد غل ... وفي الساقين ذو حلق طويل
ألا هبلتك أمك، عمرو بعدي ... أتقعد لا أفك، ولا تصول
ألم يحزنك أن أباك عانٍ ... وأنت مغيب غالتك غول
تغنيك ابنة القين ابن جسر ... وفي كلب فيصحبك الشمول
فلو كنت الأسير، ولا تكنه ... إذا علمت معد ما أقول
وإن أهلك، فقد أبليت قومي ... بلاء كله حسن جميل
وما قصرت في طلب المعالي ... فتقصرني المنية، أو تطول
فقام أخوه وابنه ومن معهما إلى كسرى فكلماه في أمره، فكتب كسرى إلى النعمان يأمره بتخلية سبيله، ووجه في ذلك رسولاً قال: فسأل أبي بن زيد الرسول أن يبتدىء بعدي، فابتدأ الرسول به، فقال عدي: إنك إن فارقتني قتلت! قال: كلا! إنه لا يجترىء النعمان على الملك! فبلغ النعمان مصير رسول كسرى إلى عدي، فلما خرج من عنده، وجه إليه النعمان من قتله، ووضع على وجهه وسادة، حتى مات، ثم قال للرسول: إن عدياً قد مات، وأعطاه وأجازه، وتوثق منه ألا يخبر كسرى إلا أنه وجده ميتاً، وكتب إلى كسرى أنه مات.
وكان عمرو بن عدي يترجم الكتب لكسرى، وطلب كسرى جارية، ووصف صفتها، فلم توجد له، فقال له عمرو بن عدي بن زيد: أيها الملك! عند عبدك النعمان بنات له وقرابات على أكثر مما يطلب الملك، ولكنه يرغب بنفسه عن الملك، ويزعم أنه خير منه، فوجه كسرى إلى النعمان يأمره أن يبعث إليه ابنته ليتزوجها، فقال النعمان: أما في عين السواد وفارس ما بلغ الملك حاجته؟ فلما انصرف الرسول خبر كسرى بقول النعمان، فقال كسرى: وما يعني بالعين؟ قال عمرو بن عدي بن زيد: أراد البقر، ذهاباً بابنته عن الملك، فغضب كسرى، وقال: رب عبد قد صار إلى أكبر من هذا، ثم صار أمره إلى تباب! فبلغت النعمان، فاستعد.
وأمسك عنه كسرى شهراً، ثم كتب إليه بالقدوم عليه، فعلم النعمان ما أراد، فحمل سلاحه وما قوي عليه، ولحق بجبلي طي وكانت سعدى بنت حارثة عنده، فسأل طيئاً أن يمنعوه من كسرى، فقالوا: لا قوة لنا به! فانصرف عنهم، وجعلت العرب تمتنع من قبوله، حتى نزل في بطن ذي قار، في بني شيبان، فلقي هانىء بن مسعود بن عامر بن عمرو بن أبي ربيعة بن ذهل بن شيبان، فدفع إليه سلاحه، وأودعه بنته وحرمته، ومضى إلى كسرى، فنزل ببابه، فأمر به فقيد، ثم وجه به إلى خانقين، فلقيه عمرو بن عدي بن زيد، فقال: يا نعيم! تصغيراً به، لقد شددت لك أواخي لا يقلعها إلا المهر الأرن! فقال: أرجو أن تكون قد قرنتها بقارح! فلما مضى به إلى خانقين طرح به تحت الفيلة، فداسته، حتى قتلته، وقرب للأسود فأكلته.
ووجه كسرى إلى هانىء بن مسعود: أن ابعث إلى مال عبدي الذي عندك وسلاحه وبناته، فلم يفعل هانىء، فوجه إليه كسرى بجيش، فاجتمعت ربيعة، وكانت وقعة ذي قار، فمزقت العرب العجم، وكان أول يوم ظفرت فيه العرب بالعجم.
ويروي عن رسول الله أنه قال: هذا أول يوم انتصفت فيه العرب من العجم، وبي نصروا.
حرب كندةوكان بين كندة وحضرموت حروب أفنت عامتهم، وكانت كندة قد اجتمعت على رجلين أحدهما سعيد بن عمرو بن النعمان بن وهب، وكان على بني الحارث بن معاوية عمرو بن زيد، وشرحبيل بن الحارث على السكون، واجتمعت حضرموت على عدة رؤساء منهم: مسعر بن مستعر، وسلامة بن حجر، وشراحيل بن مرة وعدة بعد هؤلاء، فزال هؤلاء كلهم. وطالت الحرب بينهم، وفتنت رجالهم، ودامت حتى ضرستهم، وكثر القتل في كندة.
وملكت حضرموت علقمة بن ثعلب، وهو يومئذ غلام، فلأنت كندة بعض اللين وكرهت محاربة حضرموت، ودخل أهل اليمن التشتيت والتفريق، فلما افترق أهل اليمن وانتشروا في البلاد ملك كل قوم عظيمهم، وصارت كندة إلى أرض معد، فجاورتهم، ثم ملكوا رجلاً منهم كان أول ملوكهم يقال له مرتع بن معاوية بن ثور، فملك عشرين سنة.
ثم ملك ابنه ثور بن مرتع، فلم يقم إلا يسيراً حتى مات، فملك بعده معاوية بن ثور.
ثم ملك الحارث بن معاوية، فكان ملكه أربعين سنة.
ثم ملك وهب بن الحارث عشرين سنة.
ثم ملك بعده حجر بن عمرو، آكل المرار، ثلاثاً وعشرين سنة، وهو الذي حالف بين كندة وربيعة، وكان تحالفهم بالذنائب.
ثم ملك بعده عمرو بن حجر أربعين سنة، وغزا الشام، ومعه ربيعة، فلقيه الحارث بن أبي شمر، فقتله، فملك بعده الحارث بن عمرو، وأمه ابنة عوف بن محلم الشيباني، ونزل بالحيرة، وفرق ملكه على ولده.
وكان له أربعة أولاد: حجر، وشرحبيل، وسلمة الغلفاء، ومعديكرب، فملك حجراً في أسد وكنانة، وملك شرحبيل على غنم وطيء والرباب، وملك سلمة الغلفاء على تغلب والنمر بن قاسط، وملك معديكرب على قيس بن عيلان، وكانوا يجاورون ملوك الحيرة فقتل الحارث، وقام ولده بما كان في أيديهم، وصبروا على قتال المنذر، حتى كافأوه.
فلما رأى المنذر تغلبهم على أرض العرب نفسهم ذلك، وأوقع بينهم الشرور، فوجه إلى سلمة الغلفاء بهدايا، ثم دس إلى شرحبيل من قال له: إن سلمة أكبر منك، وهذه الهدايا تأتيه من المنذر، فقطع الهدايا، فأخذها، ثم أغرى بينهما، حتى تحاربا، فقتل شرحبيل، فكانت معه تميم وضبة، فلما قتل خاف الناس أن يقولوا لأخيه سلمة: إن أخاك قد قتل، وجعل يسمع قولهم، فجزع لقتل أخيه، وندم على أن المنذر إنما أراد أن يقتل بعضهم بعضاً، فقال:
إن جنبي عن الفراش لناب ... كتجافي الأسر فوق الظراب
من حديث نمى إلي، فما ير ... قأ دمعي، ولا أسيغ شرابي
وتنكرت بنو أسد بحجر بن عمرو، وساءت سيرته فيهم، وكانت عنده فاطمة بنت ربيعة أخت كليب ومهلهل، فولدت له هنداً، فلما خاف على نفسه حملها، فاجتمعت بنو أسد على قتله، فقتلوه، وادعى قبائل من بني أسد قتل حجر، وكان القائم بأمر بني أسد علباء بن الحارث أحد بني ثعلبة.
وكان امرؤ القيس بن حجر غائباً، فلما بلغه مقتل أبيه جمع جمعاً، وقصد لبني أسد، فلما كان في الليلة التي أراد أن يغير عليهم في صبيحتها نزل بجمعه ذلك، فذعر القطا، فطار عن مجاثمة، فمر ببني أسد، فقالت بنت علباء: ما رأيت كالليلة قطا أكثر! فقال علباء: لو ترك القطا لغفا ونام، فأرسلها مثلاً.
وعرف أن جيشاً قد قرب منه، فارتحل، وأصبح امرؤ القيس، فأوقع بكنانة، فأصاب فيهم وجعل يقول: يا للثارات! فقالوا: والله ما نحن إلا من كنانة! فقال:
ألا يا لهف نفسي، بعد قوم ... هم كانوا الشفاء، فلم يصابوا
وقاهم جدهم ببني أبيهم ... وبالأشقين ما كان العقاب
وأفلتهن علباء جريضاً ... ولو أدركنه صفر الوطاب
وفي هذا الوقت يقول عبيد بن الأبرص الأسدي لامرىء القيس بن حجر في قصيدة طويلة:
يا ذا المعيرنا بقت ... ل أبيه إذلالاً وحينا
أزعمت أنك قد قت ... لت سراتنا كذباً ومينا
هلا على حجر بن أ ... م قطام تبكي لا علينا
إنا إذا عض الثقا ... ف برأس صعدتنا لوينا
نحمي حقيقتنا، وبع ... ض القوم يسقط بين بينا
وفي هذا يقول أيضاً عبيد في قصيدة له طويلة:
يا أيها السائل عن مجدنا ... إنك مستغبى بنا جاهل
إن كنت لم تأتك أنباؤنا ... فاسأل بنا يا أيها السائل
سائل بنا حجراً، غداة الوغى ... يوم يؤتى جمعه الحافل
يوم لقوا سعداً على مأقط ... وحاولت من خلفه كاهل
فأوردوا سرباً له ذبلاً ... كأنهن اللهب الشاعل
ومضى امرؤ القيس إلى اليمن لما لم يكن به قوة على بني أسد ومن معهم من قيس، فأقام زماناً، وكان يدمن مع ندامى له، فأشرف يوماً، فإذا براكب مقبل، فسأله من أين أقبلت؟ قال: من نجد! فسقاه مما كان يشرب، فلما أخذت منه الخمرة رفع عقيرته، وقال:
سقينا امرأ القيس بن حجر بن حارثٍ ... كؤوس الشجا حتى تعود بالقهر
وألهاه شرب ناعمٍ وقراقرٍ ... وأعياه ثأر كان يطلب في حجر
وذاك لعمري كان أسهل مشرعاً ... عليه من البيض الصوارم والسمر
ففزع امرؤ القيس لذلك، ثم قال: يا أخا أهل الحجاز! من قائل هذا الشعر؟ قال: عبيد بن الأبرص. قال: صدقت! ثم ركب، واستنجد قومه، فأمدوه بخمسمائة من مذحج، فخرج إلى أرض معد، فأوقع بقبائل من معد، وقتل الأشقر بن عمرو، وهو سيد بني أسد، وشرب في قحف رأسه، وقال امرؤ القيس في شعر له:
قولا لدودان: عبيد العصا ... ما غركم بالأسد الباسل
يا أيها السائل عن شأننا ... ليس الذي يعلم كالجاهل
حلت لي الخمر، وكنت امرأً ... عن شربها في شغلٍ شاغل
وطلب قبائل معد امرأ القيس، وذهب من كان معه، وبلغه أن المنذر ملك الحيرة قد نذر دمه، فأراد الرجوع إلى اليمن، فخاف حضرموت، وطلبته بنو أسد وقبائل معد، فلما علم أنه لا قوة به على طلب المنذر واجتماع قبائل معد على طلبه، ولم يمكنه الرجوع، سار إلى سعد بن الضباب الإيادي، وكان عاملاً لكسرى على بعض كور العراق، فاستتر عنده حيناً، حتى مات سعد بن الضباب، فلما مات سعد خرج امرؤ القيس إلى جبلي طي، فلقي طريف بن الطائي، فسأله أن يجيره، فقال: والله ما لي من الجبلين إلا موضع ناري! فنزل بقوم من طيء ثم لم يزل ينتقل في طيء مرة، وفي جديلة مرة وفي نبهان مرة، حتى صار إلى تيماء، فنزل بالسموأل بن عادياء، فسأله أن يجيره، فقال له: أنا لا أجير على الملوك، ولا أطيق حربهم، فأودعه أدراعاً، وانصرف عنه يريد ملك الروم حتى صار إلى قيصر ملك الروم، فاستنصره، فوجه معه تسعمائة من أبناء البطارقة.
وكان امرؤ القيس قد مدح قيصر فسار الطماح الأسدي إلى قيصر فقال له: إن امرأ القيس شتمك في شعره وزعم أنك علج اغلف، فوجه قيصر إلى امرىء القيس بحلة قد نضح فيها السم، فلما ألبسها تقطع جلده وأيقن بالموت فقال:
تأوبني دائي القديم فغلسا ... أحاذر أن يزداد دائي، فانكسا
لقد طمح الطماح، من بعد أرضه ... ليلبسني من دائه ما تلبسا
فلو أنها نفس تموت جميعة ... ولكنها نفس تساقط أنفسا
وهذه الأبيات في قصيدة له طويلة. وقال أيضاً في حاله تلك:
ألا أبلغ بني حجر بن عمرو ... وأبلغ ذلك الحي الحريدا
بأني قد بقيت بقاء نفس ... ولم أخلق سلاماً أو حديداً
ولو أني هلكت بأرض قومي ... لقلت الموت حق لا خلودا
ولكني هلكت بأرض قومٍ ... سحيقاً، من دياركم، بعيدا
بأرض الشأم لا نسب قريب ... ولا شاف فيسعف أو يجودا
ومات امرؤ القيس بأنقرة من أرض الروم.
ولد إسماعيل بن إبراهيموإنما أخرنا خبر إسماعيل وولده، وختمنا بهم أخبار الأمم، لأن الله، عز وجل، ختم بهم النبوة والملك، واتصل خبرهم بخبر رسول الله والخلفاء.
ذكرت الرواة والعلماء: أن إسماعيل بن إبراهيم أول من نطق بالعربية، وعمر بيت الله الحرام بعد أبيه إبراهيم، وقام بالمناسك، وأنه كان أول من ركب الخيل العتاق، وكانت قبل ذلك وحوشاً لا تركب.
وقال بعضهم: إن إسماعيل أول من شق الله فاه باللسان العربي، فلما شب أعطاه الله القوس العربية، فرمى عنها، وكان لا يرمي شيئاً إلا أصابه، فلما بلغ أخرج الله من البحر مائة فرس، فأقامت ترعى بمكة ما شاء الله، ثم ساقها الله إليه، فأصبح وهي على بابه، فرسنها وركبها، وأنتجها، وكانت دواب الناس البراذين، وركبها إسماعيل وبنوه وولده، وفي إسماعيل يقول بعض شعراء معد:
أبونا الذي لم تركب الخيل قبله ... ولم يدر شيخ قبله كيف تركب
ويقال إنما سميت أجياد مكة لأن الخيل كانت فيها، فأوحى الله، عز وجل، إلى إسماعيل أن يأتي الخيل، فأتاها، فلم تبق فرس إلا أمكنته من ناصيتها، فركبها وركبها ولده، فكان إسماعيل أول من ركب الخيل، وأول من اتخذها، وأول من نفى أهل المعاصي عن الحرم، فقال: أعربه! فسميت العربة بذلك.
وكان ولد جرهم بن عامر، لما صار إخوتهم من بني قحطان بن عامر إلى اليمن فملكوا صاروا هم إلى أرض تهامة فججاوروا إسماعيل بن إبراهيم، فتزوج إسماعيل الحتفاء بنت الحارث بن مضاض الجرهمي، فولدت له اثني عشر ذكراً، وهم: قيدار، ونابت، وأدبيل، و مبشام، ومسمع، ودوما، ومسا، وحداد، وتيما، ويطور، ونافس، وقيدما، وهذه الأسماء تختلف في الهجاء واللغة لأنها مترجمة من العبرانية، فلما كملت لإسماعيل مائة وثلاثون سنة توفي، فدفن في الحجر، فلما توفي إسماعيل ولي البيت بعده نابت بن إسماعيل، ويقال وليه قيدار، وبعد قيدار نابت بن إسماعيل.
وافترق ولد إسماعيل يطلبون السعة في البلاد، وحبس قوم أنفسهم على الحرم، فقالوا: لا نبرح من حرم الله. ولما توفي نابت، وقد تفرق ولد إسماعيل، ولي البيت المضاض بن عمرو الجرهمي، جد ولد إسماعيل، وذلك أن من بقي في الحرم من ولد إسماعيل كانوا صغاراً، فلما ولي المضاض نازعه السميدع بن هوبر، ثم ظهر عليه المضاض، فمضى السميدع إلى الشأم، وهو أحد ملوك العمالقة واستقام الأمر لمضاض حتى توفي.
ثم ملك بعده الحارث بن مضاض، ثم ملك عمرو بن الحارث بن مضاض، ثم ملك المعتسم بن الظليم، ثم ملك الحواس بن جحش بن مضاض، ثم ملك عداد بن صداد بن جندل بن مضاض ثم ملك فتحص بن عداد بن صداد، ثم ملك الحارث بن مضاض بن عمرو وكان آخر من ملك من جرهم.
وطغت جرهم، وبغت، وظلمت، وفسقت في الحرم، فسلط الله عليهم الذر، فأهلكوا به عن آخرهم، وكان ولد إسماعيل منتشرين في البلاد يقهرون من ناواهم، غير أنهم كانوا يسلمون الملك لجرهم للخؤولة، وكانت جرهم تطيعهم في أيامهم، ولم يكن أحد يقوم بأمر الكعبة في أيام جرهم غير ولد إسماعيل تعظيماً منهم لهم، ومعرفة بقدرهم، فقام بأمر الكعبة بعد نابت أمين، ثم يشجب بن أمين، ثم الهميسع، ثم أدد، فعظم شأنه في قومه، وجل قدره، وأنكر على جرهم أفعالها، وهلكت جرهم في عصره، ثم عدنان بن أدد، ثم معد بن عدنان، ثم افترق ولد عدنان في البلاد، ولحق قوم منهم باليمن، منهم: عك، والديث، والنعمان، فولد لعك من بنت أرغم بن جماهر الأشعري، ثم هلك، وبقي ولده بعده، فانتموا إلى الأخوال والدار.
وكان عدنان أول من وضع الأنصاب وكسا الكعبة، وكان معد بن عدنان أشرف ولد إسماعيل في عصره، وكانت أمه من جرهم، ولم يبرح الحرم، فكان له من الولد عشرة أولاد، وهم: نزار، وقضاعة، وعبيد الرماح وقنص، وقناصة، وجنادة، وعوف، وأود، وسلهم، وجنب، وكان معد يكنى أبا قضاعة، فانتسب عامة ولد معد في اليمن، وكان لهم عدد كثير، وانتمت قضاعة إلى ملك حمير، وقضاعة، فيما يقال، ولد على فراش معد، وكان معد أول من وضع رحلاً على جمل وناقة، وأول من زمها بالنسع.
وكان نزار بن معد سيد بني أبيه وعظيمهم، ومقامه بمكة، وأمه ناعمة بنت جوشم بن عدي بن دب الجرهمية ، وكان له من الولد أربعة: مضر، واياد وربيعة، وأنمار، وأمهم سودة بنت عك بن عدنان، ويقال إن أم مضر وأياد حيية بنت عك بن عدنان، وأم ربيعة وأنمار جدالة بنت وعلان ابن جوشم الجرهمي.
ولما حضرت نزار الوفاة قسم ميراثه على ولده الأربعة، فأعطى مضر وأيادا وربيعة وأنمارا ماله، فمضر وربيعة: الصريحان من ولد إسماعيل، فأعطى مضر ناقته الحمراء وما أشبهها من الحمرة، فسمي مضر الحمراء، وأعطى ربيعة الفرس وما أشبهها، فسمي ربيعة الفرس، وأعطى إياداً غنمه وعصاه، وكانت الغنم برقاء، فسمي أياد البرقاء ويقال أياد العصا، وأعطى أنماراً جارية له تسمى بجيلة فسمي بها، وأمرهم أن تخالفوا أن يتحاكموا إلى الأفعى بن الأفعى الجرهمي، فكان منزله بنجران، فتحاكموا إليه.
فأما أنمار بن نزار، فإنه تزوج في اليمن، فانتسب ولده إلى الخؤولة، فمنهم: بجيلة وخثعم لم يخرج من ولد نزار غيرهم.
وأما ربيعة بن نزار، فإنه فارق إخوته، فصار مما يلي بطن عرق إلى بطن الفرات، فولد له أولاد منهم: أسد، وضبيعة، وأكلب، وتسعة بعدها، ولا ينسبون في اليمن.
وانتشر ولد ربيعة بن نزار وولد ولده حتى كثروا، وامتلأت منهم البلاد، فجماهير قبائل ربيعة: بهثة بن وهب بن جلي بن أحمس بن ضبيعة بن ربيعة، وعنزة بن أسد بن ربيعة، وعبد القيس ابن أفصى بن دعمي بن جديلة بن أسد بن ربيعة، ويشكر بن بكر بن وائل بن قاسط بن هنب ابن أفصى، وحنيفة بن لجيم بن صعب بن علي بن بكر بن وائل بن قاسط وعجل بن لجيم ابن صعب بن علي بن بكر، وقيس بن ثعلبة بن عكابة بن علي بن بكر، وتيم اللات بن ثعلبة بن عكابة.
وكانت الحكومة والرئاسة من ربيعة في بني ضبيعة ولد بهثة بن وهب بن جلي بن أحمس بن ضبيعة بن ربيعة، ثم تحولت الحكومة والرئاسة في ولد عنزة بن أسد بن ربيعة، ثم تحولت في عبد القيس بن أفصى بن دعمي بن جديلة بن أسد بن ربيعة، ثم سارت عبد القيس، حتى نزلت اليمامة بسبب حرب كانت بينهم وبين بني النمر بن قاسط، وكانت إياد باليمامة، فأجلوهم، ثم صارت الرئاسة في النمر بن قاسط، ثم تحولت من النمر بن قاسط فصارت في بني يشكر بن صعب بن علي بن بكر، ثم تحولت الرئاسة من يشكر بن صعب، فصارت في بني تغلب، ثم صارت في بني شيبان.
وكانت لربيعة أيام مشهورة وحروب معروفة، فمن مشهور أيامهم: يوم السلان، فإن مذحج أقبلت تريد غزو أهل تهامة ومن بها من أولاد معد، فاجتمع ولد معد لحرب مذحج وكان أكثرهم ربيعة، فرأسوا عليهم ربيعة بن الحارث بن مرة بن زهير بن جشم بن بكر، فالتقوا ومذحج بالسلان، فهزموا مذحجاً، وكان لهم الظفر.
وأما يوم خزاز، فإن اليمن أقبلت، وعليهم سلمة بن الحارث بن عمرو الكندي، فرأست ولد معد كليب بن ربيعة بن الحارث بن مرة، فلما رأى سلمة كثرة القوم استجار ببعض الملوك، فأمده، فالتقوا بخزاز، وعلى ولد معد كليب، ففضت جموع اليمن. وأما يوم الكلاب، فإن سلمة وشرحبيل ابني الحارث بن عمرو الكندي تحاربا، فكان مع سلمة ربيعة ومع شرحبيل قيس، فكثرت ربيعة قيساً، فقتلت شرحبيل بن الحارث بن عمرو، وكان لهم العلو.
وأما أيام البسوس فإنها بين بني شيبان وتغلب بسبب قتل جساس بن مرة بن ذهل بن شيبان كليب بن ربيعة بن الحارث بن مرة بن زهير بن جشم التغلبي، فاشتبكت الحرب، واتصلت حتى أفنتهم، ودامت أربعين سنة.
وأما يوم ذي قار، فإنه لما قتل كسرى أبرويز النعمان بن المنذر بعث إلى هانىء بن مسعود الشيباني: أن ابعث إلي ما كان عبدي النعمان استودعك من أهله وماله سلاحه، وكان النعمان أودعه ابنته وأربعة آلاف درع، فأبى هانىء وقومه أن يفعلوا، فوجه كسرى بالجيوش من العرب والعجم، فالتقوا بذي قار، فأتاهم حنظلة بن ثعلبة العجلي، فقلدوه أمرهم، فقالوا لهانىء: ذمتك ذمتنا: ولا نخفر ذمتنا، فحاربوا الفرس، فهزموهم ومن معهم من العرب وكان مع الفرس إياس بن قبيصة الطائي وغيره من أخوه معد وقحطان، فأتى عمرو بن عدي بن زيد كسرى، وأخبره الخبر، فخلع كتفه، فمات، فكان أول يوم انتصرت فيه العرب من العجم.
وأما إياد بن نزار، فإنه نزل اليمامة، فولد له أولاد انتسبوا في القبائل، فيقول النسابون: إن ثقيفاً قسي بن النبت بن منبه بن منصور بن يقدم بن أفصى بن دعمي بن أياد، وانهم انتسبوا إلى قيس.
وكانت ديار إياد، بعد اليمامة، الحيرة ومنازلهم الخورنق والسدير وبارق، ثم أجلاهم كسرى عن ديارهم، فأنزلهم تكريت، مدينة قديمة على شط دجلة، ثم أخرجهم عن تكريت إلى بلاد الروم، فنزلوا بأنقرة من أرض الروم، ورئيسهم يومئذ كعب بن مامة، ثم خرجوا بعد ذلك، فجماهير قبائل إياد أربعة: مالك، وحذاقة، ويقدم، ونزار، فهذه بطون إياد، وفيهم يقول الأسود ابن يعفر التميمي:
أهل الخورنق والسدير وبارقٍ ... والقصر ذي الشرفات من سنداد
الواطئون على صدور نعالهم ... يمشون في الدفني والأبراد
عفت الرياح على محل ديارهم ... فكأنما كانوا على ميعاد
نزلوا بأنقرةٍ يسيل عليهم ... ماء الفرات يجيء من أطواد
بلد تخيرها، لطول مقيلها ... كعب بن مامة وابن أم دؤاد
وذكر أبو دؤاد الأيادي بعض ذلك، وكان أبو دؤاد أشعر شعرائهم، وبعده لقيط بالعراق، فلما بلغه أن كسرى آلى على نفسه أن ينفي إياداً من تكريت، وهي من أرض الموصل، كتب صحيفة بعث بها إليهم، وفيها:
سلام في الصحيفة من لقيطٍ ... إلى من بالجزيرة من إياد
فإن الليث يأتيكم بياتاً ... فلا يشغلكم سوق النقاد
أتاكم منهم سبعون ألفاً ... يزجون الكتائب كالجراد
وأما مضر بن نزار، فسيد ولد أبيه، وكان كريماً حكيماً، ويروى عنه أنه قال لولده: من يزرع شراً يحصد ندامة، وخير الخير أعجله، فاحملوا أنفسكم على مكروهها، فيما أصلحكم، واصرفوها عن هواها، فيما أفسدكم، فليس بين الصلاح والفساد إلا صبر ووقاية.
وروي أن رسول الله قال: لا تسبوا مضر وربيعة، فإنهما كانا مسلمين، وفي حديث آخر: فإنهما كانا على دين إبراهيم، فولد مضر بن نزار إلياس بن مضر وعيلان بن مضر، وأمهما الحنفاء بنت أياد بن معد، فولد عيلان بن مضر قيس بن عيلان، فانتشر ولده وكثروا، و صار فيه العدد والمنعة، فجماهير قبائل قيس بن عيلان: عدوان بن عمرو بن قيس، وفهم بن عمرو بن قيس، ومحارب بن خصفة بن قيس، وباهلة بن أعصر بن سعد بن قيس، وفزارة بن ذبيان بن بغيض بن ريث بن غطفان بن سعد بن قيس، وسليم بن منصور بن عكرمة بن خصفة بن قيس، وعامر بن صعصعة بن معاوية بن بكر بن هوازن، ومازن بن صعصعة بن معاوية بن بكر بن هوازن بن منصور بن عكرمة بن خصفة بن قيس، وسلول بن صعصعة بن معاوية بن بكر بن هوازن، وثقيف، وهو قسي بن منبه بن بكر بن هوازن، وثقيف ينسب إلى أياد بن نزار، وكلاب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة، وعقيل بن كعب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة، وقشير بن كعب بن ربيعة، والحريش بن كعب بن ربيعة بن عامر، وعوف بن عامر بن ربيعة بن عامر، والبكاء بن عامر بن ربيعة.
وكانت الرئاسة والحكومة في قيس، وانتقلت في عدوان، وكان أول من حكم منهم ورأس: عامر ابن الضرب، ثم صارت في فزارة، ثم صارت في عبس، ثم صارت في بني عامر بن صعصعة، ولم تزل فيهم.
وكانت لقيس أيام مشهورة وحروب متصلة منها: يوم البيداء، ويوم شعب جبلة، ويوم الهباءة، ويوم الرقم، ويوم فيف الريح، ويوم الملبط، ويوم رحرحان، ويوم العرى، ويوم حرب داحس والغبراء بين عبس وفزارة.
وكان الياس بن مضر قد شرف وبان فضله، وكان أول من أنكر على بني إسماعيل ما غيروا من سنن آبائهم، وظهرت منه أمور جميلة، حتى رضوا به رضاً لم يرضوه بأحد من ولد إسماعيل بعد أدد، فردهم إلى سنن آبائهم حتى رجعت سنتهم تامة على أولها، وهو أول من أهدى البدن إلى البيت، وأول من وضع الركن بعد هلاك إبراهيم، فكانت العرب تعظم إلياس تعظيم أهل الحكمة، وكان لإلياس من الولد: مدركة، واسمه عامر، وطابخة، واسمه عمرو، وقمعة، واسمه عمير، وأمهم جميعاً خندف، واسمها ليلى بنت حلوان بن عمران بن الحاف بن قضاعة.
وكان إلياس قد أصابه السل، فقالت خندف امرأته: لئن هلك لا أقمت ببلد مات به! وحلفت ألا يظلها بيت، وأن تسيح في الأرض فلما مات خرجت سائحة في الأرض حتى هلكت حزناً.
وكانت وفاته يوم الخميس، فكانت تبكيه، وإذا طلعت شمس ذلك اليوم بكت حتى تغيب، فصارت مثلاً.
وقيل لرجل من أياد هلكت امرأته: ألا تبكيها؟ فقال:
لو أنه أغنى بكيت كخندف ... على الياس، حتى ملها السر تندب
إذا مؤنس لاحت خراطيم شمسه ... بكت غدوة حتى نرى الشمس تغرب
يعني بقوله مؤنس: يوم الخميس، لأن العرب كانت تسمي الأيام بغير أسمائها في هذا الوقت، فكانت تسمى الأحد الأول، والإثنين أهون، والثلاثاء جبار، والأربعاء دبار، والخميس مؤنساً، و الجمعة عروبة، والسبت شيار، وكانوا يسمون أيام الشهر عشرة أسماء كل ثلاث ليال اسم، فالثلاث التي أول الهلال الغرر، ثم النفل ثم التسع، ثم العشر، ثم البيض، ثم الظلم، ثم الخنس، ثم الحنادس، ثم المحاق، والآخر ليلة السرار، إذا استسر الهلال، وكانوا يسمون المحرم مؤتمراً، وصفراً ناجراً، وربيعاً الأول خوان، وربيعاً الآخر وبصان، وجمادى الأولى حنين، وجمادى الآخرة ربى، ورجباً الأصم، وشعبان العاذل، ورمضان ناتقاً، وشوالاً وعلاً، وذا القعدة ورنة، وذا الحجة بركاً، وكان آخرون من العرب يسمون الثلاث ليال من أول الشهر هلالاً، ثم ثلاث قمر حين يقمر، ثم ثلاث بهر حين يضيء ويبهر لونه، وثلاث نقل، وثلاث بيض، وثلاث درع، وثلاث ظلم، وثلاث حنادس، وثلاث دآدي، وليلتان محاق، وليلة سرار. وولد لطابخة بن إلياس أد بن طابخة، فتفرقت من ولد أد بن طابخة أربع قبائل، وهي: تميم بن مر بن أد، والرباب وهو عبد مناة بن أد، وضبة بن أد، ومزينة بن أد، وكان العدد في تميم بن مر بن أد، حتى امتلأت منهم البلاد، وافترقت قبائل تميم، فمن جماهير قبائل تميم: كعب بن سعد بن زيد مناة، وحنظلة بن مالك بن زيد مناة، وهم يسمون البراجم، وبنو دارم، وبنو زرارة ابن عدس وبنو أسد، وعمرو بن تميم، فهؤلاء ولد أد بن طابخة بن إلياس بن مضر، وفيهم العدد والمنعة والبأس والنجدة والشعر والفصاحة، وكانت الرئاسة في تميم، وكان أول رئيس فيهم: سعد بن زيد مناة بن تميم، ثم حنظلة بن مالك بن زيد مناة، وكانت لهم أيام مشهورة وحروب معروفة، فمنها يوم الكلاب، ويوم المروت، ويوم جدود، ويوم النسار.
وكان مدركة بن إلياس سيد ولد نزار قد بان فضله، وظهر مجده، وخرج أخوه قمعة إلى خزاعة، فتزوج فيهم، وصار ينسب ولده معهم، وكان ولده فيهم، وكان من ولده عمرو بن لحي ابن قمعة، وهو أول من غير دين إبراهيم وولد مدركة بن إلياس خزيمة، وهذيلاً، وحارثة، وغالباً، وأمهم سلمى ابنة الأسود بن أسلم بن الحاف بن قضاعة، ويقال: بنت أسد بن ربيعة بن نزار، وأما حارثة فدرج صغيراً، وأما غالب فانتسبوا في بني خزيمة، وأما هذيل بن مدركة، فإن العدد منهم في بني سعد بن هذيل، ثم تميم بن سعد، ثم في معاوية بن تميم والحارث بن تميم وهذيل شجعان أصحاب حروب وغارات ونجدة وفصاحة وشعر.
وكان خزيمة أحد حكام العرب، ومن يعد له الفضل والسؤدد، فولد خزيمة بن مدركة كنانة، وأمه عوانة بنت قيس بن عيلان، وأسد والهون، وأمهم برة بنت مر بن أد بن طابخة أخت تميم ابن مر، فأما أسد بن خزيمة، فإن ولده انتشروا في اليمن، وهم: جذام، ولخم، وعاملة بنو عمرو بن أسد، وكانت مضر تدعي جذاماً خاصة، وبنو أسد مقيمون على انهم منهم يواصلونهم على ذلك، ويعدونهم منهم، قال امرؤ القيس بن حجر الكندي:
صبرنا عن عشيرتنا، فبانوا ... كما صبرت خزيمة عن جذام
وقال عبد المطلب بن هاشم في شعر له:
فقل لجذام إن أتيت بلادهم ... وخص بني سعد بها ثم وائل
أنيلوا، وأدنوا من وسائل قومكم ... فيعطف منكم قبل قطع الوسائل
وقال عبيد بن الأبرص في شعر له طويل:
أبلغ جذاماً ولخماً إن عرضت لهم ... والقوم ينفعهم علم إذا علموا
بأنكم في كتاب الله إخوتنا ... إذا تقسمت الأرحام والنسم
ويقال: إن هذا الشعر لشمعان بن هبيرة الأسدي، فأما جذام بن عدي بن الحارث، فإنها مقيمة على نسبها في اليمن، فتقول: جذام بن عدي بن الحارث بن مرة بن أدد بن يشجب بن عريب ابن مالك بن كهلان، وكان لأسد ابن خزيمة من الولد: دودان، وكاهل، وعمرو، وهند، والصعب، وتغلب، وكان العدد في دودان، ومنه افترقت قبائل بني أسد.
وقبائل بني أسد قعين، وفقعس، ومنقذ ودبان، ووالبة، ولاحق، وحرثان، ورئاب، وبنو الصيداء
وكانت أسد منتشرة من لدن قصور الحيرة إلى تهامة، وكانت الطيء محالفة متفقة معها، ودارهما تكاد أن تكون واحدة، وكانت محاربة لكندة، حتى قتلت حجر بن الحارث بن عمرو الكندي، وهرب امرؤ القيس، وذلت كندة، ثم حاربت بني فزارة، حتى قتلت بدر ابن عمرو، ثم اختلف الذي بينها وبين طيء، فتحارب الحيان أسد وطيء حتى قتلوا لأم بن عمرو الطائي، وأسروا زيد بن مهلهل، وهو زيد الخيل، وأخذوا السبايا، وقال زيد الخيل:
ألا أبلغ الأقياس: قيس بن نوفل ... وقيس بن أهبان وقيس بن جابر
بني أسد ردوا علينا نساءنا ... وأبناءنا، واستمتعوا بالأباعر
وبالمال، إن المال أهون هالك ... إذا طرقت إحدى الليالي الغوابر
ولا تجعلوها سنةً يقتدي بها ... بنو أسد، وأعفوا بأيد قوادر
فأطلقوه وردوا ظعائنهم لما سمعوا هذا الشعر، وبقي فرس لزيد، وكان زيد يحب الخيل، فقال زيد:
يا بني الصيداء ردوا فرسي ... إنما يفعل هذا بالذليل
عودوا مهري الذي عودته ... دلج الليل، وإيطاء القتيل
فردوا عليه فرسه، وكانت بنو أسد تقول: قتلنا أربعة كلهم بنو عمرو، وكل سيد قومه، قتلنا حجر بن عمرو ملك كندة ولأم بن عمرو الطائي، وصخر بن عمرو السلمي، وبدر بن عمرو الفزاري.
والهون بن خزيمة، وهو القارة، وإنما سموا القارة لأن بني كنانة لما خرجت بنو أسد بن خزيمة من تهامة، وخالفوا كنانة، وضموا القليل إلى الكثير، جعلوا بني الهون بن خزيمة قارة بينهم لأحد دون أحد.
ويقال إن بني الهون نزلوا أرضاً منخفضة، والعرب يسمون الأرض المنخفضة القارة، فقيل لهم: أصحاب القارة، والقارة المرامي، فقال بعضهم: قد أنصف القارة من راماها، ويقال إن حرباً جرت بين الهون بن خزيمة وبين بكر بن كنانة، فقال رجل من بني بكر: أيما أحب إليكم، المراماة، أو المسابقة؟ فقال رجل منهم:
قد علمت سلم، ومن والاها ... أنا نصد الخيل عن هواها
قد أنصف القارة من راماها ... أما إذا ما فئة نلقاها
نردها داميةً كلاها
وقبائل بني الهون بن خزيمة عضل وديش ابنا ييثع بن الهون بن خزيمة، فأما الحكم بن الهون ابن خزيمة، فإنه صار إلى اليمن، فحل بلاد مذحج، فولد له بها أولاد، ومات، فانتسب ولده إلى حكم بن سعد العشيرة.
وظهر في كنانة بن خزيمة فضائل لا يحصى شرفها، وعظمته العرب، فروي أن كنانة أتي، وهو نائم في الحجر، فقيل له: تخير يا أبا النضر بين الهضيل أو الهدر، أو عمارة الجدر، أو عز الدهر! فقال: كل هذا يا رب! فأعطيه، فولد كنانة بن خزيمة النضر، وحدال، وسعداً، ومالكاً، وعوفاً، ومخرمة، وأمهم هالة بنت سويد بن الغطريف، وهو حارثة بن امرىء القيس ابن ثعلبة بن مازن بن الغوث، وعلياً، وغزوان، وأمهما برة بنت مر، وجرولاً، والحارث، وأمهما من أزد شنوءة، وعبد مناة، وأمه الذفراء، واسمها فكيهة بنت هني بن بلي بن عمرو بن الحاف بن قضاعة، فأما مخرمة، فيقال إنهم بنو ساعدة رهط سعد بن عبادة وبنو عبد مناة بن كنانة، فهم عدد كنانة، فمنهم: بنو ليث بن بكر بن عبد مناة، وبنو الدئل بن بكر، وبنو ضمرة بن بكر منهم: بنو غفار بن مليك بن ضمرة، وبنو جذيمة بن عامر بن عبد مناة الذين أصابهم خالد بن الوليد بالغميصاء، وبنو مدلج بن مرة بن عبد مناة.
ومن بني مالك بن كنانة بن خزيمة: بنو فقيم بن عدي بن عامر بن ثعلبة ابن الحارث بن مالك ابن كنانة، ومن بني فقيم كان النسأة، وهم القلامس كانوا ينسئون ويحلون ويحرمون، وكان أولهم حذيفة بن عبد فقيم الذي يسمى القلمس، ثم صار ذلك في ولده، فقام بعده عباد بن حذيفة ابنه، ثم بعد عباد قلع بن عباد، ثم أمية بن قلع، ثم عوف بن أمية، ثم جنادة بن عوف، وهو أبو ثمامة، ومنهم فراس بن غنم بن مالك بن كنانة، فهذه جماهير قبائل كنانة.
وأما النضر بن كنانة، فكان أول من سمي القرشي، يقال إنه سمي القرشي لتقرشه وارتفاع همته، وقيل لتجارته ويساره، ويقال لدابة في البحر تسمى القرش، سمته أمه قريشاً تصغير
قرش، فمن لم يكن من ولد النضر بن كنانة، فليس بقرشي، فولد النضر بن كنانة مالكاً، ويخلد، والصلت، وكان النضر أبا الصلت، وأم ولد النضر عكرشة بنت عدوان ابن عمرو بن قيس بن عيلان، وأما يخلد فلم يبق منهم أحد يعرف، وأما ولد الصلت، فصاروا في خزاعة، وكان من ولده كثير بن عبد الرحمن الشاعر، وهو الذي يقول في النسب:
أليس أبي بالصلت أم ليس إخوتي ... بكل هجان من بني النضر أزهرا
وكان مالك بن النضر عظيم الشأن، وكان له من الولد: فهر، والحارث، وشيبان، وأمهم جندلة بنت الحارث بن مضاض بن عمرو بن الحارث الجرهمي، ويقال إن اسم فهر بن مالك: قريش، وإنما فهر لقب، والاسم قريش.
وظهر في فهر بن مالك علامات فضل في حياة أبيه فلما هلك أبوه قام مقامه، وكان لفهر بن مالك من الولد: غالب، والحارث، ومحارب، وجندلة، وأمهم ليلى بنت الحارث بن تميم بن سعد ابن هذيل، فمن ولد الحارث ابن فهر ضبة بن الحارث رهط أبي عبيدة بن الجراح، ومن ولد محارب بن فهر شيبان بن محارب: رهط الضحاك بن قيس، وكان غالب بن فهر أفضلهم وأظهرهم مجداً، فيروي أن فهر بن مالك قال لابنه غالب، حين حضرته الوفاة: أي بني! إن في الحذر انغلاق النفس، وإنما الجزع قبل المصائب، فإذا وقعت مصيبة برد حرها، وإنما القلق في غليانها، فإذا قامت، فبرد حر مصيبتك بما ترى من وقع المنية أمامك وخلفك، وعن يمينك وعن شمالك، وما ترى في آثارها من محق الحياة، ثم اقتصر على قليلك، وإن قلت منفعته، فقليل ما في يدك أغنى لك من كثير مما أخلق وجهك إن صار إليك، فلما مات فهر شرف غالب ابن فهر وعلا أمره، وكان له من الولد لؤي، وتيم الأدرم، وأمهما عاتكة بنت يخلد بن النضر ابن كنانة، وتغلب، ووهب، و كثير، وحراق، هؤلاء لا بقية لهم، فأما تيم الأدرم، فإنه أعقب. وكان لؤي بن غالب سيداً شريفاً بين الفضل، يروي أنه قال لأبيه غالب ابن فهر، وهو غلام حدث: يا أبه! رب معروف قل أخلافه، ونصر، يا أبه، من أخلفه أخمله، وإذا أخمل الشيء لم يذكر، وعلى المولى تكبير صغيره ونشره، وعلى المولى تصغير كبيرة وستره فقال له أبوه: يا بني إني أستدل بما أسمع من قولك على فضلك، وأستدعي به الطول لك في قومك، فإن ظفرت بطول، فعد علي قومك، وأكف غرب جهلهم بحلمك، والمم شعثهم برفقك، فإنما يفضل الرجال الرجال بأفعالهم، فإنها على أوزانها، وأسقط الفضل ومن لم تعل له درجة على آخر لم يكن له فضل، وللعليا أبداً على السفلى فضل. فلما مات غالب بن فهر قام لؤي بن غالب مقامه.
وكان للؤي من الولد: كعب، وعامر، وسامة، وخزيمة، وأمهم عائذة، وعوف والحارث، وجشم، وأمهم ماوية بنت كعب بن القين، وسعد بن لؤي، وأمه يسرة بنت غالب بن الهون بن خزيمة، فأما سامة بن لؤي، فإنه هرب من أخيه عامر بن لؤي، وذلك أنه كان بينهما شر، فوثب سامة على عامر ففقأ عينه، فأخافه عامر، فهرب منه، فصار إلى عمان، فيقال إنه مر ذات يوم على ناقة له، فوضعت الناقة مشفرها في الأرض، فعلقتها أفعى ونفضتها، فوقعت على سامة، فنهشت الأفعى ساقه، فقتلته، فقال فيما يزعمون، حين أحس بالموت:
عين فأبكى لسامة بن لؤي ... علقت ما بساقه العلاقه
لم يروا مثل سامة بن لؤي ... يوم حلوا به، قتيلاً لناقه
بلغا عامراً وكعباً رسولاً ... أن نفسي إليهما مشتاقه
إن تكن في عمان داري، فإني ... ماجد قد خرجت من غير فاقه
رب كأس هرقت يا بن لؤي ... حذر الموت لم تكن مهراقه
رمت دفع الحتوف، يا بن لؤي ... ما لمن رام ذاك بالحتف طاقه
فأما خزيمة بن لؤي، وهو عائذة، فإنه نزل في شيبان، فانتسب ولده في ربيعة، وأما الحارث وهو جشم وسعد، فإنهم نزلوا في هزان فانتسبوا فيهم، وفيهم يقول جرير بن الخطفى:
بني جشم لستم لهزان، فانتموا ... لأعلى الروابي من لؤي بن غالب
وأما عوف بن لؤي، فإنه خرج فيما يزعمون في ركب من قريش، حتى إذا كان في أرض غطفان أبطأ به بعيره، فانطلق من كان معه من قومه، فأتاه ثعلبة بن سعد بن ذبيان، فاحتبسه، وجعله له أخاً، فصار نسبه في عوف بن سعد بن ذبيان قال الحارث بن ظالم، وهو من بني مرة بن عوف:
وما قومي بثعلبة بن سعد ... ولا بفزارة الشعر الرقابا
وقومي إن سألت بني لؤي ... بمكة علموا مضر الضرابا
سفهنا باتباع بني بغيض ... وترك الأقربين لنا انتسابا
وقال الحارث بن ظالم في ذلك أيضاً:
إذا فارقت ثعلبة بن سعد ... وإخوتهم نسبت إلى لؤي
إلى نسب كريم غير ... وحي هم أكارم كل حي
فإن يبعد بهم نسبي، فمنهم ... قرابين الإله بنو قصي
وللحارث بن ظالم في هذا شعر كثير، وقد كان عمر بن الخطاب دعا بني عوف إلى أن يردهم إلى نسبهم في قريش، فشاوروا علي بن أبي طالب، فقال لهم: أنتم أشراف في قومكم، فلا تكونوا مستلحقين في قريش، فأما عامر بن لؤي فإنه كان له من الولد حسل بن عامر، و معيص بن عامر، وعويص بن عامر، وأمهم امرأة من قرن، وليس لعويص بن عامر بقية، والبقية في حسل ومعيص.
فأما كعب بن لؤي، فكان أعظم ولد أبيه قدراً، وأعظمهم شرفاً، وكان أول من سمي يوم الجمعة بالجمعة، وكانت العرب تسميه عروبة، فجمعهم فيه، وكان يخطب عليهم، فيقول: اسمعوا، وتعلموا، وافهموا، واعلموا أن الليل ساج، والنهار ضاح، والأرض مهاد، والسماء عماد، والجبال أوتاد، والنجوم أعلام، والأولون كالآخرين، والأبناء ذكر، فصلوا أرحامكم، واحفظوا أصهاركم، وثمروا أموالكم، فهل رأيتم من هالك رجع، أو ميت نشر الدار أمامكم، والظن غير ما تقولون، وحرمكم زينوه وعظموه، وتمسكوا به، فسيأتي نبأ عظيم، وسيخرج منه نبي كريم، ثم يقول:
نهار وليل كل يؤوب بحادث ... سواء علينا ليلها ونهارها
يؤوبان بالأحداث حين يؤوبا ... وبالنعم الضافي علينا ستورها
صروف، وأنباء تغلب أهلها ... لها عقد ما يستحل مريرها
على غفلة يأتي النبي محمد ... فيخبر أخباراً صدوقاً خبيرها
ثم يقول: يا ليتني شاهد نجوى دعوته، لو كنت ذا سمع، وذا بصر ويد ورجل تنصبت له تنصب العجل، وأرقلت إرقال الجمل، فرحاً بدعوته، جذلاً بصرخته، فلما مات كعب أرخت قريش من موت كعب.
وكان لكعب من الولد: مرة، وهصيص، وأمهما وحشية ابنه شيبان بن محارب بن فهر بن مالك، وعدي بن كعب، وأمه حبيبة بنت بجالة بن سعد بن فهم بن عمرو بن قيس بن عيلان، فعدي بن كعب رهط عمر بن الخطاب، وولد هصيص بن كعب سهماً وجمحاً.
وكان مرة بن كعب سيداً هماماً، فتزوج هند بنت سرير بن ثعلبة بن الحارث بن مالك بن كنانة، وكان سرير أول من نسأ الشهور، فولدت هند لمرة كلابا، ثم تزوج مرة بنت سعد بن بارق، فولدت له تيما ويقظة، فتيم بن مرة رهط أبي بكر، ومخزوم بن يقظة بن مرة رهطه أيضاً. وشرف كلاب بن مرة، وجل قدره، واجتمع له شرف الأب والجد من قبل الأم لأنهم كانوا يجيزون الحج، ويحرمون الشهور، ويحللونها، فكانوا يسمون النسأة والقلامس، وكان لكلاب بن مرة من الولد: قصي، وزهرة، وفيهما قال رسول الله: صريحا قريش بن كلاب، وأمهما فاطمة بنت سعد بن سيل الأزدي، وكان سعد بن سيل أول من حليت له السيوف بالذهب والفضة، وله يقول الشاعر:
لا أرى في الناس شخصاً واحداً ... فاعلموا ذاك، كسعد بن سيل
فلما مات كلاب تزوجت فاطمة بنت سعد بن سيل ربيعة بن حرام العذري، فخرج بها إلى بلاد قومه، فحملت قصياً معها، وكان اسمه زيداً، فلما بعد من دار قومه سمته قصياً، فلما شب قصي، وهو في حجر ربيعة، قال له رجل من بني عذرة: الحق بقومك، فإنك لست منا! فقال: ممن أنا؟ فقال: سل أمك! فسألها، فقالت: أنت أكرم منه نفساً، وولداً، ونسباً! أنت ابن كلاب بن مرة، وقومك آل الله، وفي حرمه.
وكانت قريش لم تفارق مكة إلا انهم لما كثروا قلت المياه عليهم، فتفرقوا في الشعاب، فكره قصي الغربة، وأحب أن يخرج إلى قومه، فقالت له أمه: لا تعجل حتى يدخل الشهر الحرام، فتخرج في حجاج قضاعة فإني أخاف عليك! فلما دخل الشهر الحرام شخص معهم حتى قدم مكة، وأقام قصي بمكة، حتى شرف وعز وولد له الأولاد.
وكانت حجابه البيت إلى خزاعة، وذلك أن الحجابة كانت إلى أياد، فلما أرادوا الرحيل عن مكة حملوا الركن على جمل، فلم ينهض الجمل، فدفنوه، وخرجوا، وبصرت بهم امرأة من خزاعة حين دفنوه، فلما بعدت أياد اشتد ذلك على مضر، وأعظمته قريش وسائر مضر، فقالت الخزاعية لقومها: اشرطوا على قريش وسائر مضر أن يصيروا إليكم حجابه البيت، حتى أدلكم على الركن، ففعلوا ذلك، فلما أظهروا الركن صيروا إليهم الحجابة، فقدم قصي بن كلاب مكة، والحجابة إلى خزاعة، والإجازة إلى صوفة، وهو الغوث بن مر أخي تميم وكان الحج وإجازة الناس من عرفات إليه، ثم صارت إلى عقبه من بعده، وبنو القيس بن كنانة ينسئون الشهور، ويحلون، ويحرمون، فلما رأى قصي ذلك جمع إليه قومه من بني فهر بن مالك، وحازهم إليه، فلما حضر الحج حال بين صوفة وبين الإجازة، وقامت معه خزاعة وبنو بكر، وعلموا أن قصيا سيصنع بهم كما صنع بصوفه، وأنه سيحول بينهم وبين أمر مكة وحجابه البيت، وانحازوا عنه، وصاروا عليه، فلما رأى ذلك أجمع لحربهم، وبعث إلى أخيه من أمه دراج بن ربيعة العذري، فأتاه أخوه بمن قدر عليه من قضاعة، وقيل: وافى دراج، وقصي قد نصب لحرب القوم، ودراج يريد البيت، فأعان أخاه بنفسه وقومه، فاقتتلوا قتالاً شديداً بالأبطح، حتى كثرت القتلى في الفريقين، ثم تداعوا إلى الصلح، وأن يحكم ما بينهم رجل من العرب فيما اختلفوا فيه، فحكموا يعمر بن عوف بن كعب بن ليث ابن بكر بن كنانة، فقضى بينهم بأن قصياً أولى بالبيت وأمر مكة من خزاعة، وأن كل دم أصابه قصي من خزاعة وبني بكر موضوع يشدخه تحت قدميه، وأن ما أصابت خزاعة وبنو بكر من قريش ففيه الدية، فودوا خمساً و عشرين بدنة وثلاثين حرجاً، وأن يخلوا بين قصي وبين البيت ومكة، فسمي يعمر الشداخ.
ولم يكن بمكة بيت في الحرم، إنما كانوا يكونون بها نهاراً، فإذا أمسوا خرجوا، فلما جمع قصي قريشاً، وكان أدهى من رئي من العرب، أنزل قريشاً الحرم، وجمعهم ليلاً، وأصبح بهم حول الكعبة، فمشت إليه أشراف بني كنانة وقالوا: إن هذا عظيم عند العرب، ولو تركناك ما تركتك العرب. فقال: والله لا أخرج منه، فثبت.
وحضر الحج، فقال لقريش: قد حضر الحج، وقد سمعت العرب ما صنعتم، وهم لكم معظمون، ولا أعلم مكرمة عند العرب أعظم من الطعام، فليخرج كل إنسان منكم من ماله خرجاً! ففعلوا، فجمع من ذلك شيئاً كثيراً، فلما جاء أوائل الحج نحر على كل طريق من طرق مكة جزوراً، ونحر بمكة، وجعل حظيرة، فجعل فيها الطعام من الخبز واللجم، وسقى الماء واللبن، وغدا على البيت، فجعل له مفتاحاً وحجبة، وحال بين خزاعة وبينه، فثبت البيت في يد قصي، ثم بنى داره بمكة، وهي أول دار بنيت بمكة، وهي دار الندوة.
وروى بعضهم أنه لما تزوج قصي إلى حليل بن حبشية الخزاعي حبي ابنته، وولدت له، أوصى حليلاً عند موته بولاية البيت إلى قصي، وقال: إنما ولدك ولدي، وأنت أحق بالبيت، وكانت حبى بنت حليل بن حبشية قد ولدت لقصي بن كلاب، عبد مناف، وعبد الدار، وعبد العزى، وعبد قصي، وقال آخرون: دفع حليل بن حبشية المفتاح إلى أبي غبشان، وهو سليمان ابن عمرو بن بوي بن ملكان بن أفصى بن حارثة بن عمرو بن عامر، فاشتراه قصي منه وولاية البيت بزق خمر وقعود، فقيل: أخس من صفقة أبي غبشان، ووثبت خزاعة، فقالت: لا نرضى بما صنع أبو غبشان، فوقعت بينهم الحرب، فقال بعضهم:
أبو غبشان أظلم من قصي ... وأظلم من بني فهر خزاعة
فلا تلحوا قصياً في شراه ... ولوموا شيخكم إذ كان باعه
فولي قصي البيت وأمر مكة والحكم، وجمع قبائل قريش، فأمر لهم بأبطح مكة، وكان بعضهم في الشعاب ورؤوس الجبال، فقسم منازلهم بينهم، فسمي مجمعاً، وفيهم يقول الشاعر:
أبوكم قصي كان يدعى مجمعاً ... به جمع الله القبائل من فهر
وملكه قومه عليهم، فكان قصي أول من أصاب الملك من ولد كعب بن لؤي، فلما قسم أبطح مكة أرباعاً بين قريش، هابوا أن يقطعوا شجر الحرم ليبنوا منازلهم، فقطعها قصي بيده، ثم استمروا على ذلك.
وكان قصي أول من أعز قريشاً، وظهر به فخرها، ومجدها، وسناها، وتقرشها، فجمعها، و أسكنها مكة، وكانت قبل متفرقة الدار، قليلة العز، ذليلة البقاع، حتى جمع الله ألفتها، وأكرم دارها، وأعز مثواها.
وكانت قريش كلها بالأبطح خلا بني محارب والحارث ابني فهر، ومن بني تيم بن غالب، وهو الأدرم، وبني عامر بن لؤي، فإنهم نزلوا الظواهر، ولما حاز قصي شرف مكة كلها، وقسمها بين قريش، واستقامت له الأمور، ونفى خزاعة، هدم البيت، ثم بناه بنياناً لم يبنه أحد، وكان طول جدرانه تسع أذرع، فجعله ثماني عشرة ذراعاً، وسقفها بخشب الدوم وجريد النخل، وبنى دار الندوة. وكان لا ينكح رجل من قريش، ولا يتشاورون في أمر، ولا يعقدون لواء بالحرب، ولا يعذرون غلاماً، إلا في دار الندوة، وكانت قريش في حياته، وبعد وفاته، يرون أمره كالدين المتبع، وكان أول من حفر بمكة بعد إسماعيل بن إبراهيم، فحفر العجول في أيام حياته، و بعد وفاته، ويقال إنها في دار أم هانىء بنت أبي طالب.
وكان قصي أول من سمي الدابة الفرس، وكانت له دابة يقال لها العقاب السوداء، وكان لقصي من الولد عبد مناف، وكان يدعى القمر، وهو السيد النهر، واسمه المغيرة، وعبد الدار وعبد العزى، وعبد قصي، ويقال إن قصياً قال: سميت اثنين بإلهي، وآخر بداري، وآخر بنفسي. وقسم قصي بين ولده، فجعل السقاية والرئاسة لعبد مناف، والدار لعبد الدار، والرفادة لعبد العزى، وحافتي الوادي لعبد قصي، وقال قصي لولده: من عظم لئيماً شاركه في لؤمه، ومن استحسن مستقبحاً شركه فيه، ومن لم تصلحه كرامتكم، فدلوه بهوانه، فالدواء يحسم الداء. ومات قصي، فدفن بالحجون، ورأس عبد مناف بن قصي، وجل قدره، وعظم شرفه ولما كبر أمر عبد مناف ابنه جاءته خزاعة وبنو الحارث بن عبد مناة بن كنانة يسألونه الحلف ليعزوا به، فعقد بينهم الحلف الذي يقال له حلف الأحابيش، وكان مدبر بني كنانة الذي سأل عبد مناف عقد الحلف: عمرو بن هلل بن معيص بن عامر، وكان تحالف الأحابيش على الركن: يقوم رجل من قريش وآخر من الأحابيش، فيضعان أيديهما على الركن، فيحلفان بالله القاتل، وحرمة هذا البيت، والمقام، والركن، والشهر الحرام على النصر على الخلق جميعاً، حتى يرث الله الأرض ومن عليها، وعلى التعاقد، وعلى التعاون على كل من كادهم من الناس جميعاً ما بل بحر صوفة، وما قام حري وثبير، وما طلعت شمس من مشرقها إلى يوم القيامة، فسمي حلف الأحابيش. فولد عبد مناف بن قصي هاشماً، واسمه عمرو، وكان يقال له عمرو العلى، وسمي هاشماً، لأنه كان يهشم الخبز، ويصب عليه المرق واللحم في سنة شديدة نالت قريشاً، وعبد شمس، والمطلب، ونوفلاً، وأبا عمرو، وحنة، وتماضر، وأم الأخثم، وأم سفيان، وهالة، و قلابة، وأمهم جميعاً، إلا نوفلاً وأبا عمرو: عاتكة بنت مرة بن هلال بن فالج بن ذكوان ابن ثعلبة بن بهثة بن سليم، فولدت له هؤلاء، وهي التي جرت حلف الأحابيش وأم نوفل وأبي عمرو: وافدة بنت أبي عدي، وهو عامر بن عبد نهم من بني عامر بن صعصعة، ويقال إن هاشماً وعبد شمس كانا توأمين، فخرج هاشم، وتلاه عبد شمس، وعقبه ملتصق بعقبه، فقطع بينهما بموسى، فقيل: ليخرجن بين ولد هذين من التقاطع ما لم يكن بين أحد.
وشرف هاشم بعد أبيه، وجل أمره، واصطلحت قريش على أن يولي هاشم بن عبد مناف الرئاسة والسقاية والرفادة فكان إذا حضر الحج قام في قريش خطيباً، فقال: يا معشر قريش! إنكم جيران الله وأهل بيته الحرام، وأنه يأتيكم في هذا الموسم زوار الله يعظمون حرمة بيته، فهم أضياف الله، وأحق الضيف بالكرامة ضيفه، وقد خيركم الله بذلك، وأكرمكم به، ثم حفظ منكم أفضل ما حفظ جار من جاره، فأكرموا ضيفه وزواره، فإنهم يأتون شعثاً غبراً من كل بلد على ضوامر كالقداح، وقد أعيوا وتفلوا، وقملوا، وأرملوا، فأقروهم، وأغنوهم! فكانت قريش ترافد على ذلك.
وكان هاشم يخرج مالاً كثيراً، ويأمر بحياض من أدم، فتجعل في موضع زمزم، ثم يسقى فيها من الآبار التي بمكة، فيشرب منها الحاج، وكان يطعمهم بمكة ومنى وعرفة وجمع، وكان يثرد لهم الخبز واللحم والسمن والسويق، ويحمل لهم المياه، حتى يتفرق الناس إلى بلادهم، فسمي هاشماً.
وكان أول من سن الرحلتين: رحلة الشتاء إلى الشام ورحلة الصيف إلى الحبشة إلى النجاشي، وذلك أن تجارة قريش لا تعدو مكة، فكانوا في ضيق، حتى ركب هاشم إلى الشام، فنزل بقيصر، فكان يذبح في كل يوم شاة، ويضع جفنة بين يديه، ويدعو من حواليه.
وكان من أحسن الناس وأجملهم، فذكر لقيصر، فأرسل إليه، فلما رآه، وسمع كلامه، أعجبه، وجعل يرسل إليه، فقال هاشم: أيها الملك إن لي قوماً، وهم تجار العرب، فتكتب لهم كتاباً يؤمنهم ويؤمن تجاراتهم، حتى يأتوا بما يستطرف من أدم الحجاز وثيابه، ففعل قيصر ذلك، وانصرف هاشم، فجعل كلما مر بحي من العرب أخذ من أشرافهم الإيلاف أن يأمنوا عندهم وفي أرضهم، فأخذوا الإيلاف من مكة والشام.
قال الأسود بن شعر الكلبي: كنت عسيفاً لعقيله من عقائل الحي اركب الصعبة والذلول، لا أليق مطرحاً من البلاد أرتجي فيه ربحاً من الأموال، إلا يرغب إليه من الشام بخرثيه، وأثاثه، أريد كبة العرب، فعدت، ودهم الموسم فدفعت إليها مسدفاً، فحبست الركاب، حتى انجلى عني قميص الليل، فإذا قباب سامية مضروبة من أدم الطائف، وإذا جزر تنحر وأخرى تساق وأكله وجبنه على الظهار إلا عجلوا ! فبهرني ما رأيت، فتقدمت أريد عميدهم، وعرف رجل شأني، فقال: إمامك! فدنوت، فإذا رجل على عرش سام تحته نمرقة قد كار عمامة سوداء، واخرج من ملاثمها جمة فينانه، كان الشعرى تطلع من جبينه، وفي يده مخصرة، وحوله مشيخة جله منكسو الأذقان، ما منهم أحد يفيض بكلمة، ودونهم خدم مشمرون إلى أنصاف، وإذا برجل مجهر على نشز من الأرض ينادي: يا وفد الله، هلموا الغداء! وانسيان على طريق من طعم يناديان: يا وفد الله! من تغدى فليرجع إلى العشاء! وقد كان نمى إلى من حبر من أحبار اليهود: إن النبي الأمي هذا أوان توكفه، فقلت: لأعرف ما عنده، يا نبي الله! فقال: مه، وكان قد له، فقلت لرجل كان إلى جانبي: من هذا؟ فقال: أبو نضلة هاشم بن عبد مناف، فخرجت، وأنا أقول: هذا والله المجد لا مجد آل جفنة، ومر مطرود بن كعب الخزاعي برجل مجاور في بني هاشم، وبنات له وامرأة في سنة شديدة، فخرج يحمل متاعه ورحله هو وولده وامرأته لا يؤويه أحد، فقال مطرود الخزاعي:
يا أيها الرجل المحول رحله ... هلا نزلت بآل عبد مناف؟
هبلتك أمك لو حللت بدارهم ... ضمنوك من جوع ومن إقراف
عمرو العلى هشم الثريد لقومه ... ورجال مكة مسنتون عجاف
نسبوا إليه الرحلتين كليهما ... عند الشتاء ورحلة الأصياف
الآخذون العهد في آفاقها ... والراحلون لرحلة الإيلاف
وخرج هاشم بتجارات عظيمة يريد الشام، فجعل يمر بأشراف العرب، فيحمل لهم التجارات، ولا يلزمهم لها مؤونة، حتى صار إلى غزة، فتوفي بها ولما هلك هاشم بن عبد مناف جزعت قريش، وخافت أن تغلبها العرب، فخرج عبد شمس إلى النجاشي ملك الحبشة فجدد بينه وبينه العهد، ثم انصرف، فلم يلبث أن مات بمكة، ودفن بالحجون، وخرج نوفل إلى العراق، وأخذ عهدا من كسرى، ثم أقبل، فمات بموضع يقال له سلمان، وقام بأمر مكة المطلب بن عبد مناف. وكان لهاشم من الولد عبد المطلب، والشفاء، وأمهما سلمى بنت عمرو بن زيد بن خداش بن عامر بن غنم بن عدي بن النجار، واسم النجار تيم الله بن ثعلبة بن عمرو بن الخزرج، ونضلة ابن هاشم وأمه أميمة بنت عدي بن عبد الله، وأسد أبو فاطمة بنت أسد أم علي بن أبي طالب، وأمه قيلة بنت عامر ابن مالك بن المطلب، وأبو صيفي انقرض نسله، إلا من رقيقة بنت أبي صيفي، وصيفي درج صغيراً، وأمهما هند بنت عمرو بن ثعلبة بن الخزرج، وضعيفة وخالدة، وأمهما واقده بنت أبي عدي، وحنة بنت هاشم، وأمها أم عدي بنت حبيب بن الحارث الثقفية. وكان هاشم لما أراد الخروج إلى الشام حمل امرأته سلمى بنت عمرو إلى المدينة لتكون عند أبيها وأهلها، ومعه ابنه عبد المطلب، فلما توفي أقامت بالمدينة.
وكان المطلب بن عبد مناف قد قام بأمر مكة بعد أخيه هاشم، فلما كبر عبد المطلب بلغ المطلب مكانه ووصف له حاله، ومر رجل من تهامة بالمدينة، فإذا غلمان يتناضلون، وإذا غلام فيهم
إذا أصاب قال: أنا ابن هاشم، أنا ابن سيد البطحاء! فقال له الرجل: من أنت يا غلام؟ قال: أنا شيبة بن هاشم بن عبد مناف فانصرف الرجل، حتى قدم مكة فوجد المطلب بن عبد مناف جالساً في الحجر، فقال: يا أبا الحارث، علمت أني جئت من يثرب، فوجدت غلماناً يتناضلون. وقص عليه ما رأى من عبد المطلب قال: و إذا أظرف غلام ما رأيته قط. قال المطلب: أغفلته، أما والله لا أرجع إلى أهلي حتى آتيه! فخرج المطلب حتى أتى المدينة عشاء، ثم خرج على راحلته حتى أتى بني عدي بن النجار، فلما نظر إلى ابن أخيه قال: هذا ابن هاشم؟ قال القوم: نعم! وعرف القوم المطلب، قالوا: هذا ابن أخيك، فإن أردت أخذه الساعة لا تعلم أمه، فإنها إن علمت حلنا بينك وبينه. فأناخ راحلته، ثم دعاه: يا ابن أخي! أنا عمك وقد أردت الذهاب بك إلى قومك، فاركب! فما كذب عبد المطلب أن جلس على عجز الراحلة، وجلس المطلب على الرحل، ثم بعثها، فانطلقت، فلما علمت أمه علقت تدعو حربها، فأخبرت أن عمه ذهب به.
ودخل المطلب مكة، وهو خلفه، والناس في أسواقهم ومجالسهم، فقاموا يرحبون به، ويحيونه، ويقولون: من هذا معك؟ فيقول: عبدي ابتعته بيثرب، ثم خرج حتى أتى الحزورة، فابتاع له حلة، ثم أدخله على امرأته خديجة بنت سعيد بن سهم، فلما كان العشي ألبسه، ثم جلس في مجلس بني عبد مناف، وأخبرهم خبره، وجعل بعد ذلك يخرج في تلك الحلة، فيطوف في سكك مكة، وكان أحسن الناس، فتقول قريش: هذا عبد المطلب! فلج اسمه عبد المطلب، وترك شيبة. ولما حضر رحيل المطلب إلى اليمن قال لعبد المطلب: أنت يا ابن أخي أولى بموضع أبيك، فقم بأمر مكة. فقام مقام المطلب، فتوفي المطلب في سفره ذلك بردمان، فقام عبد المطلب بأمر مكة، وشرف وساد، وأطعم الطعام، وسقى اللبن والعسل، حتى علا اسمه، وظهر فضله، وأقرت له قريش بالشرف، فلم يزل كذلك.
قال محمد بن الحسن: لما تكامل لعبد المطلب مجده وأقرت له قريش بالفضل، رأى، وهو نائم في الحجر، آتيا أتاه، فقال له: قم يا أبا البطحاء، واحفر زمزم حفيرة الشيخ الأعظم. فاستيقظ، فقال: اللهم بين لي في المنام مرة أخرى، فرآه يقول: قم فاحفر برة! قال: وما برة؟ قال: مضنة ضن بها على العالمين، وأعطيتها، ثم رأى قائلا يقول له: قم يا أبا الحارث، فاحفر زمزم لا تنزف ولا تذم، تروى الحج الأعظم، ثم رأى ثالثة: قم فاحفر! قال: وما أحفر؟ قال: احفر بين الفرث والدم عند مبحث الغراب الأعصم وقرية النمل، فإذا أبصرت الماء، فقل: هلم إلى الماء الروا، أعطيته على رغم العدا فلما استيقن عبد المطلب أنه قد صدق جلس عند البيت مفكرا في أمره، وذبحت بقرة بالحزورة، فأفلتت، وأقبلت تسعى، حتى طرحت نفسها موضع زمزم، فسلخت هناك، وقسم لحمها، وبقي الفرث والدم، فقال عبد المطلب: الله أكبر! ثم سعى لينظر، فإذا قرية نمل مجتمع في الأرض، فانطلق، فأتى بمعول، وابنه الحارث وحيده، فاجتمعت إليه قريش فقالوا: ما هذه؟ قال: أمرني ربي أن أحفر ما يروي الحجيج الأعظم! فقالوا له: أمر ربك بالجهل، لم لا تحفر في مسجدنا؟ قال: بذلك أمرني ربي. فلم يحفر إلا قليلاً، حتى بدا الطي، فكبر، واجتمعت قريش، فعلمت لما رأت الطي أنه قد صدق، وليس له من الولد يومئذ إلا الحارث، فلما رأى وحدته قال: اللهم! إن لك علي نذراً، إن وهبت لي عشرة ذكوراً، أن أنحر لك أحدهم وحفر حتى وجد سيوفاً، وسلاحاً، وغزالاً من ذهب مقرطاً، مجزعاً، ذهباً وفضة، فلما رأت قريش ذلك قالوا: يا أبا الحارث من فوق الأرض ومن تحتها، فأعطنا هذا المال الذي أعطاك الله، فإنها بئر أبينا إسماعيل، فأشركنا معك! فقال: إني لم أؤمر بالمال إنما أمرت بالماء، فأمهلوني! فلم يزل يحفر حتى بدا الماء، فكثر، ثم قال: بحرها لا تنزف، وبنى عليها حوضاً وملأه ماء، ونادى: هلم إلى الماء الروا، أعطيته على رغم العدا. وكانت قريش تفسد ذلك الحوض وتكسره، فرأى في المنام: أن قم، فقل: اللهم! إني لا أحله لمغتسل، ولكن لشارب حل، فقام عبد المطلب، فقال ذلك، فلم يكن يفسد ذلك الحوض أحد إلا رمي بداء من ساعته، فتركوه.
ولما استقام له الماء دعا ستة قداح، فجعل لله قدحين أسودين، وجعل للكعبة قدحين أبيضين، وجعل لقريش قدحين أحمرين، ثم أخذها بيده، واستقبل الكعبة، ثم أفاض، وهو يقول:
يا رب أنت الأحد الفرد الصمد ... إن شئت ألهمت الصواب والرشد
وزدت في المال، وأكثرت الولد ... إني مولاك على رغم معد
ثم ضرب فخرج الأسودان لله، فقال قال ربكم: هو مالي، ثم أفاض، وهو يقول:
لهم أنت الملك المحمود ... وأنت ربي المبدىء المعيد
من عندك الطارف والتليد ... إن شئت ألهمت بما تريد
فخرج الأبيضان للكعبة، فقال: أخبرني ربي أن المال كله له، فحلى به الكعبة، وجعله صفائح على باب الكعبة، وكان أول من حلي الكعبة.
ولما رأت قريش ما أعطيه نفست ذلك عليه، فقالت: أنا لشركاء معك لأنها بئر أبينا إسماعيل، فقال: هذا شيء خصصت به دونكم، فنافروه إلى كاهنة بني سعد، فقضت له عليهم.
وروى بعضهم أن ماء عبد المطلب نفد في الطريق ومياه القوم، فخافوا الهلكة، فقال عبد المطلب: ليحفر كل رجل منا لنفسه حفيراً، ثم ليقعد فيه، حتى يأتيه الموت، ففعلوا، ثم قال: إن إلقاءنا بأيدينا لعجز، فلو ركبنا وطلبنا الماء! فلما استوى على راحلته انفجرت تحت صدرها عين ماء، فقال: ردوا الماء! فقالوا: لقد قضى لك الله علينا، ولا حاجة في أن نناوئك، فانصرفوا.
ولما رأت قريش أن عبد المطلب قد حاز الفخر طلبت أن يحالف بعضها بعضاً ليعزوا، وكان أول من طلب ذلك بنو عبد الدار لما رأت حال عبد المطلب، فمشت بنو عبد الدار إلى بني سهم، فقالوا: امنعونا من بني عبد مناف! فلما رأى ذلك بنو عبد مناف اجتمعوا، خلا بني عبد شمس، فإن الزبيري قال: لم يكن ولد عبد شمس في حلف المطيبين، ولا ولد عبد مناف، وإنما كان فيهم هاشم، وبنو المطلب، وبنو نوفل، وقال آخرون: كانت بنو عبد شمس معهم، فأخرجت لهم أم حكيم البيضاء بنت عبد المطلب طيباً في جفنة، ثم وضعتها في الحجر، فتطيب بنو عبد مناف، وأسد، وزهرة، وبنو تيم، وبنو الحارث بن فهر، فسموا حلف المطيبين، فلما سمعت بذلك بنو سهم ذبحوا بقرة، وقالوا: من أدخل يده في دمها ولعق منه، فهو منا! فأدخلت أيديها بنو سهم، وبنو عبد الدار، وبنو جمح، وبنو عدي، وبنو مخزوم، فسموا اللعقة، وكان تحالف المطيبين ألا يتخاذلوا، ولا يسلم بعضهم بعضاً، وقالت اللعقة: قد أعتدنا لكل قبيلة قبيلة.
وكان عبد المطلب لما حفر زمزم صار إلى الطائف فاحتفر بها بئرا يقال لها ذو الهرم، فكان يأتي أحياناً، فيقيم بذلك الماء، فأتى مرة، فوجد به حيين من قيس عيلان، وهم بنو كلاب، وبنو الرباب، فقال عبد المطلب: الماء مائي، وأنا أحق به، وقال القيسيون: الماء ماؤنا، ونحن أحق به. قال: فإني أنافركم إلى من شئتم يحكم بيني وبينكم، فنافروه إلى سطيح الغساني، وكان كاهن العرب يتنافرون إليه، فتعاهد القوم وتعاقدوا على أن سطيحاً إن قضى بالماء لعبد المطلب، فعلى كلاب وبني الرباب مائة من الإبل لعبد المطلب، وعشرون لسطيح، وإن قضى سطيح بالماء للحيين، فعلى عبد المطلب مائة من الإبل للقوم، وعشرون لسطيح، فانطلقوا، وانطلق عبد المطلب بعشرة نفر من قريش، فيهم حرب بن أمية، فجعل عبد المطلب لا ينزل منزلاً إلا نحر جزورا وأطعم الناس، فقال القيسيون: إن هذا الرجل عظيم الشأن، جليل القدر، شريف الفعل، وإنا نخشى أن يطمع حاكمنا بهذا، فيقضي له بالماء، فانظروا لا نرضى بقول سطيح حتى نخبىء له خبأ، فإن أخبرنا ما هو رضينا بحكمه، وإلا لم نرض به.
فبينا عبد المطلب في بعض الطريق إذ فنى ماؤه وماء أصحابه، فاستسقى القيسيين من فضل مائهم، فأبوا أن يسقوهم، وقالوا: أنتم الذين تخاصموننا وتنازعوننا في مائنا، والله لا نسقيكم! فقال عبد المطلب: أيهلك عشرة من قريش، وأنا حي؟ لأطلبن لهم الماء، حتى ينقطع خيط
عنقي، وأبلي عذراً، فركب راحلته، وأخذ الفلاة، فبينا هو فيها، إذ بركت راحلته وبصر به القوم، فقالوا: هلك عبد المطلب! فقال القرشيون: كلا والله لهو أكرم على الله من أن يهلكه، وإنما مضى لصلة الرحم، فانتهوا إليه، وراحلته تفحص بكركرتها على ماء عذب، روي، قد ساح على ظهر الأرض، فلما رأى القيسيون ذلك أهرقوا أسقيتهم، وأقبلوا نحوهم ليأخذوا من الماء، فقال القرشيون: كلا والله، ألستم الذين منعتمونا فضل مائكم؟ فقال عبد المطلب: خلوا القوم، فإن الماء لا يمنع! فقال القيسيون: هذا رجل شريف سيد، وقد خشينا أن يقضي له علينا، فلما وصلوا إلى سطيح قالوا: إنا قد خبأنا لك خبأ، وأخذ إنسان منهم تمرة في يده فقال: فأخبرنا ما هو؟ فقال: خبأتم لي ما طال، فسمك، ثم أينع، فما هلك، ألق التمرة من يدك! فقالوا: قاتله الله! اخبئوا له خبأ هو أخفى منه، فأخذ إنسان جرادة، فقالوا له: إنا قد خبأنا لك خبأ، فأخبرنا ما هو؟ قال: خبأتم لي ما رجله كالمنشار، وعينه كالدينار، قالوا: إي. قال: ما طار، فسطع، ثم قبض، فوقع، فترك الصيد أنفع. قالوا: ما له، قاتله الله؟ اخبئوا له خبأ هو أخفى من هذا! فأخذوا رأس جرادة، فجعلوه في خرز مزادة، ثم علقوه في عنق كلب لهم يقال له سوار، ثم ضربوه حتى ذهب، ثم رجع على الطريق، فقالوا: قد خبأنا لك خبأ، فأخبرنا ما هو؟ قال: خبأتم لي رأس جرادة، في خرز مزادة، بين عنق سوار والقلادة. قالوا: اقض بيننا! قال: قد قضيت. اختصمتم أنتم وعبد المطلب في ماء بالطائف يقال له ذو الهرم، فالماء ماء عبد المطلب، ولا حق لكم فيه، فأدوا إلى عبد المطلب مائة من الإبل، وإلى سطيح عشرين، ففعلوا.
وانطلق عبد المطلب ينحر ويطعم، حتى دخل مكة، فنادى مناديه: يا معشر أهل مكة! إن عبد المطلب يسألكم بالرحم، لما قام كل رجل منكم حدثته نفسه أن يغنيني عن هذا الغرم، فأخذ مثل ما حدثته نفسه. فقاموا، وأخذوا من بعير واثنين وثلاثة على قدر ما حدثت كل امرىء منهم نفسه، وفضلت بعد ذلك جزائر، فقال عبد المطلب لابنه أبي طالب: أي بني! قد أطعمت الناس، فانطلق بهذه الجزائر، فانحرها على أبي قبيس، حتى يأكلها الطير والسباع، ففعل أبو طالب ذلك، فأصابها الطير والسباع. قال أبو طالب:
ونطعم حتى يأكل الطير فضلنا ... إذا جعلت أيدي المفيضين ترعد
قال أبو إسحاق وغيره من أهل العلم: تزوج عبد المطلب النساء، فولد له الأولاد، ولما كمل عشرة رهط قال: اللهم إني قد كنت نذرت لك نحر أحدهم، وإني أقرع بينهم، فأصب بذلك من شئت. فأقرع فصارت القرعة على عبد الله بن عبد المطلب، وكان أحب ولده إليه، وكان ولده العشرة الحارث، وبه يكنى، وقثم وأمهما صفية بنت جندب من ولد عامر بن صعصعة، والزبير، وأبو طالب، وعبد الله والمقوم، وهو عبد الكعبة، وأم الأربعة فاطمة بنت عمرو بن عائذ بن عمران بن مخزوم، وحمزة وأمه هالة بنت أهيب ابن عبد مناف بن زهرة، والعباس، وضرار وأمهما نتيلة بنت جناب بن كليب بن النمر بن قاسط، وأبو لهب، وهو عبد العزى، و أمه لبني بنت هاجر بن عبد مناف بن ضاطر الخزاعي، والغيداق، وهو جحل، وأمه ممنعة بنت عمرو بن مالك بن نوفل الخزاعي، وكانت بناته ستاً: أم حكيم البيضاء، وعاتكة، وبرة، وأروا وأميمة وأمهن جميعاً فاطمة بنت عمرو بن عائذ بن عمران بن مخزوم، وصفية وأمها هالة بنت أهيب، فانطلق عبد المطلب بعبد الله ليذبحه، وأخذ الشفرة، وأتبعه ابنه الحارث، فلما سمعت ذلك قريش لحقته، وقالت: يا أبا الحارث! إنك إن فعلت ذلك صارت سنة في قومك، ولم يزل الرجل يأتي بولده إلى ههنا ليذبحه، فقال: إني عاهدت ربي، وإني موف له بما عاهدته. فقال له بعضهم: افده! فقام، وهو يقول:
عاهدت ربي، وأنا موفٍ عهده ... أخاف ربي إن تركت وعده
والله لا يحمد شيء حمده
ثم أحضر مائة من الإبل، فضرب بالقداح عليها، وعلى عبد الله، فخرجت على الإبل، فكبر الناس، وقالوا: قد رضي ربك! فقال عبد المطلب:
لهم رب البلد المحرم ... الطيب، المبارك، المعظم
أنت الذي أعنتني في زمزم
ثم قال: إني معيد القداح، فأعادها، فخرجت على الإبل، فقال:
لهم قد أعطيتني سؤالي ... أكثرت بعد قلةٍ عيالي
فاجعل فداه اليوم جل مالي
ثم ضرب بالقداح ثالثة، فخرجت على الإبل، فنحرها، ونادى مناديه: ألا فخذوا لحمها! وانصرف عنها، ووثب الناس يأخذونها، فلذلك يقول مرة بن خلف الفهمي:
كما قسمت نهباً ديات ابن هاشم ... ببطحاء بسل حيث يعتصب البرك
وصارت الدية من الإبل على ما سن عبد المطلب ولما قدم أبرهة ملك الحبشة صاحب الفيل مكة ليهدم الكعبة تهاربت قريش في رؤوس الجبال، فقال عبد المطلب: لو اجتمعنا، فدفعنا هذا الجيش عن بيت الله؟ فقالت قريش: لا بد لنا به! فأقام عبد المطلب في الحرم، وقال: لا أبرح من حرم الله، ولا أعوذ بغير الله، فأخذ أصحاب أبرهة إبلاً لعبد المطلب، وصار عبد المطلب إلى أبرهة، فلما استأذن عليه قيل له: قد أتاك سيد العرب، وعظيم قريش وشريف الناس، فلما دخل عليه أعظمه أبرهة، وجل في قلبه لما رأى من جماله، وكماله، ونبله، فقال لترجمانه: قل له: سل ما بدا لك! فقال: إبلاً لي أخذها أصحابك، فقال: لقد رأيتك، فأجللتك، وأعظمتك، وقد تراني حيث نهدم مكرمتك وشرفك، فلم تسألني الانصراف، وتكلمني في إبلك؟ فقال عبد المطلب: أنا رب هذه الإبل، ولهذا البيت الذي زعمت أنك تريد هدمه رب يمنعك منه. فرد الإبل، وداخله ذعر لكلام عبد المطلب، فلما انصرف جمع ولده ومن معه، ثم جاء إلى باب الكعبة، فتعلق به وقال:
لهم! إن تعف فإنهم عيالك ... إلا فشيء ما بدا لك
ثم انصرف وهو يقول:
لهم! إن المرء يمنع رحله فامنع حلالك
لا يغلبن صليبهم ومحالهم عدواً محالك
ولئن فعلت، فإنه أمر تتم به فعالك
وأقام بموضعه، فلما كان من غد بعث ابنه عبد الله ليأتيه بالخبر، ودنا وقد اجتمعت إليه من قريش جماعة ليقاتلوا معه إن أمكنهم ذلك. فأتى عبد الله على فرس شقراء يركض، وقد جردت ركبته، فقال عبد المطلب: قد جاءكم عبد الله بشيراً ونذيراً، والله ما رأيت ركبته قط قبل اليوم، فأخبرهم ما صنع الله بأصحاب الفيل، وقال عبد المطلب لما كان من أصحاب الفيل ما كان:
أيها الداعي لقد أسمعتني ... ثم ناد، عن نداكم، من صمم
هل يد الله أمر، أم له ... سنة في القوم ليست في الأمم
قلت، والأشرم تردي خيله: ... إن ذا الأشرم غر بالحرم
إن للبيت لرباً مانعاً ... من يرده بأثام يصطلم
رامه تبع، فيما قد مضى ... و كذا حمير، والحي قدم
فانثنى عنه، وفي أوداجه ... حارج أمسك منه بالكظم
هلكت بالبغي فيه جرهم ... بعد طسم، وجديس، وجمم
وكذا الأمر بمن كاده بحر ... ب، فأمر الله بالأمر اللمم
نعرف الله، وفينا سنة ... صلة الرحم، وإيفاء الذمم
لم يزل لله فينا حجة ... يدفع الله بها عنا النقم
نحن أهل الله في بلدته ... لم يزل ذاك على عهد أبرهم
أديان العربوكانت أديان العرب مختلفة بالمجاورات لأهل الملل، والانتقال إلى البلدان، والانتجاعات، فكانت قريش، وعامة ولد معد بن عدنان، على بعض دين إبراهيم، يحجون البيت، ويقيمون المناسك، ويقرون الضيف، ويعظمون الأشهر الحرم، وينكرون الفواحش والتقاطع والتظالم، ويعاقبون على الجرائم، فلم يزالوا على ذلك ما كانوا ولاة البيت.
وكان آخر من قام بولاية البيت الحرام من ولد معد: ثعلبة بن أياد بن نزار بن معد، فلما خرجت أياد وليت خزاعة حجابه البيت، فغيروا ما كان عليه الأمر في المناسك، حتى كانوا يفيضون من عرفات قبل الغروب، ومن جمع بعد أن تطلع الشمس. وخرج عمرو بن لحي، واسم لحي ربيعة بن حارثة بن عمرو بن عامر، إلى أرض الشام، وبها قوم من العمالقة يعبدون الأصنام، فقال لهم: ما هذه الأوثان التي أراكم تعبدون؟ قالوا: هذه أصنام نعبدها، نستنصرها، فننصر، ونستسقي بها، فنسقى، فقال: ألا تعطونني منها صنما، فأسير به إلى
أرض العرب، عند بيت الله الذي تفد إليه العرب؟ فأعطوه صنماً يقال له هبل، فقدم به مكة، فوضعه عند الكعبة، فكان أول صنم وضع بمكة، ثم وضعوا به إساف ونائلة كل واحد منهما على ركن من أركان البيت، فكان الطائف، إذا طاف، بدأ بإساف، فقبله، وختم به، ونصبوا على الصفا صنما يقال له مجاور الريح، وعلى المروة صنما يقال له مطعم الطير، فكانت العرب إذا حجت البيت، فرأت تلك الأصنام، سألت قريشا وخزاعة، فيقولون: نعبدها لتقربنا إلى الله زلفى، فلما رأت العرب ذلك اتخذت أصناماً، فجعلت كل قبيلة لها صنماً يصلون له تقرباً إلى الله، فيما يقولون، فكان لكلب بن وبرة وأحياء قضاعة ود منصوبا بدومة الجندل، بجرش، وكان لحمير وهمدان نسر منصوباً بصنعاء، وكان لكنانة سواع، وكان لغطفان العزى، وكان لهند وبجيلة وخثعم ذو الخلصة، وكان لطيء الفلس منصوباً بالحبس، وكان لربيعة وأياد ذو الكعبات بسنداد، من أرض العراق، وكان لثقيف اللات منصوباً بالطائف، وكان للأوس والخزرج مناة منصوبا بفدك، مما يلي ساحل البحر، وكان لدوس صنم يقال له ذو الكفين، ولبني بكر بن كنانة صنم يقال له سعد، وكان لقوم من عذرة صنم يقال له شمس، وكان للأزد صنم يقال له رئام، فكانت العرب، إذا أرادت حج البيت الحرام، وقفت كل قبيلة عند صنمها، وصلوا عنده، ثم تلبوا حتى تقدموا مكة، فكانت تلبياتهم مختلفة.
وكانت تلبية قريش: لبيك، اللهم، لبيك! لبيك لا شريك لك، تملكه، وما ملك.
وكانت تلبية كنانة: لبيك اللهم لبيك! اليوم يوم التعريف، يوم الدعاء والوقوف.
وكانت تلبية بني أسد: لبيك اللهم لبيك! يا رب أقبلت بنو أسد أهل التواني والوفاء والجلد إليك. وكانت تلبية بني تميم: لبيك اللهم لبيك! لبيك لبيك عن تميم قد تراها قد أخلقت أثوابها وأثواب من وراءها، وأخلصت لربها دعاءها.
وكانت تلبية قيس عيلان: لبيك اللهم لبيك! لبيك أنت الرحمن، أتتك قيس عيلان راجلها والركبان.
وكانت تلبية ثقيف: لبيك اللهم! إن ثقيفاً قد أتوك وأخلفوا المال، وقد رجوك. وكانت تلبية هذيل: لبيك عن هذيل قد أدلجوا بليل في إبل وخيل.
وكانت تلبية ربيعة: لبيك ربنا لبيك لبيك! إن قصدنا إليك، وبعضهم يقول: لبيك عن ربيعة، سامعة لربها مطيعة.
وكانت حمير وهمدان يقولون: لبيك عن حمير وهمدان، والحليفين من حاشد وألهان.
وكانت تلبية الأزد: لبيك رب الأرباب! تعلم فصل الخطاب، لملك كل مثاب.
وكانت تلبية مذحج: لبيك رب الشعرى، ورب اللات والعزى.
وكانت تلبية كندة وحضرموت: لبيك لا شريك لك! تملكه، أو تهلكه، أنت حكيم فاتركه.
وكانت تلبية غسان: لبيك رب غسان راجلها والفرسان.
وكانت تلبية بجيلة: لبيك عن بجيلة في بارق ومخيلة.
وكانت تلبية قضاعة: لبيك عن قضاعة، لربها دفاعة، سمعاً له وطاعة.
وكانت تلبية جذام: لبيك عن جذام ذي النهى والأحلام.
وكانت تلبية عك والأشعريين: نحج للرحمن بيتاً عجباً، مستتراً، مضبباً، محجباً.
وكانت العرب في أديانهم على صنفين: الحمس والحلة، فأما الحمس، فقريش كلها، وأما الحلة، فخزاعة لنزولها مكة ومجاورتها قريشاً، وكانوا يشددون على أنفسهم في دينهم، فإذا نسكوا لم يسلاوا سمناً، ولم يدخروا لبناً، ولم يحولوا بين مرضعة ورضاعها، حتى يعافه، ولم يحزوا شعراً، ولا ظفراً، ولم يدهنوا، ولم يمسوا النساء ولا الطيب، ولم يأكلوا لحما، ولم يلبسوا في حجهم وبراً ولا صوفاً ولا شعراً، ويلبسون جديداً، ويطوفون بالبيت في نعالهم لا يطأون أرض المسجد تعظيماً له، ولا يدخلون البيوت من أبوابها، ولا يخرجون إلى عرفات، ويلزمون مزدلفة ويسكنون في حال نسكهم قباب الأدم.
وكان الحلة، وهي تميم، وضبة، ومزينة، والرباب، وعكل وثور، وقيس عيلان، كلها، ما خلا عدوان وثقيفاً، وعامر بن صعصعة، وربيعة ابن نزار كلها، وقضاعة، وحضرموت، وعك، و قبائل من الأزد لا يحرمون الصيد في النسك، ويلبسون كل الثياب، ويسلأون السمن، ولا يدخلون من باب بيت ولا دار، ولا يؤويهم ما داموا محرمين، وكانوا يدهنون ويتطيبون، ويأكلون اللحم، فإذا دخلوا مكة، بعد فراغهم، نزعوا ثيابهم التي كانت عليهم، فإن قدروا على أن يلبسوا ثياب الحمس كراء أو عارية فعلوا وإلا طافوا بالبيت عراة، وكانوا لا يشترون في حجهم، ولا يبيعون، فهاتان الشريعتان اللتان كانت العرب عليهما.
ثم دخل قوم من العرب في دين اليهود، وفارقوا هذا الدين، ودخل آخرون في النصرانية، وتزندق منهم قوم، فقالوا بالثنوية، فأما من تهود منهم، فاليمن بأسرها، كان تبع حمل حبرين من أحبار اليهود إلى اليمن، فأبطل الأوثان، وتهود من باليمن، وتهود قوم من الأوس والخزرج، بعد خروجهم من اليمن، لمجاورتهم يهود خيبر، وقريظة، والنضير، وتهود قوم من بني الحارث بن كعب، وقوم من غسان، وقوم من جذام.
وأما من تنصر من أحياء العرب، فقوم من قريش من بني أسد بن عبد العزى، منهم: عثمان بن الحويرث بن أسد بن عبد العزى، وورقة بن نوفل بن أسد، ومن بني تميم بنو امرىء القيس بن زيد مناة، ومن ربيعة بنو تغلب، ومن اليمن طيء، ومذحج، وبهراء، وسليح، وتنوخ، وغسان، ولخم، وتزندق حجر بن عمرو الكندي.
حكام للعربوكان للعرب حكام ترجع إليها في أمورها، وتتحاكم في منافراتها، ومواريثها، ومياهها، ودمائها، لأنه لم يكن دين يرجع إلى شرائعه، فكانوا يحكمون أهل الشرف، والصدق، والأمانة والرئاسة، والسن، والمجد، والتجربة.
وكان أول من استقضى إليه، فحكم: الأفعى بن الأفعى الجرهمي، وهو الذي حكم بين بني نزار في ميراثهم، ثم سليمان بن نوفل، ثم معاوية بن عروة، ثم سخر بن يعمر بن نفاثة بن عدي بن الدئل، ثم الشداخ، وهو يعمر ابن عوف بن كعب بن عامر بن ليث بن بكر بن عبد مناة بن كنانة، وسويد بن ربيعة بن حذار بن مرة بن الحارث بن سعد، ومخاشن بن معاوية بن شريف ابن جروة بن أسيد بن عمرو بن تميم، وكان يجلس على سرير من خشب، فسمي ذا الأعواد، وأكثم بن صيفي بن رباح بن الحارث بن مخاشن، وعامر بن الظرب بن عمرو بن عياذ بن يشكر بن عدوان بن عمرو بن قيس، وهرم بن قطبة بن سيار الفزاري، وغيلان بن سلمة بن معتب الثقفي، وسنان ابن أبي حارثة المري، والحارث بن عباد بن ضبيعة بن قيس بن ثعلبة، وعامر الضحيان بن الضحاك بن النمر بن قاسط، والجعد بن صبرة الشيباني، ووكيع ابن سلمة ابن زهير الأيادي، وهو صاحب الصرح بالحزورة، وقس بن ساعدة الأيادي، وحنظلة ابن نهد القضاعي، وعمرو بن حممة الدوسي.
وكان في قريش حكام منهم: عبد المطلب، وحرب بن أمية، والزبير ابن عبد المطلب، وعبد الله بن جدعان، والوليد بن المغيرة المخزومي.
أزلام العربوكانت العرب تستقسم بالأزلام في كل أمورها، وهي القداح، ولا يكون لها سفر ولا مقام، ولا نكاح، ولا معرفة حال، إلا رجعت إلى القداح، وكانت القداح سبعة: فواحد عليه: الله عز وجل والآخر: لكم، والآخر: عليكم، والآخر: نعم، والآخر: منكم، والآخر: من غيركم، والآخر: الوعد، فكانوا إذا أرادوا أمرا رجعوا إلى القداح، فضربوا بها، ثم عملوا بما يخرج من القداح لا يتعدونه، ولا يجوزونه، وكان لهم أمناء على القداح لا يثقون بغيرهم.
وكانت العرب، إذا كان الشتاء ونالهم القحط، وقلت ألبان الإبل، استعملوا الميسر، وهي الأزلام، و تقامروا عليها، وضربوا بالقداح، وكانت قداح الميسر عشرة: سبعة منها لها أنصب، وثلاثة لا أنصب لها، فالسبعة التي لها أنصب يقال لأولها الفذ، وله جزء، والتوأم، وله جزءان، والرقيب، وله ثلاثة أجزاء، والحلس، وله أربعة أجزاء، والنافس، وله خمسة أجزاء، والمسبل، وله ستة أجزاء، والمعلى، وله سبعة أجزاء، والثلاثة التي لا أنصب لها إغفال ليس عليها اسم يقال لها: المنيح، والسفيح، والوغد.
وكانت الجزور تشترى بما بلغت، ولا ينقد الثمن، ثم يدعي الجزار، فيقسمها عشرة أجزاء، فإذا قسمت أجزاؤها على السواء أخذ الجزار أجزاءه، وهي الرأس والأرجل، وأحضرت القداح العشرة، واجتمع فتيان الحي، فأخذ كل فرقة على قدر حالهم ويسارهم، وقدر احتمالهم، فيأخذ الأول الفذ، وهو الذي فيه نصيب واحد من العشرة أجزاء، فإذا خرج له جزء واحد أخذ من الجزور جزءاً، وإن لم يكن يخرج له غرم ثمن جزء من الجزور، ويأخذ الثاني التوأم، وله نصيبان من أجزاء الجزور، فإن خرج أخذ جزئين من الجزور، وإن لم يخرج غرم ثمن الجزئين.
وكذلك سائر القداح على ما سمينا منها، فما خرج أخذ صاحبه ما فيه، وما لم يخرج غرم ما
فيه من الأجزاء، فإذا عرف كل رجل منهم قدحه دفعوا القداح إلى رجل أخس لا ينظر إليها، معروف أنه لم يأكل لحماً قط بثمن، ويسمى الحرضة، ثم يؤتى بالمجول، وهو ثوب شديد البياض، فيجعل على يده ويعمد إلى السلفة وهي قطعة من جراب، فيعصب بها على كفه لئلا يجد مس قداح يكون له في صاحبه هوى، فيخرجه، ويأتي رجل، فيجلس خلف الحرضة، يسمى الرقيب، ثم يفيض الحرضة بالقداح، فإذا نشز منها قدح استله الحرضة، فلم ينظر إليه حتى يدفعه إلى الرقيب، فينظر لمن هو، فيدفعه لصاحبه، فيأخذ من أجزاء الجزور على نصيبه منها، فإن خرج من الثلاثة الأغفال شيء رد من ساعته، وإن خرج أولاً الفذ أخذ صاحبه نصيبه، وضربوا بباقي القداح على التسعة الأجزاء الآخر، فإن خرج التوأم أخذ صاحبه جزئين، و ضربوا بباقي القداح على الثمانية الأجزاء الآخر، فإن خرج المعلى أخذ صاحبه نصيبه، وهو السبعة الأجزاء التي بقيت، وخرجوا وفقاً، ووقع غرم ثمن الجزور على من خاب سهمه، وهم أربعة: صاحب الرقيب والحلس والنافس والمسبل، ولهذه القداح ثمانية عشر سهماً، فيجزا الثمن على ثمانية عشر جزءاً، وأخذ كل واحد من الغرم مثل الذي كان نصيبه من اللحم لو فاز قدحه، وإن خرج المعلى أول القداح أخذ صاحبه سبعة أجزاء الجزور، وكان الغرم على أصحاب القداح التي خابت، واحتاجوا أن ينحروا جزورا أخرى لأن في قداحهم المسبل، وله ستة أجزاء، ولم يبق من اللحم إلا ثلاثة أجزاء.
ولا ينبغي لمن خاب قدحه في الجزور الأولى أن يأكل منها شيئاً، فإنه يعاب به، فإن نحروا الجزور الثانية، وضربوا عليها القداح، فخرج المسبل، أخذ صاحبه ستة أجزاء الجزور الأخرى: الثلاثة الباقية من الجزور الأولى، وثلاثة أجزاء من الجزور الثانية، ولزمه الغرم في الجزور الأولى، ولم يلزمه في الثانية شيء لأن قدحه قد فاز، وبقي من الجزور الثانية سبعة أجزاء، فيضرب عليها بقداح من بقي، فإن خرج النافس أخذ صاحبه خمسة أجزاء، ولم يغرم من ثمن الجزور الثانية شيئاً، لأن قدحه قد فاز، ولزمه الغرم من الأولى، وبقي جزءان من اللحم.
وفيما بقي من القداح الحلس له أربعة أجزاء، فيحتاجون أن ينحروا جزوراً أخرى لتتمة أربعة، ولا ينبغي لمن خاب قدحه في الجزور الثانية أن يأكل منها شيئاً، لأنه يعاب به، وإن نحروا الجزور الثالثة وفاز الحلس أخذ صاحبه أربعة أجزاء: جزئين من الجزور الثانية، وجزئين من الجزور الثالثة، ولم يغرم من الجزور الثالثة شيئاً لأنه فاز قدحه، ويبقى ثمانية أجزاء من الجزور الثالثة فيضرب بباقي القداح عليها، حتى يخرج قداحهم، وفقاً لاجزاء الجزور، فهذا حساب غرمهم الثمن كما وصفت.
وربما كانت أجزاء اللحم موافقة لاجزاء القداح، فلا يحتاجون إلى نحر شيء إنما تنحر الجزور، إذا قصرت أجزاء اللحم عن بعض القداح، فإن عاد بعض من فاز قدحه ثانية، فخاب غرم من ثمن الجزور التي خاب قدحه منها على هذا الحساب، فإن فضل من أجزاء اللحم شيء، وقد خرجت القداح كلها، كانت تلك الأجزاء لأهل المسكنة من العشيرة، فهذا تفسير الميسر.
وكانوا يفتخرون به ويرون أنه من فعال الكرم والشرف، ولهم في هذا أشعار كثيرة يفتخرون بها.
شعراء العربوكانت العرب تقيم الشعر مقام الحكمة وكثير العلم، فإذا كان في القبيلة الشاعر الماهر، المصيب المعاني، المخير الكلام، أحضروه في أسواقهم التي كانت تقوم لهم في السنة ومواسمهم عند حجهم البيت، حتى تقف وتجتمع القبائل والعشائر، فتسمع شعره، ويجعلون ذلك فخرا من فخرهم، وشرفاً من شرفهم.
ولم يكن لهم شيء يرجعون إليه من أحكامهم وأفعالهم إلا الشعر، فبه كانوا يختصمون، وبه يتمثلون، وبه يتفاضلون، وبه يتقاسمون، وبه يتناضلون، وبه يمدحون ويعابون، فكان ممن قدم شعره في جاهلية العرب على ما أجمعت عليه الرواة وأهل العلم بالشعر، وجاءت به الآثار والأخبار، من شعراء العرب في جاهليتها مع من أدركه الإسلام، فسمي مخضرماً، فإنهم دخلوا مع من تقدم، فسموا الفحول، وقدموا على تقدم أشعارهم في الجودة، فإن كان بعضهم أقدم من بعض وهم على ما بينا من أسمائهم ومراتبهم على الولاء، فأولهم امرؤ القيس بن حجر بن الحارث بن عمرو بن حجر آكل المرار بن معاوية ابن ثور، وهو كندة.
والنابغة الذبياني، وهو زياد بن معاوية بن ضباب بن جابر بن يربوع بن غيظ ابن مرة بن عوف بن سعد بن ذبيان.
وزهير بن أبي سلمى، واسم أبي سلمى ربيعة بن رياح بن قرط بن الحارث بن مازن بن ثعلبة بن ثور بن هذمة بن لاطم بن عثمان بن عمرو بن أد.
والأعشى، وهو أعشى وائل، وهو ميمون بن قيس بن جندل بن شراحيل ابن عوف بن سعد بن ضبيعة بن قيس بن ثعلبة.
وعبيد بن الأبرص بن حنتم بن عامر بن مالك بن زهير بن مالك بن الحارث بن سعد بن ثعلبة ابن دودان بن أسد.
ومهلهل وهو امرؤ القيس بن ربيعة بن الحارث بن زهير بن جشم بن بكر بن حبيب بن عمرو ابن غنم بن تغلب بن وائل.
وعلقمة بن عبدة بن ناشرة بن قيس بن عبد بن ربيعة بن مالك بن زيد مناة بن تميم.
والحارث بن حلزة بن مكروه بن يزيد بن عبد الله بن مالك بن عبد بن سعد ابن جشم بن عامر بن ذبيان بن كنانة بن يشكر بن بكر بن وائل.
وعمرو بن كلثوم بن مالك بن عتاب بن سعد بن زهير بن جشم بن بكر بن حبيب بن عمرو بن غنم بن تغلب بن وائل. وسعد بن مالك بن ضبيعة بن قيس بن ثعلبة بن عكابة بن علي بن بكر ابن وائل.
والأسود بن يعفر بن عبد الأسود بن جندل بن نهشل بن دارم بن مالك بن حنظلة بن مالك بن زيد مناة بن تميم.
وسويد بن أبي كاهل بن حارثة بن حسل بن مالك بن عبد بن سعد بن جشم ابن ذبيان بن كنانة بن يشكر بن بكر بن وائل.
وأوس بن حجر بن مالك بن حزن بن عمرو بن خلف بن نمير بن أسيد بن عمرو بن تميم بن مر.
وذو الإصبع العدواني، وهو حرثان بن حارث بن محرث بن ثعلبة بن سيار بن ربيعة بن هبيرة بن ثعلبة بن ظرب بن عمرو بن عباد بن بكر بن يشكر ابن عدوان، وهو الحارث بن عمرو بن قيس عيلان.
وبشر بن أبي خازم، وهو عمرو بن عوف بن حنش بن ناشرة بن أسامة بن والبة.
وعنترة بن شداد بن معاوية بن نزار بن مخزوم بن مالك بن غالب بن قطيعة بن عبس بن بغيض.
وعبدة بن الطبيب التميمي.
والمتلمس، وهو جرير بن عبد المسيح بن عبد الله بن زيد بن دوفان بن حرب بن وهب بن أحمس بن ضبيعة بن ربيعة بن نزار.
وأبو دؤاد الأيادي وهو حوثرة بن الحارث بن الحجاج.
والمرقش الأكبر وهو عوف، وقيل عمرو بن سعد بن مالك بن ضبيعة ابن قيس بن ثعلبة. والمرقش الأصغر، وهو ربيعة بن معاوية بن سعد بن مالك بن ضبيعة بن قيس بن ثعلبة. والمسيب بن علس بن عمرو بن قضاعة بن عمرو بن زيد بن ثعلبة بن دعدي بن مالك بن جشم بن مالك بن جماعة بن جلي.
وعدي بن زيد بن حماد بن زيد بن أيوب بن محروف بن عامر بن عصية ابن امرىء القيس بن زيد مناة بن تميم.
وسلامة بن جندل بن عبد عمرو بن عبد الحارث، وهو مقاعس بن عمرو بن كعب بن سعد بن زيد مناة بن تميم.
وسحيم بن وثيل بن عمرو بن كرز بن وهيب بن حميري بن رياح ابن يربوع بن حنظلة بن مالك بن زيد مناة بن تميم.
والجميح الأسدي، وهو منقذ بن الطماح بن قيس بن طريف بن عمرو ابن قعين.
وحاتم الطائي، وهو حاتم بن عبد الله بن سعد بن الحشرج بن امرىء القيس ابن عدي بن أخزم بن ربيعة بن جرول بن ثعل بن عمرو بن الغوث.
وطفيل الخيل، وهو طفيل بن عوف بن خليف بن ضبيس بن مالك بن سعد بن عوف بن هلان بن غنم بن غني.
والسفاح، وهو سلمة بن خالد بن كعب بن زهير بن تيم بن أسامة بن مالك بن بكر بن حبيب بن غنم بن تغلب.
وتأبط شراً، وهو ثابت بن جابر بن سفيان بن عدي بن كعب بن فهم بن عمرو بن قيس عيلان. وابن المضلل الأسدي، وهو جلد بن قيس بن مالك بن منقذ بن طريف ابن عمرو بن قعين.
وكعب الأمثال الغنوي، وهو كعب بن سعد بن علقمة بن ربيعة بن زيد ابن أبي مليل بن رفاعة بن مسلم بن سعد.
والحكم بن.
ومروان القرظ بن زنباع بن جذيمة بن رواحة بن قطيعة بن عبس.
ودريد بن الصمة بن الحارث بن بكر بن علقة بن جداعة بن عرف بن جشم بن معاوية بن بكر بن هوازن.
وأمية بن أبي الصلت، وهو عبد الله بن ربيعة بن عقدة بن غيره بن عوف بن قسي وهو ثقيف. والأفوه الأودي، وهو صلاة بن عمرو بن مالك بن عوف بن الحارث بن عوف بن منبه بن أود بن صعب بن سعد العشيرة بن مذحج.
وعمرو بن قمئة بن ذريح بن سعد بن مالك بن ضبيعة بن قيس بن ثعلبة. وضابىء بن الحارث بن أرطأة بن شهاب بن عبيد بن حلول بن قيس بن حنظلة بن مالك.
وخفاف بن ندبة، وندبة هي أمه، وأبوه عمير بن الحارث بن عمرو بن الشريد بن رياح بن يقظة بن عصية بن خفاف بن امرىء القيس بن بهثة بن سليم. والمتنخل الهذلي، وهو مالك بن غنم بن سويد بن حبشي بن خناعة ابن الديل بن عادية بن صعصعة بن كعب بن طابخة بن لحيان بن هذيل.
والذهاب الفحل، وهو مالك بن جندل بن مسلمة بن مجمع بن ضبيعة بن عجل.
وعروة بن الورد بن زيد بن عبد الله بن ناشب بن سفيان بن عوذ بن غالب بن قطيعة بن عبس بن بغيض.
والحارث بن عباد بن ضبيعة بن قيس بن ثعلبة، وهو فارس النعامة.
وأنس بن مدرك بن عمرو بن سعد بن عوف بن العتيك بن حارثة بن عامر ابن تيم الله بن مبشر بن أكلب بن ربيعة بن عفرس بن حلف بن خثعم.
والمنخل بن مسعود بن أفلت بن قطن بن سوادة بن مالك بن ثعلبة بن غنم ابن حبيب بن كعب بن يشكر.
وأشيم بن شراحيل بن عبد رضي بن عبد عوف بن مالك بن ضبيعة بن قيس بن ثعلبة. والحارث بن ظالم بن جذيمة بن يربوع بن غيض بن مرة بن عوف بن سعد ابن ذبيان. وصفوان بن حصين بن مالك بن رفاعة بن سالم بن عبيد بن سعد العنزي.
والسموأل بن عاديا، وهو ينسب إلى غسان، فيقول بعضهم إنه يهودي من سبط يهوذا.
وعمرو بن الأهتم بن سمي بن سنان بن خالد بن منقر بن عبيد بن عمرو ابن كعب بن سعد بن زيد مناة بن تميم.
ومطرود بن كعب بن عرفطة بن النافذ بن مرة بن تيم بن سعد بن كعب بن عمرو بن ربيعة الخزاعي.
وأوس بن غلفاء بن فقتط بن معبد بن عامر بن يمامة.
وحصين بن الحمام بن ربيعة بن حرام بن واثلة بن سهم بن مرة بن عوف ابن سعد بن ذبيان بن عامر بن صعصعة.
والركاض الأسدي، وهو ركاض بن أباق بن بديل أحد بني دبير.
وسويد بن كراع العكلي.
والحويدرة، واسمه قطبة بن أوس بن محصن بن جرول بن حبيب الأعظم ابن عبد العزى بن خزيمة بن رزام بن مازن بن ثعلبة بن سعد بن ذبيان.
وأعشى بني أسد، وهو قيس بن بجرة بن منقذ بن طريف بن عمرو بن قعين.
وابن الزبعرى السهمي، وهو عبد الله بن قيس بن عدي بن سعد بن سهم من قريش.
وقطن بن نهشل بن دارم بن مالك بن حنظلة.
وابن دجاجة الفقيم، وهو بكير بن بريد بن أنس بن امرىء القيس.
وسويد بن سلامة بن حديج بن قيس بن عمرو بن قطن بن نهشل بن دارم ابن مالك بن حنظلة. وقيس بن زهير بن جذيمة بن رواحة بن ربيعة بن الحارث بن مازن بن قطيعة ابن عبس بن بغيض.
ومقيس بن صبابة أخو بني كلب بن عوف بن كعب بن عامر بن ليث بن كنانة، أدركه الإسلام، وأسلم، ثم ارتد فقتل يوم فتح مكة كافراً.
والمسيب بن الرفيل بن حارثة بن حيان بن قيس بن أبي جابر بن زهير بن جناب بن هبل الكلبي.
والبراض بن قيس بن رافع بن قيس بن جدي بن ضمرة الكناني.
وسبرة بن عمرو بن أهنان بن دثار بن فقعس. وشافع بن عبد العزى الضمري.
وسراقة بن مالك بن جعشم المدلجي.
ومصروف واسمه عمرو بن قيس بن مسعود بن عامر بن عمرو بن أبي ربيعة بن ذهل.
وابن رميلة الضبي.
وقيس بن مسعود بن عامر بن عمرو بن أبي ربيعة بن ذهل.
ومرداس بن أبي عامر بن جارية بن عبد بن عبس بن رفاعة بن الحارث ابن بهثة بن سليم بن منصور.
ومن شعراء الجاهلية الفحول المتقدمين الذين أدركوا الإسلام: النابغة الجعدي، وكان في السن مثل النابغة الذبياني، واسمه قيس بن عبد الله بن عدس ابن ربيعة بن جعدة بن كعب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة.
ولبيد بن ربيعة بن مالك بن جعفر بن كلاب بن عامر بن صعصعة.
وتميم بن أبي بن مقبل بن عوف بن حنيف بن قتيبة بن العجلان بن عبد الله بن كعب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة.
وكعب بن زهير بن أبي سلمى، وهو ربيعة بن رياح بن قرط بن الحارث ابن مازن بن ثعلبة بن ثور بن هذمة بن لاطم بن عثمان بن عمرو بن أد.
وعبد الله بن عامر بن كرب الكندي.
وأبو سمال الأسدي، واسمه شمعان بن هبيرة بن مساحق.
وزيد بن مهلهل، وهو زيد الخيل بن يزيد بن منهب بن عبد رضي بن المحلس بن ثور بن عدي بن كنانة بن مالك بن نبهان بن عمرو بن الغوث.
والحطيئة واسمه جرول بن أوس بن مالك بن جوية بن مخزوم بن مالك بن غالب بن قطيعة بن عبس.
وضرار بن الخطاب بن مرداس بن كبير بن عمرو المحاربي.
والشماخ بن ضرار بن سنان بن أمية بن عمرو بن جحاش بن بجالة بن مازن بن ثعلبة بن سعد بن ذبيان.
وأبو ذؤيب الهذلي، وهو خويلد بن خالد بن محرث بن ربيد بن مخزوم ابن صاهله بن كاهل بن تميم بن سعد بن هذيل.
وأبو كبير الهذلي، وهو عامر بن الحليس.
والحرث بن عمرو بن جرجة بن يربوع بن فزارة.
وعبد بني الحسحاس، وهو سحيم بن هند بن سفين بن ثعلبة بن ذودان ابن أسد بن خزيمة.
أسواق العربكانت أسواق العرب عشرة أسواق يجتمعون بها في تجاراتهم، ويجتمع فيها سائر الناس، ويأمنون فيها على دمائهم وأموالهم، فمنها: دومة الجندل، يقوم في شهر ربيع الأول، ورؤساؤها غسان وكلب أي الحيين غلب قام.
ثم المشقر بهجر يقوم سوقها في جمادى الأولى، تقوم بها بنو تيم رهط المنذر بن ساوى.
ثم صحار يقوم في رجب في أول يوم من رجب، ولا يحتاج فيها إلى خفارة، ثم يرتحلون من صحار إلى ريا يعشرهم فيها الجلندى وآل الجلندى.
ثم سوق الشحر شحر مهرة، فيقوم سوقها تحت ظل الجبل الذي عليه قبر هود النبي، ولم تكن بها خفارة، وكانت مهرة تقوم بها .
ثم سوق عدن يقوم في أول يوم من شهر رمضان ويعشرهم بها الأبناء، ومنها كان يحمل الطيب إلى سائر الآفاق.
ثم سوق صنعاء يقوم في النصف من شهر رمضان يعشرهم بها الأبناء.
ثم سوق الرابية بحضرموت، ولم يكن يوصل إليها إلا بخفارة لأنها لم تكن أرض مملكة، وكان من عز فيها بز، وكانت كندة تخفر فيها.
ثم سوق عكاظ بأعلى نجد يقوم في ذي القعدة، وينزلها قريش وسائر العرب إلا أن أكثرها مضر، وبها كانت مفاخرة العرب، وحمالاتهم، ومهادناتهم .
ثم سوق ذي المجاز، وكانت ترتحل من سوق عكاظ وسوق ذي المجاز إلى مكة لحجهم.
وكان في العرب قوم يستحلون المظالم إذا حضروا هذه الأسواق، فسموا المحلين، وكان فيهم من ينكر ذلك، وينصب نفسه لنصرة المظلوم، و المنع من سفك الدماء، وارتكاب المنكر فيسمون الذادة المحرمين، فأما المحلون فكانوا قبائل من أسد وطىء وبني بكر بن عبد مناة بن كنانة وقوماً من بني عامر بن صعصعة.
وأما الذادة المحرمون، فكانوا من بني عمرو بن تميم وبني حنظلة بن زيد مناة، وقوم من هذيل، وقوم من بني شيبان، وقوم من بني كلب بن وبرة، فكان هؤلاء يلبسون السلاح لدفعهم عن الناس، وكان العرب جميعا بين هؤلاء تضع أسلحتهم في الأشهر الحرم وكانت العرب تحضر سوق عكاظ، وعلى وجوهها البراقع، فيقال إن أول عربي كشف قناعة ظريف بن غنم العنبري، ففعلت العرب مثل فعله.
/بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله ولي التوفيق، الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد خاتم النبيين وعلى أهل بيته الطيبين الطاهرين.
إنه لما انقضى كتابنا الأول الذي اختصرنا فيه ابتداء كون الدنيا وأخبار الأوائل من الأمم المتقدمة والممالك المفترقة والأسباب المتشعبة ألفنا كتابنا هذا على ما رواه الأشياخ المتقدمون من العلماء والرواة وأصحاب السير والأخبار والتاريخات، ولم نذهب إلى التفرد بكتاب نصنفه ونتكلف منه ما قد سبقنا إليه غيرنا، لكنا قد ذهبنا إلى جمع المقالات والروايات لأنا قد وجدناهم قد اختلفوا في أحاديثهم وأخبارهم وفي السنين والأعمال، وزاد بعضهم ونقص بعض، فأردنا أن نجمع ما انتهى إلينا مما جاء به كل امرئ منهم لأن الواحد لا يحيط بكل العلم، وقد قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب: العلم أكثر من أن يحفظ، فخذوا من كل علم محاسنه. وقال جعفر بن حرب بن الأشج: وجدت العلم كالمال، في يد كل إنسان منه شيء، فإذا حوى الرجل منه جملة سمي موسراً، ويحوي الآخر ما هو أكثر منه فيسمي موسراً، وكذلك العلم لا يحوي منه شيئاً إلا سمي عالماً وإن كان غيره أعلم منه. ولو كنا لا نسمي العالم عالماً حتى يحوي العلم كله لم يقع هذا الاسم على أحد من الآدميين. وقال بعض الحكماء: ليس طلبي للعلم طمعا في بلوغ قاصيته والاستيلاء على غايته. ولكن ألتمس شيئاً لا يسع جهله ولا يحسن بالعاقل خلافه. وقال بعض الحكماء:
إن لم تكن عالماً فتعلم وإن لم تكن حكيماً، فتحكم فإنه قل ما يتشبه رجل بقوم ألا يوشك أن يكون منهم. وقال بعضهم: العلم روح والعمل بدن، والعلم أصل والعمل فرع، والعلم والد والعمل مولود، وكان العمل بمكان العلم ولم يكن العلم بمكان العمل. وقال بعضهم: من طلب العلم لرغبة أو رهبة أو منافسة أو شهوة كان حظه منه على حسب الرهبة، ومن طلب العلم لكرم العلم والتمسه لفضل الاستبانة كان حظه منه بقدر كرمه وانتفاعه به حسب استحقاقه. وقال بعضهم: كل شيء يحتاج إلى العقل والعقل يحتاج إلى العلم.
وابتدئ كتابنا هذا من مولد رسول الله صلى الله عليه وسلم وخبره في حال بعد حال ووقت بعد وقت إلى أن قبضه الله إليه، وأخبار الخلفاء بعده وسيرة خليفة بعد خليفة وفتوحه، وما كان منه وعمل به في أيامه وسني ولايته. وكان من روينا عنه ما في هذا الكتاب: إسحاق بن سليمان بن علي الهاشمي عن أشياخ بني هاشم، وأبو البختري وهب بن وهب القرشي عن جعفر بن محمد وغيره من رجاله، وأبان بن عثمان عن جعفر بن محمد، ومحمد بن عمر الواقدي عن موسى بن عقبة وغيره من رجاله، وعبد الملك بن هشام عن زياد بن عبد الله البكائي عن محمد بن إسحاق المطلبي، وأبو حسان الزيادي عن أبي المنذر الكلبي وغيره من رجاله، وعيسى بن يزيد بن داب، والهيثم بن عدي الطائي عن عبد الله بن عباس، الهمداني، ومحمد بن كثير القرشي عن أبي صالح وغيره من رجاله، وعلي بن محمد بن عبد الله بن أبي سيف المدائني، وأبو معشر المدني، ومحمد بن موسى الخوارزمي المنجم، وما شاء الله الحاسب في طوالع السنين والأوقات. وأثبتنا عن غير هؤلاء الذين سمينا جملا جاء بها غيرهم ورواها سواهم وعلمناها من سير الخلفاء وأخبارهم، وجعلناه كتابا مختصرا، حذفنا منه الأشعار وتطويل الأخبار، وبالله المعونة والتوفيق والحول والقوة.
مولد رسول اللهوكان مولد رسول الله صلى الله عليه وسلم في عام الفيل، بينه وبين الفيل خمسون ليلة، وكان على ما رواه بعضهم يوم الاثنين لليلتين خلتا من شهر ربيع الأول، وقيل ليلة الثلاثاء لثمان خلون من شهر ربيع الأول.
وقال من رواه عن جعفر بن محمد يوم الجمعة حين طلع الفجر لاثنتي عشرة ليلة خلت من شهر رمضان. وولد على ما قال أصحاب الحساب بقران العقرب. قال ما شاء الله المنجم: كان طالع السنة التي كان فيها القرآن الذي دل على مولد رسول الله صلى الله عليه وسلم الميزان اثنتين وعشرين درجة حد الزهرة وبيتها والمشتري في العقرب ثلاث درجات وثلاثاً وعشرين دقيقة، وزحل في العقرب ست درجات وثلاثا وعشرين دقيقة راجعاً، وهما في الثاني من الطوالع، والشمس في نظير الطالع في الحمل أول دقيقة، والزهرة في الحمل على درجة وست وخمسين دقيقة، وعطارد في الحمل على ثماني عشرة درجة وست عشرة دقيقة راجعاً، والمريخ في الجوزاء اثنتي عشرة درجة وخمس عشرة دقيقة، والقمر وسط السماء في السرطان درجة وعشرين دقيقة.
وقال الخوارزمي: كانت الشمس يوم ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم في الثور درجة، والقمر في الأسد على ثماني عشرة درجة وعشر دقائق، وزحل في العقرب تسع درجات وأربعين دقيقة راجعاً، والمشتري في العقرب درجتين وعشر دقائق راجعا، والمريخ في السرطان درجتين وخمسين دقيقة، والزهرة في الثور اثنتي عشرة درجة وعشر دقائق. وكانت قريش تؤرخ السنين بموت قصي بن كلاب لجلالة قصي، فلما كان عام الفيل أرخت به لاشتهار ذلك العام، فكان تاريخهم من مولد رسول الله.
ولما ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم رجمت الشياطين وانقضت الكواكب. فلما رأت ذلك قريش أنكرت انقضاض الكواكب وقالوا: ما هذا إلا لقيام الساعة، وأصابت الناس زلزلة عمت جميع الدنيا حتى تهدمت الكنائس والبيع، وزال كل شيء يعبه دون الله، عز وجل، عن موضعه، وعميت على السحرة والكهان أمورهم وحبست شياطينهم، وطلعت نجوم لم تر قبل ذلك فأنكرتها كهان اليهود، وزلزل إيوان كسرى فسقطت منه ثلاث عشرة شرافة، وخمدت نار فارس ولم تكن خمدت قبل ذلك بألف عام. ورأى عالم الفرس وحكيمهم وهو الذي تسميه الفرس موبذان موبذ القيم بشرائع دينهم كان إبلاً عراباً تقود خيلا صعاباً حتى قطعت دجلة وانتشرت في البلاد. فراع ذلك كسرى أنو شروان وأفزعه، فوجه إلى النعمان فقال: هل بقي من كهان العرب أحد؟ قال: نعم! سطيح، الغساني بدمشق من أرض الشام. قال: فجئني بشيخ من العرب له عقل ومعرفة أوجهه إليه. فأتاه بعبد المسيح بن بقيلة، فوجهه إليه. فخرج عليه عبد المسيح على جمل حتى قدم دمشق. فسأل عنه فدل عليه وهو ينزل في باب الجابية، فوجده في آخر رمق. فنادى في أذنه بأعلى صوته:
أصم أم تسمع غطريف اليمن ... يا فارج الكربة أعيت من ومن
وفاصل الخطبة في الأمر العنن ... أتاك شيخ الحي من آل يزن
فقال: عبد المسيح، على جمل مشيح، نحو سطيح، حين أشفى على الضريح. بعثك ملك بني ساسان بهدم الأيوان وخمود النيران ورؤيا الموبذان. رأى إبلا عرابا تقود خيلا صعاباً حتى قطعت دجلة وانتشرت في البلاد. يا ابن ذي يزن تكون هنه وهنات ويموت ملوك وملكات بعدد الشرافات. إذا غاضت بحيرة ساوة وظهرت التلاوة بأرض تهامة وظهر صاحب الهراوة فليست الشام لسطيح شاما. ثم فاضت نفسه.
وجاء رجل من أهل الكتاب إلى ملأ من قريش فيهم هشام بن المغيرة والوليد بن المغيرة وعتبة بن ربيعة فقال: ولد لكم الليلة مولود. قالوا: لا. قال: أخطأكم والله معشر قريش فقد ولد إذا بفلسطين غلام اسمه أحمد، به شامة كلون الحر الأدكن يكون به هلاك أهل الكتاب، فلم يريموا حتى قيل لهم إنه ولد لعبد الله بن عبد المطلب الليلة غلام. فمضى الرجل حتى نظر إليه ثم قال: هو والله هو! ويل أهل الكتاب منه. فلما رأى سرور قريش بما سمعت منه قال: والله ليسطون بكم سطوة يتحدث بها أهل المشرق والمغرب. وكان تزويج عبد الله بن عبد المطلب لآمنه بنت وهب بعد حفر زمزم بعشر سنين، وقيل بضع عشرة سنة. وبين فداء عبد المطلب لابنه وبين تزويجه إياه سنة، فكان اسم عبد الله أبي رسول الله عبد الدار، وقيل: كان اسمه عبد قصي. فلما كان في السنة التي فدي فيها قال عبد المطلب: هذا عبد الله، فسماه يومئذ كذلك. وكان بين تزويج أبي رسول الله لأمه وبين مولده على ما روى جعفر بن محمد عشرة أشهر، وقال بعضهم سنة وثمانية أشهر.
وروي عن أمه أنها قالت: رأيت لما وضعته نوراً بداً مني ساطعاً حتى أفزعني، ولم أر شيئاً مما يراه النساء.
وروى بعضهم أنها قالت: سطع مني النور حتى رأيت قصور الشام، ولما وقع إلى الأرض قبض قبضة من تراب ثم رفع رأسه إلى السماء...
فكان أول لبن شربه بعد أمه لبن ثويبة مولاة أبي لهب. وقد أرضعت ثويبة هذه حمزة بن عبد المطلب وجعفر بن أبي طالب وأبا سلمة بن عبد الأسد المخزومي. وقال رسول الله، بعد ما بعثه الله: رأيت أبا لهب في النار يصيح العطش العطش فيسقي في نقر إبهامه. فقلت: بم هذا؟ فقال: بعتقي ثويبة لأنها أرضعتك.
وتوفي عبد الله بن عبد المطلب أبو رسول الله صلى الله عليه وسلم على ما روى جعفر بن محمد بعد شهرين من مولده. وقال بعضهم إنه توفي قبل أن يولد، وهذا قول غير صحيح لأن الإجماع على أنه توفي بعد مولده. وقال آخرون بعد سنة من مولده، وكانت وفاة عبد الله بالمدينة عند أخوال أبيه بني النجار في دار تعرف بدار النابغة، وكانت سنة يوم توفي خمساً وعشرين سنة.
واسترضع في بني سعد بن بكر بن هوازن. وكان عبد المطلب دفعه إلى الحارث بن عبد العزى بن رفاعة السعدي زوج حليمة بنت أبي ذؤيب السعدي، فلم يزل مقيما في بني سعد يرون به البركة في أنفسهم وأموالهم حتى كان من شأنه في الذي أتاه في صورة رجل، فشق عن بطنه وغسل جوفه، ما كان. فخافوا عليه وردوه إلى جده عبد المطلب وله خمس سنين، وقيل أربع سنين، وهو في خلق ابن عشر وقوته.
وتوفيت أمه آمنة بنت وهب بن عبد مناف بن زهرة بعد ما أتى عليه ست سنين وثلاثة أشهر، ولها ثلاثون سنة. وكانت وفاتها بموضع يقال له الأبواء بين مكة والمدينة. وكان عبد المطلب جد رسول الله يكفله، وعبد المطلب يومئذ سيد قريش غير مدافع، قد أعطاه الله من الشرف ما لم يعط أحداً، وسقاه زمزم وذا الهرم، وحكمته قريش في أموالها، وأطعم في المحل حتى أطعم الطير والوحوش في الجبال. قال أبو طالب:
ونطعم حتى تأكل الطير فضلنا ... إذا جعلت أيدي المفيضين ترعد
ورفض عبادة الأصنام ووحد الله، عز وجل، ووفى بالنذر وسن سننا نزل القرآن بأكثرها، وجاءت السنة من رسول الله بها وهي: الوفاء بالنذور، ومائة من الإبل في الدية، وألا تنكح ذات محرم، ولا تؤتي البيوت من ظهورها، وقطع يد السارق، والنهي عن قتل الموءودة، والمباهلة، وتحريم الخمر، وتحريم الزنا، والحد عليه، والقرعة، وألا يطوف أحد بالبيت عريانا، وإضافة الضيف، وألا ينفقوا إذا حجوا إلا من طيب أموالهم، وتعظيم الأشهر الحرم، ونفى ذوات الرايات. ولما قدم صاحب الفيل خرجت قريش من الحرم فارة من أصحاب الفيل، فقال عبد المطلب: والله لا أخرج من حرم الله وأبتغي العز في غيره. فجلس بفناء البيت ثم قال:
لهم إن تعف فإنهم عيالك ... ... إلا فشيء ما بدا لك
فكانت قريش تقول: عبد المطلب إبراهيم الثاني. وكان المبشر لقريش بما فعل الله بأصحاب الفيل عبد الله بن عبد المطلب أبو رسول الله. فقال عبد المطلب: قد جاءكم عبد الله بشيراً ونذيراً.
فأخبرهم بما نزل بأصحاب الفيل. فقالوا: إنك كنت لعظيم البركة لميمون الطائر منذ كنت.
وكان لعبد المطلب من الولد الذكور عشرة. ومن الإناث أربع: عبد الله أبو رسول الله، وأبو طالب وهو عبد مناف، والزبير وهو أبو الطاهر، وعبد الكعبة وهو المقوم، وأمهم فاطمة بنت عمرو بن عائذ بن عمران بن مخزوم وهي أم أم حكيم البيضاء. وعاتكة وبرة وأروى وأميمة بنات عبد المطلب، والحارث وهو أكبر ولد عبد المطلب وبه كان يكنى، وقثم، وأمهما صفية بنت جندب بن حجير بن زباب بن حبيب بن سوأة بن عامر بن صعصعة، وحمزة وهو أبو يعلى أسد الله وأسد رسول الله، وأمه هالة بنت وهيب بن عبد مناف بن زهرة وهي أم صفية بنت عبد المطلب، والعباس وضرار، أمهما نتيلة بنت جناب بن كليب بن النمر بن قاسط، وأبو لهب وهو عبد العزى، وأمه لبني بنت هاجر بن عبد مناف بن ضاطر الخزاعي، والغيداق وهو جحل وإنما سمي الغيداق لأنه كان أجود قريش وأطعمهم للطعام، وأمه ممنعة بنت عمرو بن مالك بن نوفل الخزاعي.
فهؤلاء أعمام رسول الله وعماته. وكان لكل واحد من ولد عبد المطلب شرف وذكر وفضل وقدر ومجد. وحج عامر بن مالك ملاعب الأسنة البيت فقال: رجال كأنهم جمال جون، فقال: بهؤلاء تمنع مكة. وحج أكثم بن صيفي في ناس من بني تميم فرآهم يخترقون البطحاء كأنهم أبرجة الفضة يلحقون الأرض جيرانهم. فقال: يا بني تميم إذا أحب الله أن ينشئ دولة نبت لها مثل هؤلاء. هؤلاء غرس الله لا غرس الرجال. وكان يفرش لعبد المطلب بفناء الكعبة، فلا يقرب فراشه حتى يأتي رسول الله، وهو غلام، فيتخطى رقاب عمومته، فيقول لهم عبد المطلب دعوا ابني، أن لابني هذا لشأناً.
وكان عبد المطلب قد وفد على سيف بن ذي يزن مع جلة قومه لما غلب على اليمن، فقدمه سيف عليهم جميعاً وآثره. ثم خلا به فبشره برسول الله ووصف له صفته، فكبر عبد المطلب وعرف صدق ما قال سيف، ثم خر ساجدا. فقال له سيف: هل أحسست لما قلت نبأ؟ فقال له: نعم! ولد لابني غلام على مثال ما وصفت، أيها الملك. قال: فاحذر عليه اليهود وقومك، وقومك أشد من اليهود، والله متمم أمره ومعل دعوته. وكان أصحاب الكتاب لا يزالون يقولون لعبد المطلب في رسول الله منذ ولد فيعظم بذلك ابتهاج عبد المطلب. فقال: أما والله لئن نفستني قريش الماء يعني ماء سقاه الله من زمزم وذي الهرم، لتنفسني غدا الشرف العظيم والبناء الكريم والعز الباقي والنساء العالي إلى آخر الدهر ويوم الحشر.
وتوالت على قريش سنون مجدبة حتى ذهب الزرع وقحل الضرع، ففزعوا وقالوا: قد سقانا الله بك مرة بعد أخرى فادع الله أن يسقينا، وسمعوا صوتاً ينادي من بعض جبال مكة: معشر قريش أن النبي الأمي منكم، وهذا أوان توكفه، ألا فانظروا منكم رجلاً عظاماً جساماً له سن يدعو إليه وشرف يعظم عليه فليخرج هو وولده ليمسوا من الماء ويلتمسوا من الطيب ويستلموا الركن، وليدع الرجل وليؤمن القوم فخصبتم ما شئتم إذا وغثتم، فلم يبق أحد بمكة إلا قال: هذا شيبة الحمد، هذا شيبة الحمد. فخرج عبد المطلب ومعه رسول الله، وهو يومئذ مشدود الإزار، فقال عبد المطلب: اللهم ساد الخلة وكاشف الكربة، أنت عالم غير معلم، مسؤول غير مبخل، وهؤلاء عبداؤك وإماؤك بعذرات حرمك يشكون إليك سنيهم التي أقحلت الضرع وأذهبت الزرع، فاسمعن اللهم وأمطرن غيثا مريعا مغدقا. فما راموا حتى انفجرت السماء بمائها وكظ الوادي بثجه، وفي ذلك يقول بعض قريش:
بشيبة الحمد أسقي الله بلدتنا ... وقد فقدنا الكري واجلوذ المطر
مناً من الله بالميمون طائره ... وخير من بشرت يوماً به مضر
مبارك الأمر يستسقي الغمام به ... ما في الأنام له عدل ولا خطر
وأوصى عبد المطلب إلى ابنه الزبير بالحكومة وأمر الكعبة وإلى أبي طالب برسول الله وسقاية زمزم، وقال له: قد خلفت في أيديكم الشرف العظيم الذي تطأون به رقاب العرب. وقال لأبي طالب:
أوصيك يا عبد مناف بعدي ... بمفرد بعد أبيه فرد
فارقه وهو ضجيع المهد ... فكنت كالأم له في الوجد
تدنيه من أحشائها والكبد ... فأنت من أرجى بني عندي
لدفع ضيم أو لشد عقد
وتوفي عبد المطلب ولرسول الله ثماني سنين ولعبد المطلب مائة وعشرون سنة، وقيل مائة وأربعون سنة. وأعظمت قريش موته، وغسل بالماء والسدر. وكانت قريش أول من غسل الموتى بالسدر، ولف في حلتين من حلل اليمن قيمتها ألف مثقال ذهب، وطرح عليه المسك حتى ستره، وحمل على أيدي الرجال عدة أيام إعظاماً وإكراماً وإكباراً لتغييبه في التراب. واحتبى ابنه بفناء الكعبة لما غيب عبد المطلب واحتبى ابن جدعان التيمي من ناحية والوليد بن ربيعة المخزومي فادعى كل واحد الرئاسة.
وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: أن الله يبعث جدي عبد المطلب أمه واحدة في هيئة الأنبياء وزي الملوك فكفل رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد وفاة عبد المطلب أبو طالب عمه، فكان خير كافل. وكان أبو طالب سيداً شريفاً مطاعاً مهيباً مع إملاقه.
قال علي بن أبي طالب: أبي ساد فقيرا، وما ساد فقير قبله. وخرج به إلى بصرى من أرض الشام وهو ابن تسع سنين، وقال: والله! لا أكلك إلى غيري. وربته فاطمة بنت أسد بن هاشم امرأة أبي طالب وأم أولاده جميعاً. ويروي عن رسول الله لما توفيت، وكانت مسلمة فاضلة، أنه قال: اليوم ماتت أمي، وكفنها بقميصه ونزل على قبرها واضطجع في لحدها. فقيل له: يا رسول الله لقد اشتد جزعك على فاطمة. قال: إنها كانت أمي، أن كانت لتجيع صبيانها وتشبعني وتشعثهم وتدهنني، وكانت أمي.
ولما بلغ العشرين ظهرت فيه العلامات وجعل أصحاب الكتب يقولون فيه ويتذاكرون أمره ويتوصفون حاله ويقربون ظهوره، فقال يوماً لأبي طالب: يا عم إني أرى في المنام رجلاً يأتيني ومعه رجلاًن فيقولان: هو هو، وإذا بلغ فشأنك به والرجل لا يتكلم. فوصف أبو طالب ما قال لبعض من كان بمكة من أهل العلم. فلما نظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: هذه الروح الطيبة! هذا والله النبي المطهر. فقال له أبو طالب: فاكتم على ابن أخي لا تغر به قومه، فوالله إنما قلت لعلي ما قلت، ولقد أنبأني أبي عبد المطلب بأنه النبي المبعوث وأمرني أن أستر ذلك لئلا يغري به الأعادي.
الفجاروشهد رسول الله صلى الله عليه وسلم الفجار وله سبع عشرة سنة، وقيل عشرون سنة، وكان سبب الفجار، وهي الحرب التي كانت بين كنانة وقيس، أن رجلاً من بني ضمرة يقال له البراض بن قيس، كان بمكة في جوار حرب بن أمية، وثب على رجل من هذيل يقال له الحارث فقتله. وأخرجه حرب بن أمية من جواره فلحق بالنعمان بن المنذر، فاجتمع هو وعروة بن عتبة بن جعفر بن كلاب.
وكان النعمان يوجه في كل سنة بلطيمة إلى عكاظ للتجارة، ولا يعرض لها أحد من العرب، حتى قتل النعمان أخا بلعاء بن قيس، فكان بلعاء بعد ذلك يغير على لطائم النعمان. فلما اجتمع عروة والبراض عنده قال: من يجير لطائمي؟ فقال البراض: أنا، وقال عروة: أنا، مثله، فتنازعا كلاما. فلما خرجا وتوجه عروة لينصرف، عارضه البراض فقتله وأخذ ما كان معه من لطائم النعمان.
فاجتمعت قيس على قوم البراض، ولجأت كنانة إلى قريش فأعانتها وخرجت معها، فاقتتلوا في رجب، وكان عندهم الشهر الحرام الذي لا تسفك فيه الدماء. فسمي الفجار لأنهم فجروا في شهر حرام. وكان على كل قبيل من قريش رئيس، وعلى بني هاشم الزبير بن عبد المطلب.
وقد روي أن أبا طالب منع أن يكون فيها أحد من بني هاشم وقال: هذا ظلم وعدوان وقطيعة واستحلال للشهر الحرام، ولا أحضره ولا أحد من أهلي، فأخرج الزبير بن عبد المطلب مستكرها. وقال عبد الله بن جدعان التيمي وحرب ابن أمية: لا نحضر أمراً تغيب عنه بنو هاشم فخرج الزبير.
وقيل: أن أبا طالب كان يحضر في الأيام ومعه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا حضر هزمت كنانة قيسا فعرفوا البركة بحضوره فقالوا: يا ابن مطعم الطير وساقي الحجيج لا تغب عنا فإنا نرى مع حضورك الظفر والغلبة. قال: فاجتنبوا الظلم والعدوان والقطيعة والبهتان فإني لا أغيب عنكم. فقالوا: ذاك لك. فلم يزل يحضر حتى فتح عليهم.
وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: شهدت الفجار مع عمي أبي طالب وأنا غلام. وروى بعضهم أنه شهد الفجار وهو ابن عشرين سنة وطعن أبا براء ملاعب الأسنة فأرداه عن فرسه، وجاء الفتح من قبله فجمعنا جميع الروايات ومات حرب بن أمية بن عبد شمس بالشام بعد الفجار بأشهر.
حلف الفضولحضر رسول الله صلى الله عليه وسلم حلف الفضول وقد جاوز العشرين، وقال بعد ما بعثه الله: حضرت في دار عبد الله بن جدعان حلفا ما يسرني به حمر النعم، ولو دعيت إليه اليوم لأجبت. وكان سبب حلف الفضول أن قريشا تحالفت أحلافا كثيرة على الحمية والمنعة، فتحالف المطيبون وهم بنو عبد مناف وبنو أسد وبنو زهرة وبنو تميم وبنو الحارث بن فهر على أن لا يسلموا الكعبة ما أقام حراء وثبير وما بل بحر صوفة. وصنعت عاتكة بنت عبد المطلب طيباً فغمسوا أيديهم فيه. وقيل أن الطيب كان لأم حكيم البيضاء بنت عبد المطلب، وهي توأم عبد الله أبي رسول الله، وتحالفت اللعقة وهم بنو عبد الدار وبنو مخزوم وبنو جمح وبنو سهم وبنو عدي على أن يمنع بعضهم بعضا ويعقل بعضهم عن بعض وذبحوا بقرة فغمسوا أيديهم في دمها، فكانت قريش تظلم في الحرم الغريب ومن لا عشيرة له حتى أتى رجل من بني أسد بن خزيمة بتجارة فاشتراها رجل من بني سهم فأخذها السهمي وأبي أن يعطيه الثمن، فكلم قريشا واستجار بها وسألها إعانته على أخذ حقه فلم يأخذ له أحد بحقه فصعد الأسدي أبا قبيس فنادى بأعلى صوته:
يا أهل فهر لمظلوم بضاعته ... ببطن مكة نائي الأهل والنفر
أن الحرام لمن تمت حرامته ... ولا حرام لثوبي لابس الغدر
وقد قيل: لم يكن رجل من بني أسد ولكنه قيس بن شيبة السلمي باع متاعا من أبي خلف الجمحي وذهب بحقه، فقال هذا الشعر، وقيل بل قال:
يال قصي كيف هذا في الحرم ... وحرمة البيت وأخلاق الكرم
أظلم لا يمنع مني من ظلم
فتذممت قريش فقاموا فتحالفوا ألا يظلم غريب ولا غيره وأن يؤخذ للمظلوم من الظالم، واجتمعوا في دار عبد الله بن جدعان التيمي. وكانت الأحلاف هاشم وأسد وزهرة وتيم والحارث بن فهر فقالت قريش: هذا فضول من الحلف، فسمي حلف الفضول. وقال بعضهم: حضره ثلاثة نفر يقال لهم الفضل بن قضاعة والفضل بن حشاعة والفضل بن بضاعة فسمي بهذا حلف الفضول. وقد قيل أن هؤلاء النفر حضروا حلفا لجرهم فسمي حلف الفضول بهم وشبه بالحلف في تلك السنة.
بنيان الكعبة
ووضع رسول الله صلى الله عليه وسلم الحجر في موضعه حين اختصمت قريش وهو ابن خمس وعشرين سنة، وذلك أن قريشا هدمت الكعبة بسبب سيل أصابهم فهدمها. وقيل: بل كانت امرأة من قريش تجمر الكعبة، فطارت شرره فأحرقت باب الكعبة وكان طولها تسعة أذرع فنقضوها. وكان أول من ضرب فيها بمعول الوليد بن المغيرة المخزومي. وحفروا حتى انتهوا إلى قواعد إبراهيم فقلعوا منها حجرا فوثب الحجر ورجع مكانه فأمسكوا. ويقال أن الذي بدر الحجر من يده أبو وهب بن عمرو بن عائذ بن عمران بن مخزوم، وخرج عليهم ثعبان فحال بينهم وبين البناء، فاجتمعوا، فقال: ما ذا ترون؟ فقال أبو طالب: أن هذا لا يصلح أن ينفق فيه إلا من طيب المكاسب فلا تدخلوا فيه مالا من ظلم ولا عدوان، فأحضروا ما لم يشكوا فيه من طيب أموالهم ورفعوا أيديهم إلى السماء، فجاء طائر فاختطف الثعبان حتى ذهب. فوضعوا أزرهم يعملون عراة إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه أبى أن ينزع ثوبه فسمع صائحا يصيح: لا تنزع ثوبك. ونقلت الحجارة التي بني بها البيت من جبل يقال له السيادة من أعلى الوادي وصيروها ثماني عشرة ذراعا، وكانت كل قبيلة تلي طائفة منها فكانت بنو عبد مناف تلي الربع وسائر ولد قصي بن كلاب وبنو تيم الربع ومخزوم الربع وبنو سهم وجمح وعدي وعامر بن فهر الربع. فلما أرادوا أن يضعوا الحجر اختصموا فيه، وقالت كل قبيلة: نحن نتولى وضعه. فأقبل رسول الله، وكانت قريش تسميه الأمين، فلما رأوه مقبلا قالوا: قد رضينا بحكم محمد بن عبد الله، فبسط رسول الله صلى الله عليه وسلم رداءه ثم وضع الحجر في وسطه وقال: لتحمل كل قبيلة بجانب من جوانب الرداء ثم ارفعوا جميعاً. ففعلوا ذلك فحمل عتبة بن ربيعة أحد جوانب الرداء وأبو زمعة بن الأسود وأبو حذيفة بن المغيرة وقيس بن عدي السهمي، وقيل العاص بن وائل. فلما بلغ الموضع أخذه رسول الله صلى الله عليه وسلم ووضعه بموضعه الذي هو به وسقفوها، ولم يكن لها قبل ذلك سقف.
تزويج خديجة بنت خويلد وتزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم خديجة بنت خويلد وله خمس وعشرون سنة، وقيل: تزوجها وله ثلاثون سنة، وولدت له، قبل أن يبعث، القاسم ورقية وزينب وأم كلثوم، وبعد ما بعث عبد الله، وهو الطيب والطاهر لأنه ولد في الإسلام، وفاطمة. وروى بعضهم عن عمار بن ياسر أنه قال: أنا أعلم الناس بتزويج رسول الله صلى الله عليه وسلم خديجة بنت خويلد: كنت صديقا له، فإنا لنمشي يوماً بين الصفا والمروة إذا بخديجة بنت خويلد وأختها هالة. فلما رأت رسول الله صلى الله عليه وسلم جاءتني هالة أختها فقالت: يا عمار! ما لصاحبك حاجة في خديجة؟ قلت: والله ما أدري. فرجعت فذكرت ذلك له، فقال: ارجع فواضعها وعدها يوماً نأتيها فيه، ففعلت. فلما كان ذلك اليوم أرسلت إلى عمرو بن أسد وسقته ذلك اليوم ودهنت لحيته بدهن أصفر، وطرحت عليه حبراً. ثم جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم في نفر من أعمامه تقدمهم أبو طالب فخطب أبو طالب فقال: الحمد لله الذي جعلنا من زرع إبراهيم وذرية إسماعيل وجعل لنا بيتا محجوجا وحرما آمنا وجعلنا الحكام على الناس وبارك لنا في بلدنا الذي نحن به، ثم أن ابن أخي محمد بن عبد الله لا يوزن برجل من قريش إلا رجح ولا يقاس بأحد إلا عظم عنه، وأن كان في المال قل فإن المال رزق حائل وظل زائل، وله في خديجة رغبة ولها فيه رغبة وصداق ما سألتموه عاجلة من مالي، وله والله خطب عظيم ونبأ شائع.
فتزوجها وانصرف. فلما أصبح عمها عمرو بن أسد أنكر ما رأى فقيل له: هذا ختنك محمد بن عبد الله بن عبد المطلب أهدى لك هذا. قال: ومتى زوجته؟ قيل له: بالأمس. قال: ما فعلت. قيل له: بلى، نشهد أنك قد فعلت. فلما رأى عمرو رسول الله صلى الله عليه وسلم قال. اشهدوا أني أن لم أكن زوجته بالأمس فقد زوجته اليوم، وأنه ما كان مما يقول الناس إنها استأجرته بشيء ولا كان أجيرا لأحد قط، وروى محمد بن إسحاق أن خويلد بن أسد بن عبد العزى زوج خديجة ابنته من رسول الله صلى الله عليه وسلم ومات بعد الفجار بخمس سنين، وروى بعضهم أنه قتل في الفجار أو مات عام الفجار.
المبعث
وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم لما استكمل أربعين سنة، فكان مبعثه في شهر ربيع الأول، وقيل في رمضان، ومن شهور العجم في شباط. وكانت سنته التي بعث فيها سنة قرآن في الدلو. قال، ما شاء الله، الحاسب: كان طالع السنة التي بعث فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو القرآن الثالث من قرآن مولده السنبلة أربع درجات، والقمر في الميزان سبع عشرة درجة، والمريخ من الطالع في السنبلة ثلاث عشرة درجة راجعاً، والمشتري في الخامس في الجدي إحدى وعشرين درجة، وزحل في الدلو في السادس في تسع درجات حد الزهرة في الحوت، والشمس في الثامن في الحمل دقيقة، وعطارد في الحمل أربع عشرة درجة، وحد مدخل السنة منذ أول يوم دخلت فيه الشمس. وقال الخوارزمي: كانت الشمس يومئذ في الدلو أربعاً وعشرين درجة وخمس عشرة دقيقة، والقمر في السرطان سبع عشرة درجة، وزحل في الدلو تسع عشرة درجة، والمشتري اثنتي عشرة درجة، والمريخ في الحوت خمس عشرة درجة وثلاثين دقيقة، والزهرة في الحمل إحدى عشرة درجة، وعطارد في الدلو ثلاثاً وعشرين درجة وثلاثين دقيقة. وكان جبريل يظهر له فيكلمه. وربما ناداه من السماء ومن الشجرة ومن الجبل فيذعر من ذلك رسول الله، ثم قال له: أن ربك يأمرك أن تجتنب الرجس من الأوثان، فكان أول أمره. فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتي خديجة ابنة خويلد ويقول لها ما سمع وتكلم به. فتقول له: استر يا ابن عم، فوالله إني لأرجو أن يصنع الله بك خيراً. وأتاه جبريل ليلة السبت وليلة الأحد ثم ظهر له بالرسالة يوم الإثنين، وقال بعضهم يوم الخميس، وقال من رواه عن جعفر بن محمد يوم الجمعة لعشر بقين من شهر رمضان ولذلك جعله عيدا للمسلمين وعلى جبريل جبة سندس وأخرج له درنوكا من درانيك الجنة فأجلسه عليه وأعلمه أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وبلغه عن الله وعلمه: اقرأ باسم ربك الذي خلق. وأتاه من غد وهو متدثر، فقال يا أيها المدثر قم فأنذر. وقال رسول الله: أول ما نهاني عنه جبريل بعد عبادة الأصنام ملاحاة الرجال. وروى بعضهم أن إسرافيل وكل به ثلاث سنين وأن جبريل وكل به عشرين سنة، وقال آخرون: ما زال جبريل موكلا به، وقد كان ورقة بن نوفل قال لخديجة بنت خويلد: اسأليه من هذا الذي يأتيه؟ فإن كان ميكائيل فقد أتاه بالخفض والدعة واللين، وأن كان جبريل فقد أتاه بالقتل والسبي. فسألته، فقال: جبريل، فضربت خديجة جبهتها. وكان أول ما افترض عليه من الصلاة الظهر، أتاه جبريل فأراه الوضوء، فتوضأ رسول الله صلى الله عليه وسلم كما توضأ جبريل ثم صلى ليريه كيف يصلى، فصلى رسول الله. وروى بعضهم أن الظهر الصلاة الوسطى أول صلاة صلاها رسول الله، وكان يوم جمعة. ثم أتى خديجة ابنة خويلد فأخبرها فتوضأت وصلت، ثم رآه علي بن أبي طالب ففعل كما رآه يفعل.
ولما بعث رميت الشياطين بشهب من السماء ومنعت من أن تسترق السمع. فقال إبليس: ما هذا إلا لأمر قد حدث ونبي قد بعث، وأصبحت الأصنام في جميع الدنيا منكسة، وخمدت النيران التي كانت تعبد.
وكان أول من أسلم خديجة بنت خويلد من النساء وعلي بن أبي طالب من الرجال. ثم زيد بن حارثة ثم أبو ذر وقيل أبو بكر قبل أبي ذر، ثم عمرو بن عبسة السلمي ثم خالد بن سعيد بن العاص ثم سعد بن أبي وقاص ثم عتبة بن غزوان ثم خباب بن الأرت ثم مصعب بن عمير. وروي عن عمرو بن عبسة السلمي قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أول ما بعث وبلغني أمره فقلت: صف لي أمرك. فوصف لي أمره وما بعثه الله به. فقلت: هل يتبعك على هذا أحد؟ قال: نعم! امرأة وصبي وعبد، يريد خديجة بنت خويلد وعلي بن أبي طالب وزيد بن حارثة.
وأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة ثلاث سنين يكتم أمره وهو يدعو إلى توحيد الله، عز وجل، وعبادته والإقرار بنبوته، فكان إذا مر بملأ من قريش، قالوا: أن فتى ابن عبد المطلب ليكلم من السماء حتى عاب عليهم آلهتهم وذكر هلاك آبائهم الذين ماتوا كفارا ثم أمره الله، عز وجل، أن يصدع بما أرسله، فأظهر أمره وأقام بالأبطح فقال: إني رسول الله صلى الله عليه وسلم أدعوكم إلى عبادة الله وحده وترك عبادة الأصنام التي لا تنفع ولا تضر ولا تخلق ولا ترزق ولا تحيي ولا تميت. فاستهزأت منه قريش وآذته وقالوا لأبي طالب: أن ابن أخيك قد عاب آلهتنا وسفه أحلامنا وضلل أسلافنا فليمسك عن ذلك وليحكم في أموالنا بما يشاء. فقال أن الله لم يبعثني لجمع الدنيا والرغبة فيها وإنما بعثني لأبلغ عنه وأدل عليه. وآذوه أشد الإيذاء، فكان المؤذون له منهم أبو لهب والحكم بن أبي العاص وعقبة بن أبي معيط وعدي بن حمراء الثقفي وعمرو بن الطلاطلة الخزاعي. وكان أبو لهب أشد أذى له.
وروى بعضهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام بسوق عكاظ، عليه جبة حمراء، فقال: يا أيها الناس قولوا لا إله إلا الله تفلحوا وتنجحوا. وإذا رجل يتبعه له غديرتان كان وجهه الذهب وهو يقول: يا أيها الناس أن هذا ابن أخي وهو كذاب فاحذروه. فقلت: من هذا؟ فقيل لي: هذا محمد بن عبد الله، وهذا أبو لهب ابن عبد المطلب عمه، وكان المستهزءون به العاص بن وائل السهمي والحارث ابن قيس بن عدي السهمي والأسود بن المطلب بن أسد والوليد بن المغيرة المخزومي والأسود بن عبد يغوث الزهري، وكانوا يوكلون به صبيانهم وعبيدهم فيلقونه بما لا يحب حتى إنهم نحروا جزورا بالحزورة ورسول الله صلى الله عليه وسلم قائم يصلي، فأمروا غلاما لهم فحمل السلى والفرث حتى وضعه بين كتفيه وهو ساجد.
فانصرف فأتى أبا طالب، فقال: كيف موضعي فيكم؟ قال: ما ذاك يا ابن أخي؟ فأخبره ما صنع به. قال: فأقبل أبو طالب مشتملا على السيف يتبعه غلام له فاخترط سيفه وقال: والله لا تكلم رجل منكم إلا ضربته. ثم أمر غلامه فأمر ذلك السلى والفرث على وجوههم واحدا واحدا. ثم قالوا: حسبك هذا فينا يا ابن أخينا. واجتمعت قريش إلى أبي طالب، فقالوا: ندعوك إلى نصفه، هذا عمارة بن الوليد بن المغيرة أحسن قريش وجها وأكملهم هيئة فخذه فصيره ابنك وصير إلينا محمداً نقتله. فقال: ما أنصفتموني! أدفع إليكم ابني تقتلونه، وتدفعون إلى ابنكم أغذوه! وقال أبو طالب في ذلك:
عجبت لحم يا ابن شيبة عارف ... وأحلام أقوام لديك سخاف
يقولون شايع من أراد محمداً ... بسوء وقم في أمره بخلاف
أصاميم إما حاسد ذو خيانة ... وإما قريب منه غير مصافي
ولا يركبن الدهر منك ظلامة ... وأنت امرؤ من خير عبد مناف
وأن له قربى إليكم وسيلة ... وليس بذي حلف ولا بمضاف
ولكنه من هاشم في صميمها ... إلى أبحر فوق البحور طوافي
فإن عصبت فيه قريش فقل لها ... بني عمنا ما قومكم بضعاف
فما قومكم بالقوم يخشون ظلمهم ... وما نحن فيما ساءكم بخفاف
وقال أيضاً:
وينهض قوم نحوكم غير عزل ... ببيض حديث عهدها بالصياقل
وأبيض يستسقي الغمام بوجهه ... ثمال اليتامى عصمة للأرامل
الإسراءوأسرى به وأتاه جبريل بالبراق، وهو أصغر من البغل وأكبر من الحمار مضطرب الأذنين خطوة مد بصره له جناحان يحفزانه من خلفه عليه سرج ياقوت، فمضى به إلى بيت المقدس فصلى به ثم عرج به إلى السماء، فكان بينه وبين ربه كما قال الله: قاب قوسين أو أدنى، ثم هبط به فنزل في بيت أم هانئ بنت أبي طالب. فقص عليها القصة فقالت له: بأبي أنت وأمي، لا تذكر هذا لقريش فيكذبوك.
وفي الليلة التي أسري به افتقده أبو طالب فخاف أن تكون قريش قد اغتالته أو قتلته، فجمع سبعين رجلاً من بني عبد المطلب معهم الشفار وأمرهم أن يجلس كل رجل منهم إلى جانب رجل من قريش، وقال لهم: أن رأيتموني ومحمدا معي فأمسكوا حتى آتيكم وإلا فليقتل كل رجل منكم جليسه ولا تنتظروني. فوجدوه على باب أم هانئ، فأتي به بين يديه حتى وقف على قريش فعرفهم ما كان منه فأعظموا ذلك وجل في صدورهم وعاهدوه وعاقدوه انهم لا يؤذون رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يكون منهم إليه شيء يكرهه أبداً.
النذارةوأمره الله، عز وجل، أن ينذر عشيرته الأقربين، فوقف على المروة ثم نادى بأعلى صوته: يا آل فهر، فاجتمعت إليه بطون قريش حتى لم يبق أحد منهم. فقال له أبو لهب: هذه فهر. ثم نادى: يا آل غالب فانصرفت بنو محارب وبنو الحارث بن فهر ثم نادى يا آل لؤي، فانصرفت بنو تيم الأدرم بن غالب. ثم نادى: يا آل كعب، فانصرفت بنو عامر وبنو عوف بن لؤي. ثم نادى: يا آل مرة، فانصرفت بنو عدي بن كعب وبنو سهم وجمح ابني هصيص بن كعب. ثم نادى: يا آل كلاب، فانصرفت بنو تيم ابن مرة وبنو مخزوم بن يقظة بن مرة. ثم نادى: يا آل قصي، فانصرفت بنو زهرة. ثم نادى: يا آل عبد مناف، فانصرفت بنو عبد الدار وبنو عبد العزى ابني قصي. ثم نادى: يا آل هاشم، فانصرفت بنو عبد شمس وبنو نوفل. وأقام بنو عبد المطلب، فقال أبو لهب: هذه هاشم قد اجتمعت، فجمعهم في بعض دورهم. وحدثني أبو عبد الله الفضل بن عبد الرحمن الهاشمي من ولد ربيعة بن الحارث انهم كانوا في دار الحارث بن عبد المطلب وكانوا أربعين رجلاً يزيدون رجلاً أو ينقصونه، فصنع لهم طعاما فأكلوا عشرة عشرة حتى شبعوا. وكان جميع طعامهم رجل شاة وشرابهم عس من لبن وأن منهم من يأكل الجذعة ويشرب الفرق. ثم أنذرهم كما أمره الله ودعاهم إلى عبادة الله تعالى، وأعلمهم تفضيل الله إياهم واختصاصه لهم إذ بعثه بينهم وأمره أن ينذرهم. فقال أبو لهب: خذوا على يدي صاحبكم قبل أن يأخذ على يده غيركم، فإن منعتموه قتلتم وأن تركتموه ذللتم. فقال أبو طالب: يا عورة والله لننصرنه ثم لنعيننه. يا ابن أخي إذا أردت أن تدعو إلى ربك فأعلمنا حتى نخرج معك بالسلاح. وأسلم يومئذ جعفر بن أبي طالب وعبيدة بن الحارث وأسلم خلق عظيم وظهر أمرهم وكثرت عدتهم وعاندوا ذوي أرحامهم من المشركين. فأخذت قريش من استضعفت منهم إلى الرجوع عن الإسلام والشتم لرسول الله، فكان ممن يعذب في الله عمار بن ياسر وياسر أبوه وسمية أمه حتى قتل أبو جهل سمية، طعنها في قبلها فماتت، فكانت أول شهيد في الإسلام، وخباب بن الأرت وصهيب بن سنان وأبو فكيهة الأزدي وعامر بن فهيرة وبلال بن رباح. وقال خباب بن الأرت: يا رسول الله ادع لنا. قال: إنكم لتعجلون، لقد كان الرجل ممن كان قبلكم يمشط بأمشاط الحديد ويشق بالمنشار فلا يرده ذلك عن دينه، والله ليتممن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله والذئب على عنزة. واشتد على القوم العذاب ونالهم منه أمر عظيم فرجع عن الإسلام خمسة نفر وهم: أبو قيس بن الوليد بن المغيرة وأبو قيس بن ألفاًكه بن المغيرة... فروي أن فيهم نزلت هذه الآية: " الذين تتوفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم " إلى آخر الآية.
مهاجرة الحبشةولما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما فيه أصحابه من الجهد والعذاب وما هو فيه من الأمن بمنع أبي طالب عمه إياه قال لهم: ارحلوا مهاجرين إلى أرض الحبشة إلى النجاشي فإنه يحسن الجوار. فخرج في المرة الأولى اثنا عشر رجلاً وفي المرة الثانية سبعون رجلاً سوى أبنائهم ونسائهم، وهم المهاجرون الأولون، فكان لهم عند النجاشي منزلة، وكان يرسل
إلى جعفر فيسأله عما يريد فلما بلغ قريشا ذلك وجهت بعمرو بن العاص وعمارة بن الوليد المخزومي إلى النجاشي بهدايا وسألوه أن يبعث إليهم بمن صار إليه من أصحاب رسول الله، وقالوا سفهاء من قومنا خرجوا عن ديننا وضللوا أمواتنا وعابوا آلهتنا، وأن تركناهم ورأيهم لم نأمن أن يفسدوا دينك. فلما قال عمرو وعمارة للنجاشي هذا، أرسل إلى جعفر فسأله، فقال: أن هؤلاء على شر دين يعبدون الحجارة ويصلون للأصنام ويقطعون الأرحام ويستعملون الظلم ويستحلون المحارم، وأن الله بعث فينا نبيا من أعظمنا قدرا وأشرفنا سررا وأصدقنا لهجة وأعزنا بيتا، فأمر عن الله بترك عبادة الأوثان واجتناب المظالم والمحارم والعمل بالحق والعبادة له وحده، فرد على عمرو وعمارة الهدايا وقال: أدفع إليكم قوما في جواري على دين الحق وأنتم على دين الباطل! وقال لجعفر: اقرأ علي شيئاً مما أنزل على نبيكم. فقرأ عليه: كهيعص فبكى وبكى من بحضرته من الأساقفة فقال له عمرو وعمارة: أيها الملك إنهم يزعمون أن المسيح عبد مملوك، فأوحشه ذلك وأرسل إلى جعفر فقال له: ما تقول وما يقول صاحبكم في المسيح؟ قال: إنه يقول إنه روح الله وكلمته، ألقاها إلى العذراء البتول. فأخذ عودا بين إصبعيه ثم قال: ما يزيد المسيح على ما قلت ولا مقدار هذا.
وكان عمرو بن العاص وعمارة بن الوليد تلاحيا في طريقهما، وكان عمارة رجلاً مغرماً بالنساء وكان معه امرأته رابطة بنت منبه بن الحجاج السهمي. فقال عمارة: قل لها فلتقبلني. فقال: سبحان الله! أتقول هذا لابنة عمك؟ قال: والله لتفعلن أو لأضربنك بهذا السيف. فقال لها: قبليه. ثم أن عمارة اعتقل عمراً فألقاه في البحر، فعام عمرو وأوهمه أنه فعل هذا مزاحاً. فقال: ألق إلى ابن عمك الحبل، سبحان الله أهكذا يكون المزاح؟ فألقى إليه الحبل فخرج. فلما أراد عمرو وعمارة الانصراف وأيسا من عند النجاشي، قال عمرو لعمارة: لو أرسلت إلى امرأة الملك النجاشي فلعلنا ننال منها حاجتنا عنده. ففعل ذلك ولاطفها حتى أرسلت إليه بطيب من طيب الملك، فكاد عمرو عمارة، وقال للنجاشي: أن صاحبي هذا أرسل إلى امرأة الملك حتى أطمعته في نفسها وبعثت إليه بطيب من طيب الملك. فأخذه النجاشي فنفخ في أنثييه السم وقيل الزئبق، فهام مع الوحوش على وجهه، فلم يزل هائما حتى قدم قوم من بني مخزوم فسألوه أن يأذن لهم في أخذه، فنصبوا له فأخذوه. فلم يزل يضطرب في أيديهم حتى مات. وانصرف عمرو إلى المشركين خائباً، وأقام المسلمون بأرض الحبشة حتى ولد لهم الأولاد. وجميع أولاد جعفر ولدوا بأرض الحبشة ولم يزالوا بها في أمن وسلامة. واسم النجاشي أصحمة.
حصار قريش لرسول الله وخبر الصحيفةوهمت قريش بقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأجمع ملأها على ذلك وبلغ أبا طالب فقال:
والله لن يصلوا إليك بجمعهم ... حتى أغيب في التراب دفينا
ودعوتني وزعمت أنك ناصح ... ولقد صدقت وكنت ثم أمينا
وعرضت ديناً قد علمت بأنه ... من خير أديان البرية دينا
فلما علمت قريش انهم لا يقدرون على قتل رسول الله، وأن أبا طالب لا يسلمه، وسمعت بهذا من قول أبي طالب، كتبت الصحيفة القاطعة الظالمة ألا يبايعوا أحداً من بني هاشم ولا يناكحوهم ولا يعاملوهم حتى يدفعوا إليهم محمد فيقتلوه. وتعاقدوا على ذلك وتعاهدوا وختموا على الصحيفة بثمانين خاتما، وكان الذي كتبها منصور بن عكرمة بن عامر بن هاشم بن عبد مناف بن عبد الدار، فشلت يده. ثم حصرت قريش رسول الله صلى الله عليه وسلم وأهل بيته من بني هاشم وبني المطلب ابن عبد مناف في الشعب الذي يقال له شعب بني هاشم بعد ست سنين من مبعثه. فأقام ومعه جميع بني هاشم وبني المطلب في الشعب ثلاث سنين حتى أنفق رسول الله صلى الله عليه وسلم ماله، وأنفق أبو طالب ماله، وأنفقت خديجة بنت خويلد مالها، وصاروا إلى حد الضر والفاقة. ثم نزل جبريل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أن الله بعث الأرضة على صحيفة قريش فأكلت كل ما فيها من قطيعة وظلم إلا المواضع التي فيها ذكر الله فخبر رسول الله أبا طالب بذلك ثم خرج أبو طالب ومعه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأهل بيته حتى صار إلى الكعبة، فجلس بفنائها وأقبلت قريش من كل أوب فقالوا: قد آن لك يا أبا
طالب أن تذكر العهد وأن تشتاق إلى قومك وتدع اللجاج في ابن أخيك. فقال لهم يا قوم أحضروا صحيفتكم فلعلنا أن نجد فرجا وسببا لصلة الأرحام وترك القطيعة، وأحضروها وهي بخواتيمهم. فقال: هذه صحيفتكم على العهد لم تنكروها. قالوا: نعم. قال: فهل أحدثتم فيها حدثا؟ قالوا: اللهم لا. قال: فإن محمداً أعلمني عن ربه أنه بعث الأرضة فأكلت كل ما فيها إلا ذكر الله أ فرأيتم أن كان صادقا ماذا تصنعون؟ قالوا: نكف ونمسك. قال: فإن كان كاذباً دفعته إليكم تقتلونه.
قالوا: قد أنصفت وأجملت، وفضت الصحيفة فإذا الأرضة قد أكلت كل ما فيها إلا مواضع بسم الله، عز وجل. فقالوا: ما هذا إلا سحر، وما كنا قط أجد في تكذيبه منا ساعتنا هذه وأسلم يومئذ خلق من الناس عظيم وخرج بنو هاشم من الشعب وبنو المطلب فلم يرجعوا إليه.
وفاة القاسم ابن رسول اللهوتوفي القاسم ابن رسول الله، فقال وهو في جنازته، ونظر إلى جبل من جبال مكة: يا جبل لو أن ما بي بك لهدك وكان للقاسم يوم توفي أربع سنين. ثم توفي عبد الله ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعده بشهر، ولم يفطم. فقالت خديجة: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم لو بقي حتى أفطمه! قال: فإن فطامه في الجنة. وسألت خديجة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: أين أولادي منك؟ قال: في الجنة. قالت: بغير عمل؟ قال: الله أعلم بما كانوا عاملين. قالت: فأين أولادي من غيرك؟ قال: في النار. قالت: بغير عمل؟ قال: الله أعلم بما كانوا عاملين.
ما نزل من القرآن بمكةونزل من القرآن بمكة اثنتان وثمانون سورة، على ما رواه محمد بن حفص ابن أسد الكوفي عن محمد بن كثير ومحمد بن السائب الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس. وكان أول ما نزل على رسول الله: اقرأ باسم ربك الذي خلق ثم: نون والقلم وما يسطرون ثم: والضحى ثم: يا أيها المزمل ثم يا أيها المدثر ثم فاتحة الكتاب ثم تبت ثم إذا الشمس كورت ثم سبح اسم ربك الأعلى ثم والليل إذا يغشى ثم والفجر ثم ألم نشرح لك صدرك ثم الرحمن ثم والعصر ثم إنا أعطيناك الكوثر ثم ألهاكم التكاثر ثم أرأيت الذي يكذب بالدين ثم أ لم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل ثم والنجم إذا هوى ثم عبس وتولى ثم إنا أنزلناه في ليلة القدر ثم والشمس وضحاها ثم والسماء ذات البروج ثم والتين والزيتون ثم لإيلاف قريش ثم القارعة ثم لا أقسم بيوم القيامة ثم ويل لكل همزة ثم والمرسلات عرفا ثم ق والقرآن المجيد ثم لا أقسم بهذا البلد ثم والسماء والطارق ثم اقتربت الساعة ثم ص والقرآن ذي الذكر ثم الأعراف ثم سورة الجن ثم سورة يس ثم تبارك الذي نزل الفرقان ثم حمد الملائكة ثم سورة مريم ثم سورة طه ثم طسم الشعراء ثم طس النمل ثم طسم القصص ثم سورة بني إسرائيل ثم سورة يونس ثم سورة هود ثم سورة يوسف ثم الحجر ثم الأنعام ثم الصافات ثم لقمان ثم حم المؤمن ثم حم السجدة ثم حم عسق ثم الزخرف ثم حمد سبأ ثم تنزيل الزمر ثم حم الدخان ثم حم الشريعة ثم الأحقاف ثم والذاريات ثم هل أتاك حديث الغاشية ثم سورة الكهف ثم سورة النحل ثم إنا أرسلنا نوحا ثم سورة إبراهيم ثم اقترب للناس حسابهم ثم
قد أفلح المؤمنون ثم الرعد ثم والطور ثم تبارك الذي بيده الملك ثم الحاقة ثم سأل سائل ثم عم يتساءلون ثم والنازعات غرقا ثم إذا السماء انفطرت ثم سورة الروم ثم العنكبوت. وقد اختلف الناس في هذا التأليف في غير رواية ابن عباس، وكان الاختلاف أيضاً يسيراً. وروى محمد بن كثير ومحمد بن السائب عن ابن صالح عن ابن عباس أنه قال: كان القرآن ينزل مفرقا، لا ينزل سورة سورة، فما نزل أولها بمكة أثبتناها بمكة وأن كان تمامها بالمدينة، وكذلك ما نزل بالمدينة وإنه كان يعرف فصل ما بين السورة والسورة إذا نزل بسم الله الرحمن الرحيم، فيعلمون أن الأولى قد انقضت وابتدئ بسورة أخرى. وروى بعضهم أن التوراة أنزلت لست خلون من شهر رمضان والزبور لاثنتي عشرة ليلة خلت من شهر رمضان بعد التوراة بألف وخمسمائة عام، والإنجيل لثماني عشرة ليلة خلت من شهر رمضان بعد الزبور بثمانمائة عام، وقيل ستمائة. وروى آخرون أن القرآن نزل لعشرين ليلة خلت من شهر رمضان. وروى جعفر بن محمد أنه قال: أن الله لم يبعث قط نبياً إلا بما هو أغلب على أهل زمانه، فبعث موسى بن عمران إلى قوم كان الأغلب عليهم السحر فأتاهم بما ضل معه سحرهم من العصا واليد والجراد والقمل والضفادع والدم وانفلاق البحر وانفجار الحجر حتى خرج منه الماء والطمس على وجوههم، فهذه آياته، وبعث داود في زمن أغلب الأمور على أهله الصنعة والملاهي فألان له الحديد وأعطاه حسن الصوت فكانت الوحوش تجتمع لحسن صوته، وبعث سليمان في زمان قد غلب على الناس فيه حب البناء واتخاذ الطلسمات والعجائب فسخر له الريح والجن، وبعث عيسى في زمان أغلب الأمور على أهله الطب فبعثه بإحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص، وبعث محمداً في زمان أغلب الأمور على أهله الكلام والكهنة والسجع والخطب فبعثه بالقرآن المبين والمحاورة.
وفاة خديجة وأبي طالبوتوفيت خديجة بنت خويلد في شهر رمضان قبل الهجرة بثلاث سنين، ولها خمس وستون سنة، ودخل عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي تجود بنفسها، فقال: بالكرة مني ما أرى، ولعل الله أن يجعل في الكره خيراً كثيراً، إذا لقيت ضراتك في الجنة يا خديجة فأقرئيهن السلام. قالت: ومن هن يا رسول الله؟ قال: أن الله زوجنيك في الجنة وزوجني مريم بنت عمران وآسية بنت مزاحم وكلثوم أخت موسى فقالت: بالرفاء والبنين. ولما توفيت خديجة، جعلت فاطمة تتعلق برسول الله وهي تبكي وتقول: أين أمي؟ أين أمي؟ فنزل عليه جبريل فقال: قل لفاطمة أن الله تعالى بنى لأمك بيتا في الجنة من قصب لا نصب فيه ولا صخب.
وتوفي أبو طالب بعد خديجة بثلاثة أيام وله ست وثمانون سنة، وقيل بل تسعون سنة. ولما قيل لرسول الله أن أبا طالب قد مات عظم ذلك في قلبه واشتد له جزعه ثم دخل فمسح جبينه الأيمن أربع مرات وجبينه الأيسر ثلاث مرات ثم قال: يا عم ربيت صغيراً وكفلت يتيماً ونصرت كبيرا، فجزاك الله عني خيراً، ومشى بين يدي سريره وجعل يعرضه ويقول: وصلتك رحم وجزيت خيراً، وقال: اجتمعت على هذه الأمة في هذه الأيام مصيبتان لا أدري بأيهما أنا أشد جزعا، يعني مصيبة خديجة وأبي طالب. وروي عنه أنه قال: أن الله، عز وجل، وعدني في أربعة، في أبي وأمي وعمي وأخ كان لي في الجاهلية.
عرض الرسول نفسه على القبائلوخروجه إلى الطائف واجترأت قريش على رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد موت أبي طالب وطمعت فيه وهموا به مرة بعد أخرى، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرض نفسه على قبائل العرب في كل موسم ويكلم شريف كل قوم، لا يسألهم إلا أن يؤووه ويمنعوه، ويقول: لا أكره أحداً منكم، إنما أريد أن تمنعوني مما يراد بي من القتل حتى أبلغ رسالات ربي، فلم يقبله أحد، وكانوا يقولون: قوم الرجل أعلم به، فعمد لثقيف بالطائف، فوجد ثلاثة نفر إخوة هم يومئذ سادة ثقيف وهم: عبد ياليل بن عمرو وحبيب بن عمرو ومسعود بن عمرو، فعرض عليهم نفسه وشكا إليهم البلاء، فقال أحدهم: ألا يسرق ثياب الكعبة أن كان الله بعثك؟ وقال الآخر أعجز على الله أن يرسل غيرك؟ وقال الآخر: والله لا أكلمك أبدا، لئن كنت رسولا كما تقول لأنت أعظم خطرا من
أن أرد عليك الكلام، ولئن كنت تكذب على الله ما ينبغي لي أن أكلمك. وتهزأوا به وأفشوا في قومهم ما قالوه له، وقعدوا له صفين. فلما مر رسول الله رجموه بالحجارة حتى أدموا رجله، فقال رسول الله: ما كنت أرفع قدما ولا أضعها إلا على حجر. ووافاه بالطائف عتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة ومعهما غلام لهما نصراني ويقال له عداس، فوجها به إلى رسول الله، فلما سمع كلامه أسلم ورجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مكة.
قدوم الأنصار مكةوكانت الأوس والخزرج ابنا حارثة بن ثعلبة أهل عز ومنعة في بلادهم حتى كانت بينهم الحروب التي أفنتهم في أيام لهم مشهورة منها يوم الصفينة وهو أول يوم جرت الحرب فيه ويوم السرارة ويوم وفاق بني خطمة ويوم حاطب ابن قيس ويوم حضير الكتائب ويوم أطم بني سالم ويوم أبتروه ويوم البقيع ويوم بعاث ويوم مضرس ومعبس ويوم الدار ويوم بعاث الآخر ويوم فجار الأنصار، وكانوا ينتقلون في هذه المواضع التي تعرف أيامهم بها ويقتتلون قتالاً شديدا، فلما ضرستهم الحرب وألقت بركها عليهم وظنوا أنها الفناء، واجترأت عليهم بنو النضير وقريظة وغيرهم من اليهود خرج قوم منهم إلى مكة يطلبون قريشا لتقويهم، وعزوا فاشترطوا عليهم شروطا لم يكن لهم فيها مقنع، وكان المشترط عليهم أبو جهل بن هشام المخزومي، وقد قيل أن قريشا قد كانت إجابتهم حتى قدم أبو جهل من سفر له وكان غائباً فنقض الحلف واشترط عليهم شروطا لم يقنعوا بها. ثم صاروا إلى الطائف فسألوا ثقيفا فأبطأوا عنهم فانصرفوا. وقدم رجل منهم بعد مبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم يقال له سويد بن الصامت من الأوس حاجا أو معتمرا فبلغه أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فلقيه وكلمه فدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الله. فقال له سويد: أن معي مجلة لقمان. قال: فاعرضها علي، فعرضها عليه. فقال رسول الله: أن هذا الكلام لحسن، والذي معي أحسن منه: كلام الله، وقرأ عليه. فقال: يا محمد أن هذا الكلام حسن.
ثم انصرف إلى المدينة، فلم يلبث أن قتلته الخزرج، ثم قدم نفر منهم أيضاً إلى مكة، وهم بنو عفراء، يتفاخرون مع أسعد بن زرارة، فلقيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعاهم إلى الله وقرأ عليهم القرآن. فقال رجل منهم يقال له إياس بن معاذ: يا قوم هذا والله النبي الذي كانت اليهود تعدكم، به فلا يسبقنكم إليه أحد، فأسلموا، وأخذ عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم الإيمان بالله وبرسوله، ثم انصرفوا فأخبروا قومهم الخبر وقد كانوا سألوه أن يوجه معهم رجلاً من قبله يدعو الناس بكتاب الله. فبعث إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم مصعب بن عمير فنزل على أسعد بن زرارة وجعل يدعوهم إلى الله، عز وجل، ويعلمهم الإسلام، وكان أول من قدم المدينة. ثم خرج اثنا عشر رجلاً منهم إليه فلقوه وهم أصحاب العقبة الأولى فأمنوا بالله وصدقوه، وانصرفوا إلى المدينة وكثر خبره وفشا الإسلام فيها.
فلما كان العام القابل خرج إليه جماعة من الأوس وجماعة من الخزرج فوافى منهم سبعون رجلاً وامرأتان فأسلموا وصدقوه، وأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم عليهم بيعة النساء.
فسألوه أن يخرج معهم إلى المدينة، وقالوا: إنه لم يصبح قوم في مثل ما نحن فيه من الشر، ولعل الله أن يجمعنا بك ويجمع ذات بيننا فلا يكون أحد أعز منا. فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم قولا جميلا، ثم انصرفوا إلى قومهم فدعوهم إلى الإسلام فكثر حتى لم تبق دار من دور الأنصار إلا وفيها ذكر حسن من ذكر رسول الله، وسألوه الخروج معهم وعاهدوه أن ينصروه على القريب والبعيد والأسود والأحمر، قال له العباس بن عبد المطلب: وإني فداك أبي وأمي آخذ العهد عليهم فجعل ذلك إليه وأخذ عليهم العهود والمواثيق أن يمنعوه وأهله مما يمنعون منه أنفسهم وأهليهم وأولادهم وعلى أن يحاربوا معه الأسود والأحمر وأن ينصروه على القريب والبعيد وشرط لهم الوفاء بذلك والجنة.
خروج رسول الله من مكة
وأجمعت قريش على قتل رسول الله، وقالوا: ليس له اليوم أحد ينصره وقد مات أبو طالب، فأجمعوا جميعاً على أن يأتوا من كل قبيلة بغلام نهد فيجتمعوا عليه فيضربوه بأسيافهم ضربه رجل واحد فلا يكون لبني هاشم قوة بمعاداة جميع قريش. فلما بلغ رسول الله، انهم أجمعوا على أن يأتوه في الليلة التي اتعدوا فيها، خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم لما اختلط الظلام ومعه أبو بكر، وأن الله، عز وجل، أوحى في تلك الليلة إلى جبريل وميكائيل أني قضيت على أحدكما بالموت فأيكما يواسي صاحبه؟ فاختار الحياة كلاهما فأوحى الله إليهما: هلا كنتما كعلي بن أبي طالب، آخيت بينه وبين محمد، وجعلت عمر أحدهما أكثر من الآخر، فاختار على الموت وآثر محمداً بالبقاء وقام في مضجعه، اهبطا فاحفظاه من عدوه، فهبط جبريل وميكائيل فقعد أحدهما عند رأسه والآخر عند رجليه يحرسانه من عدوه ويصرفان عنه الحجارة، وجبريل يقول: بخ بخ لك يا ابن أبي طالب من مثلك يباهي الله بك ملائكة سبع سماوات! وخلف علياً على فراشه لرد الودائع التي كانت عنده وصار إلى الغار فكمن فيه وأتت قريش فراشه فوجدوا علياً فقالوا: أين ابن عمك؟ قال: قلتم له اخرج عنا، فخرج عنكم. فطلبوا الأثر فلم يقعوا عليه، وأعمى الله عليهم المواضع فوقفوا على باب الغار وقد عششت عليه حمامة، فقالوا: ما في هذا الغار أحد، وانصرفوا. وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم متوجها إلى المدينة، ومر بأم معبد الخزاعية فنزل عندها. ثم نفذ لوجهه حتى قدم المدينة وكان جميع مقامه بمكة حتى خرج منها إلى المدينة ثلاث عشرة سنة من مبعثه. وروى بعضهم أنه قال: ما علمت قريش أين توجه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى سمعوا هاتفا من بعض جبال مكة يقول:
فإن يسلم السعدان يصبح محمد ... بمكة لا يخشى خلاف المخالف
وقال أبو سفيان: من السعود سعد هذيم وسعد تميم وسعد بكر فسمعوا في الليلة المقبلة قائلا يقول:
فيا سعد سعد الأوس كن أنت ناصراً ... ويا سعد سعد الخزرجين الغطارف
أنيبا إلى داعي الهدى وتمنيا ... على الله في الفردوس منية عارف
فعلمت قريش أنه قد مضى إلى يثرب، واتبعه سراقة بن جعشم المدلجي لما صار إلى ماء بني مدلج. فلما لحقه قال رسول الله: اللهم أكفنا سراقة، فساخت قوائم فرسه فصاح: يا ابن أبي قحافة، قل لصاحبك أن يدعو الله بإطلاق فرسي، فلعمري لئن لم يصبه مني خير لا يصبه مني شر. فلما رجع إلى مكة خبرهم الخبر فكذبوه، وكان أشدهم له تكذيبا أبو جهل، فقال سراقة:
أبا حكم والله لو كنت شاهداً ... لأمر جوادي حيث ساخت قوائمه
علمت ولم تشكك بأن محمداً ... رسول وبرهان فمن ذا يكاتمه
قدوم رسول الله المدينةوقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة يوم الاثنين لثمان خلون من شهر ربيع الأول، وقيل يوم الخميس لاثنتي عشرة ليلة خلت منه، والشمس يومئذ في السرطان ثلاثاً وعشرين درجة وست دقائق، والقمر في الأسد ست درجات وخمسا وثلاثين دقيقة، وزحل في الأسد درجتين، والمشتري في الحوت ست درجات راجعا، والزهرة في الأسد ثلاث عشرة درجة، وعطارد في الأسد خمس عشرة درجة، فنزل على كلثوم بن الهدم، فلم يلبث إلا أياماً، حتى مات كلثوم، وانتقل فنزل على سعد بن خيثمة في بني عمرو بن عوف فمكث أياماً. ثم كان سفهاء بني عمرو ومنافقوهم يرجمونه في الليل، فلما رأى ذلك قال: ما هذا الجوار؟ فارتحل عنهم وركب راحلته وقال: خلوا زمامها، فجعل لا يمر بحي من أحياء الأنصار إلا قالوا له: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم انزل بنا، فإنك تنزل في العدة والكثرة فيقول: خلوا زمام الراحلة فإنها مأمورة، حتى وقفت على باب أبي أيوب الأنصاري فبركت، فنخست بقضيب فلم تبرح، فنزل بأبي أيوب فأقام عنده أياماً ثم انتقل إلى حجراته، وقيل أن ناقته بركت في موضع المسجد فنزل فجاء أبو أيوب فأخذ رحلة فمضى بها إلى منزله، وكلمته الأنصار في النزول بها، فقال: المرء مع رحله.
وقدم علي بن أبي طالب بفاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم وذلك قبل نكاحه إياها، وكان يسير الليل ويكمن النهار حتى قدم فنزل مع رسول الله. ثم زوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم من علي بعد قدومه بشهرين، وقد كان جماعة من المهاجرين خطبوها إلى رسول الله، فلما زوجها علياً قالوا في ذلك، فقال رسول الله: ما أنا زوجته ولكن الله زوجه. وقدم العباس بن عبد المطلب بزينب بنت رسول الله، وكانت بالطائف حين هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم عند أبي العاص بن بشر بن عبد دهمان الثقفي، ثم رجع العباس إلى مكة وقدم المهاجرون فنزلوا منازل الأنصار فواسوهم بالديار والأموال.
افتراض الصوم والصلاةوافترض الله عز وجل، شهر رمضان، وصرفت القبلة نحو المسجد الحرام في شعبان بعد مقدمه بالمدينة بسنة وخمسة أشهر، وقيل بسنة ونصف. وأنزل الله، عز وجل: قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبله ترضاها فول وجهك شطر المسجد الحرام. وكان بين نزول افتراض شهر رمضان وبين توجه القبلة إلى الكعبة ثلاثة عشر يوماً. وروى بعضهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي الظهر في مسجد بني سلمة، فلما صلى ركعتين نزل عليه: صرف القبلة إلى الكعبة. واستدار حتى جعل وجهه إلى الكعبة، فسمي ذلك المسجد مسجد القبلتين وبنى مسجداً باللبن وسقفه بالجريد، وقيل له: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم لو وسعت المسجد فقد كثر المسلمون. فقال: لا عرش كعرش موسى. وعمل غلام للعباس يقال له كلاب منارة، ولم تكن للمسجد منارة على عهد رسول الله، وكان بلال يؤذن ثم أذن معه ابن أم مكتوم، وكان أيهما سبق أذن فإذا كانت الصلاة أقام واحد. وروى الواقدي أن بلالاً كان إذا أذن وقف على باب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: الصلاة يا رسول الله، حي على الصلاة حي على الفلاح.
ما نزل من القرآن بالمدينة ونزل عليهبالمدينة من القرآن اثنتان وثلاثون سورة. أول ما نزل: ويل للمطففين ثم سورة البقرة، ثم سورة الأنفال، ثم سورة آل عمران، ثم الحشر ثم سورة الأحزاب ثم سورة النور ثم الممتحنة ثم إنا فتحنا لك ثم سورة النساء ثم سورة الحج ثم سورة الحديد ثم سورة محمد ثم هل أتى على الإنسان ثم سورة الطلاق ثم سورة لم يكن ثم سورة الجمعة ثم تنزيل السجدة ثم المؤمن ثم إذا جاءك المنافقون ثم المجادلة ثم الحجرات ثم التحريم ثم التغابن ثم الصف ثم المائدة ثم براءة ثم إذا جاء نصر الله والفتح ثم إذا وقعت الواقعة ثم والعاديات ثم المعوذتين جميعاً وكان آخر ما نزل لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم إلى آخر السورة. وقد قيل: أن آخر ما نزل عليه اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام. دينا وهي الرواية الصحيحة الثابتة الصريحة. وكان نزولها يوم النفر على أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، ص، بغدير خم. وقيل: آخر ما نزل واتقوا يوماً ترجعون فيه إلى الله. وقال ابن عباس: كان جبريل إذا نزل على النبي بالوحي يقول له: ضع هذه الآية في سورة كذا في موضع كذا، فلما نزل عليه اتقوا يوماً ترجعون فيه إلى الله قال: ضعها في سورة البقرة.
قال ابن مسعود: نزل القرآن بأمر ونهي وتحذير وتبشير، وقال جعفر بن محمد: نزل القرآن بحلال وحرام، وفرائض وأحكام، وقصص وأخبار، وناسخ ومنسوخ، ومحكم ومتشابه، وعبر وأمثال، وظاهر وباطن، وخاص وعام. وأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم يتلوم ويتهيأ للقتال حتى أنزل الله، عز وجل: أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وأن الله على نصرهم لقدير والآية التي بعدها. وقال: فقاتل في سبيل الله لا تكلف إلا نفسك إلى آخر الآية. فكان الرجل من المؤمنين يعد بعشرة من المشركين حتى أنزل الله، عز وجل: الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا فإن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين وأن يكن منكم ألف يغلبوا ألفين وأنزل الله عليه سيفاً من السماء له غمد، فقال له جبريل: ربك يأمرك أن تقاتل بهذا السيف قومك حتى يقولوا: لا إله إلا الله، وإنك رسول الله، فإذا فعلوا ذلك حرمت دماؤهم وأموالهم إلا لمحقها وحسابهم على الله. فكان أول سرية سارت، ولواء عقد في الإسلام لحمزة بن عبد المطلب، وقد ذكرنا هذا وغيره في كتابنا هذا بعد انقضاء الغزوات التي غزاها رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقعة بدر العظمىوكانت وقعة بدر يوم الجمعة لثلاث عشرة ليلة بقيت من شهر رمضان، بعد مقدمه بثمانية عشر شهراً، وكان سببها أن أبا سفيان بن حرب قدم من الشام بعير لقريش تحمل تجارات وأموالا، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يعارضه وجاء الصريخ إلى قريش بمكة يخبرهم الخبر. وكان الرسول بذلك ضمضم بن عمرو الغفاري، فخرجوا نافرين مستعدين، وخالف أبو سفيان الطريق فنجا بالعير. وأقبلت قريش مستعدة لقتال رسول الله صلى الله عليه وسلم وعدتهم ألف رجل، وقيل تسعمائة وخمسون، وكانوا ينحرون كل يوم من الجزور عشراً وتسعاً، فنحر أبو جهل بن هشام عشراً وأمية بن خلف الجمحي تسعا وسهيل بن عمرو عشراً، وعتبة بن ربيعة عشراً وشيبة بن ربيعة تسعاً ومنبه ونبيه ابنا الحجاج السهميان عشراً وأبو البختري العاص بن هشام الأسدي عشراً والحارث بن عامر بن نوفل بن عبد مناف عشراً والعباس بن عبد المطلب عشرا. وقيل: أن العباس نحر يوم الوقعة فأكفئت القدور، وإنه خرج مستكرها كالأسير. وقال عبد الله بن العباس: أن أبي أطعم أسيرا، وما أطعم أسير قبله. وروى ابن إسحاق أن حكم بن حزام كان من المطعمين، وكان أبو لهب عليلا فلم يمكنه الخروج فأعانهم بأربعة آلاف درهم، وقيل بل كان أبو لهب قامر العاص بن هشام المخزومي فقمره نفسه فدفعه إليهم مكانه. وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثلاثمائة، وقيل: تسعين رجلاً منهم من المهاجرين واحد وثمانون، ومن الأنصار مائتان واثنان وثلاثون رجلاً، ومعه فرسان فرس للزبير بن العوام وفرس للمقداد بن عمرو البهراني، ويقال فرس لمرثد بن أبي مرثد الغنوي ومعه سبعون راحلة، فالتقوا يوم الجمعة لعشر خلون من شهر رمضان فقتل من المسلمين أربعة عشر رجلاً وقتل من المشركين من سادات قريش سبعون رجلاً وأسر منهم سبعون رجلاً. فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم برجلين من الأسارى فضربت أعناقهما وهما عقبة بن أبي معيط بن أبي عمرو ابن أمية والنضر بن الحارث بن كلدة بن عبد مناف بن عبد الدار، وأخذ الفداء من ثمانية وستين رجلاً، وافتدى العباس نفسه وابني أخيه عقيل بن أبي طالب ونوفل بن الحارث وحليفا لهما من بني فهر. وقال العباس لرسول الله: إنه لا مال لي فدعني أسأل الناس بكفي. فقال: أين المال الذي دفعته إلى أم الفضل؟ يعني لبابة بنت الحارث الهلالية امرأته، وقلت لها يكون عدة. فقال: أشهد أنك رسول الله، والله ما اطلع على ذلك غيري وغيرها فافتدى نفسه بسبعين أوقية وابني أخيه بسبعين أوقية. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الليلة التي بات فيها العباس أسيرا: لقد أسهرني أنين العباس عمي في القد منذ الليلة، وأسلم العباس وخرج إلى مكة يكتم إسلامه. وتوفي أبو لهب بعد وقعة بدر بأيام أو بعد أن أتاهم الخبر بتسعة أيام. وكان أول من قدم مكة وخبر بخبر قريش ومن قتل منها عمرو بن جحدم الفهري. وأعز الله نبيه وقتل من قريش من قتل فأوفدت العرب وفودها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وحاربت ربيعة كسرى وكانت وقعتهم بذي قار، فقالوا: عليكم بشعار التهامي، فنادوا: يا محمد، يا محمد، فهزموا جيوش كسرى وقتلوهم. فقال رسول الله: اليوم أول يوم انتصفت فيه العرب من العجم وبي نصروا. وكان يوم ذي قار بعد وقعة بدر بأشهر أربعة أو خمسة. وضحى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة، وخرج الناس إلى المصلى بعيديهم، ولم يخرج قبل ذلك، وكانت العنزة بين يديه، وذبح شاتين بالمصلى بيده، وقيل شاة، ومضى في طريق ورجع في أخرى.
وقعة أحد
وكانت وقعة أحد في شوال بعد بدر بسنة: اجتمعت قريش واستعدت لطلب ثارها يوم بدر، واستعانت بالمال الذي قدم به أبو سفيان، وقالوا: لا تنفقوا منه شيئاً إلا في حرب محمد. فكتب العباس بن عبد المطلب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بخبرهم، وبعث بالكتاب مع رجل من جهينة. فخبر رسول الله أصحابه بخبرهم، وخرج المشركون وعدتهم ثلاثة آلاف ورئيسهم أبو سفيان بن حرب. وكان رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا يخرج من المدينة لرؤيا رآها في منامه: أن في سيفه ثلمة وأن بعيرا يذبح له، وأنه أدخل يده في درع حصينة، وتأولها محمد أن نفرا من أصحابه يقتلون، وأن رجلاً من أهل بيته يصاب، وأن الدرع المدينة. فأشارت عليه الأنصار بالخروج، فلما لبس لباس الحرب ردت إليه الأنصار الأمر، وقالوا: لا نخرج عن المدينة. فقال: الآن وقد لبست لأمتي، والنبي إذا لبس لأمته لا ينزعها حتى يقاتل، ويفتح الله عليه. فخرج وخرج المسلمون وعدتهم ألف رجل حتى صاروا إلى أحد. ووافى المشركون فاقتتلوا قتالاً شديداً، فقتل حمزة بن عبد المطلب، أسد الله وأسد رسوله، رماه وحشي عبد لجبير بن مطعم بحربة، فسقط ومثلت به هند بنت عتبة بن ربيعة وشقت عن كبده فأخذت منها قطعة فلاكتها، وجدعت أنفه، فجزع عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم جزعاً شديداً وقال: لن أصاب بمثلك، وكبر عليه خمساً وسبعين تكبيرة، وانهزم المسلمون حتى بقي رسول الله صلى الله عليه وسلم وما معه إلا ثلاثة نفر: علي والزبير وطلحة. وقال المنافقون: قتل محمد، ورماه عبد الله بن قمئة فأثر في وجهه واقتحم خالد بن الوليد. وكان ميسرة المشركين الثغرة، فقتل عبد الله بن جبير وجماعة من المسلمين ناشبة. كان رسول الله صلى الله عليه وسلم صيرهم على تلك الثغرة، ودخل عسكر رسول الله صلى الله عليه وسلم وفيه كانت هزيمة المسلمين. قال الله تعالى: " إذ تصعدون ولا تلوون على أحد والرسول يدعوكم في أخراكم " . وعاتب الله المسلمين في آيات من كتابه. وقتل من المسلمين ثمانية وستون رجلاً، ومن المشركين اثنان وعشرون رجلاً، ثم رجع المشركون وفرق الله جمعهم. وجاء يهودي حتى وقف على باب الأطم الذي فيه النساء وكان حسان بن ثابت معهن فصاح اليهودي: اليوم بطل السحر، ثم ارتقى يصعد. فقالت صفية بنت عبد المطلب. يا حسان انزل إليه. فقال: رحمك الله يا بنت عبد المطلب، لو كنت ممن ينازل الأبطال خرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أقاتل. فأخذت صفية السيف، وقيل: أخذت هراوة فضربت اليهودي حتى قتلته، ثم قالت: انزل فاسلبه. فقال: لا حاجة لي في سلبه. وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ضرب لصفية يومئذ بسهم، فلما كان من غد يوم أحد، نادى رسول الله صلى الله عليه وسلم فخرجوا على علتهم وعلى ما أصابهم من الجروح، وخرج رسول الله حتى انتهى إلى حمراء الأسد ثم رجع إلى المدينة ولم يلق كيدا، فهم الذين أجابوا الله ورسوله من بعد ما أصابهم القرح.
وقعة بني النضيرثم كانت وقعة بني النضير، وهم فخذ من جذام إلا انهم تهودوا ونزلوا بجبل يقال له النضير، فسموا به، وكذلك قريظة بعد أحد بأربعة أشهر. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث إليهم بعد أن وجه من يقتل كعب بن الأشرف اليهودي الذي أراد أن يمكر برسول الله. أن اخرجوا من دياركم وأموالكم. فوجه إليهم عبد الله بن أبي بن سلول وأصحابه المنافقون: لا تخرجوا فإنا نعينكم، فلم يخرجوا. فسار إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد العصر فقاتلهم، فقتل منهم جماعة، وخذلهم عبد الله بن أبي بن سلول وأصحابه. فلما رأوا أنه لا قوة لهم على حرب رسول الله، طلبوا الصلح فصالحهم على أن يخرجوا من بلادهم ولهم ما حملت الإبل من خرثي متاعهم لا يخرجون معهم بذهب ولا فضة ولا سلاح، فتحملوا إلى الشام وأسلم سلام بن ويامين النضيري. وكانت غنائمهم لرسول الله خالصة، ففرقها بين المهاجرين دون الأنصار إلا رجلين: أبا دجانة وسهل بن حنيف، فإنهما شكياً حاجة. وفي هذه الغزاة شرب المسلمون الفضيخ فسكروا، فنزل تحريم الخمر.
وقعة الخندق
ثم كانت وقعة الخندق، وهو يوم الأحزاب، في السنة السادسة بعد مقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة بخمسة وخمسين شهراً، وكانت قريش تبعث إلى اليهود وسائر القبائل فحرضوهم على قتال رسول الله، فاجتمع خلق من قريش إلى موضع يقال له سلع، وأشار عليه سلمان ألفاًرسي أن يحفر خندقا، فحفر الخندق وجعل لكل قبيلة حدا يحفرون إليه، وحفر رسول الله صلى الله عليه وسلم معهم حتى فرغ من حفر الخندق وجعل له أبوابا وجعل على الأبواب حرسا، من كل قبيلة رجلاً، وجعل عليهم الزبير بن العوام وأمره أن رأى قتالاً أن يقاتل. وكانت عدة المسلمين سبعمائة رجل. ووافى المشركون فأنكروا أمر الخندق وقالوا: ما كانت العرب تعرف هذا. وأقاموا خمسة أيام. فلما كان اليوم الخامس خرج عمرو بن عبدود وأربعة نفر من المشركين: نوفل بن عبد الله بن المغيرة المخزومي وعكرمة ابن أبي جهل وضرار بن الخطاب الفهري وهبيرة بن أبي وهب المخزومي، فخرج علي بن أبي طالب إلى عمرو بن عبدود فبارزه وقتله وانهزم الباقون، وكبا بنوفل بن عبد الله بن المغيرة فرسه فلحقه علي فقتله. وبعث الله، عز وجل، على المشركين ريحا وظلمة فانصرفوا هاربين لا يلوون على شيء حتى ركب أبو سفيان ناقته وهي معقولة. فلما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك، قال: عوجل الشيخ. وكانت الحرب على ما روى بعضهم ثلاثة أيام بالرمي بغير مجالدة ولا مبارزة. واتصلت في اليوم الثالث حتى فاتت صلاة الظهر وصلاة العصر وصلاة المغرب وصلاة العشاء الآخرة، فقال رسول الله: شغلونا عن الصلاة، ملأ الله بطونهم وقبورهم نارا. ثم أمر بلالا فأقام الصلاة فصلى الظهر ثم العصر ثم المغرب ثم العشاء وذلك قبل أن ينزل عليه: فإن خفتم فرجالا أو ركبانا، وفي هذه الوقعة ظهر النفاق، وقال المنافقون: تعد يا محمد بقصور كسرى وقيصر ولأحدنا لا يقدر على الغائط، ما هذا إلا غرور. فأنزل الله، عز وجل، سورة الأحزاب، وقص. فيها ما قص فكان قوم اليهود صاروا إلى رسول الله: منهم حيي بن أخطب وسلام بن أبي الحقيق، فقالوا له: يا محمد نزل الم. قال: نعم. قال: جاءك بها جبريل من عند الله. قال: نعم. قال حيي بن أخطب: ما بعث الله نبياً إلا أعلمه قدر ملكه، فالألف واحد واللام ثلاثون والميم أربعون، فذلك إحدى وسبعون سنة، فهل غير هذا؟ قال: نعم المص. قال: هي أثقل وأطول، ألف واحد ولام ثلاثون والميم أربعون وصاد ستون، فهذه إحدى وثلاثون ومائة سنة، فهل غير هذا؟ قال: نعم، المر. قال: هي أثقل وأطول، ألف واحد ولام ثلاثون وراء مائتان، فهذا مائتان وإحدى وثلاثون سنة، فهل غير هذا؟ قال: نعم، المر. قال: هذا أثقل وأطول، ألف واحد ولام ثلاثون وميم أربعون وراء مائتان، فهذا مائتان وإحدى وسبعون، لقد لبس علينا أمرك يا محمد فلا ندري أقليلاً أعطيت أم كثيراً ولعلك قد أعطيت الم والمص والر والمر، فذلك سبعمائة وأربع وستون سنة. وقتل يوم الخندق من المسلمين ستة ومن المشركين ثمانية.
وقعة بني قريظةثم كانت وقعة بني قريظة، وهي فخذ من جذام أخوه النضير، ويقال أن تهودهم كان في أيام عاديا أي السموأل. ثم نزلوا بجبل يقال له قريظة، فنسبوا إليه. وقد قيل أن قريظة اسم جدهم بعقب الخندق. وكان بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم صلح فنقضوه، ومالوا مع قريش.
فوجه إليهم سعد بن معاذ وعبد الله بن رواحة وخوات بن جبير فذكروهم العهد وأساءوا الإجابة. فلما انهزمت قريش يوم الخندق دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم علياً، فقال له: قدم راية المهاجرين إلى بني قريظة، وقال: عزمت عليكم ألا تصلوا العصر إلا في بني قريظة، وركب حمارا له. فلما دنا منهم لقيه علي بن أبي طالب فقال: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تدن. فقال: أحسب أن القوم أساءوا القول، فقال: نعم يا رسول الله، فيقال إنه قال بيده هكذا وهكذا. فانفرج البجل حين رأوه، وقال: يا عبدة الطاغوت يا وجوه القردة والخنازير فعل الله بكم وفعل. فقالوا: يا أبا القاسم ما كنت فاحشا. فاستحيا، فرجع القهقرى ولم يتخلف عنه من المهاجرين أحد. وأفاء عامة الأنصار فقتل من بني قريظة ثم تحصنوا فحاصرهم رسول الله أياماً حتى نزلوا على حكم سعد بن معاذ الأنصاري، فحضر سعد عليلاً، فقالوا له: قل يا أبا عمرو وأحسن. فقال: قد آن لسعد أن لا تأخذه في الله لومة لائم، أرضيتم بحكمي؟ قالوا: نعم. ثم قال: قد حكمت أن تقتل مقاتلتهم وتسبي ذراريهم وتجعل أموالهم للمهاجرين دون الأنصار. فقال رسول الله: لقد حكمت بحكم الله من فوق سبع سماوات. ثم قدمهم عشرة عشرة، فضرب أعناقهم. وكانت عدتهم سبعمائة وخمسين، فانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم واصطفى منهم ست عشرة جارية فقسمها على فقراء هاشم وأخذ لنفسه منهن واحدة يقال لها ريحانة. وقسمت أموال بني قريظة ونساؤهم وأعلم سهم ألفاًرس وسهم الراجل، فكان ألفاًرس يأخذ سهمين والراجل سهماً، وكان أول مغنم أعلم فيه سهم ألفاًرس. وكانت الخيل ثمانية وثلاثين فرساً.
وقعة بني المصطلقثم كانت وقعة بني المصطلق من خزاعة، لقيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمريسيع وهزمهم وسباهم. فكان ممن سبي في غزاته جويرية بنت الحارث بن أبي ضرار، وقتل أبوها وعمها وزوجها فوقعت في سهم ثابت بن قيس بن شماس الخزرجي. فكاتبها، فأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم في مكاتبتها فقضى عليها مكاتبتها وتزوجها وجعل صداقها عتقها. فلم يبق عنده من سبي بني المصطلق أحد إلا أعتقه، وتزوجوا من فيهم من النساء لتزويج رسول الله صلى الله عليه وسلم جويرية.
وفي هذه الغزاة قال أصحاب الإفك في عائشة ما قالوا، فأنزل الله، عز وجل، براءتها. وكانت تخلفت لبعض شأنها، فجاء صفوان بن المعطل السلمي فصيرها على بعيره وقادها. فقال من قال فيها الإفك وجلد رسول الله صلى الله عليه وسلم حسان بن ثابت ومسطح بن أثاثة وعبد الله بن أبي بن سلول، وهو الذي تولى كبره، وحمنة بنت جحش. أخت زينب بنت جحش وأسلم بنو المصطلق وبعثوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بإسلامهم، فبعث الوليد بن عقبة بن أبي معيط ليقبض صدقاتهم فانصرف إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله، عز وجل: " يا أيها الذين آمنوا أن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوما بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين " .
غزوة الحديبيةثم كانت غزاة الحديبية. خرج
رسول الله في سنة ستة يريد العمرة، ومعه ناس وساق من الهدي سبعين بدنة. وساق أصحابه أيضاً وخرجوا بالسلاح، فصدته قريش عن البيت، فقال: ما خرجت أريد قتالاً وإنما أردت زيارة هذا البيت، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى في المنام أنه دخل البيت وحلق رأسه وأخذ المفتاح. فأرسلت إليه قريش مكرز بن حفص فأبى أن يكلمه، وقال: هذا رجل فاجر فبعثوا إليه الحليس بن علقمة من بني الحارث بن عبد مناة، وكان من قوم يتألهون، فلما رأى الهدي قد أكلت أوبارها رجع فقال: يا معاشر قريش إني قد رأيت ما لا يحل صده عن البيت. فبعثوا بعروة بن مسعود الثقفي، فكلم رسول الله، فقال له رسول الله: يا عروة أ في الله أن يصد هذا الهدي عن هذا البيت فانصرف إليهم عروة بن مسعود فقال: تالله ما رأيت مثل محمد لما جاء له. فبعثوا إليه سهيل بن عمرو فكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأرفقه وقال: نخليها لك من قابل ثلاثة أيام، فأجابهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وكتبوا بينهم كتاب الصلح ثلاث سنين، وتنازعوا بالكتاب لما كتب: بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد رسول الله، حتى كادوا أن يخرجوا إلى الحرب. وقال سهيل بن عمرو والمشركون: لو علمنا أنك رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قاتلناك. وقال المسلمون: لا تمحها. فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكفوا، وأمر علياً فكتب: باسمك اللهم، من محمد بن عبد الله، وقال: اسمي واسم أبي لا يذهبان بنبوتي. وشرطوا انهم يخلون مكة له من قابل ثلاثة أيام ويخرجون عنها حتى يدخلها بسلاح الراكب، وأن الهدنة بينهم ثلاث سنين لا يؤذون أحداً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يمنعونه من دخول، مكة ولا يؤذي أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أحداً منهم، ووضع الكتاب على يد سهيل بن عمرو. فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين أن يحلقوا وينحروا هديهم في الحل، فامتنعوا وداخل أكثر الناس الريب، فحلق رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحر فحلق المسلمون ونحروا. وانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ثم خرج من قابل وهي عمرة القضاء فدخل مكة على ناقة بسلاح الراكب، وأخلتها قريش ثلاثاً وخلفوا بها حويطب بن عبد العزى، فاستلم رسول الله صلى الله عليه وسلم الركن بمحجنة وصدق الله رسوله الرؤيا بالحق. وخرج عنها بعد ثلاث فابتنى بميمونة بنت الحارث الهلالية زوجته بسرف، وغدرت قريش فقتلت رجلاً من خزاعة ممن دخل في شرط رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقعة خيبرثم كانت وقعة خيبر في أول سنة سبعة ففتح حصونهم وهي ستة: حصون السلالم والقموص والنطاة والقصارة والشق والمربطة، وفيها عشرون ألف مقاتل، ففتحها حصنا حصنا، فقتل المقاتلة وسبى الذرية. وكان القموص من أشدها وأمنعها، وهو الحصن الذي كان فيه مرحب بن الحارث اليهودي. فقال رسول الله: لأدفعن الراية غدا أن شاء الله إلى رجل كرار غير فرار يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله، لا ينصرف حتى يفتح الله على يده، فدفعها إلى علي فقتل مرحبا اليهودي واقتلع باب الحصن، وكان حجارة طوله أربع أذرع في عرض ذراعين في سمك ذراع، فرمى به علي بن أبي طالب خلفه ودخل الحصن ودخله المسلمون.
وقدم جعفر بن أبي طالب في ذلك اليوم من أرض الحبشة، فقام إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقبل ما بين عينيه ثم قال: والله ما أدري بأيهم أنا أشد سروراً، بفتح خيبر أم بقدوم جعفر. واصطفى صفية بنت حيي بن أخطب وأعتقها وتزوجها وقسم بين بني هاشم نساءهم ورجالهم وأوساق التمر والقمح والشعير ثم قسم بين الناس كافة. وبلغه ما فيه أهل مكة من الضر والحاجة والجدب والقحط فبعث إليهم بشعير ذهب، وقيل نوى ذهب، مع عمرو بن أمية الضمري وأمره أن يدفعه إلى أبي سفيان بن حرب وصفوان بن أمية بن خلف وسهل بن عمرو ويفرقه ثلاثاً ثلاثاً، فامتنع صفوان بن أمية وسهل بن عمرو من أخذه، وأخذه أبو سفيان كله وفرقه على فقراء قريش، وقال: جزى الله ابن أخي خيراً فإنه وصول لرحمه.
وجاءته زينب بنت الحارث أخت مرحب بالشاة المسمومة فأخذ منها لقمة، وكلمته الذراع فقالت: إني مسمومة. وكان يأكل معه بشر بن البراء بن معرور فمات. فقال الحجاج بن علاط السلمي لرسول الله: قد أسلمت، ولي بمكة مالي، فتأذن لي أن أتكلم بشيء يطمئنون إليه لعلي أن آخذ مالي. فأذن له فخرج حتى قدم مكة فأتته قريش فقالوا: مرحبا بك يا ابن علاط، هل عندك خبر من هذا القاطع قال: نعم أن كتمتم علي، فتعاهدوا أن يكتموا عليه حتى يخرج، قال: إني والله ما جئت حتى هزم محمد وأصحابه هزيمة وحتى أخذ أسيرا. وقالوا: نقتله بسيدنا حيي بن أخطب، فاستبشروا وشربوا الخمور. وبلغ العباس والمسلمين الخبر، فاشتد جزعهم وأخذ الحجاج كل ما كان له ثم أتى العباس وأخبره بما فتح الله على نبيه وأن سهام الله قد جرت على خيبر وقتل ابن أبي الحقيق وبات رسول الله صلى الله عليه وسلم عروساً بابنة حيي بن أخطب ثم خرج من مكة فأصبح العباس مسرورا، فقال له أبو سفيان: تجلدا للمصيبة يا أبا الفضل فقال العباس: أن الحجاج، والله، خدعكم حتى أخذ ماله، وقد أخبرني بإسلامه وأنه ما انصرف حتى فتح الله على نبيه وقتل ابن أبي الحقيق وبات عروساً بابنة حيي بن أخطب وفتح جميع الحصون، فأعولت امرأة الحجاج واجتمع إليها نساء المشركين واشتدت كآبة المشركين وغمهم.
فتح مكةوكانت خزاعة في عقد رسول الله صلى الله عليه وسلم وكنانة في عقد قريش، فأعانت قريش كنانة فأرسلوا مواليهم فوثبوا على خزاعة فقتلوا فيهم. فجاءت خزاعة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فشكوا إليه ذلك فأحل الله لنبيه قطع المدة التي بينه وبينهم وعزم على غزو مكة وقال: اللهم أعم الأخبار عنهم، يعني قريشاً. فكتب حاطب بن أبي بلتعة مع سارة مولاة أبي لهب إلى قريش بخبر رسول الله وما اعتزم عليه فنزل جبريل فأخبره بما فعل حاطب، فوجه بعلي بن أبي طالب والزبير وقال: خذا الكتاب منها، فلحقاها وقد كانت تنكبت الطريق فوجد الكتاب في شعرها، وقيل في فرجها. فأتيا به إلى رسول الله، فأسر إلى كل رئيس منهم بما أراد وأمره أن يلقاه بموضع سماه له، وأن يكتم ما قال له. فأسر إلى خزاعي بن عبد نهم أن يلقاه بمزينة بالروحاء وإلى عبد الله بن مالك أن يلقاه بغفار بالسقيا وإلى قدامة بن ثمامة أن يلقاه ببني سليم بقديد وإلى الصعب بن جثامة أن يلقاه ببني ليث بالكديد. وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة حين صلى العصر لليلتين خلتا من شهر رمضان سنة ثمان. وقيل لعشر مضين من رمضان، واستخلف على المدينة أبا لبابة بن عبد المنذر. ولقيته القبائل في المواضع التي سماها لهم، وأمر الناس فأفطروا، وسمى الذين لم يفطروا العصاة. ودعا بماء فشربه، وتلقاه العباس بن عبد المطلب في بعض الطريق.
فلما صار بمر الظهران خرج أبو سفيان بن حرب يتجسس الأخبار ومعه حكيم بن حزام وبديل بن ورقاء، وهو يقول لحكيم: ما هذه النيران فقال: خزاعة أحمشتها الحرب. فقال: خزاعة أقل وأذل. وسمع صوته العباس فناداه: يا أبا حنظلة! فأجابه فقال له: يا أبا الفضل ما هذا الجمع قال: هذا رسول الله. فأردفه على بغلته ولحقه عمر بن الخطاب وقال: الحمد لله الذي أمكن منك بغير عهد ولا عقد. فسبقه العباس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، هذا أبو سفيان قد جاء ليسلم طائعاً، فقال له رسول الله: قل أشهد أن لا إله إلا الله وأني محمد رسول الله فقال: أشهد أن لا إله إلا الله، وجعل يمتنع من أن يقول: وإنك رسول الله، فصاح به العباس، فقال. ثم سأل العباس رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجعل له شرفاً وقال إنه يحب الشرف. فقال رسول الله: من دخل دارك يا أبا سفيان فهو آمن. وأوقفه العباس حتى رأى جند الله، فقال له: يا أبا الفضل لقد أوتي ابن أخيك ملكاً عظيماً. فقال: إنه ليس بملك إنما هي النبوة. ومضى أبو سفيان مسرعاً حتى دخل مكة فأخبرهم الخبر، وقال: هو اصطلام أن لم تسلموا، وقد جعل أن من دخل داري فهو آمن. فوثبوا عليه وقالوا: وما تسع دارك فقال: ومن أغلق بابه فهو آمن، ومن دخل المسجد فهو آمن. وفتح الله على نبيه وكفاه القتال.
ودخل مكة ودخل أصحابه من أربعة مواضع وأحلها الله له ساعة من نهار ثم قام رسول الله صلى الله عليه وسلم فخطب فحرمها، وأجارت أم هانئ بنت أبي طالب حموين لها: الحارث بن هشام وعبد الله بن أبي ربيعة، فأراد علي قتلهما، فقال رسول الله: يا علي قد أجرنا من أجارت أم هانئ، وآمنهم جميعاً إلا خمسة نفر أمر بقتلهم ولو كانوا متعلقين بأستار الكعبة وأربع نسوة وهم: عبد الله بن عبد العزى بن خطل من بني تميم الأدرم بن غالب، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم وجهه مع رجل من الأنصار فشد على الأنصاري فقتله وقال: لا طاعة لك ولا لمحمد، وعبد الله بن سعد بن أبي سرح العامري، وكان يكتب لرسول الله فصار إلى مكة فقال أنا أقول كما يقول، محمد والله ما محمد نبي وقد كان يقول لي: اكتب عزيز حكيم، فأكتب لطيف خبير، ولو كان نبيا لعلم. فآواه عثمان وكان أخاه من الرضاع، وأتى به إلى رسول الله، فجعل يكلمه فيه ورسول الله ساكت ثم قال لأصحابه: هلا قتلتموه! فقالوا: انتظرنا أن تومئ.
فقال: أن الأنبياء لا تقتل بالإيماء، ومقيس بن صبابة أحد بني ليث بن كنانة، وكان أخوه قتل فأخذ الدية من قاتله ثم شد عليه فقتله، والحويرث ابن نقيذ بن وهب بن عبد قصي، كان ممن يؤذي رسول الله بمكة ويتناوله بالقول القبيح. والنسوة: سارة مولاة بني عبد المطلب، وكانت تذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقبيح، وهند بنت عتبة، وقريبة وفرتنا جاريتا ابن خطل، كانتا تغنيان في هجاء رسول الله.
وأسلمت قريش طوعا وكرها وأخذ رسول الله مفتاح البيت من عثمان بن أبي طلحة وفتح الباب بيده وستره ثم دخل البيت فصلى فيه ركعتين ثم خرج فأخذ بعضادتي الباب، فقال لا إله إلا الله وحده لا شريك له، أنجز وعده ونصر عبده وغلب الأحزاب وحده، فلله الحمد والملك لا شريك له، ثم قال: ما تظنون وما أنتم قائلون قال سهيل: نظن خيراً ونقول خيراً، أخ كريم وابن عم كريم وقد ظفرت. قال: فإني أقول لكم كما قال أخي يوسف: لا تثريب عليكم اليوم، ثم قال: ألا كل دم ومال ومأثرة في الجاهلية فإنه موضوع تحت قدمي هاتين إلا سدانة الكعبة وسقاية الحاج فإنهما مردودتان إلى أهليهما، ألا وأن مكة محرمة بحرمة الله لم تحل لأحد من قبلي ولا تحل لأحد من بعدي وإنما حلت لي ساعة ثم أغلقت، فهي محرمة إلى يوم القيامة لا يختلى خلاها ولا يعضد شجرها ولا ينفر صيدها ولا تحل لقطتها إلا لمنشد، إلا أن في القتل شبه العمد الدية مغلظة والولد للفراش وللعاهر الحجر، ثم قال: ألا لبئس جيران الذين كنتم فاذهبوا فأنتم الطلقاء.
ودخل مكة بغير إحرام وأمر بلالاً أن يصعد على الكعبة فأذن فعظم ذلك على قريش، قال عكرمة بن أبي جهل وخالد بن أسيد أن ابن رباح ينهق على الكعبة، وتكلم قوم معهما فأرسل إليهم رسول الله. فقالوا: قد قلنا، فنستغفر الله. فقال: ما أدري ما أقول لكم ولكن يحضر الصلاة فمن صلى فسبيل ذلك وإلا قدمته فضربت عنقه. وأمر بكل ما في الكعبة من صورة فمحيت وغسلت بالماء. ودعا بعثمان بن طلحة فقال: رأيت في الكعبة قرني الكبش فخمرها فإنه لا ينبغي أن يكون في الكعبة شيء، فصيروا في بعض الجدر. وروى بعضهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قسم ما كان في الكعبة من المال بين المسلمين. وقال آخرون: أقره ونادى منادي رسول الله: من كان في بيته صنم فليكسره، فكسروا الأصنام. ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالنساء فبايعنه، وكانت الخيل يوم الفتح أربعمائة فرس، ونزلت عليه سورة: إذا جاء نصر الله والفتح، فقال نعيت إلى نفسي.
وبعث رسول الله، وهو بمكة، خالد بن الوليد إلى بني جذيمة بن عامر، وهم بالغميصاء، وقد كانوا في الجاهلية أصابوا من بني المغيرة وقتلوا عوفا أبا عبد الرحمن بن عوف، فخرج عبد الرحمن بن عوف مع خالد بن الوليد ورجال من بني سليم وقد كانوا قتلوا ربيعة بن مكدم في الجاهلية، فخرج جذل الطعان فقتل من بني سليم بدم ربيعة مالك بن الشريد، وبلغ جذيمة أن خالدا قد جاء ومعه بنو سليم، فقال لهم خالد: ضعوا السلاح.
فقالوا: إنا لا نأخذ السلاح على الله ولا على رسوله ونحن مسلمون، فانظر ما بعثك رسول الله صلى الله عليه وسلم له فإن كان بعثك مصدقا فهذه إبلنا وغنمنا فأعد عليها. قال: ضعوا السلاح. قالوا: إنا نخاف أن تأخذنا بأحنة الجاهلية. فانصرف عنهم وأذن القوم وصلوا، فلما كان في السحر شن عليهم الخيل فقتل المقاتلة وسبى الذرية، فبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد! وبعث علي بن أبي طالب فأدى إليهم ما أخذ منهم حتى العقال وميلغة الكلب، وبعث معه بمال ورد من اليمن فودى القتلى وبقيت معه منه بقية، فدفعها علي إليهم على أن يحللوا رسول الله صلى الله عليه وسلم مما علم ومما لا يعلم. فقال رسول الله: لما فعلت أحب إلي من حمر النعم، ويومئذ قال لعلي: فداك أبواي. وقال عبد الرحمن بن عوف: والله لقد قتل خالد القوم مسلمين، فقال خالد: إنما قتلتهم بأبيك عوف بن عبد عوف. فقال له عبد الرحمن: ما قتلت بأبي ولكنك قتلت بعمك ألفاًكه بن المغيرة.
وقعة حنينثم كانت وقعة حنين، بلغ رسول الله، وهو بمكة، أن هوازن قد جمعت بحنين جمعاً كثيراً ورئيسهم مالك بن عوف النصري، ومعهم دريد ابن الصمة من بني جشم، شيخ كبير يتبركون برأيه، وساق مالك مع هوازن أموالهم وحرمهم. فخرج إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في جيش عظيم عدتهم اثنا عشر ألفاً: عشرة آلاف أصحابه الذين فتح بهم مكة وألفان من أهل مكة ممن أسلم طوعاً وكرهاً، وأخذ من صفوان بن أمية مائة درع وقال عارية مضمونة، فأعجبت المسلمين كثرتهم، وقال بعضهم: ما نؤتى من قلة، فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك من قولهم، وكانت هوازن قد كمنت في الوادي، فخرجوا على المسلمين. وكان يوماً عظيم الخطب وانهزم المسلمون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بقي في عشرة من بني هاشم، وقيل تسعة، وهم: علي بن أبي طالب والعباس بن عبد المطلب وأبو سفيان بن الحارث ونوفل بن الحارث وربيعة بن الحارث وعتبة ومعتب ابنا أبي لهب والفضل بن العباس وعبد الله بن الزبير بن عبد المطلب، وقيل أيمن بن أم أيمن.
قال الله عز وجل: " ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئاً وضاقت عليكم الأرض بما رحبت ثم وليتم مدبرين ثم أنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين وأنزل جنودا لم تروها " ، وأبدى بعض قريش ما كان في نفسه. فقال أبو سفيان: لا تنتهي، والله هزيمتهم دون البحر، وقال كلدة بن حنبل: اليوم بطل السحر، وقال شيبة بن عثمان: اليوم أقتل محمداً، فأراد رسول الله
ليقتله فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم الحربة منه فأشعرها فؤاده. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للعباس: صح يا للأنصار، وصح يا أهل بيعة الرضوان، صح يا أصحاب سورة البقرة، يا أصحاب السمرة. ثم انفض الناس وفتح الله على نبيه وأيده بجنود من الملائكة، ومضى علي بن أبي طالب إلى صاحب راية هوازن فقتله، وكانت الهزيمة، وقتل من هوازن خلق عظيم، وسبي منها سبايا كثيرة، وبلغت عدتهم ألف فارس وبلغت الغنائم اثني عشر ألف ناقة سوى الأسلاب، وقتل دريد بن الصمة فأعظم الناس ذلك، فقال رسول الله: إلى النار وبئس المصير! إمام من أئمة الكفر أن لم يكن يعين بيده فإنه يعين برأيه. قتله رجل من بني سليم وقتل ذو الخمار سبيع بن الحارث، فقال رسول الله: أبعده الله إنه كان يبغض قريشا. وصارت السبايا والأموال في أيدي المسلمين وبلغت هزيمة المشركين الطائف ومعهم مالك بن عوف، وكان جميع من استشهد أربعة نفر. وجاءت الشيماء بنت حليمة أخت رسول الله صلى الله عليه وسلم من الرضاعة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فحباها وأكرمها وبسط لها رداءه، وكلمته في السبايا وقالت: إنما هن خالاتك وأخواتك. فقال: ما كان لي ولبني هاشم فقد وهبته لك. فوهب المسلمون ما كان في أيديهم من السبايا كما فعل إلا الأقرع ابن حابس وعيينة بن حصن، فقال رسول الله: اللهم نوه سهميهما، فخرج لهما عجوز وكلمته في مالك بن عوف النصري رئيس جيش هوازن، وآمنه، فجاء مالك فأسلم. ووجهه رسول الله صلى الله عليه وسلم لحصار الطائف وأعطى المؤلفة قلوبهم من غنائم هوازن وأعطى اثني عشر رجلاً مائة مائة من الإبل، وهم: أبو سفيان بن حرب ومعاوية بن أبي سفيان وحكيم بن حزام والحارث بن الحارث بن كلدة العبدري والحارث بن هشام بن المغيرة وسهيل بن عمرو وصفوان بن أمية بن خلف وحويطب بن عبد العزى والعلاء بن حارثة الثقفي حليف بني زهرة ومالك بن عوف النصري وعيينة بن حصن الفزاري والأقرع ابن حابس، وأعطى الباقين ما دون ذلك. وسألته الأنصار ودخلها غضاضة، فقال رسول الله: إني أعطي قوما تألفا وأكلكم إلى أيمانكم. وتكلم بعضهم فقال: قاتل بنا محمد حتى إذا ظهر أمره وظفر أتى قومه وتركنا. فأسقط الله سهمهم وأثبت للمؤلفة قلوبهم سهما في الصدقات. وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الطائف ووجه بعلي بن أبي طالب فلقي نافع بن غيلان ابن سلمة بن معتب في خيل من ثقيف فقتله، وانهزم أصحابه. وحصرها رسول الله صلى الله عليه وسلم بضعة وعشرين يوماً، ونزل إليه أربعون رجلاً. وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقطع الكروم، فكلموه فتركها وأمر ألا تقطع. ثم انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلف أبا سفيان بن حرب على حصار الطائف ووجه علياً لكسر الأصنام فكسرها.
غزاة مؤتةووجه جعفر بن أبي طالب وزيد بن حارثة وعبد الله بن رواحة في جيش إلى الشام لقتال الروم سنة ثمان، وروى بعضهم أنه قال: أمير الجيش زيد بن حارثة فإن قتل زيد بن حارثة، فجعفر بن أبي طالب، فإن قتل جعفر بن أبي طالب فعبد الله بن رواحة، فإن قتل عبد الله بن رواحة فليرتض المسلمون من أحبوا. وقيل: بل كان جعفر المقدم ثم زيد بن حارثة ثم عبد الله بن رواحة، وصار إلى موضع يقال له مؤتة، من الشام من البلقاء من أرض دمشق، فأخذ زيد الراية فقاتل حتى قتل، ثم أخذها جعفر فقطعت يده اليمنى فقاتل باليسرى فقطعت يده اليسرى ثم ضرب وسطه، ثم أخذها عبد الله بن رواحة فقتل، فرفع لرسول الله كل خفض، وخفض له كل رفع حتى رأى مصارعهم وقال: رأيت سرير جعفر المقدم فقلت: يا جبريل إني كنت قدمت زيداً. فقال: إن الله قدم جعفرا لقرابتك. ونعاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أنبت الله لجعفر جناحين من زبرجد يطير بهما من الجنة حيث يشاء، واشتد جزعه وقال: على جعفر فلتبك البواكي، وتأمر خالد بن الوليد على الجيش.
قالت أسماء بنت عميس الخثعمية، وكانت امرأة جعفر وأم ولده جميعاً: دخل على رسول الله، ويدي في عجين، فقال: يا أسماء أين ولدك؟ فأتيته بعبد الله ومحمد وعون، فأجلسهم جميعاً
في حجره وضمهم إليه ومسح على رؤوسهم ودمعت عيناه. فقلت: بأبي وأمي أنت يا رسول الله لم تفعل بولدي كما تفعل بالأيتام لعله بلغك عن جعفر شيء فغلبته العبرة وقال: رحم الله جعفرا فصحت: وا ويلاه وا سيداه فقال: لا تدعي بويل ولا حرب، وكل ما قلت فأنت صادقة. فصحت: وا جعفراه وسمعت صوتي فاطمة بنت رسول الله، فجاءت وهي تصيح: وا بن عماه فخرج رسول الله يجر رداءه، ما يملك عبرته، وهو يقول: على جعفر فلتبك البواكي، ثم قال يا فاطمة اصنعي لعيال جعفر طعاما فإنهم في شغل، فصنعت لهم طعاما ثلاثة أيام، فصارت سنة في بني هاشم.
الغزوات التي لم يكن فيها قتالوكانت غزوات فيما بين ذلك لم يكن فيها قتال. كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخرج فلا يلقى كيداًوينصرف، وإنما قدمنا ما كان فيها القتال على التي لا قتال. فيها لنفرد الغزوات التي لم يكن فيها قتال غزاة الأبواء: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ودان فرجع ولم يلق كيداً. وغزاة بواط: مثل ذلك وغزاة ذي العشيرة: من بطن ينبع وادع بها بني مدلج وحلفاء لهم من بني ضمرة وكتب بينهم كتابا، والذي قام بذلك بينهم مخشي بن عمرو الضمري.
وغزاة قرقرة الكدر: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في طلب مكدر بن جابر الفهري، ويقال كرز بن جابر، حين كان أغار على سرح المدينة، وذلك أن أبا سفيان ضاف سلام بن مشكم، وكان سيد بني النضير، فقرأه وسقاه خمراً ثم خرج من تحت ليلته حتى مر بمكان يقال له العريض، فوجد بها رجلين من الأنصار في صور لهما من النخل فقتلهما وانصرف إلى مكة، فبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم الخبر، فبلغ قرقرة الكدر ولم يلق كيداً وانصرف.
وغزاة حمراء الأسد: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من غد يوم أحد، وقد ذكرناها مع خبر أحد.
وغزاة بدر الصغرى: وهي بدر الموعد، لميعاد أبي سفيان بن حرب. فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في شعبان في السنة الرابعة فأقام عليها ثماني ليال ينتظر أبا سفيان، ووافق السوق وكانت عظيمة، فتسوق المسلمون فربحوا ربحا حسنا، وقال المنافقون للمؤمنين حين خرجوا لميعاد أبي سفيان: قد قتلوكم عند بيوتكم، فكيف إذا أتيتموهم في بلادهم وقد جمعوا لكم، والله لا ترجعون أبدا، فقالوا: حسبنا الله ونعم الوكيل، فأنزل الله في ذلك: الذين قال لهم الناس أن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل فانقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء واتبعوا رضوان الله والله ذو فضل عظيم. وانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يلق كيداًوخلفهم أبو سفيان وقال: هذا عام جدب ولا يصلحكم يا معشر قريش إلا عام خصب ترعون فيه الشجر وتشربون فيه اللبن، وإني راجع، فرجعوا بعد أن كان قد بلغ مر الظهران.
وغزاة تبوك سار رسول الله صلى الله عليه وسلم في جمع كثير إلى تبوك: من أرض الشام يطلب بدم جعفر بن أبي طالب: ووجه إلى رؤساء القبائل والعشائر يستنفرهم ويرغبهم في الجهاد، وحض رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل الغنى على النفقة، فأنفقوا نفقات كثيرة وقووا الضعفاء. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أفضل الصدقة جهد المقل. فأتاه البكاؤون يستحملونه، وهم: هرمي بن عبد الله من بني عمرو بن عوف وسالم بن عمير وعمرو بن الحمام وعبد الرحمن بن كعب وصخر بن سلمان. فقال ما أجد ما أحملكم عليه. وأتاه قوم من الأغنياء فاستأذنوه وقالوا: دعنا نكن مع من تخلف. فقال الله تعالى: " رضوا بأن يكونوا مع الخوالف " وهم: الجد بن قيس ومجمع بن جارية وخدام بن خالد. فأذن لهم رسول الله، فقال الله، عز وجل: " عفا الله عنك لم أذنت لهم " .
وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم غرة رجب سنة تسع واستخلف علياً على المدينة واستعمل الزبير على راية المهاجرين وطلحة على الميمنة وعبد الرحمن بن عوف على الميسرة
وخرج النساء والصبيان يودعونه عند الثنية، فسماها ثنية الوداع. وسار رسول الله صلى الله عليه وسلم فأصاب الناس عطش شديد، فقالوا يا رسول الله لو دعوت الله لسقانا، فدعا الله فسقاهم. وقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم تبوك في شعبان فأتاه يحنه بن رؤبة أسقف أيلة، فصالحه وأعطاه الجزية، وكتب له كتاباً، وانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم فجلس له أصحاب العقبة لينفروا به ناقته، فقال لحذيفة: نحهم وقل لهم: لتنحن أو لأدعونكم بأسمائكم وأسماء آبائكم وعشائركم، فصاح بهم حذيفة. وكان خروجه في رجب وانصرف في شهر رمضان وكان حذيفة يقول: إني لأعرف أسماءهم وأسماء آبائهم وقبائلهم.
الأمراء على السرايا والجيوشووجه رسول الله على السرايا والجيوش الأمراء وعقد لهم الألوية والرايات. فأول ذلك حمزة بن عبد المطلب على سرية إلى ساحل البحر وقيل: أن أولهم عبيدة بن الحارث بن المطلب على سرية إلى ثنية المرة في ستين أو ثمانين راكباً من المهاجرين ليس فيهم من الأنصار أحد. فسار حتى بلغ ماء بالحجاز بأسفل ثنية المرة، فلقي به جمعاً عظيماً من قريش فلم يكن منهم قتال إلا أن سعد بن أبي وقاص قد رمى يومئذ بسهم، وكان أول سهم رمي في الإسلام، ثم انصرف القوم عن القوم، وللمسلمين حامية. وجاء المقداد بن عمرو البهراني حليف بني زهرة وعتبة بن غزوان بن جابر الحارثي حليف بني نوفل، وكانا مسلمين ولكنهما خرجا فتوصلا بالكفار، وكان على القوم عكرمة بن أبي جهل. وسعد بن أبي وقاص على سرية الخرار وهو ماء من الجحفة. فأصاب نعما لبني ضمرة، فأرسلوا إلى رسول الله فردها بالحلف الذي بينهم وبينه.
وحمزة بن عبد المطلب على سرية إلى ساحل البحر من ناحية العيص في ثلاثين راكباً من المهاجرين ليس فيهم من الأنصار أحد، فلقي أبا جهل بن هشام في ثلاثمائة راكب من أهل مكة فحجز بينهم مجدي بن عمرو الجهني، وكان موادعا للفريقين جميعاً، وانصرف القوم بعضهم عن بعض، ولم يكن قتال: وعبد الله بن جحش بن رئاب على سرية إلى نخلة في ثمانية رهط من المهاجرين ليس فيهم أحد من الأنصار، وكتب له كتابا وأمره أن لا ينظر فيه حتى يسير يومين ثم ينظر فيه فيمضي لما أمره ولا يستكره من أصحابه أحداً. فلما سار عبد الله بن جحش يومين فتح الكتاب ينظر فيه، فإذا فيه: إذا نظرت في كتابي هذا فامض حتى تنزل نخلة بين مكة والطائف لترصد بها قريشاً وتعلم أخبارها. فمضى ومضى معه أصحابه، لم يتخلف منهم أحد، فلما نزل نخلة مرت به عير لقريش تحمل زبيبا وأدما وتجارة، فيها عمرو بن الحضرمي فقاتلوه فأسروا منهم رجلين، فكانا أول أسير من المشركين، وأفلت القوم وأخذوا ما كان معهم، فعزل رسول الله صلى الله عليه وسلم خمس العير وقسم سائرها لأصحابه، فكان أول خمس قسم في الإسلام. ووجه مرثد بن أبي مرثد حليف حمزة بن عبد المطلب على سرية إلى جمع وذلك أنه قدم على النبي صلى الله عليه وسلم نفر من العضل وديش، وهما حيان من الهون بن خزيمة، فقالا: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن فينا إسلاماً فابعث معنا أصحابك يفقهوننا ويقرئوننا القرآن. فبعث فيهم مرثد بن أبي مرثد الغنوي وخالد بن البكير حليف بني عدي وعاصم بن ثابت بن أبي الأقلح العمري وزيد بن دثنة البياضي وعبد الله بن طارق الظفري وخبيب بن عدي العمري، فلما كانوا على ماء يقال له الرجيع لهذيل خرج بعض الناس حتى انتهى إلى هذيل، فقال: أن هاهنا نفرا من أصحاب محمد، هل لكم أن نأخذهم ونسلبهم ونبيعهم من قريش؟ فما راع المسلمين إلا الرجال بأيديهم السيوف. فقالوا: استأسروا فلكم العهد والعقد ولا نقتلكم ولكن نبيعكم من قريش. فنادى مرثد، وهو أمير القوم، وعاصم وخالد فصاحوا بالقوم وسلوا سيوفهم وتهيئوا للقتال، وأما خبيب وعبد الله وزيد فلانوا وأعطوا بأيديهم فقاتل أصحابهم قتالاً شديداً وقتل. مرثد وخالد بن البكير وقاتل عاصم بن ثابت حتى قتل.
وزيد بن حارثة الكلبي مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم على سرية إلى قردة. لما انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم من بدر الصغرى، ميعاد أبي سفيان، هابت قريش أن يأخذوا طريقهم إلى الشام على بدر، فتركوا ذلك الطريق وسلكوا طريق العراق، فخرج أبو سفيان وأبو العاص بن الربيع في عير قريش في مال كثير إلى الشام، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم فأصابهم وما فيها. وخرج القوم هاربين: أبو سفيان وأصحابه، فسبقوهم، فقدم زيد بذلك المال وأسر معاوية بن المغيرة بن أبي العاص جد عبد الملك بن مروان، وقيل إنه قدم به. وأقبل أبو العاص بن الربيع حتى دخل المدينة فاستجار بزينب ابنة رسول الله، فلما صلى رسول الله الغداة نادت زينب، إلا إني قد أجرت أبا العاص بن الربيع. فقال رسول الله حين انصرف: أسمعتم؟ قالوا: نعم! قال: قد أجرت، من أجارت، أن أدنى المؤمنين يجير على أقصاهم. وقام فدخل عليهما فقال: لا يفوتنك، أكرمي مثواه. ورد عليه ما أخذ له، فرجع إلى مكة فرد إلى كل ذي حق حقه ثم أسلم ورجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فرد عليه زينب بالنكاح الأول.
وأيضاً زيد بن حارثة على سرية إلى الجحوم أو الجموم، فأصاب امرأة من مزينة يقال لها حليمة فدلتهم على محلة من محال بني سليم فأصابوا في تلك المحلة نعما وأسارى. وكان في أولئك الأسارى زوج حليمة. فلما قفل بها وهب رسول الله صلى الله عليه وسلم للمزينية زوجها ونفسها.
ومرة أخرى لزيد على جيش إلى جذام. وكان ابن خليفة الكلبي لما انصرف من عند قيصر مر بأرض جذام فأغار عليه الهنيد بن عارض الجذامي فسلبه ما كان معه، وأدركه نفر من المسلمين فاستنقذوا ما أخذ منه فدفعوه إلى دحية. فوجه رسول الله زيد بن حارثة فسبى وقتل وأخذ الهنيد وابنه فضرب أعناقهما. ووجه أيضاً زيداً على جيش إلى وادي القرى، وكانت أم قرفة ابنة ربيعة ابن بدر قد زوجها مالك بن حذيفة بن بدر، بعثت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بأربعين رجلاً من بطنها وقالت: ادخلوا عليه المدينة. فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم زيد بن حارثة في خيل فلقيهم بوادي القرى فهزم أصحابه وارتث زيد من القتلى، فحلف ألا يغسل ولا يدهن حتى يغزوهم. فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبعث به إليهم، فبعثه في خيل عظيمة فالتقوا بوادي القرى فاقتتلوا قتالاً شديدا فهزمت بنو فزارة وقتلوا وسبيت يومئذ أم قرفة فقتلها قتلاً عنيفاً، شقها بين بكرين. وأما ابنتها فوقعت في سهم قيس بن المحسر فاستوهبها رسول الله صلى الله عليه وسلم منه لخاله حزن بن أبي وهب بن عائذ بن عمران بن مخزوم، فولدت عبد الرحمن بن حزن.
ومرة على جيش الطرف إلى بني ثعلبة في خمسة عشر رجلاً، فهربت الأعراب وخافوا أن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم سار إليهم، فأصاب من نعمهم عشرين بعيرا ولم يكن بينهم قتال.
والمنذر بن عمرو الأنصاري على سرية إلى بئر معونة. وذلك أن أسد بن معونة قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم بهدية من قبل عمه أبي براء بن مالك ملاعب الأسنة، وأهدى له فرسين ونجائب، وكان صديقا للنبي. فقال رسول الله: والله لا أقبل هدية مشرك. فقال لبيد بن ربيعة: ما كنت أرى أن رجلاً من مضر يرد هدية أبي براء. فقال: لو كنت قابلاً من مشرك هدية لقبلتها منه. قال: فإنه يستشفيك من دبيلة في بطنة قد غلبت عليه. فتناول رسول الله جبوبة من تراب فأمرها على لسانه ثم دفها بماء ثم سقاه إياه، فكأنما انشط من عقال. وكان أبو براء سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبعث إليه بنفر من أصحابه ليفقهوهم في الدين ويبصروهم شرائع الإسلام، فقال رسول الله: إني أخاف أن يقتلهم بنو عامر، فأرسل أبو براء انهم في جواري. فبعث إليه المنذر بن عمرو ونفرا من أصحابه في تسعة وعشرين عامتهم بدري. فأغار عليهم عامر بن الطفيل وتابعه ثلاثة أحياء من بني سليم رعل وذكوان وعصية فلذلك لعنهم رسول الله، وأقبل عامر إلى حرام بن ملحان، وهو يقرأ كتاب رسول الله، فطعنه بالرمح. فقال: الله أكبر فزت بالجنة. واقتتل القوم قتالاً شديدا وكثرتهم بنو سليم، فقتلوا من عند آخرهم ما خلا المنذر بن عمرو فإنه قال لهم: دعوني أصلي على أخي حرام ابن ملحان. قالوا: نعم. فصلى عليه ثم أخذ سيفا وأعنق نحوهم فقاتلهم حتى قتل. وقال الحارث بن الصمة: ما كنت لأرغب بنفسي عن سبيل مضى فيه المنذر، والله لأذهبن فلئن ظفر لأظفرن ولئن قتل لأقتلن. فذهب فقتل وأعتق عامر بن الطفيل أسعد بن زيد الديناري عن رقبة كانت على أمه.
وبعث جعفر بن أبي طالب وزيد بن حارثة وعبد الله بن رواحة إلى البلقاء من أرض الشام فأصيبوا بمؤتة، وقد قدمنا ذكرهم قبل هذا الموضع.
وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم غالب بن عبد الله الكلبي إلى بني مدلج وهم حلفاؤه وهم الذين قال الله فيهم: أو جاءوكم حصرت صدورهم فقالوا: لسنا عليك ولسنا معك، ولم يجيبوه، فقال الناس: أغزهم يا رسول الله. فقال: أن لهم سيداً أديبا لن يأخذ إلا خيرة أمره، وإنهم إذا نحروا ثجوا وإذا لبوا عجوا، رب غاز من بني مدلج شهيد في سبيل الله.
وبعث نميلة بن عبد الله الليثي إلى بني ضمرة فرجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله قالوا لا نحاربه ولا نسالمه ولا نصدقه ولا نكذبه. فقال الناس: يا رسول الله أغزهم. فقال: دعوهم فإن فيهم عددا وسوددا، ورب شيخ صالح من بني ضمرة غاز في سبيل الله.
وبعث عمرو بن أمية الضمري إلى بني الديل فرجع فقال: يا رسول الله أدركتهم فلولا وجثتهم حلولا، دعوتهم إلى الله ورسوله فأبوا أشد الإباء. فقال الناس: أغزهم يا رسول الله. فقال رسول الله: دعوا بني الديل، إياكم! إلا أن سيدهم قد صلى وأسلم فيقول: أسلم، فيقولون: نعم.
وبعث رسول الله عبد الله بن سهيل بن عمرو العامري إلى بني معيص ومحارب ابن فهر ومن يليهم من السواحل في خمسمائة، فلقيهم على المدثراً. فلما واقعهم دعاهم إلى الإسلام، فجاء معه نفر فقال رسول الله: ها قطيعة الأيمان كجذع النخل حلو أوله حلو آخره.
وبعث أبا عبيدة بن الجراح على جيش إلى ذات القصة، وكان بها قوم من محارب وثعلبة وأنمار. فخرج أبو عبيدة وأصحابه يسيرون ليلتهم حتى أصبحوا. فلما أبصر القوم بهم هربوا وخلفوا إبلهم فغنموا الأموال وأخذوا رجلاً واحداً فأتوا به رسول الله صلى الله عليه وسلم فخمس رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذ الخمس وفرق الباقي على أصحاب السرية، وأسلم الرجل فتركه.
وعمر بن الخطاب على جيش إلى زبية قريبة من الطائف فلم يلق كيدا. وعلي بن أبي طالب على جيش إلى فدك. وبلغ رسول الله أن بها جمعاً يريدون أن يمدوا يهود خيبر، فسار علي بن أبي طالب الليل وكمن النهار حتى صبحهم فقتلهم. وأبا العوجاء السلمي على سرية، فاستشهد كل من كان في السرية فلم ينصرف منهم أحد. وعكاشة بن محصن بن حرثان الأسدي أسد بن خزيمة، على سرية إلى الغمرة. وأبا سلمة بن عبد الأسد بن هلال المخزومي إلى قطن. ومحمد بن مسلمة الأنصاري أخا بني حارثة على جيش إلى القرطاء من هوازن. وبشير بن سعد الأنصاري على سرية إلى فدك فأصيب أصحابه جميعاً ولم يرجع منهم أحد. ثم بعث إليهم غالب بن عبد الله الملوحي، فجاء بمرداس ابن نهيك الفدكي. ومرة أخرى إلى صروحان من أرض خيبر. وعبد الله بن رواحة الأنصاري على سرية إلى خيبر مرتين، أحداًهما إلى أصحاب اليسير بن رزام اليهودي وأصحابه، وكان يجمع غطفان لغزو رسول الله.
وعبد الله بن أنيس الأنصاري إلى خالد بن سفيان بن نبيح يجمع لرسول الله الناس ليغزوه، فقتله، ويقال لم تكن سرية إنما كان وحده.
وعيينة بن حصن بن حذيفة بن بدر الفزاري على جيش إلى بلعنبر فأصابهم وهم خلوف، فجاء بسباياهم فطرحهم في المسجد. فركب إليه رجالاتهم، فلما دخلوا المسجد صاحوا: يا محمد اخرج إلينا. وكان فيهم بسامة بن الأعور وسمرة ابن عمرو، قال الله، عز وجل: ولو انهم صبروا حتى تخرج إليهم لكان خيراً لهم فخرج إليهم رسول الله، فسألوه وطلبوا إليه أن يحكم سمرة بن عمرو وأن يهب لهم ثلاثاً ويؤخر ثلاثاً ويأخذ ثلاثا، فبلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: من أراد أن يعتق من ولد إسماعيل فليعتق من هؤلاء.
وكعب بن عمير الأنصاري على سرية إلى ذات أطلاح، ويقال ذات أباطح، فاستشهدوا جميعاً ولم يرجع من السرية أحد. وبعث رسول الله عمرو بن العاص على جيش إلى ذات السلاسل من أرض الشام، وبها ناس من بني عذرة وبلى وقبائل من اليمن، وكان معه أبو بكر وعمر وأبو عبيدة بن الجراح، وأعطاه مالا وقال: استنفر من قدرت عليه. فلما شارف القوم نهاهم ألا يوقدوا نارا فشق ذلك على المسلمين لشدة القر، فقال: قد أمركم رسول الله أن تسمعوا لي وتطيعوا. فكلموا أبا بكر في ذلك فأتى عمرا فلم يأذن له. فصاح به أبو بكر: يا ابن بياعة العباء اخرج إلي، فأبى. قال: يا ابن دباغة القرظ اخرج إلي، فأبى. فلما كان في السحر أغار بهم فأصاب وظفر، فقال لأبي بكر: كيف رأيت رأي ابن بياعة العباء؟ وصلى عمرو بن العاص بالناس وهو جنب، فلما قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبره أبو عبيدة بن الجراح، فقال عمرو: يا رسول الله كان البرد شديداً ولو اغتسلت لمت، فضحك رسول الله.
وعبد الله بن أبي حدرد الأسلمي على سرية إلى أضم، فلقي عامر بن الأضبط الأشجعي، فحمل عليه محلم بن جثامة بن قيس فطعنه فخاصمه عيينة ابن حصن إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بديته فعجل نصفاً وأخر نصفاً. فقام إليه محلم بن قيس فقال: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم استغفر لي. قال: قتلت مسلماً، لعنك الله! فما لبث بعدها إلا خمساً حتى مات.
وعبد الرحمن بن عوف على سرية إلى كلب، وعممه رسول الله صلى الله عليه وسلم بعمامة سوداء وأسدلها بين يديه ومن خلفه وقال: هكذا فاعتم فإنه أشبه وأعرف، وأمره أن فتح الله عليه أن يزوجه ابنة سيدهم، ففتح الله عليه فتزوج تماضر بنت الأصبغ التي صولحت عن ربع الثمن عن ثمانين ألف دينار.
وأمر علي بن أبي طالب حين خرج إلى تبوك... وكان المهاجر بن أبي أمية أميره على صنعاء وزياد بن لبيد البياضي على حضرموت وصدقاتها وعدي بن حاتم على صدقات طيء ومالك بن نويرة اليربوعي على صدقات حنظلة والزبرقان بن بدر وقيس بن عاصم على صدقات بني سعد وعلي ابن أبي طالب إلى أهل نجران بجمع صدقاتهم وأخذ جزيتهم وخالد بن الوليد على سرية إلى دومة الجندل وعتاب بن أسيد بن أبي أمية على مكة وأبو سفيان ابن حرب على نجران ويزيد بن أبي سفيان على تيماء وخالد بن سعيد بن العاص بن أمية على صنعاء، فقبض النبي وهو عليها، وعمرو بن سعيد بن العاص بن أمية على قرى عربية وأبان بن سعيد بن العاص بن أمية على الخط بالبحرين والوليد بن عقبة بن أبي معيط إلى بني المصطلق. وكذب عليهم وقد
جئنا بحديثه في غزاة بني المصطلق، والعلاء حليف سعيد بن العاص على الغطيف بالبحرين ومعيقيب ابن أبي فاطمة الدوسي على الغنائم وأبو رنم الغفاري أميره على المدينة حين غزا خيبر، ويقال أبو رهم كلثوم بن الحصين الغفاري وأبو رهم الغفاري أيضاً على المدينة في غزاة الفتح وأميره على الموسم، والناس بعد على الشرك، عتاب بن أسيد، فوقف عتاب بالمسلمين ووقف المشركون على حدتهم، وأبو بكر أميره على الموسم في سنة تسع وبعض الناس مشركون، فوقف أبو بكر بالمسلمين ووقف المشركون ناحية على مواقفهم.
وفي تلك السنة وجه علي بن أبي طالب بسورة براءة فأخذها من أبي بكر، فقال أبو بكر: يا رسول الله! هل نزل في شيء؟ فقال: لا، ولكن جبريل قال لي: لا يبلغ هذا إلا أنت أو رجل من أهلك. فقرأها على أهل مكة، ويقال قرأها على سقاية زمزم. وأمن فنادى أن من كان له عهد من رسول الله صلى الله عليه وسلم في تأجيله أربعة أشهر فهو على عهده ومن لم يكن له عنده عهد فقد أجله خمسين ليلة. وأميره على صلاة وفد ثقيف عثمان بن أبي العاص الثقفي ومعاذ بن جبل على بعض اليمن وعلى المقاسم يوم بدر محمية بن جزء بن عبد يغوث الزبيدي حليف بني جمح وأسامة بن زيد مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم على جيش إلى ناحية الشام، فأنفذه أبو بكر بعد وفاة رسول الله. وكان أبو بكر وعمر في الجيش وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا بعث السرايا والجيوش قال: اغزوا بسم الله، في سبيل الله، وقاتلوا من كفر بالله، لا تغلوا ولا تغدروا ولا تمثلوا ولا تقتلوا وليداً.
ووجه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الملوك يدعوهم إلى الإسلام. فوجه عبد الله بن حذافة السهمي إلى كسرى، وكتب إليه: بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى كسرى عظيم فارس، سلام على من اتبع الهدى وآمن بالله ورسوله وشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمداً عبده ورسوله إلى الناس كافة لينذر من كان حيا ويحق القول على الكافرين فأسلم تسلم، فإن أبيت فإن عليك آثام المجوس.
وكتب إليه كسرى كتاباً جعله بين سرقتي حرير وجعل فيهما مسكاً، فلما دفعه الرسول إلى النبي صلى الله عليه وسلم فتحه فأخذ قبضة من المسك فشمه وناوله أصحابه، وقال: لا حاجة لنا في هذا الحرير، ليس من لباسنا، وقال: لتدخلن في أمري أو لآتينك بنفسي ومن معي وأمر الله أسرع من ذلك. فأما كتابك فأنا أعلم به منك، فيه كذا وكذا، ولم يفتحه ولم يقرأه. ورجع الرسول إلى كسرى فأخبره، وقد قيل إن كسرى لما وصل إليه الكتاب وكان... راع أدم قده شتورا، فقال رسول الله: يمزق الله ملكهم كل ممزق.
ووجه دحية بن خليفة الكلبي إلى قيصر وكتب إليه: بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى هرقل عظيم الروم، سلام على من اتبع الهدى. أما بعد فإني أدعوك بداعية الإسلام فأسلم تسلم، ويؤتك الله أجرك مرتين، قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئاً ولا يتخذ بعضنا بعضا أرباباً من دون الله، فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون، فإن توليت فإن عليك إثم الأريسيين.
فكتب، هرقل: إلى أحمد رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي بشر به عيسى من قيصر ملك الروم: أنه جاءني كتابك مع رسولك وإني أشهد أنك رسول الله صلى الله عليه وسلم نجدك عندنا في الإنجيل، بشرنا بك عيسى بن مريم وإني دعوت الروم إلى أن يؤمنوا بك فأبوا، ولو أطاعوني لكان خيراً لهم، ولوددت أني عندك فأخدمك واغسل قدميك. فقال رسول الله: يبقى ملكهم ما بقي كتابي عندهم.
ووجه عمرو بن أمية الضمري إلى النجاشي وشجاع بن وهب إلى الحارث ابن أبي شمر الغساني وحاطب بن أبي بلتعة إلى المقوقس صاحب الإسكندرية وجرير بن عبد الله البجلي إلى ذي الكلاع الحميري والعلاء بن الحضرمي إلى المنذر بن ساوي من بني تميم بالبحرين وعمار بن ياسر إلى الأيهم بن النعمان الغساني وسليط بن عمرو بن عبد شمس العامري إلى ابني هوذة بن علي الحنفي باليمامة والمهاجر بن أبي أمية إلى الحارث بن عبد كلال الحميري وخالد بن الوليد إلى الديان وبني قنان وعمرو بن العاص إلى جيفر وعباد ابني الجلندا إلى عمان، وكتب إليهم
جميعا بمثل ما كتب به إلى كسرى وقيصر، وسليم بن عمرو الأنصاري إلى حضرموت.
وبعث قوماً من أصحابه في قتل قوم من المشركين. فوجه عمرو بن أمية الضمري بقتل أبي سفيان بن حرب فلم يقتله. وبعث محمد بن مسلمة وأبا نائلة سلكان بن سلامة وعباد بن بشر وأبا عبس بن جبر والحارث بن أوس في قتل كعب بن الأشرف اليهودي فقتلوه في النضير. وبعث عبد الله بن رواحة إلى اليسير بن رزام اليهودي الخيبري فقتله. وبعث عبد الله بن عتيك وأبا قتادة ابن ربعي وخزاعي بن الأسود ومسعود بن سنان وابن عتيك أميرهم في قتل سلام بن أبي الحقيق فقتلوه بخيبر. وبعث في قتل ابن أبي حدعة وقال للموجه: أن أصبته حياً فاقتله وأحرقه بالنار، فأصابه قد لسعته حية فمات. وبعث عبد الله بن أبي حدرد في قتل رفاعة بن قيس الجشمي فقتله، وبعث علي بن أبي طالب في قتل معاوية بن المغيرة بن أبي العاص بن أمية فقتله.
وفود العرب
الذين قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلموقدمت عليه وفود العرب، ولكل قبيلة رئيس يتقدمهم. فقدمت مزينة ورئيسهم خزاعي بن عبد نهم، وأشجع ورئيسهم عبد الله بن مالك، وأسلم ورئيسهم بريدة، وسليم ورئيسهم وقاص بن قمامة، وبنو ليث ورئيسهم الصعب بن جثامة، وفزارة ورئيسهم عيينة بن حصن، وبنو بكر ورئيسهم عدي بن شراحيل، وطيء ورئيسهم عدي بن حاتم، وبجيلة ورئيسهم قيس ابن غربة، والأزد ورئيسهم صرد بن عبد الله، وخثعم ورئيسهم عميس بن عمرو، ووفد نفر من طيء ورئيسهم زيد بن مهلهل وهو زيد الخيل، وبنو شيبان... وعبد القيس ورئيسهم الأشج العصري، ثم وفد الجارود ابن المعلى فولاه رسول الله صلى الله عليه وسلم على قومه، وأوفدت ملوك حمير بإسلامهم وفودا وهم: الحارث بن عبد كلال ونعيم بن عبد كلال والنعمان قيل ذي رعين وكتبوا إليه بإسلامهم فبعث إليهم معاذ بن جبل، وعكل ورئيسها خزيمة بن عاصم، وجذام ورئيسها فروة بن عمرو، وحضرموت ورئيسها وائل بن حجر الحضرمي، والضباب ورئيسها ذو الجوشن، وبنو أسد ورئيسها ضرار بن الأزور وقيل نقادة بن العايف، وعامر بن الطفيل في بني عامر فرجع ولم يسلم، وأربد بن قيس رجع ولم بسلم، وبنو الحارث بن كعب ورئيسهم يزيد بن عبد المدان، وبنو تميم وعليهم عطارد بن حاجب والزبرقان بن بدر وقيس بن عاصم ومالك ابن نويرة، وبنو نهد وعليهم أبو ليلى خالد بن الصقعب، وكنانة ورئيسهم قطن وأنس ابنا حارثة من بني عليم، وهمدان ورئيسهم ضمام بن مالك، وثمالة والحدان فخذ من الأزد ورئيسهم مسلمة بن هزان الحداني، وباهلة ورئيسهم مطرف بن كاهن الباهلي، وبنو حنيفة ومعهم مسيلمة بن حبيب الحنفي، ومراد ورئيسهم فروة بن مسيك، ومهرة ورئيسهم مهري بن الأبيض.
كتاب النبيوكتب إلى رؤساء القبائل يدعوهم إلى الإسلام. وكان كتابه الذين يكتبون الوحي والكتب والعهود: علي بن أبي طالب وعثمان بن عفان وعمرو بن العاص بن أمية ومعاوية بن أبي سفيان وشرحبيل بن حسنة وعبد الله بن سعد بن أبي سرح والمغيرة بن شعبة ومعاذ بن جبل وزيد بن ثابت وحنظلة بن الربيع وأبي بن كعب وجهيم بن الصلت والحصين النميري.
وكتب إلى أهل اليمن: بسم الله الرحمن الرحيم، هذا كتاب من محمد رسول الله إلى أهل اليمن فإني أحمد الله إليكم الذي لا إله إلا هو. وقع بنا رسولكم مقدمنا من أرض الروم فلقينا بالمدينة فبلغنا ما أرسلتم به وأخبرنا ما كان قبلكم ونباتا بإسلامكم وأن الله قد هداكم أن أصلحتم وأطعتم الله وأطعتم رسوله وأقمتم الصلاة وآتيتم الزكاة وأعطيتم من الغنائم خمس الله وسهم النبي والصفي وما على المؤمنين من الصدقة عشر ما سقى البعل وسقت السماء وما سقي بالغرب نصف العشر، وأن في الإبل من الأربعين حقة قد استحقت الرحل وهي جذعة، وفي الخمس والعشرين ابن مخاض، وفي كل ثلاثين من الإبل ابن لبون، وفي كل عشرين من الإبل أربع شياه، وفي كل أربعين من البقر بقرة، وفي كل ثلاثين من البقر تبيع ذكر أو جذعة، وفي كل أربعين من الغنم شاة، فإنها فريضة الله التي افترض على المؤمنين، فمن زاد خيراً فهو خير له، فمن أعطى ذلك وأشهد على إسلامه وظاهر المؤمنين على الكافرين فإنه من المؤمنين له ذمة الله وذمة رسوله محمد رسول الله، وإنه من أسلم من يهودي أو نصراني فإنه من المؤمنين له مثل ما لهم وعليه ما عليهم، ومن كان على يهوديته أو نصرانيته فإنه لا يغير عنها وعليه الجزية في كل حالم من ذكر أو أنثى حر أو عبد دينار وأف من قيمة المعافري أو عرضه. فمن أدى ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن له ذمة الله وذمة رسوله، ومن منعه فإنه عدو لله ولرسوله وللمؤمنين، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم مولى غنيكم وفقيركم، وأن الصدقة لا تحل لمحمد ولا أهله إنما هي زكاة تؤدونها إلى فقراء المؤمنين في سبيل الله، وأن مالك بن مرارة قد أبلغ الخبر وحفظ الغيب فامركم به خيراً، إني قد أرسلت إليكم من صالحي أهلي وأولي كتابهم وأولي علمهم فامركم به خيراً فإنه منظور إليه والسلام. وكان الرسول بالكتاب معاذ بن جبل.
وكتب إلى همدان: بسم الله الرحمن الرحيم، هذا كتاب من محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عمير ذي مران ومن أسلم من همدان سلم أنتم فإني أحمد الله إليكم، الله الذي لا إله إلا هو، أما بعد ذلك فإنه بلغني إسلامكم مرجعنا من أرض الروم فأبشروا فإن الله قد هداكم بهداه وإنكم إذا شهدتم أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبد الله ورسوله وأقمتم الصلاة وآتيتم الزكاة فإن لكم ذمة الله وذمة رسوله على دمائكم وأموالكم وأرض البور التي أسلمتم عليها سهلها وجبلها وعيونها وفروعها غير مظلومين ولا مضيق عليكم، وأن الصدقة لا تحل لمحمد ولا لأهل بيته إنما هي زكاة تزكونها عن أموالكم لفقراء المسلمين، وأن مالك ابن مرارة الرهاوي قد حفظ الغيب وبلغ الخبر فامركم به خيراً فإنه منظور إليه، وكتب علي بن أبي طالب.
وكتب إلى نجران: بسم الله، من محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أسقفه نجران: بسم الله فإني أحمد إليكم إله إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب، أما بعد ذلك فإني أدعوكم إلى عبادة الله من عبادة العباد وأدعوكم إلى ولاية الله من ولاية العباد، فإن أبيتم فالجزية وأن أبيتم آذنتكم بحرب والسلام.
وكتب إلى أهل هجر: بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أهل هجر سلم أنتم فإني أحمد الله إليكم الذي لا إله إلا هو، أما بعد فإني أوصيكم بالله وأنفسكم ألا تضلوا بعد إذ هديتم ولا تغووا بعد إذ رشدتم، أما بعد ذلكم فإنه قد جاءني وفدكم فلم آت فيهم إلا ما سرهم وإني لو جهدت حقي كله فيكم أخرجتكم من هجر فشفعت شاهدكم ومننت على غائبكم اذكروا نعمة الله عليكم. أما بعد فإنه قد أتاني ما صنعتم وأن من يجمل منكم لا يحمل عليه ذنب المسيء فإذا جاءكم أمراؤكم فأطيعوهم وانصروهم على أمر الله وفي سبيله فإنه من يعمل منكم عملاً صالحاً فلن يضل له عند الله ولا عندي. أما بعد يا منذر بن ساوي فقد حمدك لي رسولي وأنا، أن شاء الله، مثيبك على عملك.
وقدم عليه أهل نجران ورئيسهم أبو حارثة الأسقف، ومعه العاقب والسيد وعبد المسيح وكوز وقيس والأيهم، فوردوا على رسول الله. فلما دخلوا أظهروا الديباج والصلب ودخلوا بهيئة لم يدخل بها أحد. فقال رسول الله: دعوهم، فلقوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فدارسوه يومهم وساءلوه ما شاء الله. فقال أبو حارثة: يا محمد! ما تقول في المسيح؟ قال: هو عبد الله ورسوله. فقال: تعالى الله عما قلت، يا أبا القاسم هو كذا وكذا. ونزل فيهم: " أن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب " إلى قوله: " فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ثم نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين " . فرضوا بالمباهلة، فلما أصبحوا قال أبو حارثة: انظروا من جاء معه. وغدا رسول الله صلى الله عليه وسلم آخذا بيد الحسن والحسين تتبعه فاطمة وعلي بن أبي طالب بين يديه وغدا العاقب والسيد بابنين لهما عليهما الدر والحلي وقد حفوا بأبي حارثة. فقال أبو حارثة: من هؤلاء معه؟ قالوا: هذا ابن عمه وهذه ابنته وهذان ابناها. فجثا رسول الله صلى الله عليه وسلم على ركبتيه ثم ركع. فقال أبو حارثة: جثا والله كما يجثو النبيون للمباهلة.
فقال له السيد: ادن يا أبا حارثة للمباهلة. فقال: إني أرى رجلاً حريا على المباهلة وإني أخاف أن يكون صادقاً فإن كان صادقاً لم يحل الحول وفي الدنيا نصراني يطعم الطعام. قال أبو حارثة: يا أبا القاسم لا نباهلك ولكنا نعطيك الجزية. فصالحهم رسول الله صلى الله عليه وسلم على ألفي حلة من حلل الأواقي، قيمة كل حلة أربعون درهماً فما زاد أو نقص فعلى حساب ذلك. وكتب لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم كتاباً: بسم الله الرحمن الرحيم، هذا كتاب من النبي محمد رسول الله لنجران وحاشيتها إذا كان له عليهم حكمه في كل بيضاء وصفراء وثمرة ورقيق كان أفضل ذلك كله لهم غير ألفي حلة من حلل الأواقي قيمة كل حلة أربعون درهماً، فما زاد أو فقص فعلي هذا الحساب ألف في صفر وألف في رجب، وعليهم ثلاثون دينارا مثواه رسلي شهراً فما فوق. وعليهم في كل حرب كانت باليمن دروع عارية مضمونة لهم بذلك جوار الله وذمة محمد فمن أكل الربا منهم بعد عامهم هذا فذمتي منه بريئة. فقال العاقب: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم إنا نخاف أن تأخذنا بجناية غيرنا. قال فكتب: ولا يؤخذ أحد بجناية غيره. شهد على ذلك عمرو بن العاص والمغيرة بن شعبة وكتب علي بن أبي طالب. فلما قدموا نجران أسلم الأيهم وأقبل مسلماً.
أزواج رسول اللهوتزوج إحدى وعشرين امرأة، وقيل ثلاثاً وعشرين. دخل ببعضهن وطلق بعضا ولم يدخل ببعض، واللاتي دخل بهن: أولهن خديجة ابنة خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصي وولدت أولاده، أجمعين خلا إبراهيم، ولم يتزوج عليها حتى ماتت. ثم سودة بنت زمعة بن قيس بن عبد شمس بن عبد ود بن نصر بن مالك ابن حسل بن عامر بن لؤي، تزوجها بمكة. ثم عائشة بنت أبي بكر بن أبي قحافة، تزوجها بمكة ودخل بها بالمدينة. ثم غزية بنت دودان بن عوف بن جابر بن ضباب من بني عامر بن لؤي، وهي أم شريك التي وهبت نفسها للنبي. ثم حفصة بنت عمر بن الخطاب. ثم بنت نفيل بن عبد العزى العبدوي. ثم زينب بنت خزيمة بن الحارث من بني عامر بن صعصعة، وهي أم المساكين، ولم يمت من نسائه عنده غيرها وغير خديجة. ثم أم حبيبة بنت أبي سفيان بن حرب بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف. ثم زينب بنت جحش بن رئاب بن قيس بن يعمر بن صبرة من بني أسد ابن خزيمة. ثم أم سلمة بنت أبي أمية بن المغيرة بن عبد الله بن عمرو بن مخزوم. ثم جويرية واسمها برة بنت الحارث بن أبي ضرار المصطلقية من خزاعة. ثم صفية بنت حيي بن أخطب من بني النجار من سبط هارون النبي. ثم ميمونة بنت الحارث بن حزن بن بجير الهلالي.
ثم مارية أم إبراهيم، هؤلاء اللاتي دخل بهن، طلق منهن أم شريك، وأرجأ منهن سودة وصفية وجويرية وأم حبيبة وميمونة، وآوى عائشة وحفصة وزينب وأم سلمة. والنسوة اللاتي لم يدخل بهن: خولة بنت الهذيل بن هبيرة الثعلبية، هلكت في الطريق قبل وصولها إليه. وشراف أخت
دحية بن خليفة الكلبي، حملت إليه فهلكت قبل دخولها عليه. وسنا بنت الصلت بن حبيب بن حارثة السلمي، ماتت قبل أن يصل إليها. وريحانة بنت شمعون القريظية عرض عليها النبي صلى الله عليه وسلم الإسلام فأبت إلا اليهودية فعزلها ثم أسلمت بعد، فعرض عليها التزويج فأجابت وضرب الحجاب، فقالت: بل تتركني في ملكك، يا رسول الله. فلم تزل في ملكه حتى قبض. وأسماء بنت النعمان الكندي، من بني آكل المرار، كانت من أجمل نسائه وأتمهن فقال لها نساؤه: أن أردت أن تحظي عنده فتعوذى بالله إذا دخلت عليه. فلما دخل وأرخى الستر، قالت: أعوذ بالله منك! فصرف وجهه عنها. ثم قال: أمن عائذ الله! الحقي بأهلك. فخلف على أسماء بنت النعمان الكندي المهاجر بن أمية المخزومي ثم خلف عليها بعد المهاجر قيس بن مكشوح المرادي. وقتيلة بنت قيس بن معديكرب، وهي أخت الأشعث بن قيس بن فلان، قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل خروجها إليه من اليمن، فخلف عليها عكرمة بن أبي جهل. وعمرة بنت يزيد بن عبيد بن رواس الكلابي، بلغه أن بها بياضاً فطلقها ولم يدخل بها. والعالية بنت ظبيان بن عمرو الكلابي، طلقها.
والجونية امرأة من كندة وليست بأسماء، كان أبو أسيد الساعدي قدم بها عليه، فوليت عائشة وحفصة مشطها وإصلاح أمرها، فقالت أحداًهما لها: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يعجبه من المرأة إذا دخل عليها ومد يده إليها أن قالت: أعوذ بالله منك، ففعلت ذلك فوضع يده على وجهه واستتر بها وقال: عذت، فعاذت ثلاث مرات. ثم خرج وأمر أبا أسيد الساعدي أن يمتعها برازقيتين ويلحقها بأهلها، فزعموا أنها ماتت كمداً. وليلى بنت الحطيم الأوسي أتته وهو غافل فحطأت منكبه. فقال: من هذا أكله الأسود؟ قالت: أنا بنت الحطيم، وأبي مطعم الطير، وقد جئتك أعرض نفسي عليك. قال: قد قبلتك. فأتت نساءها فقلن لها: بئس ما صنعت! أنت امرأة غيور ورسول الله كثير الضرائر، إنا نخاف أن تغاري فيدعو عليك فتهلكي، استقيليه، فأتته فاستقالته، فأقالها، ودخلت حائطا من حيطان المدينة فأكلها الأسود. وصفية بنت بشامة العنبرية، عرض عليها المقام عنده أو ردها إلى أهلها فاختارت أهلها فردها. وضباعة بنت عامر القيسية، كانت عند عبد الله بن جدعان فطلقها ثم تزوجها هشام بن المغيرة فأولدها سلمة، فخطبها رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى سلمة، فقال: أستأمرها. فقالت: أفي رسول الله؟ قد رضيت. فبلغه عنها كبر، فأمسك عنها.
مولد إبراهيم ابن رسول اللهوولد إبراهيم ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمه مارية القبطية في ذي الحجة سنة ثمان. ولما ولد هبط جبريل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: السلام عليك يا أبا إبراهيم! وتنافست فيه نساء الأنصار أيهن ترضعه، فدفعه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أم بردة بنت المنذر بن زيد من بني النجار، وعق رسول الله صلى الله عليه وسلم بكبش. وكانت قابلته سلمى مولاة رسول الله صلى الله عليه وسلم امرأة أبي رافع، فجاء أبو رافع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره فوهب له عبدا. وغارت نساء رسول الله صلى الله عليه وسلم واشتد عليهن حيث رزق منها ولدا فروى الزهري عن عروة عن عائشة قالت: دخل على رسول الله ومعه ابنه إبراهيم يحمله، فقال: انظري إلى شبهه بي. قالت عائشة: أرى شبهها. قال: أما ترين بياضة ولحمه؟ قالت: من قصر عليه اللقاح ابيض وسمن. وتوفي إبراهيم في سنة عشرة وله سنة وعشرة أشهر، وكسفت الشمس ساعتين من النهار، فقال الناس: كسفت لموت إبراهيم. وقال رسول الله: أن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا يكسفان لموت أحد ولا لحياته، فإذا رأيتم فافزعوا إلى مساجدكم. وقال: أن العين تدمع والقلب يخشع وأنا بك يا إبراهيم لمحزونون ولكنا لا نقول ما يسخط الرب.
وأعتق جماعة عبيداً وإماء منهم: زيد بن حارثة بن شراحيل وأسامة بن زيد وأبو رافع، قبطى أهداه له المقوقس، وأنسه، وكان حبشياً، وأبو كبشه، وكان فارسياً، وأبو لبابة وأبو لقيط وأبو أيمن وأبو هند ورافع وسفينة وثوبان وصالح، وهو شقران، وأم أيمن حبشية كان أبو طالب خلفها عليه واسمها بركة، ويقال خضرة، ويقال إنه ورثها عن أبيه وكان يسمي كل شيء لها.
وكان رسم رايته العقاب وكانت سوداء على عمل الطيلسان، وكان له سيف يقال له المخدم وسيف يقال له الرسوب وسيفه الذي يلزمه ذو الفقار. وقد روي أن جبريل نزل به من السماء فكان طوله سبعة أشبار وعرضه شبرا وفي وسطه كال وكانت عليه قبيعة فضة ونعل فضة وفيه حلقتان فضة ورمحه المثوى حربته العنزة، وكان يمشي بها في الأعياد بين يديه ويقول: هكذا أخلاق السنن، وقوسه الكتوم وكنانته الكافور ونبله المتصلة وترسه الزلوق ومغفره السبوع ودرعه ذات الفضول وفيها زردتان زائدتان وفرسه السكب وفرس آخر المرتجز وفرس آخر السجل وفرس آخر البحر. وأجرى الخيل فجاء فرسه سابقا فجثا على ركبتيه وقال: ما هو إلا البحر، وكان يقول: الخيل في نواصيها الخير. وكانت له ناقة يقال لها القصوى وناقة يقال لها العضباء وناقة يقال لها الجذعاء. وسابق بالإبل فجاءت ناقته العضباء سابقة، وعليها أسامة بن زيد. فقال الناس: سبق رسول الله. فقال رسول الله: سبق أسامة. وكانت بغلته الشهباء يقال لها الدلدل أهداها له المقوقس وبغلة أخرى طويلة مرتفعة يقال لها الأبلية. وحماره اليعفور. وكانت له شاة يشرب من لبنها يقال لها غيثه. وقدح يقال له الريان وقدح يقال له العير. وقضيب يقال له الممشوق. وجبة يقال لها الكن. وعمامة سوداء يقال لها السحاب. وذكر أبو البختري أنه كان له منطقة من أديم مبشورة، فيها إبزيم وثلاث حلقات كالفلك من فضة، فإنه كان يلبس برود الحبر أزرا أو أردية البيضاء والقلنسوة الحبر والجبة السندس الخضراء وليس بالذي عن عن لبسهما فما لبس الصوف حتى قبضه الله إليه. وكان له فراش أدم وكان يلبس الملحفة المصبوغة بالزعفران والورس ويلبس الإزار الواحد يعقده بين كتفيه. وكان يتطيب حتى يصبغ الطيب رداءه من موضع رأسه وحتى يرى وميض المسك من مفرقه وحتى يعرف مجيئه بطيب رائحته من بعيد قبل أن يرى. وكان يقول: أطيب الطيب المسك. وكان لا يعرض عليه طيب إلا تطيب منه. وكان إذا أراد الخروج من منزله امتشط وسوى جمته وأصلح شعره. وكان يقول: أن الله يحب من عبده أن يكون له حسن الهيئة. ويروي أنه كان يلبس البرنس والشملة وكان له ثوبان.
وكان يلبس الخاتم ويصير فضة فصه مما يلي الكف ويلبسه في اليد اليمنى واليد اليسرى ويضعه في إصبعه الوسطى في المفصل ويديره في أصابع يده.
خطب رسول الله ومواعظهوتأديبه بالأخلاق الشريفة وكان يخطب أصحابه ويعظهم ويعلمهم محاسن الأخلاق ومكارم الأفعالي. خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال في خطبته: أيها الناس أن لكم معالم فانتهوا إلى معالمكم، وأن لكم نهاية فانتهوا إلى نهايتكم، وأن المؤمن بين مخافتين: بين أجل قد مضى ولا يدري ما الله صانع فيه، وأجل قد بقي ما يدري ما الله صانع فيه، وأجل قد بقي ما يدري ما الله قاض فيه، فليأخذ العبد من نفسه لنفسه ومن دنياه لأخرته: في الشبيبة قبل الكبر، وفي الحياة قبل الممات، فو الذي نفس محمد بيده ما بعد الموت من مستعتب وما بعد الدنيا من دار إلا الجنة أو النار.
وخطب يوماً فقال في خطبته: أن الله ليس بينه وبين أحد قرابة يعطيه بها خيراً ولا حق يصرف به عنه سوءاً إلا بطاعته واتباع مرضاته واجتناب سخطه. أن الله، تبارك وتعالى، على أرادته ولو كره الخلق ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن. تعاونوا على البر والتقوى ولا تعانوا على الإثم والعدوان، واتقوا الله أن الله شديد العقاب.
وخطب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال في خطبته: طوبى لعبد طاب كسبه وحسنت خليقته وصلحت سريرته وأنفق الفضل من ماله، وترك الفضول من قوله، وكف عن الناس شره وأنصفهم من نفسه، إنه من عرف الله خاف الله ومن خاف الله شحت نفسه عن الدنيا.
وخطب يوماً فقال في خطبته: اذكروا الموت فإنه آخذ بنواصيكم، أن فررتم منه أدرككم وأن أقمتم أخذكم... لا خير بعده أبدا، وفرقة لا ألفة بعدها، وأن العبد لا تزول قدماه يوم القيامة حتى يسأل عن عمره فيما أفناه، وعن شبابه فيما أبلاه، وعن ماله مما اكتسبه وفيما أنفقه، وعن إمامه من هو؟ قال الله، عز وجل: يوم ندعو كل أناس بإمامهم إلى آخر الآية. وقال: من نظر في دينه إلى من هو فوقه فاقتدى به، ونظر في دنياه إلى من هو دونه فحمد الله على ما فضله به كتبه الله شاكرا وصابرا. ومن نظر في دينه إلى من هو دونه ونظر في دنياه إلى من هو فوقه فأسفه على ما فضله الله لم يكتبه الله شاكراً ولا صابراً. وقال: من أعطي قلباً شاكراً ولساناً ذاكراً وبدنا صابراً وزوجة صالحة فقد أعطي الدنيا والآخرة. وقال: الرغبة في الدنيا تورث الهم والحزن، والزهد فيها يريح القلب والبدن. وقال: السعادة في اثنتين الطاعة والتقوى. وقال: يقول الله، عز وجل: حسب عندي المؤمن حقيقة إيمانه في ضميره وصدق ورع نيته حتى أجعل نومه عملا وصمته ذكراً. وقال: من أتى الناس بما يحبون وبارز الله بما يكره لقي الله وهو عليه غضبان آسف. وقال: إن الله يرضى لكم ثلاثاً ويكره ثلاثا: يرضى لكم أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئاً، وأن تعتصموا بحبله جميعاً ولا تفرقوا، وأن تناصحوا من ولاة أمركم، ويكره لكم قالا وقيلا، ويكره السؤال وإضاعة المال. وقال: يقول ابن آدم مالي! مالي! وليس لك من مالك إلا ما أكلت فأفنيت، أو لبست فأبليت، أو أعطيت فأمضيت.
وقال: الدنيا حلوة خضرة، والله مستعملكم فيها فانظروا كيف تعملون. وقال: أن أحبكم إلي وأقربكم مني مجلسا يوم القيامة أحسنكم أخلاقا الموطؤون أكنافاً الذين يألفون ويؤلفون، وأن أبغضكم إلي وأبعدكم مني مجلسا يوم القيامة الثرثارون المتفيهقون.
وقال له رجل: أوصني يا رسول الله. فقال: أكثر ذكر الموت يسلك عن الدنيا، وعليك بالشكر تزد في النعمة، وأكثر الدعاء فإنك لا تدري متى يستجاب لك، وإياك والبغي فإن الله، عز وجل، قضى أن ينصر من بغى عليه، وإياك والمكر فإن الله قضى ألا يحيق المكر السيء إلا بأهله. وقيل له: أي الأعمال أفضل؟ فقال: اجتناب المحارم وألا يزال لسانك رطباً من ذكر الله، عز وجل، قيل: فأي الأصحاب أفضل؟ قال: الذي إذا نسيت ذكرك وإذا دعوت أعانك. قيل: أي الناس شر؟ قال: العلماء إذا فسدوا.
وقال: إذا ساد القبيل فاسقهم، وكان زعيم القوم أرذلهم، وأكرم الرجل الذي اتقي شره فانتظروا البلاء. وقال: من ذب عن لحم أخيه بظهر الغيب كان حقيقا على الله، عز وجل، أن يحرم لحمه على النار. وقال: يقول الله، تبارك وتعالى: " يا ابن آدم بمشيئتي كنت، أنت تشاء لنفسك ما تشاء، وبإرادتي كنت تريد لنفسك ما تريد، وبقوتي أديت فريضتي، وبنعمتي قويت على معصيتي، فأنا أولى بحسناتك منك، وأنت أولى بسيئاتك مني بذلك، وإني لا أسأل عما أفعل وهم يسألون " .
وقال: أن الله فرض على الأغنياء ما يكفي الفقراء، فإن جاع الفقراء كان حقيقاً على الله أن يحاسب أغنياءهم ويكبهم في نار جهنم على وجوههم. وقال: يقول الله، عز وجل: إني لم أغن الغني لكرامة به علي، ولكنه مما ابتليت به الأغنياء، ولو لا الفقراء لم يستوجب الأغنياء الجنة. وقال: أربع من أتى الله، عز وجل، بواحدة منهن وجبت له الجنة: من سقى هامة صادية أو أطعم كبدا جائعة أو كسا جلدة عارية أو أعتق رقبة عانية.
وقال: كل عين ساهرة يوم القيامة إلا ثلاث عيون: عين سهرت في سبيل الله، وعين غضت عن محارم الله، وعين فاضت من خشية الله. وقال: يقول الله، عز وجل: عبدي إذا صليت ما إفترضت عليك فأنت أعبد الناس، فإذا قنعت بما رزقتك فأنت أغنى الناس. وجمع بني عبد المطلب فقال: يا بني عبد المطلب أفشوا الإسلام وصلوا الأرحام وتهجدوا والناس نيام وأطعموا الطعام وأطيبوا الكلام تدخلوا الجنة بسلام.
وقال: أربعة من كنوز البر: كتمان الحاجة وكتمان الصدقة وكتمان الوجع وكتمان المصيبة. وقال: أقربكم مني غدا في الموقف أصدقكم في الحديث وآداكم للأمانة أوفاكم بالعهد وأحسنكم خلقاً وأقربكم من الناس.
وقال: الإبقاء على العمل أشد من العمل، أن الرجل ليعمل في السر فلا يزال به الشيطان حتى يحدث به أو يظهره فيسبح في العلانية فيكتب في الرياء. وقال: أن علامة النفاق جمود العبرة وقساوة القلب والإصرار على الذنب والحرص على الدنيا. وقال: السخي قريب من الله قريب من الناس قريب من الجنة بعيد من النار، والبخيل بعيد من الله بعيد من الناس بعيد من الجنة قريب من النار. وقال: العبد إذا استوت سريرته وعلانيته، قال الله، عز وجل: عبدي حقا. وقال: المؤمن من خلط حلمه بعلمه، ينطق ليفهم، ويجلس ليعلم، ويصمت ليسلم، ويحدث أمانته الأصدقاء، ويكتم شهادته الأعداء، ولا يعمل شيئاً من الحق رياء ولا يتركه حياء حتى إذا زكا خاف ما يقولون فاستغفر مما لا يعلمون، والمنافق لا يعبره قول من ينهى ولا ينتهي ويأمر بما لا يأتي، إذا قام إلى الصلاة... وإذا ركع ربض وإذا سجد نقر وإذا جلس سعد، يمسي وهمه الطعام وهو مفطر، ويصبح وهمه النوم ولم يسهر، أن حدثك كذبك وأن وعدك أخلفك، وأن ائتمنته خانك وأن خالفك اغتابك.
وقال: من أجهد نفسه لدنياه ضر باخرته، ومن اجتهد لأخرته كفاه الله ما همه. وقال: من رأى موضع كلامه من عمله قل كلامه إلا فيما يعنيه. وقال: إياكم وجدال المفتين، فإن كل مفت ملقن حجته إلى انقضاء مدته فإذا انقضت أحرقته فتنته بالنار. وقال: سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر، وأكل لحمه معصية لله، عز وجل، وحرمة ماله كحرمة دمه. وقال: الحياء من الإيمان والإيمان في الجنة، والبذاء من الجفاء والجفاء في النار، والله، عز وجل، يحب الحيي الحليم العفيف المتعفف، وأن الله يبغض البذي السائل الملحف. أن أسرع الخير ثواباً البر وأسرع الشر عقوبة البغي.
وقال: ألا أخبركم بشراركم؟ قالوا: بلى يا رسول الله. قال: المشاءون بالنميمة المفرقون بين الأحبة الباغون للبراء العيب، ومن كف عن أعراض الناس أقاله الله نفسه، ومن كف غضبه عن الناس كف الله عنه عذابه يوم القيامة. وقال: بئس العبد عبدا ذا الوجهين وذا اللسانين يطري أخاه في وجهه ويأكله غائباً عنه، إن أعطي حسده وإن ابتلي خذله. وقال: أن الله حرم الجنة على المنان والنمام ومدمن الخمرة.
وقال لعلي بن أبي طالب: عليك بالصدق فلا تخرجن من فيك كذبة أبدا، والورع فلا تجترئ على خيانة أبدا، والخوف من الله كأنك تراه، والبكاء من خشية الله يبن لك بكل دمعة بيتا في الجنة، والأخذ بسنتي.
وقال: السعيد من سعد في بطن أمه، والشقي من وعظ به غيره، وأكيس الكيس التقى، وأحمق الحمق الفجور، وشر الرواية الكذب، وشر الأمور محدثاتها، وشر العماء عماء القلب، وشر الندامة يوم القيامة، وأعظم الخطاء عند الله لسان كذاب، وشر المأكل أكل مال اليتيم ظلما، وأحسن زينة الرجل هدي حسن مع إيمان، وأملك أمر يديه قوله وخواتمه، من يتبع السمعة يسمع الله به، ومن ينوي الدنيا تعجز عنه، ومن يعرف الله يصير إليه، ولا تسخطوا الله برضى أحد، ولا تنفروا إلى أحد من الخلق بما يباعد من الله.
وقال: لا تستصغروا قليل الحسنان فإنه لا يصغر ما ينفع يوم القيامة، وخافوا الله في السر حتى تعطوا من أنفسكم النصف، وسارعوا إلى طاعة الله واصدقوا الحديث وأدوا الأمانة فإنما ذلك لكم، ولا تظلموا ولا تدخلوا فيما لا يحل لكم فإنما ذلك عليكم.
وقال: إذا كثر الربا كثر موت الفجاءة، وإذا طفف المكيال أخذهم الله بالسنين والنقص، وإذا منعوا الزكاة منعت الأرض من زكاتها، وإذا جاروا في الأحكام وتعاونوا وخانوا العهود سلط عليهم عدوهم، وإذا قطعوا الأرحام جعلت الأموال في أيدي الأشرار، وإذا لم يأمروا بالمعروف وينهوا عن المنكر ويتبعوا الأخيار سلط الله عليهم شرارهم فيدعو خيارهم فلا يستجاب لهم.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق